عام

مرض السعي إلى المزيد

غالبًا ما يكون النجاح هو الخطوة الأولى نحو المصائب، وغالبًا ما تكون فكرة التقدم والتطوير عدوًّا للتقدم الفعلي

  • مارك مانسون
  • ترجمة: محمد الصائغي
  • تحرير: أمل عبد الوهّاب

التقيت مؤخرًا برجل – على الرغم من نجاحه الهائل في العمل، ونمط حياته الرائع- أخبرني أنه يفكر في تعيين مدرب لمساعدته في المرحلة القادمة.

سألته ما المستوى القادم الذي تطمح إليه؟

أجابني: لست متأكدًا؛ ولذلك أحتاج إلى مدرب؛ ليرشدني، ويُظهر لي ما قد يفوتني.

تعجبت من كلامه، كانت لحظة صعبة ومحرجة، وتأملت في مدى صراحتي -التي قد تصل حد الوقاحة- التي كنت على استعداد لأبديها مع شخص قابلته للتوّ.

كان هذا الرجل متحمسًا جدًا، وواضح عليه أنه على استعداد لإنفاق الكثير من المال على أي مشكلة يُخبر عنها.
فسألته: ماذا لو لم يكن ثمة شيء لإصلاحه؟

أجابني: ماذا تقصد؟

قلت له: ماذا لو لم يكن ثمة مستوى آخر؟

ماذا لو كانت مجرد فكرة اختزلتها في رأسك؟

ماذا لو كنت منذ فترة في المستوى الذي تريده ولم تكن تدرك ذلك؟ ولكن من خلال السعي المستمر إلى المزيد، فإنك تمنع نفسك من الاستمتاع بمكانك الحالي.

لقد أزعجته أسئلتي قليلا،

ثم قال: أشعر أنني بحاجة دائمًا إلى تطوير نفسي، بغض النظر عن أي شيء.

فقلت: في الواقع يا صديقي، ربما تكون هذه هي المشكلة.

هناك مفهوم مشهور في الرياضة يُصيب الكثير وهو “الشعور بنشوة الزيادة أو السعي في المزيد”، أول من صاغها بات رايلي، مدرب السلة الشهير ، الذي قاد ستة فرق إلى حصد بطولة الدوري الأمريكي للمحترفين (وفاز كواحد من أفضل اللاعبين).

يقول رايلي: إن مرض”الشعور بنشوة المزيد” يفسر سبب تأخر الفرق التي تفوز بالبطولات في نهاية المطاف، رغم أنه لم يعد هناك فرق أخرى أفضل منها، فإن السبب يكمن داخل المنظمة نفسه.

إن اللاعبين -كمعظم الناس- يريدون المزيد، بدايةً، كان طموحهم الفوز بالبطولة، ولكن بمجرد حصول اللاعبين على تلك البطولة، فإنها لم تعد كافية، فأصبح المراد منها أشياء أخرى، المزيد من الأموال، والمزيد من الإعلانات التلفزيونية، والمزيد من التوقيعات والأوسمة، والمزيد من اللعب، والمزيد من المباريات، والمزيد من الاهتمام من قِبل وسائل الإعلام… إلخ.

ولأجل ذلك، تبدأ مجموعة من اللاعبين المجتهدين في التدهور، حيث تتدخل”الأنا”، ويتغير المزاج النفسي للفريق – ما كان في يوم من الأيام كيمياء مثالية للأجساد والعقول يصبح فوضى سامة- يشعر اللاعبون بحقهم في تجاهل المهمات الصغيرة غير المثيرة التي قد تؤدي بالفعل إلى الفوز بالبطولات، معتقدين أنهم اكتسبوا الحق في عدم القيام بذلك بعد الآن، ونتيجة لذلك، فإن الفريق الأكثر موهبة ينتهي به الأمر في ذيل جدول الفرق!

 

المزيد ليس دائمًا محمودًا

في الواقع، قلما يتعرض علماء النفس لدراسة السعادة. أقصد أن معظم تاريخ هذا المجال لم يركز على الجانب الإيجابي، بل على ما يزعج الناس، وما يسبب المرض العقلي والانهيار العاطفي، وكيف يجب على الناس التعامل مع آلامهم العظيمة. حتى الثمانينيات من القرن الماضي، عندما بدأ عدد قليل من الأكاديميين الجريئين يسألون أنفسهم:”انتظروا لحظة، إذا كانت وظيفتي هي ملاحقة الأشياء السلبية، فماذا عن الأشياء التي تجعل الناس سعداء؟! دعونا ندرس هذا بدلا من ذاك”، وبعدها سرعان ما انتشرت عشرات الكتب عن “السعادة” على الأرفف، وبيعت ملايين النسخ لأفراد الطبقة الوسطى الذين يشعرون بالملل والغضب والذين يعانون من أزمات وجودية.

في الثمانينات والتسعينات، كانت أولى الأشياء التي قام بها علماء النفس لدراسة السعادة هي إجراء مسح قصير، أخذوا مجموعات كبيرة من الناس وأعطوهم أجهزة الإنذار، وحينما يصدر الجهاز صوتا، كان على كل شخص منهم التوقف، كانت الأسئلة على شقين، وعلى مقياس ما بين 1-10:

  • ما مدى شعورك بالسعادة في هذه اللحظة؟
  • ما الذي تفعله في حياتك لإظهار مشاعر السعادة؟

لقد جمعوا آلاف التقييمات من مئات الأشخاص من جميع نواحي الحياة، ثم تفاجؤوا مما اكتشفوه، في الواقع كان غريبًا بشكل لا يُصدق.

لقد اختار الجميع المستوى (7) من أصل (10)، طوال الوقت، بغض النظر عن أي شيء.

شراء حليب من البقالة، المستوى (7)

حضور مباراة بيسبول لابني، المستوى (7)

التحدث مع رئيسي حول إجراء عملية بيع ضخمة للعميل، المستوى (7)

وعندما تحدث أشياء كارثية، مثلا: أصيبت أمي بالسرطان، أو فقدت دفعة الرهن العقاري على المنزل، أو فقدَ الشاب ذراعه في لعبة البولينج، تنخفض مستويات السعادة إلى حدود ما بين (2-5) لفترة قصيرة، وبعدها تعود على الفور إلى المستوى (7)

وهكذا العكس للأحداث السعيدة، سوف يرتفع المستوى: الفائزون باليانصيب، وعطلات الأحلام، والزيجات، ثم -كما هو متوقع- يستقرون مرة أخرى على المستوى (7)

انبهر علماء النفس، لا أحد سعيد بشكل كامل طوال الوقت، كما أنه لا أحد يشعر بالتعاسة طوال الوقت أيضًا، يبدو أن البشر – بغض النظر عن الظروف الخارجية- يعيشون في حالة ثابتة من السعادة المعتدلة، ولكنها غير مرضية تمامًا. بعبارة أخرى: صحيح أن كل شيء على ما يرام، لكن يلاحقهم هاجس أنه يمكنهم دائمًا أن يكونوا أفضل.

لقد كان المستوى الثابت (7) الذي نعود إليه بين الفينة والأخرى، يلعب حيلة صغيرة علينا، وهي حيلة نقع فيها جميعًا مرارًا وتكرارًا.

الحيلة هي أن دماغنا يخبرنا:”إذا كان بإمكاني الحصول على المزيد من السعادة، فإني سأصل إلى المستوى (10)، وأبقى ثابتًا فيه”؛ يعيش أغلبنا معظم حياته بهذه الطريقة: مطاردة المستوى (10).

يقال: حتى تكون أكثر سعادة، تحتاج إلى الحصول على وظيفة جديدة، وبعد بضعة أشهر من حصولك للوظيفة، ستكون أكثر سعادة إذا كان لديك منزل جديد، وبعد بضعة أشهر من حصولك للمنزل، ستكون السعادة في إجازة رائعة على الشاطئ، لذلك تذهب في عطلة شاطئية رائعة، وأثناء وجودك على الشاطئ الرائع، فأنت تتساءل ما الذي تحتاجه؟ ألا تهوى الحصول على شراب “بينا كولادا” من هنا؟ ولذا فإنك تهتم به، معتقدًا أن شربة واحدة ستوصلك إلى المستوى (10)، ثم تشرب الثانية فالثالثة، وهذا أمر طبيعي؛ لأنك تعلم أنك ستعود حينها إلى المستوى (7).

يسمي بعض علماء النفس هذه المطاردة المستمرة للمتعة “المتعة الفارغة”؛ لأن الأشخاص الذين يسعون باستمرار من أجل حياة أفضل ينتهي بهم الأمر إلى بذل الكثير من الجهد؛ لينتهي بهم الأمر في المستوى نفسه.

لكن انتظر، أعرف ما ستقوله:

مارك، هل هذا يعني أنه لا فائدة من فعل أي شيء؟

لا، هذا يعني أننا بحاجة إلى أن ندفع لحياتنا شيئًا أكثر من سعادتنا، وشيئًا أعظم من أنفسنا.

وما عدا ذلك، فسنركض بكل سهولة لتحقيق المستوى (10)، بينما سنشعر طوال الوقت كما لو كنت في المكان نفسه أو أسوأ منه، كفرق بطولة رايلي.

 

تطوير الذات هواية حميدة

عندما أعود إلى أوائل العشرينات من عمري، أتذكر أنني كنت مهووسًا بتطوير ذاتي، كانت إحدى طقوسي المفضلة كل عام هو الجلوس مع نفسي وقضاء ساعات طويلة لتحديد أهدافي ورؤيتي خلال السنوات الجديدة، وما الحيل التي سأفعلها للوصول بنفسي إليها.

أقوم بتحليل رغباتي وقيمي، فإذا بي أصل إلى قائمة مثيرة للإعجاب من الأهداف المبالغ فيها إلى حد كبير، فهي مليئة بأشياء كثيرة، كأخذ دروس قرع الطبول، أو جني مبلغًا معينًا من المال، لكنني تعلمت أخيرًا أن الشيء المضحك حول تطوير الذات هو أنه لا يعني لطبيعتي أي شيء، وإنما هي مجرد هواية محمودة، إنه أمر يجعلك على تواصل مع الأشخاص الذين لديهم الهواية نفسها.

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا لتقبل حقيقة مفادها أن مجرد إمكانية تحسين شيء ما في حياتي، لا يعني بالضرورة أنه سينقل حياتي بأكملها إلى الأحسن.

التطوير ليس مهمًا بقدر السبب الذي يحفزنا إليه.

عندما يتطلع المرء بشكل لا إرادي إلى تحسين نفسه – دون أي سبب أو بسبب أكبر يدفعه إلى التقوقع داخل الذات- فإنه سيؤدي إلى الاشتغال الكبير بحياته الذاتية، وهو شكل من أشكال النرجسية؛ حيث يكون تركيزه كله على نفسه.
ومن المفارقات أن هذا الأمر من المحتمل أن يجعل حياتك سيئة.

قبل سنوات، أخبرني أحد أصدقائي ذات مرة بقوله:”كان أفضل قرار اتخذته في حياتي هو الانضمام إلى مجموعة تطوعية، وبعد ثلاث سنوات، كان أفضل قرار اتخذته في حياتي هو الخروج من المجموعة”.

أعتقد أن المبدأ ذاته ينطبق على جميع أشكال تطوير الذات، يجب استخدام أدوات التطوير الذاتي كاستخدام الضمادات؛ ليتم فتحها ووضعها عند الإصابة أو حدوث جرح خطير، والهدف دائمًا هو إزالة الجرح إلى الأبد.

 

الحياة ليست لعبة تطوير، بل لعبة مفاضلة ومقايضة

أعتقد أن الكثير من الناس يرون الحياة من منظور النمو والتطوير المتنامي، ربما يكون هذا صحيحًا ولكن عندما تكون صغيرًا، كطفل تنمو معرفتك وفهمك للعالم بشكل أكبر كل عام، وعندما تكون شخصًا بالغا تنمو فرصك ومهاراتك بسرعة أيضًا.

ولكن بمجرد بلوغك سن الرشد، وتأسيس وتطوير خبرتك في مجالات معين – لأنك استثمرت الكثير من الوقت والطاقة الذهنية في مهاراتك وقدراتك- لم تعد الحياة مجرد مسألة نمو وتطوير، بل بالأحرى التنازل عن ميزة من أجل الحصول على أخرى.

لقد قضيت 10 سنوات في تطوير قدراتي ككاتب، لقد تمكنت من ممارسة مهنة الكتابة الناجحة، ولكن إذا تراجعت وأردت أن أصبح مُغَنيًا، فمن ناحية، يمكنني التفاوض وأن أحسّن من نفسي، من خلال توسيع مجموعة مواهبي ومهاراتي، ولكن بمجرد أن أضع مئات الساعات؛ لأصبح مؤهلًا في مجال جديد، سيجبرني التخصص الفني على التخلي عن بعض الفرص ككاتب، يمكن قضاء 500 ساعة أو ترك كل ما هو ضروري ككتابة كتاب آخر، أو كتابة عمود في مجلة مرموقة، أو ببساطة حذف المزيد من منشورات هذه المدونة، من أجل بناء شخصية المغني بكفاءة.

وينطبق هذا الأمر نفسه على لاعبي الدوري الأميركي للمحترفين الذين فازوا بالبطولات، كانوا يتقدمون، فبالأمس فازوا في أول بطولة لهم، واليوم يحصلون على مزيد من الإعلانات التجارية، ويحرزون تقدما أفضل، ويحظون بمنزل جديد وكبير.
ما لم يدركوه هو ما كانوا يتاجرون به، لم يعد وقتهم وطاقتهم لهم، فهم مشغولون الآن بكل أنواع الكماليات الجديدة، ليسوا قادرين على التركيز على التفاصيل الدقيقة لكرة السلة، وهو ما يعيدني إلى الرجل الذي كان يبحث عن مدرب قابلته منذ أسبوعين.

وأخيرا، كانت نصيحتي له أن يكون حذرًا مع الدافع إلى النمو والتطوير، فالرغبة في المزيد غالبًا لا يكون وراءها سبب آخر سوى المزيد.

كن حَذِرًا في تبني أحلام وأهداف جديدة قد تضر بالنجاح والسعادة اللذين بنيتهما لنفسك اليوم.

أو كما تقول العبارة الدارجة:”كن حذرًا مما تتمناه لأنك قد تحصل عليه.”

الحياة ليست قائمة مرجعية، وليست جبلًا للتسلق، وليست لعبة غولف أو إعلان بيرة أو أي شيء آخر تريد إدراجه هنا، ولكنها اقتصاد ومقايضة، يجب أن يُتداول كل شيء مقابل شيء آخر، وترتفع قيمة كل الأشياء وتنخفض بمقدار الاهتمام والجهد الذي تبذله في هذا الاقتصاد، وفي نهاية المطاف يجب على كل منّا اختيار ما يرغب في تداوله بناءً على ما يهتم به، وإذا لم تكن حريصًا على قيمك، أو لست على استعداد لمقايضة الأشياء من أجل جرعة أخرى من الدوبامين، أو رحلة مؤقتة إلى نفسيتك الشخصية، فحينئذٍ من المحتمل أن تفسد الأمور كلها.

اقرأ ايضًا: إدمان الفومو (FOMO)، وكيف نتغلب عليه

المصدر
markmanson

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى