الدين

جني البركات في أَزْمُن الطاعات

  • مصطفى بن عبد الله الباز
  • تحرير: عبير الشهري

بسم الله الرحمن الرحيم

كثيرًا ما يستنكر أو يستغرب بعض الناس تلك الأخبار المرويّة عن السلف الصالح، وما جاء فيها من أنواع الاجتهادات في العبادات، وهذا الاستغراب ليس من جهة صحة تلك الأخبار، بل من جهة استحالة وقوع مثلها، وأن الوقت لا يسعها، من ذلك ما روي في شأن الصحابي الجليل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-أنه ختم القرآن في ركعة. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/24).

 

يقول الإمام القحطاني في نونيته عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:

من كان يَسْهَرُ ليلةً في ركعةٍ *** وتْرًا فيُكمِلُ ختمةَ القرآنِ

ومنها المروي في شأن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-أنه كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة، انظر: الحلية، لأبي نعيم (9/181).

وسبب كتابة هذا المقال، لا يتعلق ببحث صحة تلك المرويّات من عدمها، بل البحث هنا؛ هل حقًا أن الإنسان يستطيع أن يتشبه بأولئك السلف، أو أنْ يقاربهم في العبادة، وبالخصوص في مثل هذه المواسم؟ وما السبب الذي قادهم وأعانهم على مثل هذه الأعمال من غير كلل ولا ملل؟

فظللتُ أتأمل هذه الأسئلة، وأبحث عن السبب الذي يسّر لهم ذلك، حتى وقفتُ على كلام جميل لشيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله-حيث يقول فيه: تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال الله تعالى (العون على مرضاته)، ثم رأيته في الفاتحة في قوله:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[سورة الفاتحة:5]، انظر: مدارج السالكين، (1 / 75 – 78).

ولما رأيتُ هذه المقولة من إمام مُجرِّب، قد ضرب أروع الأمثلة في الجدّ والاجتهاد، مما لا يخفى على كل من يعرف ابن تيمية، فما يقوله في الغالب يكون عن علم وتجربة.

علمتُ حينها أن من أقوى الأسباب التي أعانت أولئك القوم، أنهم استعانوا بالله تعالى تمام الاستعانة، وسألوا الله تعالى معونته، فهذا الدعاء جامع لأنواع الخير، مانع من أنواع الشر؛ لأن الإنسان في أشدّ الحاجة إلى معونة الله تعالى، وذلك في جميع أحواله، وفي أزْمُن الطاعات يكون أشدّ إليها حاجةً، فمن وفّقهُ الله -جل وعلا-لمرضاته، فقد وفّقه للخير كله، ومنعه من الشر كله.

ومن تأمل الحكمة من تكرار الفاتحة في يومه مراتٍ عديدة، علم أنّها لِما تضمنته من الاستعانة بالله تعالى كما في الآية المتقدمة.

ومما يبين أيضًا أهمية سؤال الله -جل وعلا-معونته، ما أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم-معاذًا حين قال له: يا مُعاذ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ، إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُر كلِّ صلاةٍ تقولُ: (اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ)، انظر صحيح أبي داود، للألباني (1522).

والنبي -صلى الله عليه وسلم-استعمل عبارة (واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ) مع القسم، ليبين أهمية الاستعانة بالله تعالى، وسؤاله العون على مرضاته في كل الأعمال، فرائضها، ونوافلها، كثيرها، وقليلها.

فإذا تحقق عندك ما تقدم، علمتَ أنه لا مستحيل، وأنك تستطيع أن تقدم الكثير، وإن لم تماثل أولئك القوم، فإن السلف -رضوان الله عليهم-ضربوا أروع الأمثلة في العبادات، وخاصة في مثل هذه المواسم التي يتسابق فيها المتسابقون، حتى قال التابعي الجليل أبو مسلم الخولاني: (أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا، والله لنزاحمنّهم عليه زحاماً، حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً).

أوَلا تحب أيها الحبيب مجاورة حبيبك صلى الله عليه وسلم، ومزاحمتهم عليه؟ لنتذكر جميعاً أننا في سباق:﴿ والسابقون السابقون۝ أولئكَ المُقرّبون [سورة الواقعة:10-11]،

 

ولله درّ القائل:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكِرامِ فلاحُ

ومن أولى من يُتشبه به في مثل هذا؛ النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة).

ومن الأمور التي دفعتني وبشدة إلى كتابة هذا الموضع، شحذ بعض الهمم التي مازالت كامنة في النفوس، واغتنام ما بقي من هذا الشهر المبارك، وإحياء مواسم الطاعات، كما كان عليه سلفنا الصالح من التزود في الخيرات، فإن بمثل هذا تُنال البركات، وبه تستيقظ القلوب من سباتها، وتتقرب إلى مولاها وسيدها، فمن لم يغتنم شبابه اليوم فمتى بالله عليك؟! فإن العمر يمضي، والنفس إن لم تحملها لم تحملك. ومن جميل ما يُنشد هنا تلك الأبيات التي كان يُنشدها رجل في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-بعد كل صلاة يصليها، فشُكي حاله إلى عمر، فجاء إليه عمر، وقال له: أسمعني الأبيات التي كنت تقولها، فإن كانت حسنة قلتها معك، وإن كانت غير ذلك نهيتك عنها، فقال الرجل:

وفؤادي كلما نبّهتُهُ *** عادَ في اللذاتِ يبغي تعبي
لا أُرَاهُ الدهر إلا لاهيًا *** في تمادِيه فقد بَرِحَ بي
يا قرينَ السوء ما هذا الصِبا *** فني العمرُ كذا باللعبِ
وشباب بانَ مني فمضَى *** قبل أنْ أقضي مِنه أربي
ما أُرجي بعده إلا الفنى *** ضيّقَ الشيبُ عليَّ مطلبي
نفسُ لا كنتِ ولا كان الهوى *** اتقِ المولى وخافِي وارهبِي

فأقرّها عمر -رضي الله عنه-وقال: من كان منكم منشدًا فبمثل هذا، وأخذ عمر يُرددها.

والخلاصة بعدما تقدم: اعلم أن الإنسان بغير معونة الله تعالى لا يقدم ولا يُؤخر، وعليك أيها المبارك بالحرص على مثل هذا الدعاء؛ فإن من حُرم معونة الله –تعالى-فقد حُرم، وعليك بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم-لمعاذ -رضي الله عنه-فإنها خير وصية لمن صحِبها، والله تعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اللَّهمَّ أعنّا على ذِكْرِكَ، وعلى شُكْرِكَ، وعلى حُسنِ عبادتِكَ، وتوفّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى