فكر وثقافة

الحياة الحقيقية ليست طاولة قمار

  • نسيم طالب
  • ترجمة: محمود مصطفى الحكيم
  • تحرير: عبير الغامدي

كتب “نسيم طالب” مؤلف كتاب (البجعة السوداء) في رده على سؤالٍ طرحته جريدة Edge لعام 2008: (ما الذي غيرت رأيك فيه؟) مقالاً بعنوان (الحياة الحقيقية ليست طاولة قمار) حيث قال:

“لقد بينتُ أن المؤسسات المعرّضة لسلبية البجعات السوداء، مثل البنوك، وبعض فئات شركات التأمين، كانت تقريبًا غير مربحة على المدى الطويل. إن مشكلة فوضى الرهانات العقارية الحالية على سبيل المثال، ليست أن “المحللين الكميين” وغيرهم من الخبراء الزائفين في إدارة المخاطر المصرفية كانوا مخطئين بشأن الاحتمالات (وقد كانوا كذلك بالفعل)، ولكنهم أيضًا كانوا مخطئين بشدة بشأن مستويات مختلفة من عمق النتائج السلبية المحتملة”.

لقد غيّر طالب رأيه حول اعتقاده بمركزية الاحتمالية في الحياة، ودافع عن وجوب التعبير عن كل شيء من حيث درجة مصداقيته، مع كون الاحتمالات المركزية حالة خاصة لمجموع الحقائق المؤكدة، ولاغية للوعي الكلي.

التفكير النقدي، والمعرفة، والمعتقدات… كل شيء قابل للقياس بالاحتمالات؛ حتى أدركت قبل اثني عشر عامًا أني كنت مخطئًا في هذه الفكرة القائلة بأن حساب الاحتمالات من الممكن أن يعمل كدليل للحياة ومساعدة للمجتمع. والواقع، أنه في ظروف نادرة للغاية يكون الاحتمال في حد ذاته مرشدًا لاتخاذ القرار.

إنه بناء أكاديمي أخرق، وزائف جدًا، وغير قابل للرصد. الاحتمال مدعوم بالقرارات؛ فهو ليس بالبناء الذي يمكن التعامل معه بطريقة مستقلة عن عملية صنع القرار في الحياة الواقعية، فقد تسبب في ضرر العديد من المجالات.

هذه المقالة هي واحدة من أكثر من مائة مقالة محررة ومعدة للنشر في كتاب جديد بعنوان: ما الذي غيّرت رأيك فيه؟

تأمل هذا التصريح: “أعتقد أن هذا الكتاب سيفشل، لكنني سأكون سعيد جدًا بنشره”. هل هذا البيان غير متماسك؟ بالطبع لا.

حتى إذا كان من المحتمل ألا ينجح الكتاب، فقد يكون من المنطقي اقتصاديًا نشره (بالنسبة لشخص قادر ماليًا، ويتقبل الأمر برحابة صدر). حيث لا يستطيع المرء تجاهل الاحتمال الضئيل المتمثل في الحصول على مكسب غير متوقع، أو حتى الاحتمال الأقل المتمثل في الحصول على مكسب هائل غير متوقع.

يمكننا أن نرى بسهولة أنه عندما يتعلق الأمر بالاحتمالات المنخفضة، فإن اتخاذ القرار لا يصبح معتمدًا على الاحتمالية وحدها. بل كلاهما مهم؛ احتمالات المكافآت اللاحقة (أو سلسلة من المكافآت)، والتوقعات ذات الصلة. في بعض الأحيان، يمكن أن يكون العائد المحتمل كبيرًا جدًا بحيث يتعارض مع الاحتمالية، وهذه عادة ما تمثّل مواقف واقعية لا يمكن فيها حساب الاحتمال.

وبناءً على هذا، هناك فرق بين المعرفة والعمل. فلا يمكنك الاعتماد بسذاجة على المعرفة الإحصائية العلمية (كما يعرفونها)، أو ما يسميه الإبستمولوجيون الاعتقاد الصادق المبرر للقرارات غير المكتوبة. إن العلم الحديث المعتمد على الإحصاء بشكل كبير يقوم عادة على ثنائية الصواب/الخطأ، مع مستوى محدد من الثقة، بغض النظر عن العواقب. هل ستأخذ حبة صداع إذا كانت فعالة بنسبة 95% على مقياس الثقة؟ بكل تأكيد. لكن هل ستأخذ الحبة إن ثبت أنها (غير مميتة) بنسبة 95% على مقياس الثقة؟ آمل ألا تفعل.

عندما أناقش تأثير الاحتمالات الضئيلة (البجعة السوداء)، يرتكب الناس خطأ تلقائيًا باعتقاد أن الرسالة هي أن (هذه البجعات السود) هي بالضرورة أكثر احتمالًا مما تقوله الأساليب التقليدية؛ إذ هي في الغالب أقل احتمالًا. ضع في اعتبارك أن: احتمالات النجاح في بيئة يستأثر فيها الفائز بكل شيء كالفنون؛ منخفضة. وذلك لأن عدد الناجحين أقل، ولكن المكافآت مرتفعة بشكل غير متناسب.

لذا، ففي بيئة مشبعة (أو ما أسميها بالمتطرفة) تكون الأحداث النادرة أقل تكرارًا ولكنها فعالة جدًا لدرجة أن مساهمتها في إجمالي الجائزة أكثر من غيرها.[1]

ما يُسبّب أخطاءً جسيمة هو أنه خارج الحالات الخاصة للملاهي الليلية واليناصيب فإنك لن تواجه أبدًا احتمالية ضئيلة مرتبطة بمكافأة كبيرة ومعروفة. قد تواجه على سبيل المثال، احتمالية بنسبة 5% لحدوث زلزال بقوة 3 ريختر أو أعلى، واحتمالية 2% لزلزال بقوة 4 ريختر أو أعلى، وما إلى ذلك, وهذا ما ينطبق أيضًا على الحروب: فلديك خطر التعرض لمستويات مختلفة من الضرر، وكل منها احتمالات مختلفة. إن سؤال ما احتمال نشوب الحرب هو سؤال لا معنى له.

لذا، من الخطأ أن ننظر فقط إلى احتمال واحد لحدث واحد، عندما نكون أمام حالة تكون فيها الاحتمالات أكثر ثراءً (كالتركيز على أسئلة من قبيل: ما احتمال خسارة مليون دولار؟ فبينما تتجاهل أنت هذا، وتكون خسارتك مرهونة بأكثر من مليون دولار، قد تكون لديك خسارة متوقعة تبلغ 20 مليون دولار، أو 100 مليون دولار، أو مليون دولار فقط).

مرة أخرى، الحياة ليست طاولة قمار تراهن فيها على أشياء بسيطة؛ فالمسألة بسيطة من الناحية الحسابية، لكنها لا تجري بسهولة. لقد استمتعت بإعطاء طلاب الرياضيات الاختبار التالي (لكي تتم الإجابة عليه بشكل بديهي، وفي الحال):

في عالم غوسي، تبلغ احتمالية تجاوز انحراف معياري واحد حوالي 16%، ما احتمالات تجاوزه في ظل توزيع منحنى أعرض (بنفس الانحراف والتباين) الجواب الصحيح: أقل، وليس أعلى، حيث ينخفض عدد الانحرافات، ولكن هذا القليل الذي يحدث هو أكثر أهمية [لأن المنحنى أعرض]. كان من الممتع رؤية معظم طلاب الدراسات العليا يخطؤون؛ فأولئك الذين لا يتم تدريبهم على حسابات الاحتمالات لديهم حدس أفضل لهذه الأمور.

من التعقيدات الأخرى، أنه: تمامًا كما لا يمكن فصل الاحتمالية والمردود، فلا يمكن للمرء استخراج مكون آخر معقد من معادلة صنع القرار؛ وهذه فائدة كبيرة. ومن حسن الحظ أن القدماء، بكل ما لديهم من حيل وحكمة في صنع القرار، كانوا يعرفون الكثير من ذلك، على الأقل، أفضل من منظري الاحتمالات الحديثة.

دعنا نتوقف عن معاملتهم بصفة منتظمة كما لو كانوا أغبياء؛ معظم النصوص تلوم القدماء على جهلهم لحسابات الاحتمالات: فقد تعرض البابليون، والمصريون، والرومان لهذه التهمة على الرغم من تطورهم الهندسي. والعرب على الرغم من ذوقهم في الرياضيات اُنتُقِصوا لعدم إنتاج حساب الاحتمالات. (هذه الأخيرة بالمناسبة أسطورة؛ حيث استخدم العلماء في الدولة الأموية معدلات تكرار الكلمات المتقاربة للوقوف على مقاصد النص المقدس، وفك معاني الرسائل).

ويعزى السبب بحماقة إلى العقيدة غير المبرهنة، أو الافتقار إلى الخبرة، أو الافتقار إلى ما يسميه الناس (المنهج العلمي)، أو الاعتقاد بالقدر. لقد اتخذ القدماء قرارات بطرق أكثر تعقيدًا من المشتغلين بالتفكير العلمي الحديث، فقد دمجوا البيرونية التجريبية المتشككة في عملية اتخاذ القرار؛ وكما قلت، اعتبروا أن الاعتقاد (تخصص الإبستمولوجيا) والفعل (أي: اتخاذ القرار)، بالطريقة التي يمارسان بها لا يتسقان إلى حد كبير مع بعضهما البعض.

دعونا نطبق تلك النقطة على النقاش الحالي حول انبعاثات الكربون وتغير المناخ. لا ينفك المراسلون يسألوني ما إذا كان المهتمون بشأن المناخ يبنون مطالباتهم على علم زائف، أو ما إذا كانت تنبؤاتهم مبنية على إحصاءات لا خطية، وأن توقعاتهم تشوبها مثل هذه الأخطاء المحتملة، والتي ينبغي تجاهلها.

الآن، حتى لو وافقت على أنه علم زائف؛ وحتى لو اتفقت مع البيان الذي مفاده أن الأشخاص المتخوفين من تغير المناخ كانوا على الأرجح مخطئين؛ فما زلت أختار الموقف الأكثر محافظة من الناحية البيئية.

اتركوا كوكب الأرض كما وجدناه -وضعوا في اعتباركم أن عواقب الاحتمالات الضئيلة ربما تكون كارثية- أو أسوأ من ذلك، فربما يكون الاحتمال الأكثر بعدًا هو الحق.

اقرأ ايضاً: التضليل باسم العلم


[1] ملاحظة علمية: الفرق ببساطة هو بين الاحتمال الصفري الذي يعبر عنه بـ P[x>K] أي احتمال تجاوز قيمة k] و ما يعبر عنه بـ E[x|x>K] أي توقع قيمة x مشروطة بكون x>K، هذا هو الفرق بين الحالة الصفرية والحالة الأولية؛ وهذه الأخيرة هي ما يهم عادة عند اتخاذ القرارات، وهي الحالة الشرطية التي يجب أن تكون جوهر عملية صنع القرار. ما رأيته في عام 1995 هو أن قيمة خيار “out-of-the-money” تزداد عندما ينخفض احتمال الحدث، مما يجعلني أشعر أن كل شيء اعتقدته حتى ذلك الحين كان خطأ.

المصدر
edge

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى