عام

اقرأ أكثر، اُكتب أقل

  • كرستيان دي بيوكيلار*
  • ترجمة: عبير محمد
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: فاطمة إنفيص

بصفتي أكاديميًا، أرى الكتابة امتيازًا لمن يمارسها، فهي الأحاديث التي تصاغ بتأنٍ وعناية متجاوزةً سُعار تداول الأخبار، وتحديثات وسائل التواصل الاجتماعي التلقائية، وأصوات المتحدثين المتداخلة.

وبإمكاني ككاتب استحضار محادثات بين أشخاص خارج نطاق الزمان والمكان؛ كحفلة عشاء بين موتى وآخرين أحياء، ولكن الحفلة محكمة التنظيم ومحترمة وودية بخلاف حفلات العشاء الحقيقية.

وليس الكاتب كاتبًا فحسب؛ بل لابد أن يكون قارئًا نهمًا أيضًا، وأن يوازن بين كونه  مُنشئًا لحفلة العشاء ودوره كمستمع منصت للأحاديث الأخرى، وبهذه الموازنة فقط -مع الاستفادة من المحادثات الأخرى- نستطيع أن نساهم بصورة مجدية في المعرفة والفهم بما يتجاوز حفلات عشائنا المكتوبة.

ويتطلب تحقيق ذلك قدرًا كبيرًا من التواضع، والذي تزداد صعوبة ممارسته نظرًا للضغوطات المؤسسية المتزايدة لنشر كل ما يمكننا نشره.

نشرت البروفيسور في كلية لندن الجامعية (UCL) أوتا فيرث في السادس والعشرين من نوفمبر مقالًا بعنوان “المزيد من التقدم، المزيد من العجلة، المزيد من الضغط، المزيد من الخسائر” ، تندب فيه ضرر آثار كثرة النشر. وأحد الحلول التي اقترحتها كان تقييد عدد المقالات التي يحق للباحث نشرها سنويًا في المجلات العلمية، ولم يكن اقتراحها مستغربًا.

أبدى الفيزيائي بيتر هيغز ملحوظتين من مشاهداته الهامة حول ضغوط النشر. أولاهما:  أنه لم يحصل على وظيفة في بيئة أكاديمية ينصب جُل تركيزها على النشر؛ لأن منشوراته “مخرجاته”  كانت دون المستوى المطلوب “كمًا” وفقًا للمقياس الحالي، والثانية: أنه لم يكن ليقدر على نشر منشوره الرائد الذي قاد إلى اكتشاف بوزون هيغز[1] في البيئة الحالية.

يعمل كلا الكاتبين في علوم صعبة ومتخصصة جدا: علم الأعصاب الإدراكي والفيزياء، وقد ازدادت مخرجات النشر في تخصصيهما أكثر مما اعتدتُ عليه في كلية الآداب في جامعة ملبورن حيث أعمل.

ولهذا سأضيف هذه الفكرة حول عالم البحث الأكاديمي المهووس بالنشر من منظور تخصصي والذي يقع بين العلوم الإنسانية والاجتماعية ألا وهي: أهمية القراءة والفهم.

تبعث أهمية القراءة على مفارقة الكتابة؛ كلما ازداد معدل كتابتنا، قلت قدرتنا على القراءة؛ لأن زيادة الوقت الذي نمضيه في الكتابة بشكل فردي يؤدي إلى نقص وقت القراءة.

اعترف لي أحد الزملاء مؤخرًا بأنه يقرأ الخلاصة من المقالات فقط؛ فلم يعد لديه متسعًا من الوقت ليقرأ المقالات كاملة، يقلقني هذا الأمر في التخصصات التي تتطلب الكتابة فيها (والقراءة) أكثر من نقل النتائج بأساليب فنية فقط.

وفي نفس الوقت عندما قدمت طلب ترقية لأحد كبار المحاضرين (لا يعني هذا تثبيتي كمحاضر كما هو الحال في نظام الولايات المتحدة)، لم يكن في الطلب الذي قدمته أي أبحاث منشورة؛ لأن التقديم للترقية لا يتطلب ذلك ببساطة، لم تبد لجنة الترقيات اهتمامًا بما نشرت من الأبحاث من حيث الكمّ أو مكان النّشر، ولكن أبدت سعادتها لتقييم أعمالي من الوثائق التي قدمتها، وقد أقلقني هذا أيضًا.

أتفق مع الدعوة إلى تقليل نشر النصوص، وأؤيد التركيز على  الكيف لا الكم، ولكن بدلًا من تقييد المخرجات (وهي التي تتيح مجالا لإبراز الباحثين الصغار لأنفسهم في البحث عن وظائف مرموقة) نحن نحتاج إلى تغيير ثقافي، نحتاج ثقافة تُقدّر القراءة والاستماع تقديرًا مساويًا لتقديرها للنشر والتحدث.

 وقد استُحدثت قاعدة غير مدونة في الأوساط الأكاديمية وهي: عندما يكتب الكاتب مقالًا في مجلة موجهة إلى متخصصين في ذات المجال، عليه أن يراجع أربع مقالات لكتاب آخرين، بالرغم من أوجه النقص فيها، فهي محاولة لإيجاد ثقافة ذات ضبط وتنظيم ذاتي.

نحتاج إلى المزيد من التطلعات المشابهة؛ نحن نتطلع إلى المزيد من القراءة (وبالتالي الاستماع)، ونتطلع إلى التقليل من الكتابة ( وبالتالي التحدث). وينبغي أن يكون التناسب بينهما أكثر من 4:2 بكثير.

وفي الحقيقة لست متأكدًا من كيفية التطبيق على الواقع، لكنني أطمح لأن أكون جزءًا من ثقافة أكاديمية مختلفة، ثقافة أن نتوقع إمكانية قراءة بعضنا لأبحاث بعضٍ قراءة حقيقة.

لأن الهدف من أغلب ما نقرأ كالهدف عندما نستمع لنجيب فقط لا لنفهم، فأنت حين تستمع تستمع لتثبت وجهة نظرك لا لتفهم وجهة نظر المتكلم.

ويعد هذا تحديًا كبيرًا في عالم “أصم” كما وصفه البابا فرنسيس  في الفيلم الوثائقي الذي أعده فيم فيندرز عنه.

ما أقترحه بسيط جدًا: دعونا نستمع أكثر ونتحدث أقل، ونقرأ أكثر وننشر أقل، أو كما قال البابا فرنسيس:” تكلم قليلاً، واستمع كثيرًا، وتحدث بما يكفي فقط”.

بالرغم مما في الأمر من مجازفة بوظيفتي؛ فأنا أُحاول الاستماع والقراءة بصورة مكثفة، مما يعني أنني سأنشر القليل في المستقبل، آملاً أن أنشر ما يكفي فقط.


  • كرستيان دي بيوكيلار أحد كبار المحاضرين في كلية الاتصال والثقافة في جامعة ملبورن.

[1] جسيم أولي يُظن أنه المسؤول عن اكتساب المادة لكتلتها (المترجمة).

المصدر
timeshighereducation

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى