عام

نفوس متضخمة

(الأسلوب على طريقة بعض الأدباء)

د. سليمان العبودي

أما بعد فإني تصفحت جملة من معارفك، وأدرت النظر في عقلك، وباحثتك في الليالي الطوال الشاتية، وتخوضنا في علوم الشريعة الشريفة، وتعمقنا في بعث فروعها الدقيقة، وسبرت قدرتك على فرز الصور المتشابهة التي يدق التفريق بينها على كثير من المتفقهة، ويعسر استحضارها على عامة الحفاظ، فضلا عن امتحانك فيما وراء ذلك من القدرة على الاستدلال لها، والذود عن حياضها بحل عقد الإشكالات الغامضة، ودفع الإيرادات المضنية، وفتح أبواب المغلقات الملتبسة، فإذا بك في كل ذلك جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وإذا بي حيال رجلٍ أوفى على الغاية، وشارف على النهاية، وقارب منتهى الكمال، وتسنم ذرى معارف المعقول والمنقول، قد أحب العلم، واصطنع الكتب، واستحكمت مسائل الفقه في قلبه.

ولكنك حين عرفت مذهبي في وجوب مطالعة كتب الأدب واعتقاد أهميتها أيا كان رسيس التخصص، انقبضت نفسك عن الإفصاح، وانجفلت روحك عن الإبانة، ولزمت أعتاب الصمت مع اعتقاد المخالفة، وتعلقت بذيول الكتمان مع انتحال الضد، مع ما لَكَ من سابقِ اشتغال فيها لم تدرك عميقَ أثرِه وبعيد غورِه، وخطر ببالك أني ما تفطنت لمجافاتك رأيي، ولا أدركت مجانبتك أمري، وفاتك منع الغيوم من التلبد في أرجاء جبينك، فما كتم الإنسان رأيًا أو انتحل فكرةً إلا تسرَّبت من مسامات جلده، واستبانت في احمرارِ وَجْنَتِه، لا سيما إن كان أديم جِلْدِه ضاربًا نحو البياض المشرب بحمرة، فَمِثل هذا إن ترك لسانه محبوسا يرسف في أغلال الصمت، وأبقى فاه مغلقًا بحواجز الكتمان، إلا أن عقله منسدل الستار، وقلبه مكشوف الأخبار، لا يكاد يخفى على جليسه شيء من خواطره، ولا يعزب عن محادثه فَصٌّ من جواهِرِه، وكما أفضيت لك مرارا أن الإنسان ابتكر اللغة، واستعمل جارحة اللسان للإبانة عن أفكاره، فإذا استعملهُما في ستر أفكاره؛ أبت عليه سائر الأعضاء، وقامت بمهمته الشريفة التي تخلى عنها بمحض إرادته.

ثم ما لبث الزمان أن استدار دورته، وسارت على الفور عجلته، فجئتني لاهثًا في يوم صائف، لا ينتهض بصيامِه إلا تقي آثر الآخرة على الدنيا، لم تحل بينك وبين المشي في سبله الملتهبة شدة الرمضاء، ولم يمنعك من الركض في طرقه خلو الأرجاء، وحين أَحْفَظَني طرقك للباب بما يشبه دقّ الجنود والعساكر، وسمعتك تنادي من ورائه؛ أتيتك بمشيٍ وئيدٍ وأنا عازم على معاتبتك عتابا مريرا، وأن أتلو عليك بعد استرخائك في النديّ آياتِ الاستئذان وما يندرج تحتها من المعاني الجليلة، ثم أقرئك ما ورد من الأحاديث بمتونها وأسانيدها، وأثلِّث بذكر ما ساقه الفقهاء من مسائل وأحكام.

ولكني عدلت عن كل ذلك حين رأيت في وجهك علائم الاغتباط، وانصرفت حين لمحت الابتهاج بانيًا في جبينك حصونا ومعاقل، وتوشك يداك لولا الحياء أن ترفع رايات النصر البيضاء، وبعد تحية عابرةٍ لا معنى لها، وسلامٍ عجلانٍ يقصد به ما وراءه ذكرت لي -جعلت فداك- أن طائفة من الكتاب قد طعن على كتب الأدب، وشنّ حملة صادقة على الناظرين فيها، وزعم أنها تورث خبالا في الفكر، وخمولا في الذهن، ومجافاةً عن طريق البرهان، فأجبتك على الفور والدهشة تفيض أنهارها من حولي أن هذا الإطلاق في وادٍ والحقيقة العلمية في وادٍ، وأن صِلَةَ هذا الكلام بالحقيقة كصلة اليهود بالوفاء بالعهود، وأبنتُ لك أن الاشتغال بالأدب لم يحل بين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبين قدرتها على النظر والاستدلال، وكيف يَنقصها مع ما لها من استدراكات مستفيضة في كتب الفقه على جملةٍ من الصحابة، وحين أردتُّ الاسترسال بذكر النماذج الكثيرة للعلماء عبر العصور أخذتَ بعضدي، وضغطتَّ على يدي تسألني النَّصَفة في النقد، والاعتدالَ في الرأي، وتفهُّمَ حُجَّةَ المخالف، لأنك ترى أن ردَّ الأقوال قبل الإحاطة بكنهها جورٌ في الحكم، وانحرافٌ في الرأي، وضربٌ في عماية.

ثم طفقتَ تبين لي صلاحَ نية المخالف، وتميزه في جانب من العلم، فأخبرتك أننا لا ننكر فضل ذوي الفضل، ولا نجحدُ أحدًا فيما فتح الله عليه، بل نحبُّ لسائر إخواننا أن لا يرتشفوا إلا من أنهار الصواب، وأن لا يسبحوا إلا في شطآن الحق، ولكنك تعلم أن صلاح النية يؤجر عليه الإنسان لكنه ليس ضمانًا لإصابة الحق في نفس الأمر، وأن التميز في جانب من العلم يحمد عليه المرء لكنه ليس عاصمًا من الانزلاق في هوة الخطأ في جانب تميزه، فكيف بجوانب أخرى.

وجذبتُ يدي عن يدك، وأعدتُّ لك ما ذكرتُه من كون الأدب المحمود يؤثر في معرفة البيان العالي، وفي القدرة على سَبك الحجج ونظم عقد الأفكار، ولذلك تجد بعض أعلام التراث لم يمتازوا إلا بحسن الترتيب وجودة التبويب وحسن الاقتدار على ترتيب المآخذ، دون إضافة فكرية كبيرة، ومع ذلك كان لهم بالغُ الأثر في مدِّ رُواق المنهج الذي ينتسبون إليه، وأعظمُ التأثير في نشر مذاهبهم وأفكارهم عبر الأقطار، ولا يحجزني عن الاسترسال إلى سرد الأمثلة إلا كثرتُها، ولا يمنعني من تقصِّيها إلا وفرتُها، وما كنت أظن أنه يغشى الناس زمانٌ يُحتاج فيه إلى الاستدلال على أهمية مطالعة كتب الأدب، فضلا عن أن يقال إنها تورث الذهن بلادة وخبالًا، فهذا يصدق على متعاطي منطق اليونان، فهو الفن الأقرب إلى إفساد الفكر واللسان، لا سيما إن كان صاحبه معظِّمًا له، مضيِّقا للوصول إلى النتائج الصحيحة إلا من طريقه، وأما حكم دراسة المنطق فلنا فيه قول معتدل ليس هذا مقامه.

فلما رأيتَني مُصِرًّا على مخالفتك، مَتَنَكِّبًا صراطَك، عادِلًا عن مَهْيَعِك، ألقيت عليَّ نظرةَ يائِسٍ من حصول مقصودِه، متألمٍ من فوات مطلوبِه، وسألتني بصوتٍ خفيضٍ أَخَذَ الحزنُ بأكظامه: هل ترى مطلق الاشتغال بالأدب بالنسبة لطالب العلم؟

وحين لم أكن أعلم منك محبة إعناتي بالسؤال، وإثقالي بطول المناظرةِ، مع ما بيننا من صدق المودَّة، وكَرَمِ العِشرة، وسابقِ الإحسان؛ أجبتك على الفور بأن مذهبي يعرفه خواص جلسائي، ولولا ما فيك من مجانبةٍ فطرية، لكنت من أعرف الناس به، وأغناهم عن السؤال عنه، فمذهبي هو الاعتدال في دراسة الأدب بما يحصِّل به المرء معرفة السياقات اللغوية ومعهودَ العرب في الخطاب، ولا يكون ذلك إلا بحفظ الوحي، وإدامةِ النظر فيه، مع مطالعةِ الشعر القديم على وجه الخصوص، وأما الاتكاء على المعاجم اللغوية فيفيد في درك المفردات المنبتَّة من سياقها، وهي فائدة ضئيلة.

وأخبرتك أنه ليس من مذهبي الدعوة إلى الإيغال في الأدب على حساب التضلع من العلوم الشرعية كما هي طريقة بعض من توغل وأمعن فغفل عن المقاصد، فصار في غاية أمره ومنتهى شأنه أديبا متفقها، وكان في أول أمره فقيها متأدبا.

وليس متضمن مذهبي أيضًا الدعوة إلى خلط البراهين العقلية الدقيقة بالعبارات الأدبية الفضفاضة، فإذا غلب الأسلوب الأدبي على بيان وجه الحجة ومنزع الاستدلال ومأخذ الدليل أفسد العلم.

وليس لازم مذهبي ما يطرقه بعض المتأدبة من الإيغال في السير الذاتية لكثير من أعلام الأدب، ولا ما يسلكونه من طول التتبع للتفاصيل المفضولة التي يضيع بها الزمان الطويل، فطالب العلم الشرعي لا تعنيه الحياة الخاصة لشاعرٍ مَدَّاحٍ صرف زمانه في البحث عن مطامعه ومطامحه، ولا معرفة شخوص رواية أدبية كتبها سكِّير، بيده قلم يرتعش وبالأخرى كأس منثلم العُرى، وإنما هو يقرأ الأدب ليبري قلمه الذي يخط به رسالته.

وليس كل هذا غاية ما لدي من مؤاخذات على مطالعة كتب الأدب، بل في نفسي من هذه المطالعة شيءٌ أعمق قَلَّما يُتَفَطَّنُ له، وأمرٌ أخطر نادرًا ما يُشار إليه، ومنزع أخفى من أن يحاط به في هذه العجالة، لا سيما وقد رأيتك تستوفز للقيام، وتوشك على الانصراف، فلعلي أذكر لك منه طرفا صالحا، تستدل به على ما وراءه، وتقيس ما ذكر على ما لم يذكر، وكما قيل: لا ينتفع بنفسه من لا ينتفع بظنه.

وهو أن كتابات كثير من الأدباء والشعراء تضيّق المزاج الفسيح، وتنسج خيوط العزلة، وتخيط ثياب الاغتراب، فنفوسهم كثيرة التطلع، مرهفة الشعور، عميقة الإحساس، قد سكن التألم في جميع نواحيها، ودق الوجع خيامه في سائر ربوعها، ولو وُضِعَ بعضُ ما في كتب الأدب من كآبة وتعاظُمٍ في ماء البحر لمزَجه.

وما قلتُ ذلك -أبقاك الله- ولا انتحلتُه إلا ومعي شواهد قاطعة وبراهين ساطعة، فلستَ تقرأ شتمَ الزمان وأهلَه في علم من العلوم إلا في كتب الأدب، ولست تجده بهذه الغزارة والاتساع إلا في دواوين الشعراء، حتى قال بعض الشعراء محسِّنا الظن بسائر الأجناس الأرضية باستثناء جنس الآدميين:

تحفظ من ثيابك ثم صنها
وإلا سوف تلبسها حدادا

وظنَّ بسائر الأجناس خيرا
وأما جنس آدم فالبعادا

وقال آخر داعيا إلى أخذ عهود السلامة من مواضع الثقة ومحالّ الأمان:

لو قيل لي: خذ أمانًا
من أعظم الحدثان

لما أخذت أمانا
إلا من الإخوانِ

ويقول كبير الشعراء على الإطلاق ومقدَّمهم في أكثر الآفاق بأن من عرف الأيام كمعرفته وأحاط بالناس كإحاطته (روَّى رمحه غير راحم)، وبأنه يشك في أصفيائه فضلا عن أعدائه لعلمه أنهم (بعضُ الأنامِ).

ولستَ تقرأ فرط الإعجاب يسيل سيلانا كأنه نهر دجلة إلا في هذه الصحائف الأدبية، حتى قال المتنبي وهو باكٍ يرثي جدته بأنه يكفيها فخرا (كونها جدته)، فانظر كيف ساقه فرط الإعجاب إلى التعاظم في موضع لا يحسن فيه ذلك البته، وأما شتم الزمان والحط على أهله والإزراء بعقولهم والطعن في أغراضهم فكثير جدا في أشعارهم، لا يكاد يخلو منه ديوان، ولا تخفى عليك مواضِعُه، ولا تندُّ عن بصرك مواقِعُه.

وكنت فيما سَلَفَ أُشفقُ عليك من مخالطةِ عامَّة الحمقى في زمانك، وأحذِّرك من مجالسة جملة النوكى في أيامك، لئلا يتسرَّب إلى ذهنك شيء من عقولهم، أو يختلج في نفسك قدرٌ من أنظارهم، مع ركاكة منطقهم وهَلْهَلَة لغتهم، فكيف بالأثر النفسي البالغ لهذا الشعر الذي يبلغ الغاية في الحسن، والمنتهى في الجمال؟!

ولعلي أخبرك بأمر لا يخطر ببالك، ولا يسبق إليه وهمك، وربما فزعت إلى تكذيبه أول سماعه، وأعرضت عن قبوله وانتحاله، لكني أدعوك إلى تسريحه في زاوية الإمكان والتأمل، وهو أنك تجانب الصواب بقدر اعتقادك أن عامة هؤلاء الموهوبين من الشعراء والأدباء صادقون في معاناتهم، دقيقون في شرح أحوالهم، أو أنها سُكِبَتْ فوق ظهورهم البريئة قلال الظلم والقهر من بين سائر الخلائق، ولكن عامتهم أقوام يسلكون هذا الطريق اختيارا، لعلمهم أن روح الأدب التي تتنفس منها رئتاه الانفعال والمبالغة والتألّم، فالقلم أشرق ما يكون في نفوس الأدباء إذا اكفهرَّت ضفاف نفوسهم، حتى ليُخَيَّل إلي أحيانا أن الكتابة الأدبية ليست إلا كآبة خرَّ عمودها على السطر من فرط الشجن.

من الأدباء والشعراء حين أدرك ذلك طفق يرعى همومه وجراحه كما يرعى المزارع بذورَه، وكما يربي الرجل فُلُوّه، وكلما أَوشَكَ جرحٌ على الالتئام سَكَبَ عليه قِلال الذكريات الحزينة ليظلَّ راعفا على الدوام، ولعلمه أن الحزن من بواعث الكتابة، فإذا كان في الناس من يقرأ الأدب ليسلو ويجاوِز الهمَّ، فهذا المسكين الموهوب يحرس الهمّ ليكتب الأدب.

فالأديب -رحمك الله- كثيرا ما يكون رشيقَ الحرف، متضخِّمَ الذَّات، عابس النفس، غير محتملٍ لأهل زمانه، كثيرَ الوقيعة فيهم، وغير ذلك من المعاني الطافحة في كتب الأدب والشعر، ومن أطال المكث بين الأدباء، وتشبع بهذه الأغراض، واستوطنت قلبه؛ صَعُبَ عليه تلافيها، ولا يمكن أن يؤثر في الناس تأثيرا بالغا بالإصلاح والتعليم والتوجيه والتربية؛ لأن عِمادَ النُّصح الاحتمال، وأساسَ التأثير الشّفقة، ومستندَ الإصلاح الصبر، ووسيلة المخالطة هضم الذات، وإنما سيظل حياتَه يدور في حلقة مفرغة من المعاني الحالِكَةِ السَّواد، وقد رأيت مرةً غارقا في كتب الأدب يقول -بعد انفضاض الناس عنه-: الحق لم يبق لي أحدا! فكدت أهمس: وسوء الأدب أيضا، إلا أني خشيت أن أحفز فيه سوء الأدب الذي يسميه حقا!

وحين بلغتُ هذا الموضع رأيتك تتنفس الصعداء، وتسكن نفسك من عناء الرأي المخالف، وذلك لاسترسالي بذكر هذه المعاني الموافقة لهواك، ولتوهمك عدولي عن رأيي السالف، وجنوحي عن قولي الأول، ولذلك أحب أن أمحضك النصح، وألخص لك القول: خذ بحظِّك من الأدب، وتحفَّظ منه قدرًا صالحا، مع تثميرِه على مَرِّ الزمان، فإنه أكبر معينٍ على حسن الإبانة، لا سيما في أوقات الفترات التي يثقل معها مطالعة دقائق الفقه، فإن القلب -كما يقال-: إذا أُكْرِهَ عميَ! ولكن ليكن في ذهنك أنك ستأخذ من هؤلاء الأدباء رشاقة الحرف، وسلاسة اللغة، وحسن التعبير، وروعة التركيب، وألقِ نفوسهم المتضخمة وراء ظهرك.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ليَهنك القلم الذي تمخّض عن هذه البلاغة وأنبأنا بهذا الفهم وهذي المروءة.
    مقالةٌ ماتعة ولغة عالية.
    ننتظر ما تكتب، دائمًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى