عام

الإحساس بالاغتراب دافعًا إلى الإلحاد!

د. عائض بن سعد الدوسري

معظم سِيَرِ الملحدين التي قرأتُها، أجد فيها خيطًا مشتركًا، واضحًا أو غامضًا، يقود إلى أنَّ قرار الإلحاد الذي تم اتخاذه من قبل هؤلاء لم يكن لأسبابٍ (موضوعيَّة أو علميَّة)، بقدر ما كان الأمر يرجع إلى أسباب نفسيَّة أو عاطفيَّة. أحد النماذج على ذلك: الملحد المشهور، ورائد الشك المعاصر، ومؤرخ العلوم الأمريكي مايكل شيرمر Michael Shermer، المدير التنفيذي لجمعية المتشككين، ورئيس تحرير مجلة المتشكك، ومشارك بكتابة عمود شهريًا لـ مجلة Scientific American. قال عنه نيل ديجراس تايسون Neil deGrasse Tyson: “مايكل شيرمر منارة العقل في محيط من اللاعقلانية”.

مايكل شيرمر، هذه العالم نَشَأَ -كما يقول- في أسرة غير متدينة، فلم تكن تهتم كثيرًا بالدين في حياتها، بل كان جل همها طلب العيش والكسب في هذه الحياة الدنيا، ولم تكن تفكر بالله كثيرًا. ومع ذلك فقد أكَّد مايكل شيرمر أنَّ الله كان محور تفكيره، وظلَّ الله كذلك بالنسبة إليه حتى بعد إلحاده، ولم يستطع التوقف عن التفكير فيه والحديث عنه. وكانت مفاجأة عائلته أنه أعلن في بداية السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ولادته الثانية، الولادة بالروح القدس، وقبوله الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا وفاديًا شخصيًا له، والتحق بصحبةٍ مؤمنةٍ في الكنيسة، وقدموا له التشجيع، وصار -كما يقول- داعيةً متحمسًا لدعوة الناس إلى الإيمان بالإنجيل والمخلص يسوع المسيح. ظل سنوات على هذا الإيمان المشتعل بداخله، حيث لم يبق باب إلا وطرقه ليهدي أهله إلى الإيمان بالإنجيل، والتحق -ليعمق إيمانه وثقافته الدينية- بدورات علميَّة مسيحيَّة، دَرَسَ فيها العهد القديم والعهد الجديد، وكتب الدعاة المسيحيين المثقفين في الرد على الملحدين والمتشككين وشبهاتهم عن وجود الله والخَلْق والدين.

لكن! بدأ التغير على هذا الشاب المؤمن المتحمس المثقف الديني في نهاية المرحلة الجامعيَّة، ومع أنَّه كان لا يزال مسيحيًا حينئذٍ، إلا أن أسس إيمانه كانت تتصدع بالفعل تحت وطأة عدة عوامل، ذكرها بنفسه، ليجد أنَّ إيمانه قد زال تمامًا بعد تزلزله، وصار ملحدًا لا يؤمن بالله ولا بالدين. هذه العوامل، كما يسوقها مايكل شيرمر بنفسه، هي:

أولاً: الاغتراب النفسي.

كان مايكل شيرمر بين ظهراني مجموعة مؤمنة تشد أزره وتشجعه، فكان لا يشعر بالاغتراب ولا الخجل ولا الذل من إيمانه، بل كان متماهيًا مع ذلك الوسط، يسير معه حيثما سار، ولا يجد في نفسه غربة، بل تكريسًا وتشجيعًا لتعميق إيمانه ونشره، ورافدًا يزوده بالعلم والثقافة التي تخدم هذا الاعتقاد. هذا الوسط اختفى في المرحلة الجامعة، وحلَّ محله مجموعة أخرى غير مؤمنة، شعر معها مايكل شيرمر بالاغتراب والخجل والذل، يُنظر إليه كشخص منبوذ ومكروه بسبب معرفتهم بإيمانه، وأنه أصبح شخصًا متطفلاً ثقيل الظل بين هؤلاء الزملاء الذين -كما يقوله- لا يوجد بينه أحدٌ يذكر الدين، بل ليس لهم علاقة بالدين البتة، وهكذا وجد نفسه غريبًا وحيدًا، مغتربًا في داخله. وبدل الدورات العلميَّة المسيحيَّة التي كان يلتحق به، التحق في الجامعة بدورات دراسيَّة أخرى، كانت إحداها دورة مسائية تبدأ الساعة السابعة وتنتهي العاشرة. وكان الطلاب يلتقون في نادٍ ليليٍّ -بمرحٍ وتسلية- من أجل مناقشات تدور حول الأسئلة الوجودية الكبرى ونظرية داروين، وهم يحتسون الخمر كما يقول، في أجواء لا حدود فيها للأسئلة ولا للأجوبة المطروحة.

وهنا يعترف مايكل شيرمر أنه لم يسمع في هذه اللقاءات جديدًا لم يسمعه مسبقًا في الدورات العلميَّة المسيحيَّة، التي كانت تَعْرض تلك الأسئلة كشبهات يتم الجواب عنها. إذن، ما الذي اختلف هنا عليه؟ يقول مايكل شيرمر: “في الغالب ما كان مختلفًا في هذه الحالة هو عدم تجانس معتقدات زملائي”. لقد فَقَدَ مايكل شيرمر الوسط الإيماني الذي كان يحيا فيه، وصدم بالوسط الجديد، وأحسَّ بالغربة فيه، يقول مايكل شيرمر: “لم أعد محاطًا بالمسيحيين”. هذا الوسط الجديد بدأ يثيره بتعبيره الصريح عن الشكوك الإلحاديَّة، ليس بسبب مادتها وإنما بسبب طريقتها وأجوائها اللطيفة، دون أن يُعاب على الملحدين أو يخافوا من عقاب، كما يقول، وقد صدمه كثيرًا اكتشاف عالمٍ يغيب فيه الدين تمامًا عن حياة زملائه في النادي الليلي. يقول: “لم يكن الدين ببساطة جزءًا من ذلك الوسط”. ويقول مايكل شيرمر بكلامٍ واضحٍ عن انبهاره بأجواء ذلك الوسط لا مادته الذي عاشه في النادي الليلي: “لهذا، فإنني في الواقع لم انفصل عن إيماني المسيحي لأنني عرفتُ نظرية التطور، بل كان الأمر في الحقيقة بسبب الوسط الذي يقبل تحدي جميع المعتقدات دون خوفٍ من الخسارة النفسيَّة أو الانتقام الاجتماعي”.

ثانياً: الاكتشاف الصادم!

ربما يُصدم القارئ من سُخْفِ ومستوى هذه العامل والذي قبله وبعده، وكيف أثر على مثل هذا عالم، لكن بالنسبة إلى مايكل شيرمر فقد كان عاملاً حاسمًا في نفسيته، وهو عاملٌ يعود -في الحقيقة- إلى العامل الأول، لكن مايكل شيرمر يمنحه مزيدًا من الاهتمام، ويظهر أنَّه يحتل مكانة نفسيًا كبيرة لديه. يؤكد مايكل شيرمر أنه بعد أن انضم إلى دورةٍ دراسيَّةٍ في (الأنثروبولوجيا الثقافيَّة)، قادته إلى “اكتشف أمرٍ عظيمٍ!”، وهو أنَّ هناك في العالم أديان مختلفة، وأن أفرادها يعتقدون مثله أنهم على حق وغيرهم على باطل، وأنهم كلهم يزعجون العالم المختلف عنهم في الاعتقاد بدعوتهم إلى إيمانهم الخاص بهم، وهنا اكتشف كم هو خاطئ!

ثالثاً: مشكلة وجود الشر.

يختم مايكل شيرمر بالعامل الثالث والأخير من العوامل الرئيسة التي دفعته إلى الإلحاد، وهو: “لماذا يسمح الله بحدوث الألم للناس الطيبين؟”. وبعد هذا التساؤل يقول مايكل شيرمر: “توصلت إلى استنتاج مفاده أن الله ببساطة غير موجود”! وهكذا صار مايكل شيرمر ملحدًا، بل صار داعية كبيرًا من دعاة الإلحاد والشك، يبذل جهوده الحثيثة من أجل أن تصل دعوته الإيمانية بالإلحاد والشك إلى أقاصي الأرض، شرقًا وغربًا، ولا يدع بابًا إلا طرقه لنشر الإلحاد، ولا منبرًا إلا صعده ليبث الشكوك في العالم المختلف عنه في الاعتقاد. وهكذا تحول الإنسان من داعية مسيحي متحمس إلى داعية ملحد متحمس، وأصبح أستاذًا في جامعة Chapman بكاليفورنيا، حيث يُدرِّس هناك مادة: (الشك 101) لمدة 18 عامًا!

ويمكن الملاحظة بسهولة ويسر، أن جميع العوامل الثلاثة التي أوردها مايكل شيرمر لا علاقة لها بالعقل أو العلم، وإنما هي عوامل نفسيَّة وعاطفيَّة، كلها تعبر عن الضعف والهشاشة والانقياد الأعمى والانبهار، حملته على ترك ما كان يؤمن به، وينحاز إلى الإلحاد. وفي الحقيقة، كان مايكل شيرمر يخاف أن يكون منبوذًا من وسطه، ويريد أن يكون مقبولاً، وهذا ما دفعه إلى المسارعة إلى احتضان عقائد الوسط الذي ينتقل إليه ويعيش فيه، لأنه كان يخاف المخالفة والنبذ في داخله، ويشعر براحة في التماهي مع بيئته، وهذا بلا شك يعبر عن ضعف في الشخصيَّة، ورغبة نفسيَّة في الحصول على القبول من الآخرين الذين يحيطون به. ولهذا، يقول عالم النفس البروفيسور بول فيتز، في ورقة نشرها في مجلة (Truth Journal)، بعنوان: (علم نفس الإلحاد): “أنا مقتنع تماماً أنَّ أغلب الملحدين ليس عندهم أسباب عقلانية للإلحاد، وإنما هي دوافع نفسيَّة”. وقد خصَّصَ بول فيتز، الذي كان مُلحدًا ثم آمن بوجود الله، كتابًا كاملاً، بعنوان: (Faith of the Fatherless: The Psychology of Atheism)، وقد مترجم إلى العربية، لاستعراض أسماء كثيرٍ من كبار الملحدين الغربيين، ووجد أنَّ المحرك النفسي لديهم يُمثل عاملاً مهمًا ورئيسًا.

إنَّ ما يُسمى بمعضلة وجود الشر، في بُعْدِها الأكثر تأثيرًا عند معظم الملحدين، هي من العوامل النفسيَّة العاطفيَّة، وليست من العوامل العلميَّة. فأثر البُعْد النفسي الناجم عن مشكلة الشر، التي تولد الغضب جراء عدم الصبر على المصائب والأحداث المؤلمة، لا يُنكر في توليد الشك والإلحاد. ‏تقول البروفيسورة جولي أكسلين Julie Exline، الطبيبة النفسيَّة في جامعة (Case Western University): “تقترح الدراسات الخاصة بالأحداث الأليمة رابطًا معقولاً بين الشك والغضب من الله وبين الشكوك في وجود الله. وبناء على (Cook and Wimberly، 1983م)، فإنَّ 33% من الآباء الذي عانوا من موت أبنائهم عبروا عن شكوكهم في الله في السنة الأولى من الفاجعة. وفي دراسة أخرى (1985م Childs,)، فإنَّ ٩٠٪ من الأمهات اللاتي ولدن أطفالاً متخلفين عـقـلـيـًّا شـكـكـن فـي وجـود الله. وتركَّز بحثنا بين الطلاب بشكلٍ مباشرٍ على الارتباط بين الغضب من الله وضعف شخصية الإيمان (2004 ,.Exline et al). وفي صحوة أحداث الحياة السلبيَّة، فإنَّ الغضب الموجه ضد الله ينبئ عن إيمان متناقص في وجود الله”. وإذا كان معظم الملحدين يحاولون إخفاء دوافعهم النفسيَّة الحقيقيَّة، فإن بعض الملحدين يصرحون بها، فمثلاً: يقول عالم الفيزياء الفلكيَّة غريغوري بنفورد Gregory Benford، مقدمًا مثالاً من نفسه على ارتباط وجود الشر بحالة الغضب والسخط ودوره في صناعة الشكوك والإلحاد: “الموت وتجربة فُقْدَان الأحباء تخترق حتى الحياة الأكثر إرضاء وأحسن ترتيبًا. توفيت زوجتي في 2002م، وانهرت بعد يومين من موتها. وبعد ثلاثة أشهر توفي والدي، وفي غضون عامين آخرين ذهبت أمي كذلك، وأعتقد الآن أنَّ الشَّرَّ ليس مشكلة يمكن حلها، فالكون مكانٌ مظلمٌ ومأساويٌّ”.

يقول ابن قيم الجوزيَّة: “ولكل أحدٍ مع نفسه في هذا المقام [تعليل الأفعال الإلهية] مُباحثاتٌ وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك، فالقلوب تَغْلِي بما فيها، كالقدور إذا استجمعَتْ غَليانًا. فلقد بَلغنَا وشاهَدْنَا من كثير من هؤلاء من التظلُّم لِلرَّبِّ تعالى، واتهّامه ما لا يَصْدُرُ إلا من عَدُوٍّ، فكان الجَهْمُ يخرج بأصحابه، فيقِفُهم على الجَذْمَى وأهل البلاء، ويقول: انظروا، أرْحَمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا؟ إنكارًا لرحمته، كما أنكر حِكمته. وأنت تشاهد كثيرًا من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول: تُرى ما كان ذنبي حتى فَعَلْتَ بي هذا؟ وقال لي غير واحد: إذا تبتُ إليه، وأنَبْتُ وعملتُ صالحًا، ضيّق عليَّ رزقي، ونَكَّد عليَّ معيشتي، وإذا راجَعْتُ معصيته، وأعطيتُ نفسي مُرادها، جاءني الرّزْقُ والعَوْنُ، أو نحو هذا”. ويقول أيضًا ابن قيم الجوزيَّة: ‏”كان شيخ هذا المذهب [=مذهب الجبرية ونفي الحكمة الإلهيَّة] جهم بن صفوان يقف على الجُذَامَى، ويشاهد ما هم فيه من البلايا، ويقول: (أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟!)، يعني أنَّه ليس ثَمَّ رحمة في الحقيقة، وإنما الأمر راجعٌ إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة”.

وحدثني صديقٌ وأستاذٌ أنه رأى عبد الله القصيمي في القاهرة، كان يتحسر ويتألم حين كان يرى المساكين والضعفاء ويشاهد تهالك العجزة والمصابين، ويقول مثلما كان يقوله الجهم بن صفوان، اعتراضًا على الحكمة الإلهية، لكن كان الجهم ينفيها ليثبت محض المشيئة، وكان القصيمي ينفيها لينفي وجود الله! ولهذا، فإنَّ للخلق مقامات مع وجود الشر في العالم بحسب مقامات الإيمان في قلوبهم، ووجود الشر في العالم ينعكس بطرق متباينة ومتفاوتة جدًا بشكل عظيم في النفوس. فيثير في الأنفس المتفائلة المؤمنة: الحاجة الضرورية إلى الخير، والافتقار إلى مصدره، ومعنى الإيمان بالغايات النبيلة. وفي المقابل يثير في النفوس المتشائمة أو الضعيفة الهشة أو الجحود المتمردة: العدمية، وانتفاء الغاية من الوجود. وكما أنَّ انعكاس وجود الشر في الوجود يختلف في النفوس المتباينة، فكذلك الأثر الناتج عن تلك النفوس وانفعالاتها معه، فالنفوس الأولى تنطلق في الوجود وتنبسط إلى الخارج بالفعل الإيجابي لتخفيف الشر، وأما الثانية فتنقبض عن الوجود، وتنطوي إلى الداخل بفعلٍ هادمٍ في ذاتها لا يزيدها إلا عزلة. ووجود الشر مشكلة لا وجود لها بتاتًا عندما تحضر الثقة التامة بالله في قلب العبد، فهي مشكلة حقيقيَّة للقلب الذي اهتزت ثقته بالله، ويشك في حكمته وحكمه، فإن من ثبت يقينه بحكمة الباري سبحانه لن ترِد عليه تلك “المعضلة”، فكونها “مشكلة” هو فرع عن فقدان أو ضعف الثقة بالله وحكمته.

وإذا كان التألم من الشر أو الخجل والذل في الوسط يدفع الإنسان إلى ترك إيمانه، فإن هناك أحيانًا من لا يكون الوسط عبارة عن مجموعة من الناس، بل يكون مجموعة من الرغبات التي يحب الإنسان أن يعيش فيها، ويكره أن يغادرها، كحالة إدمانٍ على الرغبات وضعفٍ أمامها، فلا يقدر أن يدعها ويظل يركض خلفها إلى غير نهاية، أو كما يقول جان بول رِزفبِر: “الرغبة لا تنتهي عند موضوعٍ، كما تنتهي الحاجة”. والألم فيما يتعلق بالإدمان على الرغبات يتولد بالترك، ولذا فهو لا يقوى على ترك الرغبات والملذات، وهكذا تمتلك الرغبات قوة كبيرة في تحويل وصناعة القناعات العقليَّة، وتكون هي المحددة لها، وهي تعود بلا شك إلى العوامل النفسيَّة. وحينما تتحول الرغبة إلى واقعٍ يعجز الإنسان عن الفكاك منه، إدمانًا عليه واستسلامًا له، يبدأ بتكييف قناعاته العقليَّة كي تتماهى وتتصالح مع تلك الرغبات، إذ استمرار القناعات المضادة والمعاكسة للرغبات الإدمانيَّة عذابٌ عظيمٌ، وهكذا تتكيَّف القناعات الفكريَّة وتخضع للرغبات! يقول ‏عالم النفس الأمريكي كلفن هال Calvin Hall: “الشخص الذي تستبد به الرغبة في أن يكون شيءٌ ما حقيقيًّا، قد يدفع به هذا إلى أن يخدع نفسه، فيظن أنَّ هذا الشيء حقيقيٌّ بالفعل. ونحن جميعًا نعلم إلى أي حد يسهل علينا أن ندع ميولنا ورغباتنا تقود تفكيرنا”.

أمَّا في مجال الاعتقاد على وجه الخصوص ودور الرغبات في تغييرها، فيقول الكاتب والملحد ألدوس هكسلي Aldous Huxley: “كانت لديَّ دوافع وراء عدم رغبتي في أن يكون للعالم معنى، وبالتالي افترضت أنه لا يوجد بالفعل. بالنسبة لي ولمعظم المعاصرين، كانت فلسفة اللامعنى في جوهرها أداة للتحرر، التحرر من نظام سياسي واقتصادي معين من ناحية، والتحرر من نظام أخلاقي معين من الناحية الأخرى”.

‏حين قرأتُ كلام ألدوس هكسلي، عن الرغبة المتحققة القاهرة، تذكرتُ حديثًا دار بيني وبين شاب في نهاية العشرين قبل سنين. طلب مني اللقاء للحوار حول مسائل وجودية، والتقينا في أحد المقاهي، ودار حوارٌ هادئٌ أو بالأحرى بارد، لم يكن فيه الحماس المعتاد. فظهر فتورٌ منه، وتبيَّن لي أنَّ لديه شك في الإلحاد وليس في الإيمان، ويبدو أن اللقاء كان غرضه الرئيس الاطمئنان على قراره في الإلحاد، ويريد فقط أن يتأكد من صلابة بعض المسائل. وبعد الحديث المعتاد حول نقاط رئيسة، تبسمتُ وقلت له: “أحب أن تصارحني، لماذا ألحدت؟ فيظهر أن الأمر لا يتعلق بقضايا علمية”. تبسم هو بدوره، وقال: هناك بعض الأمور لا أستطيع أن أتركها، أنا أعشقها ومدمن عليها، والإيمان ينغص حياتي، قلبي يعيش صراعاً بين ممارستها والشعور بالذنب والمعصية، هذا الجحيم لم أعد أطيقه، ولم أعد ألتذ بتلك الأمور وأنا أمارسها بنفسٍ لوامةٍ تقرعني قبلها وأثناء ممارستها وبعد ممارستها. وواصل حديثه، قائلاً: التكاليف مكلفة ومتعبة وشاقة، وتركها كان يؤلمني كثيرًا، كنتُ أقوم أصلي الفجر، وكان ذلك شاقًا عليَّ، وإذا فاتتني الصلاة قرعتني نفسي وركبني غمٌ وهمٌ، وهو عذابٌ لا أطيقه. ولهذا كنتُ أريد أن أرتاح من كل ذلك، وكان السبيل الوحيد هو التخلي عن سبب اللوم والتقريع: الإيمان. حين سمعتُه يقول ذلك، خالجني شعورٌ متضادٌ، هل أشكره على صراحته واختصاره الطريق، وأن المسألة ليست مسألة علمية وإنما انحياز عاطفيٌّ إراديٌّ واعٍ برغبة تريد أن تحيا في الواقع بلا لومٍ ولا رقيٍب ولا تأنيبٍ، أو أرثي له وكيف قدر الشيطان أن يلبس عليه ويخدعه، ويجعل الإيمان والضمير عبءً عليه في الحياة، حيث شَعَرَ بغربةٍ وهو يُمارس ملذاته، سببها له الإيمان الذي في قلبه، الإيمان الذي انحاز به إلى فطرته وجوهره الحقيقي، لكنَّ تلك الغربة أثناء انغماسه في رغباته اقضت مضجعه، وبدل أن ينحاز إلى الإيمان والفطرة ويقظة الضمير، انحاز إلى الرغبات ليتخلص من هذا الاغتراب، وتوحد الفكرة في الرأس مع الرغبة في الجسد!

كانت تلك القراءات في سِيَرِ الملحدين، وكذلك ذلك اللقاء وغيره من اللقاءات، درسًا مهماً في أن يتم إدراك الدافع الحقيقي وراء تغير وتحول القناعات في الشخص الذي تحاوره قبل أن تخوض غمار حوار بيزنطي، يدور على نفسه، لأنَّ المحركَ الحقيقيَّ له ليس مسائل علمية ولا شبهات عقلية، وإنما أمور نفسيَّة أو رغبات شخصيَّة، تستتر وراء زخارف علمية عقلية مكررة، وكما قال الأديب الروسي دوستوفيسكي Dostoevsky: “إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شيءٍ مباحٌ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى