عام

عافية اللحظة

  • منار الخويطر

“ثمة أناس لا يعيشون الحياة الحاضرة، كما لو كانوا يستعدون بكل ما فيهم من حماس لعيش حياةٍ أخرى لا ندري ما هي، لكنها ليست هذه. وبينما هم يفعلون ذلك، يمضي الوقت ويُهدر. لا يمكن للمرء أن يقامر بالحياة كما لو أنها ضربة نرد نعيد رميها”

يصف غوته العيش في الحاضر بـ “عافية اللحظة” وأن السكينة في اللحظة جهد إرادي كبير ومكتسب، حيث يصف سكينة القدماء بقوله: “يحافظون في لحظات ذروة المتعة كما في لحظات التضحية الأشد خطورة أو حتى الدمار، على عافيةٍ يتعذر هدمها”

السكينة بوصفها: التكيف مع الواقع بما يطرح نفسه، التركيز على ما يوجد الآن وتحت مقدرتنا على التأثير.

يرى آدم فيليبس الفيلسوف البريطاني، أن ما نتخيله وما نتوق إليه هو التجارب والأشياء والأشخاص الغائبين، إن غياب ما نحتاجه هو الذي يجعلنا نفكر، وهو ما يجعلنا نشعر بالحزن والقلق والإحباط الذي يحركنا من خلال الأمل للوصل إلى رضا لن يأتي أبدًا.

نوهم أنفسنا أننا بمجرد الوصول لرغباتنا سنصل للاكتمال، لكن بمجرد تحقيقنا لرغباتنا سنواصل السعي للقائمة التالية بالإحباط ذاته.

أحد أشكال القلق (القلق الاستباقي) يأتي من قفزنا للمستقبل والتركيز في ترتيب أحداث غائبة والسيطرة عليها رغم تعذر ذلك، فينشأ القلق من غياب السيطرة على المستقبل، فنمضي ما بين شد وجذب، العيش في الماضي وتحليل مواقف سابقة، أو التركيز المصوب تجاه المستقبل، لغدٍ وبعد غد. إذ تضيع اللحظة الحاضرة، ويتعذر علينا عيشها كاملة.

يعتاد العقل القلِق في معالجة معلومات وتحليل أمور عدة، العيش في الحاضر والتعامل مع ما هو متاح في اللحظة الحاضرة يخالف ما اعتاد عليه العقل القلق، فالتعامل مع عدد محدود من المعلومات مربك، فيسعى العقل جاهدًا لاستحداث أمور غائبة يعالجها…

ترى الفلسفة الأبيقورية التفكير في الماضي مكدرًا لأحداث لا يمكن إجراء تعديل عليها والإغراق في التحليل والتفكير بالمستقبل يثير فينا مخاوف وآمال جامحة.

“أنت في (الآن) بينما عقلك في المستقبل، هذا ما يخلق فجوة القلق”

يتمثل القلق بأشكال عدة، بمخاوف واضحة، مبهمة وغير واضحة. نقع تحت سطوة شعور مؤذٍ مألوف، نسعى جاهدين لإيقافه واستبعاده، فيبقى الشعور ويغيب عنا السبب، وهذا أحد أسباب استمرارية واستدامة القلق، وجوده دون معالجة.

نشعر بالخوف والقلق بدرجات متفاوتة وشدة مختلفة، ما بين الفزع وشعور غامض بالانزعاج، إحساس بالتهديد إزاء أمر مجهول. معظم الناس يصبحون واعين له عندما يفضح القلق نفسه بأعراض جسدية مثل: خفقان، فرط تهوية، غثيان، كتمة…

يتمرن ماركوس أوريليوس على صب انتباهه في اللحظة، بالإمساك عند استغراقه بالأفكار بقوله “حسبك”، يكفي هذا لكي يشغلك، فلا حاجة بك إلى التفكير في شيء آخر.

الارتباط بالزمن هو الخاصية المميزة للإنسان. “الزمن هو قلب الوجود”. يشرح إيريك فروم ارتباطنا بالزمن من خلال الامتلاك والوجود، “يكون الانسان في نمط الحياة الامتلاكي مربوطًا بما جمعه في الماضي والإحساس بالامتلاك (أموال، وضع اجتماعي، علم، ذكريات…). والأمر نفسه فيما يتعلق بالمستقبل، امتلاك شيء في المستقبل مثل: شراء البضائع أو بيعها من خلال اتصالات تحدث في الحاضر.

لا يقتصر الأمر بالامتلاك المحسوس، قد يتعدى ذلك بأن يوقظ الإنسان الماضي من خلال إعادة عيشه، بالحماس نفسه، رغبةً لامتلاك وإعادة شعور مُعاش، فيتوقف الماضي عن كونه ماضيًا ليصبح هنا والآن.

أما من يعيش نمط الحياة الوجودي من وجهة نظر إيريك فروم، هو أن احترام الوقت شيء بخلاف الخضوع له، الخضوع بالعيش بتفاصيل حالات شعورية (خارج الزمن الحاضر) إما في الماضي أو المستقبل…

“إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها”

عند عيش اللحظة كاملة، وصب كامل تركيزنا فيما نقوم به الآن، وكأنه آخر فعل نقوم به في الحياة تكتمل اللحظة بقيمتها، ونرى بوضوح عبثية المجهول الذي نطارده بكثير من القلق.

قد يكون ذلك بعيدًا عن المنطقية، إذ كنت مثلي أو مثل أي شخص آخر، سنظل نسعى ونفكر بما نريده أو نرغب بإنجاز حتى نشعر بالاكتمال. يرى آدم فيليبس أننا نتوقف عند هذا الحد، بعد تحقيق ما نريد ونصل للاكتمال كما نعتقد، سنظل نفكر بالقائمة التالية… وهكذا

“نعيش اللحظة وهي تناسب انسياب الأنغام الدافقة الرقيقة، وليس للوعي من مأوى آخر غير اللحظة”

تمرين صغير يمكنك تجربته، عندما تجد نفسك منفصلًا عن الحاضر، تفكر بأي هدف أو رغبة تود تحقيقها للوصول للاكتمال أو الإنجاز.

انتبه إلى ما عندك الآن تشعر خلاله براحة، تقدر وجوده في حياتك أو ببساطة شيء تقدر وجوده يتعلق باللحظة الحالية (نفس عميق، تمدد، استلقاء، رشفة ماء، قهوة، زوج، صديق… إلخ) لمدة دقيقة أو دقيقتين.

ماذا لو كان الواقع الحالي واللحظة الحالية سيئة أو مؤلمة؟

نعم ما يحدث مؤلم وسيء، قد يساعدنا التركيز على الحاضر على تجاوز الأمر ووضع الأمور في نصابها.

أن نرى ما يحدث الآن في سياق حياتنا، ما يحدث الآن هل هو حقا مروع كما يبدو؟ بعد عشرين عامًا من الآن أو عامين، أو حتى شهرين أو أسبوعين هل سيكون الألم مثل وقعه الآن؟

مثل وضع عملة معدنية أمام عينك مباشرة، توهمك بحجم هائل مقارنة بحجمها الحقيقي عند النظر من زاوية أبعد.

وكما أنشد عمر الخيام:

“يومان ما عشت لا أعنى بأمرهما

يوم تولى ويوم بعد لم يِرد”

اقرأ ايضًا: القلق النافع


المصادر:

– لا تنس أن تعيش. غوته وتقليد التمارين الروحية- بيير أدو

– قوة الآن- إكهارت تول

– الامتلاك أو الوجود- إيريك فروم

– مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي- رولو ماي إرفين يالوم

A Simple Technique For Feeling Better in the Here and Now

The Art of Precious Present-Centeredness

Does Being in the “Here and Now” Increase Life’s Meaning

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى