عام

إِقصاء الشخصيَّة الانطوائية من العالَم الانبِسَاطي

  • نوا هرتس* Noa Herz
  • ترجمة: سمية العتيبي
  • تحرير: أنس راشد عبد الحميد

من النادر أن تكون حياةُ الإنعزالي (Introvert) سهلةً، فأنا منذ تخرجي وأنا مُجبَرةٌ على العمل في المكاتب المفتوحة؛ إنه لأمر متعب، تخيَّل معي أنك تقوم بمهمة تتطلب تركيزًا عاليًا كالبحث عن قُرْط في ملعب تنس، بينما يقوم قاذف الكرات الأوتومَاتيكيِّ بالقذف تُجاهك، فهل من الممكن ألَّا تُصَاب بالإرهاق بسرعة، وتكون لديك فاعليَّةٌ أقل للبحث؟ هذا تمامًاً ما أشعر به أثناء ممارسة عملي، والمشتِّتات المتكرِّرة تتقاذف باتِّجاه مكتبي أو بالقرب منه.

مُعانَاة الإنعزالي لا تتوقف عند عمله في المكتب، فحضور مؤتمراتِ عملٍ تضم آلاف الحضور، جزءٌ أساسيٌّ من العمل الأكادِيمي. تصوَّرْ نفسك تدخل قاعةً – هائلةَ الاتساع مُضاءَة بأضواء النِّيُون المُشعَّة – يتزاحم المِئات في كل مَمَرٍّ من ممراتها، وتَجِدُك مُجبرًا على الصُّراخ من أجل أن تُسمَع بسبب الضَّجيج الخلفي الذي يملأ المكان، كما أنه مُتوقَّعٌ منك – في جلسة أساسيَّة لعرض المُلصقات العِلميَّة – أن تحصُل على المعلومات التي تحتاجها بالإضافة إلى عرض عملك على زملائك بكل كفاءة. هذه التجربة بالنسبة لك كانْعِزالي تُشابِه محاولةَ إبقاء ابتسامة عريضة على وجهك أثناء ركوبك قطار الموت!

أتمنَّى أنْ أقول أنَّ هذا النوع من التحديَّات محصور في بيئة العمل؛ لكنَّ الأمر ليس كذلك، ففي عيد ميلادي الأخير، قام أحد أصدقائي بشراء عشاء لي من منصة (EatWith) وهي منصة لتَشَارُك الوجبة مع أحد الأشخاص في منزله بحيث يطبخ لي الطعام مع ضيوفه الآخرين المشارِكين مثلي، كان بإمكاني الاستمتاع بالطعام وبالتجربة الثقافية لو لم أضطر لتلك المهمة المُؤلِمة، وهي تبادُل الحديث مع أُناس لا تربطني بهم علاقة. قلت لصديقي بكل أدب: “يبدو ممتعًا”، بينما كان انطباعي الأوَّلِي أنَّ هذه المنصة لم تُصمَّم للأشخاص الانعزاليين.

واليوم – كعالِمة نفس – أعلم أنَّ الانعزالية صفة شائعة – بخلاف الخجل الذي يعني الخوفَ من أنْ يُحكَم عليك بشكل سلبي – يُمكِن تعريفها بتفضيل البيئات الهادئة ذات الإيقاع البطيء، وأول من قام بالتَّفريق بين الأفراد على محور الانعزالية والانبساطيَّة العالِم السويدي كارل يونغ. حيث كَتب – في عشرِينيَّات القرن العشرين – واصفًا الانعزاليين بأنَّهم يُفضِّلون توجيه انتباههم إلى الدَّاخل باتجاه مشاعرهم وأفكارهم، ويَفقدون بذلك طاقتهم أثناء التفاعل الاجتماعي، بينما الانبساطيُّون على الجانب الآخر يُوجِّهون انتباههم باتِّجاه الخارج، لذلك يكتسبون الطاقة من خلال التفاعل الاجتماعي، ويفقدونها خلال فترات العُزلَة.

وبدءًا من الخمسينيَّات، قام عالم النفس الألماني – هانز آيزنك – بتقديم شرحٍ فِسيُولُوجيٍّ للفروقات بين الانعزاليين والانبساطيين. حيث ذكر أنَّ الانبساطيين لديهم مستوى أساسي أقل مِن الإثَارة القِشرِيَّة في المُخِّيخ مقارنةً بالانعزاليين، والذي يقود الانبساطيين للبحث عن مُثيرات خارجية ليُزيدُوا من دافعيَّتِهم. بخلاف الانعزاليين الذين لديهم مستوى أساسي أعلى من الإثارة القشرية في المخيخ يدفعهم للانكِفَاء على ذواتهم. أما في علم النفس المعاصر لا يزال الاختلاف بين الانبساطية والانعزالية جانبًا أساسيًّا من الشخصية (حيث إنه واحد من أنماط الشخصية الخمسة الأساسية)، بالرَّغم من رُؤيتِه طَيْفًا متصلًا نتمركز فيه جميعًا بدلًا من كونه حالةً ثُنَائِيَّة القطب.

وعلى الرغم من عَدَم وُجودِ طريقة فعَّالة لمعرفة عدد الانعزاليين بين السُّكان، إلا أن سوزان كين – مُفَكِّرة مُؤثِّرة في هذا الحقل – قدمت تقديرًا معقولًا لعددهم، حيث رأت ثلث الأشخاص في أَحدِ طرفي هذا الطَّيف، بينما الثلث الذي على الطرف الآخر هُم الانبساطيون، ويكون الثلث الأخير في الوسط بين الطرفين حيث يُسمِّيهم البعض “التَّردُّدِيِّين”. معرفتي بأن الانعزاليين يُمثِّلون قسمةً من السكان مساوية تقريبًا لعدد الانبساطيين، جعلتني أبحث عن نسبة ٣٣٪ المفقودة. أين كل الانعزاليين في محيط الانبساطيين الذين يحيطون بي في حياتي اليومية؟

 

الكثير من القرارات التي تخص الحياة اليومية للانعزاليين بِيَد الانبساطيين

بالرَّغم من امتلاكي عددًا من الأصدقاء الانعزاليين إلا أنَّ أصدقائي ومعارفي الانبساطيين يفُوقونهم عددًا بشكل كبير، لذلك لابُدَّ لي من تذكير نفسي بأنَّ هذ الغياب للانعزاليين من محيطي اليومي غيرُ مُستغرَب، لأننا نحن الانعزاليون من الصعب جدًّا ملاحظتنا، فالانعزاليون من المحتمل أنَّهم ليسوا مِمَّن يتشارك نكتةً مع من في المكتب، أو يتطلَّع لمحادثة قصيرة أثناء توقُّفه عند آلة القهوة، أو يظهرون في شاشات التلفاز كنجوم صاعدة لبرامجِ الواقع، بينما هم على النقيض تمامًا، حيث يميلون للاستمتاع بوقت هادئ مع أنفسهم أو مع القليل من الأصدقاء المُختارِين بعناية، ذلك ليُعالجوا أفكارهم بصمتٍ قبل النُّطق بها، ثم يعودون لأماكنهم الهادئة ليُعيدُوا شحن أنفسهم بعد التفاعلات الاجتماعية.

ففي حين أنَّ زيادة ظهورِ الانبساطيين لا تحتاج إلى تفسير، إلا أنها بعيدةٌ كلَّ البعد عن كونها تافهة. ولا يُفهَم منها فقط أنَّ الانعزالية تُعتَبر غير شائعة، بل إنَّ الانعزاليين أقلُّ عرضة لِأن يُمثَّلُوا بعدلٍ في المجموعات الاجتماعية المؤثِّرة بما في ذلك السياسة. حيث نجازف بفقد المساهمة الهائلة لنسبة كبيرة من موظفينا وطلابنا ومتدرِّبينا وأصدقائنا.

وعلى سبيل المثال، من المُرجَّح أن يُشارِك الانبساطيون في الأنشطة السياسية مثل نشر الرسائل السياسية وتوقيع العرائض، سواءً على الشَّبكة العَنكبُوتِيَّة أو خارجها. وعلى الرَّغم من أنَّ الرسائلَ السياسية السلبية التي تبدو شائعة جدًا في الوقت الحاضر تمنعُ الانعزاليين من المشاركة في السياسة، إلا أن لها تأثيرًا معاكسًا على الانبساطيين، بما في ذلك زيادة احتماليَّة تصويتهم أو تجَمْهُرهم أو حتى تطوُّعهم في حملة سياسية. لذلك هم نشيطون على وسائل التواصل الاجتماعي. بل من السهل لهم أيضًا الوصولُ إلى رُتَبٍ عُليا في الشركات، نظرًا للاهتمام الكبير الذي يجذبونه لأنفسهم بسبب القوالب النَّمَطيَّة الاجتماعية التي غالبًا ما تربط الخصائص الانبساطية بالقيادة. لذلك يَترُك هذا الوضع الكثيرَ من القرارات التي تخص الحياة اليومية للانعزاليين بِأيْدي الانبساطيين.

لسوء الحظ يَتمحْوَرُ تمثيل الانبساطيين في الحياة الاجتماعية والسياسية حول ديْمُومَتِهم الذَّاتية. فشروط العمل التي يضعها الانبساطيون لِتُناسب أشباههم تُزِيدُ العبْءَ على الانعزاليين. فعلى سبيل المثال، في اجتماعات المجموعات حيث يُساهِم كل مشاركٍ بأفكاره بطريقة غير مُنظَّمة وقائمة على الهيمنة، يجد الانعزاليون أنفسهم في وضع غير مؤات. كما أنَّ الإفراط في جعل الأدوار للانبساطيين في الإدارة والتوظيف يُقلِّل من فرص حصول الانعزاليين على الترقية وذلك بسبب ما يُسمَّى “تَحيُّز المُشَابَهة”، أي ميلنا لتفضيل الأشخاص الذين يشبهوننا، وهذا كله ليس غير عادل للانعزاليين فقط، بل قد يَضرُّ المنظمات نفسها.

غالبًا ما تُربَط القيادة بالانبساطية، لكنَّ التاريخ يُعلِّمُنا أن الانعزاليين يستطيعون أيضًا، أن يخدموا كقادة أقوياء. فقد كانت روزا باركس – ناشطة رائدة في الحركة الأمريكية للحقوق المدنيَّة – هادئة ومتحفظة، كانت أفعالها الشُّجاعة لا كلماتها نقطةَ تحوُّلٍ في الصِّراع المدني. يُشابهها في ذلك باراك أوباما، فأثناء عمله كرئيس للوِلايات المتَّحدة حافظ بحماس على عُزلَته اللَّيْلية ممضيًا الوقت في القراءة والتركيز على قرارات العمل. كما أن تَفْضِيله للتَّنزُّه مع مجموعات صغيرة على المناسبات الاجتماعية الكبيرة لم يحرمْه من امتلاك مهاراتِ تواصلٍ استثنائية وقدرة على اتخاذ قرارات جريئة. لذلك على النقيض من التصوُّر الخاطئ عن الانعزاليين بأنَّهم مغرورون وكارهون للبشر ومكتئبون، يمكننا أن نكون مُتعاطِفين للغاية مع تمتًّعنا بمهارات تواصلٍ قوية.

القضية ليست لتحديد من الأفضل في القيادة سواءً كان الانعزاليون أو الانبساطيون، بل لتقرير أنَّ كليهما يمكن أن يُضيفوا شيئًا مختلفًا، وهذا التنوع هو مفتاح هامٌّ للقيادة الفعَّالة. فعلى سبيل المثال، تعمل فرق ريادة الأعمال بشكل أفضل عنما يتم تشارُك القيادة بين الأفراد، وذلك حين يمتلكون سماتٍ شخصية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، الفِرَقُ التي يغلب عليها الانبساطيون يعملون بشكل أفضل في ظل قادةٍ انعزاليين، وربَّما يعود السبب لذلك، ميلهم للتجاوب مع أفكار موظَّفِيهم.

 

الانعزاليَّة ليست مرضًا يحتاج علاجًا؛ بل نعمةً من التنوع البشري

في الحقيقة، إنَّ المشكلة الثقافيَّة الرئيسيَّة هي أن يُنظَر على نطاق واسع للانعزاليين بِأنهم غيرُ مُتكيِّفين مع البيئة، بدلًا من الاعتراف بأنَّ البيئة مُصمَّمَةٌ لصالح الانبساطيين. كما أن مديحَ المجتمع وقبولَه للانبساطية كقاعدة للسلوك، دفع كثيرًا من الانعزاليين والمتردِّدين إلى قمع جوانب من شخصيَّاتهم أو اعتبارها عيوبًا. وهذا الوضع ليس سيئًا فقط للانعزاليين، بل للمجتمع ككل.

ويبدأ التحيُّز ضد الانعزاليين من الصف الأوَّل في المدرسة. فقد يكون التَّعلُّم فعَّالًا في فصل دراسي كبير، لكنَّه ليس النموذج الأفضل للجميع على أي حال. حيث سيكافح بعض الأطفال الانعزاليين خصوصًا، للبقاء المتواصِل بصحبة عدد كبير من الآخرين بالإضافة إلى الحاجة المستمرة للانخراط في العمل الجماعي. يعكس الاقتراحُ الأخير – الذي يقول بأنَّ الانعزاليين سيكونون أكثر سعادة إذا “تصرفوا بشكل أكثر انبساطًا” حتى لو تعارض مع مُيُولِهم الطبيعية – نفسَ المفهوم الخاطئ المتمثِّل بإلقاء مسؤولية التَّغيير على الانعزاليين.

من الممكن أن يقوم المجتمع بتغييرات بسيطة للتَّخفيف من عَدَم المساواة التي يواجِهها الانعزاليون. فعلى سبيل المثال، في النظام التعليمي يمكن تخصيص مساحات خاصة كملجأ مؤقَّت للأطفال الانعزاليين والآخرين الذين يحتاجون مكانًا لإعادة شحن أنفسهم. كما يمكن أنْ يستفيد الانعزاليون من زيادة إتاحة التعلم عن بعد ومنصات المشاركة عبر الانترنت، والتي تمكنهم من التواصل غير المتزامن، الذي يتيح لهم التفكير والبحث دون ضغط ليستجيبوا بشكل فوري. ومِما يمكن أن يُعيد توازُن عدم المُساواة التقليديَّة بين الانبساطيين والانعزاليين في الفصول، خلق فرص متساوية للمشاركة في الفصل، مثل مَنْحِ الطلاب وقت ليُفكروا، أو الاستقلال ليقرِّروا العمل لوحدهم، أو حتى كتابة أفكارهم بدلًا من تقديمها مشافهةً.

أما في بيئات العمل التجارية والأكاديميَّة، يجب أن يتمتَّع العُمَّال بمزيد من الاستقلاليَّة لاختيار ظروفِ عملهم. فيمكن مثلا اختيار الموضوعات التي سَتُناقَش في الاجتماعات بشكل مُسبَق بحيث يتيح للانعزاليين المزيد من الوقت ليُجَهِّزوا ويعالجوا معلوماتهم. كما أنَّ تخصِيص وقت لكل حاضر للتحدُّث قد يمنح الانعزاليين الفرصة ليعبِّروا عن أفكارهم. بل يجب أيضا زيادة النِّقاش حول ما إذا كانت اجتماعات المجموعات هي بالضرورة أفضل مِنصَّة لنشر المعرفة والقيام بالعَصْفِ الذِّهني واتِّخاذ القرارات. بل سيعمل – بعض الموظفين – وخصوصًا الانعزاليين – بشكل أفضل في تطوير المشاريع لوحدهم.

إذن، أين نسبة ٣٣ ٪ هذه؟ نحن موجودون بأجسادنا لكننا في الحقيقة غائبون. لقد حان الوقت لِيُقرَّ المجتمع أنَّ مقاسًا واحدًا لا يناسب الجميع. كما أن الهدف المُتبنِّي شروطًا شاملة يجب ألَّا يتمسَّك به الثلث فقط، بل المجتمع بأسرِه. حتى حينما تصبح الظروف أكثر تساويًا، يجب علينا نحن الانعزاليين أن نعارض غرائزنا ونعبِّر عن آرائنا ونٌكِّيف بيئاتِنا لتناسب أكثر احتياجاتنا.

مثل أن نطلب العناوين الرئيسة للاجتماعات، وإِتاحة الفرصة لنا بإرسال بريد إلكتروني إلحاقي بالأفكار التي خطرت لنا بعد التفكير الهادئ فيها، وترتيب بيئة عملٍ هادئة حتى وإن كانت بعيدة من المنزل. والأهمُّ من ذلك لابد أنْ نتذكر أنَّ الانعزاليَّة ليست شيئًا يتم مُعالجته بل نعمةً مباركة للتَّنوع البشري تأتي مع الكثير من القوة. كما أنَّ السبيل للنهوض بنُموِّنا الشخصي والجَمَاعي ليس من خلال القضاء على هذا التنَّوع بل بتبنِّيه.


ورقة علمية نشرتها المنظمة الأمريكية لعلم النفس في عام 2012 (المترجم)

  • نوا هرتس عالمة أعصاب وأخصَّائية نفسية تَدرُس الذاكرة والعواطف البشرية. وتعمل في جامعة بِنسِلفانيا.
المصدر
psyche

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بالنسبه لي وبشكل شخصي اصنف نفسي انبساطيه واحتاج للكثير من المثيرات للعمل ولا اادي اي عمل في الوقت الذي اكون فيه بمفردي ولكنني احتاج الكثير من الهدوء والصمت أثناء العمل فلا احبذ الحديث وأفضل تقديم العون لنفسي بدلا من طلبه من أحد فلا احبذ المزيد من الحديث حتى لو كلفني ذالك المزيد من الوقت والتعب هنا لا أعرف أين اصنف نفسي اتمنى ان احصل منكم على تعليق حول هذا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى