- محمد عبد اللطيف الراضي*
تقدّم هذه المقالة الصغيرة جدًّا، “تفسيرًا فيلولوجيّا” بحثيا وجزئيّا غيرَ مطوّل لـ: “عبارة دقيقة” واقعةٍ في كتب أحد أهم متكلمي علماء الغرب الإسلامي من الأشاعرة، وهي العبارة التِي ألفينَا فيها غموضًا ما لم يَرفع غشاوته إلا النقر الدّائم والمتواضع في تراثِ المتكلمينَ الأشاعرة والمعتزلة، وكثرة التفكير فيها “تأويلاً” بمجمل المقارنات النصّية النقدية الداخلية والخارجية. فقبل نحو مدّة ثلاث سنوات أو أقلّ، كانتْ عبارة المتكلم المغربي اللغوي أبي الحسن علي ابن خمير السّبتي الأشعريّ (ت: 614 هـ/1217م)؛ تحدثُ في نفسي شيئًا من قَلقٍ في “التأويل” و”الفهم”، وهي العبَارة التي تخفي في نظري بُعْدًا عقديّا قويّا عند هذا المتكلمِ المغربيّ المغمور، الذي أخرج نصّه النفيس على نحوٍ نقديّ، والموسومِ بـ: “مقدماتِ المراشد إلى علم العقائدِ”، أستاذُنا الدكتور جمال عَلاَّل البَخْتِي[1] أوّلَ مرة في سنة: 2004م[2] بتطوان المغربية. والمقالة على صغرها، تكتنف أمورًا وليسَتْ تبسطها؛ لأنّها وكما يأتي تتوجه للباحثينَ المتخصصين، ولا تشرح مبادئ المسألة ولا لواحقها وأسسها.
في خضم النقاش حول نظرية “الكسب” الأشعرية ومفاصلها يقترحُ ابن خمير السّبتي في عمله “مقدمات المراشد في علم العقائد”: “تأويلاً” متناسقًا لمذهبِ المتكلم الأشعري المعروف القاضِي أبي بكر ابن الطيّب الباقلاني (ت: 403 هـ/1013م)، وهو تأويل ينسجم معَ قولِ القاضي بنظرية “الأحوال” – المثيرة للجدل – في أحد قوليه المنقولين عنه. ويبدو أنّ ابن خمير السّبتي يؤّيد الرواية القائلة بأنّ القاضي يقول بنظريّة “الأحوال”، والتِي فرَّع عنها الباقلاني قولاً فريدًا في تفسير نظرية “الكسبِ” المعروفة.
إنّنا، وحسب ما توفره لنَا بعض النصوص الأشعريّة اليوم؛ نميلُ إلى القولِ بأنّ مصدرَ ابن خمير السبتي في هذا الأمر هو كتاب “الشامل في أصول الدين” للمتكلم أبي المعالي الجوينيّ (ت: 478 هـ/1085م)، وهو المصدر الذي عيّنه ابن خمير في صدر عملِه “المقدمات” قبلَ الدخولِ في المباحثاتِ الكلاميّة (ابن خمير، 2004: 76)، ومَثّل، إلى ذلك، صورةً من صور أثر فكر أبي المعالي الجوينيّ في “الأشعريّة المغربية” (احنانة، 2017: 174). لكنّ ابن خمير، هنا، لا ينقلُ ممّا وصلنَا وطبعَ من كتاب “الشامل” في سنواتِ: 1959م، 1969م، 1981م[3] على التوالي (السالمي، 2018م: 78)، فمن المعلومِ أنّ الأجزاءَ المتبقية من العملِ، والتي تمثّل أكثر من نصفه، مفقودة؛ بل إنّ السّبتِي ينقلُ ممّا هو مفقود وليس بين أيدينا اليوم، وتلك مسألة أخرى ليس هنا محلّ بسطها وحلّ إشكال توثيقها تاريخيا وفيلولوجيًّا.
حسبَ ابن خمير فإنّ الإجابة عن إشكال الكيفية التِي تتعلّق بها “قدرة البشر الحادثة” بـ”المقدور” يعد أساس وجوهر «المسألة ومعتمدها»؛ ومنْ ثمة فإنّ المتكلمينَ اختلفوا، فيما ينقل عنهم، «على أربعة أوجهٍ»، يختار منها قولا خامسًا يوافقُ مجملَ مذهب الأشاعرة:
- القول بأنّ متعلَّقها – بفتحِ اللام – هو «الإيجاد»
- القول بأنّ متعلًّقها هو أمر «غير الإيجاد»، ولكن تعلُّقها يبقى “تأثيرًا حقيقيّا”
- القول بأنّها تتعلّق بالمتعلَّق على «غير تأثير بوجهٍ من الوجوه»، وهو ما يراه ابن خمير «أشبه الأقوال» بالقول الصحيح، حسبه، والذِي يتبناه مع عمومِ الأشاعرة
- القول بأنّ «متعلَّقها الحالُ» (ابن خمير، 2004: 235).
والقولان الأول والثاني ليسَا من مذهب الأشاعرة، ومن ثمةَ فهما ليسَا معتمدَ ابن خمير؛ حيثُ إنّه ردهما ردًّا استدلاليّا، وعنيفًا (ابن خمير، 2004: 224 وما بعدها؛ 232 وما بعدها). غير أنّ ثمة إشكالاً في القول الرابع المبني على نظرية “الحال”، والذي ذهب إليه بعض من سماهم بـ«أصحابنا» من الأشاعرة، فقد حاول ابن خمير رفعه باقتراحِ “تأويل نسقي” ينسجم مع نظرية “الكسب” الأشعريّة التي يرى فيها أصحابه أنّ القدرة تتعلق بالمقدور “الموجودِ” من “غير تأثير” في المقدور – وهو القول الخامس – (ابن خمير، 2004: 235، 236).
إننّا نعلمُ أنّ ابن خمير يقصد بـ”الأصحاب”، في نسبة هذه المقالة الرابعة؛ القاضيَ أبا بكر الباقلاني، على الأقلّ، وهو ما يعدّ بالنسبة إليه، كما باقي الأشاعرة عمومًا، أمرًا غير مرغوبٍ فيه إطلاقًا؛ لما تفتحه هذه القولة من بابٍ للقول بـ”تأثير القدرة الحادثة” في مقدورها على نحوٍ ما، والحال أنّه ليسَ للقدرة الحادثة “تأثيرٌ”؛ فما العمل إذن؟!.
قلنا بأنّ أبا الحسن ابن خمير اقترحَ “حلاّ نسقيا” تأملنَاه مدّة، وحولنَا فكّه فيلولوجيًّا من مصادر كلامية أخرى أشعرية ومعتزلية إلى أنْ وصلنَا إلى ما نعتقد أنّه “تفسير” منسّق له. يقول ابن خمير:
«من قال من أصحابنا إنها [=القدرة الحادثة] تتعلّق بالحال فقد نفّس خناق القدرية في ادعائهم طروؤها حال الوجود على الشيء بالقادر، فإذا جعل لهم سبيلاً في تعلّق القدرة بالحال، لم يمكنه الرد عليهم في ثاني حال» (ابن خمير، 2004: 235).
لفكّ هذا النصّ المغلق نقترحُ قراءَة عبارة “طروؤها” بعبارة أخرى بديلة عنها هي: “طروء“؛ فتصير العبارة: “في ادعائهم طروءَ حالِ الوجودِ على الشيء بالقادر”. والذي حتّم هذا الاقتراح، هو تفريق المعتزلة بينَ صفة الوجود التي هي “حال” عندهم، وبين “الصفاتِ التابعة للوجود” والتي تعد “أحوالا ثانية” هي الأخرى. فللجوهر، مثلا، حالان: “حال طارئة” عليه عند وجوده المسبوق بالعدم (= الحدوث)، وهي “حال” تحصل للشيء “المعدوم” قبلُ – كما تقول نظريتهم في المعدوماتِ – بـ«القادر» عند وجوده الأول المسمّى “حدوثًا”؛ أما “الحال الثانية” فهي: “الأحوال الثواني” من نحوِ كونِ الجوهر ذَا حيّزٍ، وقابلا للأعراضِ…؛ فإنها، حسبهم دائما، صفاتٌ تجب عقلا للجوهر عند الحدوثِ لا قبلَه، ولا في عدمه، «ولا يجوز تقدير انتفائها مع ثبوت الحدوث»، وهي، بخلاف “حال الوجود”، «لا تثبت بالقدرة ولا بشيء من صفات القادر» فهي إذن “تابعة” ولاحقة لـ”لحال الأولى” (الجويني، 1981: 24). ومن ثمة فإن هذه ’’الأحوال الثواني‘‘ – كما سميناها – هي التي سماها ابن خمير بـ«ثاني حال» – كما مرّ -.
هذا، إذن، هو التفسير المقترح لنصّ ابن خمير السابقِ، والرافع لقلقه وعدم وضوحه؛ وهو، إلى ذلك، يبين مدى كونِ مذهبِ القاضي الباقلاني، كما يفيد تأويل ابن خمير له، “جدليّا” يرومُ إخراج المعتزلة من مأزقهم (=«نفّس خناق القدرية»)؛ حيث يصير قولاً في معرضِ محاججةٍ وفق أصول المخالفِ لا وفق ما يُفترض أن القاضي ينتمي إليه في الأصل، وهو القول بعدم تأثير قُدر العباد في شيءٍ ألبتة. إنّ الباقلاني، في تأويل ابن خمير، إنْ سلّم تعلّقا ما للقدرة بـ”الحالِ” في أوّل حالةِ الوجودِ؛ فإنّ الخصمَ المفترض لن يقول بتعلقها، مجدّدًا، بـ”الأحوال الثواني” كما هو مقتضى مذهب المعتزلة.
أخيرًا؛ فإنّ ابن خمير، كما يظهر لنا، لا يكتفي بنقل قول القاضِي رأسًا؛ بل حاول “تأويله” تأويلاً يبقي مذهبه ضمنَ مذهب الجماعة من الأشاعرة الذين يقولون بـ”الكسبِ” ولواحقه المفاهيمية وأحكامه الكلية الكبرى، والتي من أسسها ألاّ تكونَ القدرة “مؤثّرة” في المقدور.
المصادر:
- ابن خمير، أبو الحسن علي: 2004: مقدمات المراشد في علم العقائد. تحقيق: جمال علال البختي. تطوان: مطبعة الخليج العربيّ.
- احنانة، يوسف: 2017: تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي. الرباط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
- الجويني، أبو المعالي عبد الملك: 1981: الشامل في أصول الدين. تحقيق: ر.م فرانك. طهران: مؤسسة مطالعات إسلامي.
- السالمي، ياسين: 2018: مصادر علم الكلام – وراقة لأهم ما طبع من تآليف المعتزلة والأشاعرة (إلى حدود ق 5 هـ). الرباط: دار القلم.
- محمد عبد اللطيف الراضي: باحث في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط وتاريخ علم الكلام.
[1] يشغَلُ، حاليا، رئيس مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية – الرابطة المحمدية للعلماء.
[2] للنصّ ثلاث نشرات:
- النشرة المغربية بتطوان في سنة: 2004م، والمشار إليها في متن المقالة ولائحة مصادرها – كما في الصورة -.
- نشرة المرحوم: الدكتور أحمد السايح، وتوفيق وهبة بالقاهرة عن: مكتبة الثقافة الدينية سنة: 2007م، وهي نشرة استنسختْ نشرةَ الدكتور علال البختي دون أدنى إشارة له، ولعملِه، مستندة – كما يعطينَا فحصها – على نشرة البختي كليًّا حتى في العناوين الموضوعة، ولم ترجع، خلافًا لما تشي المقدمة، لمخطوطةِ القرويين كما تدلّ على ذلك قرائن كثيرة. انظر: مقدمات المراشد. تحقيق: أحمد السايح ومراد وهبة. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط: الأولى 2007م. ص: 17 وما بعدها. وراجع، مثلا، ص: 77، مقارنًا ذلك بالذيل الثاني من ص: 134 في نشرة البختي.
- النشرة المصرية للدكتور البختي عن نفس النّاشر (=القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية) سنة: 2011م، وهي مصورة عن النشرة المغربية الأولى موافقة لها في كل شيء.
[3] نشرتا: 1959م، و 1981م تحقيقان لـكل من المستشرقين: هلموت كلوبفر، وفرانك – على التوالي – للأبواب الأولى من الكتاب في: النظر، وحقيقة التعريفات، والاستدلال. أما نشرة: 1969م المحققة من قِبل علي سامي النشار وآخرين فهي لأبواب الكتاب التالية إلى: كتاب العلل. ومازال الأمر يحتاج إلى مزيد تحقّقٍ.