عام

أسلاف ما بعد الحداثة

  • سيمون بلاكبيرن
  • ترجمة: يوسف عسيري
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: عبير الشهري

إذا كان قلق الوصول إلى الحقيقة شائعًا جدا هذه الأيام، فطالما كان الأمر كذلك. قبل زمن تويتر والتغريدات والمتصيدون بوقت طويل= عبّر جورج أورويل عن خوفه من أن “مفهوم الحقيقة الموضوعية قد بدأ يتلاشي من العالم”(1). إن مخاوف أورويل كانت سياسية، حيث تعرضت الحقيقة لهجوم من قبل السياسيين ودعاتهم؛ وإن مخاوفنا -بمعنى ما- ثقافية، فالعديد من النظريات الفلسفية تسورت الأكاديميات لتعيث فسادا في المجتمع. في تقرير المنظمة الأوروبية للبيولوجيا الجزئية كتب مارسيل كونتز “يُستخدم فكر ما بعد الحداثة لتقويض وهدم الحقائق العلمية؛ إنه لأمر مزعج أن يمر ذلك دون ملاحظة غالبية العلماء”(2).

هذه النظرة لما بعد الحداثة كثقافة ساذجة أمر شائع جداً.

عديدة هي المجالات التي تأثرت بفكر ما بعد الحداثة، إلا أنني أركز هنا على فلسفتها اللغوية ووجهة نظرها عن الحقيقة؛ لقد أصبحت الشخصيات التي كانت معروفة سابقا غير معروفة حاليًا بل وسيئة السمعة في الفضاء الفلسفي، على سبيل المثال جان بودريارد، جاك ديدرا، ميشيل فوكو، مارتن هايدغر، فريدريك جيمسون، دوجلاس كلينر، جان فرانسوا ليوتار، وريتشارد رورتي. لقد تمسكت ما بعد الحداثة بإمكانية اختلاف وجهات النظر عن الأشياء، ووجود تفسيرات مختلفة للظاهرة الواحدة؛ وأنكرت تماماً وجود ملاحظة مباشرة أو غير مثقلة بتحيز قبلي؛ وطعنوا في الفصل بين الحقائق والقيم، وبين التحليلي والتركيبي، وبين العقل والوجود. ولكونهم اتبعوا منهج الشك، وكانوا متحسسين للغاية تجاه التحولات النوعية في الثقافة والمجتمع والتاريخ= فقد نظروا إلى الكلمات كأدوات، واعتقدوا أن المفردات موجودة لأنها تمكننا من التأقلم مع العالم، والوصول إلى أهدافنا؛ لم يثقوا بأي سلطة.

الوضعيون

نشر الفيلسوف جون آير كتابه (اللغة والحقيقة والمنطق) في عام 1936، وهو كتاب مخصص للتعبير عن الحركة التي أصبحت تعرف باسم “الوضعية المنطقية” أو “التجريبية المنطقية”، ومجموعة من المذاهب الفكرية المرتبطة بحلقة فيينا، وشخصيات مثل رودولف كارناب، هربرت فيغل، فيليب فرانك، كورت جودل، هانز هان، فيكتور كرافت، أوتو نيوراث، موريتز شليك، وفريدريك وايزمان. على الرغم مما كان بين أعضاء حلقة فيينا من نقاط الخلاف العديدة، إلا أنهم كانوا متشابهين في التفكير إلى حد أن هدفهم كان شكلاً من أشكال الفلسفة المتناسبة مع متطلبات العلم الحديث.

قررت الوضعية أن نظام المعرفة والاعتقاد لدينا هو مبنى يجب أن يقوم على أسس متينة وآمنة؛ حيث تبرر الحواس حقائق العلم وقواعد اللغة وحقائق الرياضيات والمنطق؛ وما خرج عن هذه الحقائق -العلمية- ونظيرتها المتواضع عليها= ليس إلا هراء. بقدر ما كان هذا الموقف نقلة منعشة، فقد أوقعهم في الكثير من الحرج. في “رسالة منطقية فلسفية” أدرك لودفيج فيتجنشتاين أن الفلسفة -نظرًا لأنها ليست علمًا ولا منطقًا ولا رياضيات- فليس من المستبعد أنها في جانب “الهراء/اللامعنى”.(3)

ازدهرت الوضعية المنطقية في الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية، وكانت التيارات المضادة لها تتشكل بالفعل. في عام 1935، تمكن كارل بوبر من احتواء ومعالجة استنتاجات ديفيد هيوم المتشككة حول الاستقراء من خلال التسليم بصحتها وواقعيتها.(4) حيث قرر أننا فقط يمكننا إثبات زيف النظريات، لكن لا يمكننا تأكيدها يقينا. في نفس العام الذي ظهر فيه كتاب بوبر، طور عالم الأحياء والمؤرخ البولندي لودفيج فليك فكرة أن العلماء يقعون بالضرورة في أسر “نمط فكري” معين(5)، أي مجموعة من القواعد والمواضعات المغلقة التي تتبعها مجموعة من العلماء. ربما نرى هنا تنبؤ وجهات نظر فليك بفكرة توماس كون بأن العلوم الطبيعية؛ تتقدم في ظل نموذج قياسي مشترك أو نمط حاكم؛ ومثل جميع الحكومات، يبقى النموذج مستقراً حتى يُحدث تراكم الضغوط ثورة. (6)

اعتمد الوضعيون المناطقة على النظرية التمثيلية للمعنى، واعتبروها بدهية مفروغ منها، فالعقل البشري يستعمل اللغة التي هي مرآة العالم؛ فينعكس العالم في المرآة. قدم جون ديوي نقدًا عميقا لهذه الفكرة حيث قال:

“إن المغالطة الأساسية في الواقعية التمثيلية هي أنه: في حين أنها تعتمد -في الواقع- على الوظيفة الاستدلالية للتحقق والبحث، فإنها تفشل في تفسير الجودة التلقائية والأفكار ذات الصلة بها باستعمال نفس التحقق والبحث. بل على العكس، إنها تعتبر القوة التمثيلية خاصيةً متأصلة للمعطيات الحسية والأفكار على هذا النحو، وتعاملها على أنها “تمثيلات” في حد ذاتها. إن ازدواجية الوجود الذهني والمادي وتشعباتها هي نتيجة ضرورية، ومع ذلك، لا يتم تقديمها كنتيجة، ولكن كبدهية ضرورية، أنّى لذلك الوجود الذهني أو العقلي أن يتمتع بتلك القدرة المعجزة على الإشارة إلى وجود مختلف تماما”. (7)

رفض ديوي فكرة أنه إذا كانت كلمة “تفاحة” تشير إلى التفاحة المعروفة، فذلك لأنها تشير إلى بعض القوى العقلية التي حددت مفهوم التفاحة مسبقًا، ولكنها كانت تفتقر إلى طريقة ملائمة للتعبير عن ما حددته.

يجب أن تكون هناك اهتمامات أخرة لإبستمولوجيا المعنى.

الوقوع في شّرَك الترجمة

اشتهر دريدا بفكرة أنه لا يوجد شيء وراء النص، أي أنه لا يوجد شيء غير اللغة لشرح اللغة، وهو موضوع مشترك لما بعد الحداثة. إنها بحد ذاتها مفارقة ما بعد الحداثة، حيث إن هذه العقيدة ما بعد الحداثية لها صدى في المنطق الرياضي الحديث. اللغة الصورية(*[1]) هي لغة منظمة، وأجزاء الكلام فيها مرتبة بشكل صريح. تحتوي اللغة الصورية LA المناسبة لمتطلبات الحساب العادي على متغيرات x ، y ، z ، … مثل 5x = 25؛ كما تحتوي رموز الإسناد والعلاقات F ، G ، H، … بين كل ترتيب محدود؛ كما تحتوي على رموز منطقية للإشارة إلى التضمين والاقتران والنفي والإبدال؛ وتحتوي على محددات كمية لـ “كل شيء” و”شيء ما”؛ كما يوجد هناك معامل رقمي لكل عدد طبيعي، ورموز P ، Q ، R ، S ، … تعني الجمل. يكون المتغير (مقيدا) إذا كان واقعا ضمن نطاق محددات الكمية، والعكس بالعكس. القواعد النحوية وقواعد الاستدلال واضحة وفعالة في هذه اللغة، ويمكن للآلة فحصها؛ والصيغ جيدة التكوين هي تلك التي تطابق القواعد النحوية وهي الجمل؛ أما الصيغ جيدة التكوين دون وجود متغيرات حرة مثل Fx فهي صيغة جيدة التكوين، ولكنها ليست جملة، حيث لا تقدم أي مطالبة حاسمة؛ لكن ∀xFx هي جملة تقول أن “كل شيء” هو F.

اللغة الإنجليزية هي لغة تتعلق بالأعداد الطبيعية 1 ، 2 ، 3 ،…. تشتمل الأعداد الطبيعية بدورها على نموذج  M=<D,F> من اللغة الصورية، حيث D هي مجموعة غير فارغة، ومجال قيمة M، و F  هي دالة تعيين المتغيرات الأصلية في LA من الرتبة المقابلة لـ D. قيم F هي علاقات في المجال M. المحدد α هو دالة تعين المتغيرات الفردية لـ LA على مفردات الدالة في المجال D.

الصيغة:

α تحقق العلاقة S(x,…) في المجال M.

يمكن إذن تحديدها على طول الصيغة S(x,…). تحقق α العلاقة إذا احتوت على M، وذلك عندما يتم التعبير عن متغيراتها الأصلية بدلالة F، والتعبير عن متغيراتها الفردية الحرة بدلالة α، وتتراوح متغيراتها المقيدة على المجال D.

ما يلي هو المفهوم الأهم قابلية التعريف؛ حيث يمكن تعريف العلاقة ضمن النموذج M من LA إذا -وفقط في حالة- وجود صيغة في LA تعرفها. العدد  x سيكون زوجيا، حتى إذا كان ناتجا من جمع رقمين متطابقين، وذلك لأن “الزوجية” يمكن تعريفها في النطاق M. الصيغة المطلوبة هي ∃y (x = y + y)، حيث تم تعريف علاقة في M الآن بواسطة صيغة من LA.

في ورقته التي توضح عدم اكتمال الحساب، قدم جودل صيغة مبتكرة تمنح الأعداد الطبيعية في M المرفوعة لأس فردي كبير للإشارة إلى أوصافهم الخاصة في LA. لكل المتغيرات والمسندات والعلاقات المنطقية والمعرفات في اللغة LA، استطاع جودل أن يعيّن عدد طبيعيًا فريدًا لكل منها؛ وبالتالي استطاع تعيين تسلسل هذه الرموز في LA بهذه الطريقة. تتطلب الجملة العادية للحساب أسا مضاعفا للإشارة إلى الأعداد الطبيعية والإشارة إلى اللغة التي تصفها، ويُعرف الآن رقم هذا الأس المزدوج برقم جودل.

لنفترض أن Tr هي مجموعة أرقام جودل لجميع الجمل الحقيقية داخل LA: هل يمكن تعريف Tr في الصيغة M؟ إذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون هناك جملة S في LA مع متغير أصلي واحد هو F، بحيث يكون S يمكن إيجادها في مجموعة الأعداد الطبيعية فقط لتفسير F مثل Tr.

لا توجد مثل هذه الصيغة.

استطاع ألفريد تارسكي أن يضع هذه الصيغة في عام 1931. Tr لا يمكن تحديدها حسابيا. لا توجد صعوبة على الإطلاق في تحديد مفهوم الحقيقة داخل LA: تكون الجملة في LA صحيحة إذا أمكن أن تحقق فقط كل دوال M. هذه هي “الحقيقة نفسها”. لكن التعريف لا يمكن التعبير عنه في LA، بل يجب التعبير عنه في نظام أقوى بشكل ملحوظ من LA – أي أقوى في احتواء المفاهيم التي استبعدتها LA نفسها. ليس هناك أدنى صعوبة في تحديد مثل هذه اللغة، وفي الواقع، فإن تعريفها كنظام صوري “ميتا (LA)”- اللغة المعرفة للغة LA. التعريف يفعل ما قد يتوقعه المرء، حيث ينطوي على العديد من الجمل بشكل لا نهائي.

P صحيح في M إذا -وفقط إذا- كانت P،

حيث P في اللغة “ميتا LA” هو المعرف للجملة P في اللغة LA.(8)

إليك مثال في اللغة الإنجليزية العادية ينقل نفس التأثير:

“الثلج أبيض” صحيحة إذا -وفقط إذا- كان الثلج أبيض، حيث ما بين ناصيتين يعمل كأسماء؛ و M يُفهم ضمنيًا على أنه العالم الحقيقي، أو نموذج الأشياء.

لا توجد لغة غنية بما يكفي للتعبير عن خصائص الأعداد الطبيعية بحيث يمكن أن تحدد الحالات التي تكون فيها عباراتها صحيحة. إن هذا العيب غير قابل للتصحيح، وعملية الصعود إلى لغات أكثر ثراءً لا مفر منها.

يبدو أنه لا مفر من طغيان الكلمات.

المقلاع

في التصور المنطقي للحقيقة: لا توجد حقيقة، ولا يوجد ذكر لها أيضًا. هذا يتعارض مع الفكرة القديمة جدًا القائلة بأن العبارة صحيحة إذا كانت تتوافق مع الحقائق فقط؛ الحقائق هي الحقائق، لا شك؛ لكن كم منها موجود؟ يبدو أن هناك اثنتان فقط: الحقيقة الصادقة، والحقيقة الزائفة.

في مقدمته المبهرة للمنطق الرياضي، قدم ألونزو تشرش سردًا غير صوري لهذه الحجة الشهيرة. تأمل في التصريح: “السير والتر سكوت هو مؤلف رواية ويفرلي”. مهما كانت حقيقة هذا البيان، فإن القول بأن السير والتر سكوت هو السير والتر سكوت يجب أن يتوافق مع نفس الحقيقة، حيث إن اسم “السير والتر سكوت” قد حل محل “مؤلف ويفرلي”، ويشير كلا الاسمين إلى شخص واحد. على نفس المنوال، “السير والتر سكوت هو مؤلف ويفرلي”، و “السير والتر سكوت هو الرجل الذي كتب رواية ويفرلي بأجزائها الـ 29″، يجب أن يتوافق أيضًا مع نفس الحقيقة. “الرجل الذي كتب الأجزاء الـ 29 من رواية ويفرل” ليست سوى اسم آخر للسير والتر سكوت. لكن ” السير والتر سكوت هو الرجل الذي كتب رواية ويفرلي بأجزائها الـ 29″ و”العدد الذي كتبه السير والتر سكوت في ويفرلي وعدد ما كتبه الرجل الذي كتب كل روايات ويفرلي هو 29″ هي نفسها منطقيًا. لدينا أيضا “عدد المقاطعات في يوتا هو 29″، لكن عندما يتم استبدال “عدد المقاطعات في يوتا” بـ “عدد ما كتبه والتر سكوت في رواية ويفرلي”، فإنهم يشيرون إلى نفس الشيء.

الاستنتاج التالي: إذا كان “السير والتر سكوت هو مؤلف ويفرلي” يتوافق مع الحقيقة، فإنه يتوافق تمامًا مع حقيقة أن “عدد المقاطعات في يوتا هو 29” حيث تشير جميع الجمل الحقيقية إلى نفس الحقيقة.

بعد جودل، قدم دونالد ديفيدسون نسخة صورية من “المقلاع”. خذ أي جملتين S و P، بحيث يكون كل من S و P صحيحين. ترمز العلامة (ιx) (x = d & S) إلى x ، بحيث أن x = d، مهما كانت d و S. تتلخص الحجة في أربع خطوات:

1- S،

وهذا صحيح بالافتراض.

عندها

2- (ιx) (x = d & S) = (ιx) (x = d) ،

وهو ما يعادل منطقيًا 1.

بالتالى:

3- (ιx) (x = d & P) = (ιx) (x = d) ،

حيث 3 مشتقة من 2 عن طريق استبدال (=x) (x = d & P) بـ (ιx) (x = d & S) حيث يشيران كلاهما إلى كل ما تشير إليه (ιx) (x = d).

وأخيرًا،

4- P

بحكم حقيقة أن P و (ιx) (x = d & P) = (ιx) (x = d) متكافئة منطقياً.

هذا ليس استنتاجًا يعزز النظرية التناظرية للحقيقة.

الترابط

هل من الممكن أن تشوه كلماتنا أفكارنا؟ كان هذا مصدر قلق للفلاسفة الكلاسيكيين، كان كراتيلوس قلقًا للغاية بشأنه لدرجة أنه دخل في صمت مطبق ولم يتواصل مع الناس إلا عن طريق هز إصبعه. في الكتابة عن الحرب البيلوبونيسية، عبر ثوسيديديس عن مخاوف مماثلة:

“كان على الكلمات أن تغير معناها العادي وأن تأخذ ما نعطيه نحن لها. الجرأة المتهورة أصبحت شجاعة؛ مؤيد= مخلص، تردد= حذر، جبن= خادع؛ الاعتدال كان بمثابة عباءة لعدم الرجولة؛ القدرة على رؤية جميع الجوانب و عدم القدرة على العمل على أي منها. أصبح العنف المحموم صفة الرجولة، والتآمر الحذر وسيلة مبررة للدفاع عن النفس”(9).

يمكن للكلمات أن تخوننا. انظر إلى الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية التابع لجمعية الطب النفسي الأمريكية (DSM) عندما نشر في عام 1952 كان عدد صفحاته 132 صفحة؛ وعندما نشر في عام 2013 أصبح العدد947 صفحة؛ هل زادت الاضطرابات النفسية سبعة أضعاف؟ تصنيف المتلازمات يشبه تصنيف أشكال الموجات أو الغيوم. اعتقد كراتيلوس أن الأمر كان دائمًا هكذا، لكنه لم يتمكن من قول ذلك.

لا توجد وجهة نظر مستقلة للغة وأخرى للعالم؛ ويبدو أن تعريف الحقيقة ينحدر  حتى يصير إلى ترهات فارغة: “الثلج أبيض” صحيحة إذا وفقط إذا كان الثلج أبيض! ثم ماذا؟ أيد العديد من الفلاسفة في القرن التاسع عشر -غالبًا بعد ما سحبتهم الدوامة الهيجلية- نظرية ترابط الحقيقة. إذا كان الترابط هو كل ما يمكن أن نتوقعه، فما هي المخططات المترابطة والمتضاربة في الوقت نفسه؟ لقد سأل فلاسفة العلوم المتشددون هذا السؤال بالذات.

في عام 1906، جادل بيير دوهيم بأن النظريات لا يمكن أن تقوم وتتحدد معالمها فقط من خلال بياناتها. لاحظ ألبرت أينشتاين أنه إذا كان الأمر كذلك، فلا يوجد ما يمنع تكاثر النظريات المتماسكة.(10) “إذا توفرت نظريتان، وكلاهما متوافقتان مع الظاهرة الواقعية محل البحث= فلا يوجد معيار آخر لتفضيل هذه أو تلك من وجهة نظر الباحث البديهية”. واقترح بعض الفلاسفة، الذين طاردتهم هذه الحجج، أننا نضع ثقتنا ليس في نظرياتنا، بل فقط في نتائجها الملاحظة.(11)

حصل هذا الرأي على بعض الدعم من نظرية كريج. هذا نحن مرة أخرى نرى الرابط الغريب بين ما بعد الحداثة والمنطق الرياضي. أظهر ويليام كريج أن أي نظرية قابلة للعد بشكل تراجعي فإنها قابلة لأن تتحول إلى مجموعة من المُسلَّمات المتكررة. في المنطق الرياضي، النظرية: هي مجموعة من الجمل المغلقة طبقا للاستنتاج المنطقي، النظرية المبنية على المسلمات: هي النظرية التي تنتج من مجموعة محدودة من المُسلّمات. والهندسة الإقليدية مثال على ذلك. في الغالب لا توجد نظريات مبنية على المسلمات تحكم الحياة الاجتماعية أو الشخصية أو السياسية، ولكن هناك الكثير من النظريات الأخرى. يمكن عد النظرية بشكل متكرر إذا كان من الممكن إنشاء جملها بشكل فعال، واحدًا تلو الآخر، بواسطة جهاز كمبيوتر، أو شيء يشبه الآلة. وتكون النظرية تكرارية إذا كانت قابلة للتكرار بشكل متكرر، وإذا كان هناك أيضًا بعض الإجراءات الفعالة التي تحدد مكملها -أي الجمل التي لا تنتمي إلى النظرية. يوجد للنظرية التكرارية حساب التفاضل الذي يحدد الجمل التي تنتمي للنظرية والجمل التي لا تنتمي إليها. إنه أحد إنجازات المنطق الحديث لإظهار أن بعض النظريات القابلة للتكرار ليست متكررة.(12)

تنص نظرية كريج على أن كل نظرية قابلة للتكرار يمكن اشتقاقها من مجموعة متكررة من المسلمات. لاحظ اللعبة المزدوجة: نظرية قابلة للعد بشكل متكرر، ولكنها مجموعة متكررة من المسلمات. تشير النظرية إلى تنامي قوة النظرية؛ حيث أظهر كريج أن لكل نظرية تعدادية قابلة للعد بشكل تكراري T هناك نظرية قابلة للتكرار متعاقب T* بحيث تتطابق T و T*. تتطابق هذه مع تلك، ولكن الفرق أن T* فقط هي التي تنتج من مجموعة متكررة من المسلمات.

نشر كريغ نظريته في أواخر الخمسينيات، بعد فترة طويلة من بدء الوضعية المنطقية في الانحسار. جاءت النظرية بمثابة مفاجأة مرحب بها. التزم الوضعيون المناطقة بالفكرة القديمة القائلة بأن النظام المبني على المسلمات يتألف من الشكل المثالي الذي تتخذه النظريات العلمية. هذه الفكرة ما تزال سارية. تحتوي اللغة، L(Th,Ob) التي تعبر عن نظام مبني على المسلمات في العلوم عادةً على كل من المصطلحات النظرية والرصدية. بإلقاء نظرة سريعة على L(Th,Ob)، كان جميع الوضعيين المتبقين يرجون التخلص من المصطلحات النظرية، لقد تمنوا مواجهة مباشرة مع الخبرة، وقد قدمت لهم نظرية كريج ما يحتاجونه. مع نزع المصطلحات النظرية من اللغة L(Th,Ob)، ما تبقى هو لغة الملاحظة L (Ob) – وهي لغة فرعية من L(Th,Ob)، أي: جزء من كل. السؤال عما إذا كانت جملة معينة تنتمي إلى L (Ob) هو طلب طريقة ميكانيكية لتقرير المسألة، وبالتأكيد، هناك واحدة: إنها تجربة تلو الأخرى. وبالتالي فإن الجمل الموجودة في L (Ob) واضحة بما فيه الكفاية. يتكون مكمل L (Ob) من تلك الجمل التي لا علاقة لها بالملاحظة والتجربة. نظرة واحدة تكفي: كل ما في L (Ob) موجود فيه؛ كل ما هو خارج= هو خارج. وبالتالي ما نبحث عنه هو خاصية التواجد داخل L (Ob).

النظرية T داخل L(Th,Ob) قابلة للتكرار، فهي نطاق يشمل كل ما يمكن التعبير عنه داخله. النظرية هي شيء آخر يتكون من مجموعة من الجمل مغلقة بموجب التناقض المنطقي. في القضية الآن: نظرية T داخل L(Th,Ob)، المحتوى التجريبي لـ T هو الجمل الموضوعة في L (Ob) التي قد تكون مشتقة من T، وهذه فرعية من T *، وتقييد للغة المراقبة البحتة، وهذه الخاصية تكرارية، ويترتب على ذلك أن T * قابلة للتعداد بشكل متكرر. من خلال نظرية كريغ، نستنتج الآن أن هناك مجموعة متكررة من الجمل في L (Ob) التي تستنفد نظريتها T * المحتوى التجريبي لـ T، ولكن هل هذا إلا السمة التكرارية للمحتوى التجريبي لـ T؟

لقد اختفت المصطلحات النظرية، ولم يتبق إلا جمل الملاحظة.(*[2])

جنون السلطة

في عالم مترابط، يكون بعض الترابط أشد من غيره. كتب علماء ما بعد الحداثة أحيانًا كما لو أن العلوم تعاملت مع الهياكل الاجتماعية بدلاً من العالم الحقيقي، أو اخترعت فئات من الفكر بدلاً من اكتشاف الحقائق حول الطبيعة. هناك ميزة تآمرية لطيفة لهذه الهياكل الاجتماعية: وهي أنهم يعترفون بوضوح بالتلاعب السياسي أو التجاري الشرير، وفوكو هو الصوت الأبرز في هذا الاتجاه:

“يجب أن نتوقف مرة واحدة وإلى الأبد لوصف آثار السلطة بعبارات سلبية: فهي “تستبعد”، “تقمع”، “تُراقب”، “تجرد”، “تخفي”. في الواقع، إنها تنتج الطاقة، وتنتج الحقيقة؛ إنها تنتج مجالات الأشياء وطقوس الحقيقة. ينتمي الفرد والمعرفة المكتسبة منه إلى هذا الإنتاج”(13)

إن العالِم الذي يقضي حياته لاكتشاف شكل جزيء البروتين= ليس من المناسب أن يتقبل فكرة أن الأشياء والحقائق هي نتاج السلطة، سيعترف بسرعة بوجود بعض الحالات الطارئة التي تكون كذلك، وسيعترف بأن التحولات في السلطة تؤثر بالفعل على استقباله لعمله؛ لكنه سيقول: إن الحقيقة أكثر من هذه الاستثناءات؛ إنه لا يتأثر لا بالمكافأة ولا بالخطاب السائد، إنه فقط يستمع إلى صوت الطبيعة.

من المرجح أن يتعاطف الفلاسفة التحليليون. يمكننا قبول أن العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو حتى العسكرية دعمت وحفزت رحلات الاستكشاف التي قام بها الكابتن جيمس كوك؛ ولكن هذا لا علاقة له بالدقة غير المسبوقة لمخططاته البحرية. لا توجد متغيرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تؤثر على ما إذا كانت خطوط الشاطئ أو أعماق الخلجان أو المراسي أو مدى المد والجزر وسرعات تياراتها هي كما قال كوك.

يعطي مثال رسم الخرائط فوائد معينة: أحد أهداف ما بعد الحداثة هو فكرة أن الطبيعة تتحدث بصوت واحد، أو تتطلب أن يتم وصفها بطريقة معينة، بحيث يكون هناك شيء مثل “الحقيقة”، و”الحقيقة الكاملة”، ولا شيء سوى الحقيقة.

لا تدعم الخرائط مثل هذه الفكرة؛ وليس هناك نهاية للخرائط: خرائط هطول الأمطار، خرائط السكان، الخرائط الجيولوجية، فالواقع لا يقيد الاختيار. ولكن بمجرد أن يختار رسام الخرائط ما سيتعامل معه، وبمجرد تسوية الاتفاقيات التي تحكم رموز الخريطة= يكون للواقع رأي.  لم يكن كوك ليتعرض لتهم التلفيق وعدم الدقة إلا بعد أن قرر إظهار الأعماق أو التيارات وتعيين الأدوات لو احتاجها لمراقبة وتسجيل هذه الأشياء.

تذكرنا الخرائط بأنه قد يكون لدينا وجهات نظر متعددة حول الواقع. إنها لا تشجع فكرة أن وجهات النظر هذه في صراع. التفسير شيء والحقيقة شيء آخر. يعترف معلم مثل برج إيفل بالعديد من وجهات النظر، ولكنها كلها متوافقة، وقد يتم التوفيق بينها جميعًا. لا يوجد تناقض بين المنظر من مونمارتر والمنظر من البانثيون. وعندما يكون هناك تناقض بين منظورين حول حدث تاريخي، على سبيل المثال، يمكننا غالبًا حل المشكلة بما فيه الكفاية بترجيح أحدهما. في النهاية، فإن التركيز على المنظور يعمل لصالح الحقيقة الموضوعية، ويذكرنا بأنه قد يستغرق العمل والاهتمام لضمان أن تفسيرنا للأشياء من المحتمل أن ينجو من الاعتراض.

بالإضافة إلى السخرية من المثل الذي تضربه لنا خريطة كاملة مكتوبة بلغة الطبيعة، كان مفكرو ما بعد الحداثة قادرين على الافتراض -بكلمات رورتي- أن هذه اللغة هي التأقلم وليس النسخ. بعد وليام جيمس، رأى رورتي أن اللغة أداة في خدمة الأهداف والغايات البشرية، بحيث لا تكون فضيلتها الرئيسية الحقيقة، بل المنفعة. ساعدت مخططات كوك أجيالا من البحارة على التأقلم بالتأكيد، هناك تفسير بسيط لسبب ذلك: لقد ساعدت البحارة على التأقلم بسبب دقتها، وكانت دقيقة لأنها كانت حقيقية. إذا كان كوك قد أخطأ، فإن البحارة كانو سيتخذون الاتجاه الخاطئ. العلماء الذين يبحثون عن مفردات مناسبة للانحرافات الذهنية= ليس لديهم شيء مباشر حتى يستمر، التفسير واختيار المفردات أمر لا مفر منه، وهذا بالتأكيد شيء يمكن التنازل عنه لما بعد الحداثيين.

في وقت متأخر من حياته المهنية، قدم دريدا لقرائه ما بعد الحداثيين تمرينًا في اللطافة:

“سوف يكون مفهوما أن قيمة الحقيقة (وكل تلك القيم المرتبطة بها) لا يُعترض عليها أو إغفالها في كتاباتي، ولكن يتم إعادة إدراجها فقط في سياقات أكثر قوة وأوسع. وذلك في سياقات تفسيرية مستقرة نسبيًا، وأحيانًا لا تتزعزع تقريبًا، يجب أن يكون من الممكن التذرع بقواعد الكفاءة، ومعايير المناقشة والتوافق، وحسن النية، والوضوح، والصرامة، والنقد، والتربية”(14)

ماذا يريد أي مفكر تقليدي أكثر من ذلك؟

اقرأ ايضاً: الحياة الحقيقية ليست طاولة قمار


الحواشي:

[1]* – في الرياضيات والمنطق والمعلوماتية= يطلق مصطلح اللغة الصورية L على أي مجموعة من الجمل محدودة الطول المأخوذة من مجموعة نهائية A تسمى الحروف الأبجدية. فمن خلال مختلف تطبيقات اللغات الصورية، يمكن أن ننظر إليها على أنها مماثلة لمجموعة كلمات أو مجموعة جمل. (المراجع)

[2]* -لكن المشكلة أن هذا الطموح غير مجدٍ من الناحية العملية، فإن الملاحظة بدون تنظير= لن تنتج أي شيء، فلو عرضنا صورة لخلية عصبية على شخص سليم لكنه لم يتعرض لدراسة الكيمياء الحيوية ولا أي فرع شبيه وسألناه ما الذي في الصورة؟ فسيقول أنه يرى مجموعة من الخطوط العشوائية ولن تثير لديه معنى مثل الذي تثيره لدى شخص متخصص في الكيمياء أو البيولوجيا، وبالتالي: الملاحظة المجردة لن تنتج العلم بمفهومه التجريبي المعروف، وهذا ما أشار إليه بيير دوهيم من أن الملاحظة أو حتى جزء النظرية= لا يكتسب قيمته إلا في إطار كلاني. (المراجع)

  1. George Orwell, “Looking Back on the Spanish Civil War,” (1943) reprinted in George Orwell, Orwell on Truth (London: Penguin Books, 2017), 85–88.
  2. Marcel Kuntz, “The Postmodern Assault on Science,” European Molecular Biology Organization Report 13 no. 10 (2012): 885.
  3. Ludwig Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, trans. Frank Ramsey and Charles Kay Ogden (London: Kegan Paul, Trench, Trubner & Co., 1922), a translation of “Logisch-Philosophische Abhandlung,” Annalen der Naturphilosophie 14 (1921).
  4. Karl Popper, Logik der Forschung (Vienna: Julius Springer Verlag, 1935), translated as Karl Popper, The Logic of Scientific Discovery (London: Hutchinson, 1959).
  5. Ludwik Fleck, Genesis and Development of a Scientific Fact, trans. Frederick Bradley and Thaddeus Trenn (Chicago: The University of Chicago Press, 1979), first published in 1935 as Entstehung und Entwicklung einer wissenschaftlichen Tatsache. Einführung in die Lehre vom Denkstil und Denkkollektiv.
  6. Thomas Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, 3rd ed. (Chicago: University of Chicago, 1996).
  7. John Dewey, Logic: The Theory of Inquiry, in The Later Works of John Dewey, Volume 12, 1925–1953, ed. Jo Ann Boydston (Carbondale, IL: Southern Illinois University Press, 1968), 514–15.
  8. Alfred Tarski, “The Concept of Truth in a Formalized Language,” in Logic, Semantics, Metamathematics (Oxford: Oxford University Press, 1956). The original paper was published in 1933. As Tarski realized, producing T-sentences in a structured way is possible for artificial languages, but for natural languages it is a different story. Even grammar checkers are highly fallible.
  9. Thucydides, History of the Pelopponesian War, Book III (431 BCE).
  10. Pierre Duhem, La théorie physique: son objet et sa structure (Paris: Chevalier & Riviére, 1906) (Vrin, 2007), translation published as Pierre Duhem, The Aim and Structure of Physical Theory, trans. Philip Wiener (Princeton: Princeton University Press, 1954).
  11. Bas van Fraassen, The Scientific Image (Oxford: Oxford University Press, 1980).
  12. Alonzo Church demonstrated that in a first-order language with a single dyadic predicate, no decision procedure could determine all and only its logical truths.
  13. Michel Foucault, The Foucault Reader: An Introduction to Foucault’s Thought, ed. Paul Rabinow (London, Penguin, 1991), 204–5.
  14. Jacques Derrida, “Afterword: Towards an Ethics of Discussion,” in Limited Inc., ed. Gerald Graff, trans. Samuel Weber (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1988), 146.
المصدر
inference-review

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى