مراجعات كتب

الطريق إلى “المخرج الوحيد”

تحرير: ناريمان علاء الدين

قابلت أحد القرّاء الذين تعرّفت عليهم من وسائل التواصل، وأثناء حوار في أحد معارض الكتب عن قراءاتنا قال لي عن أسئلته الوجودية التي تؤّرقه ويبحث عن إجابات لها، سألته أين تبحث عن تلك الإجابات؟ فقال لي أن جُلّ قراءاته منذ فترة طويلة في الفلسفة والفكر الغربي، فهو لم يعد يثق بأجوبة “رجال الدين” السطحية في مجتمعاتنا العربية.

لا أخفيكم مدى حزني على ما سمعته آنذاك، وكم أرّقني حال هذا الصديق، ليس موافقةً له على منهجه، بل لإيماني العميق أن المكان الذي يبحث فيه لن يوصله إلى الطمأنينة التي كنت أرى بحثه عنها في عينيه. لكن لن يقبل مني أن أصارحه بهذا، ولن يغيّر طريقه بعبارات عاجلة في مجلسنا ذاك، رغم أن سنوات عمره تتصرم وأرق أسئلته يتزايد، دون أن يصل لأي شاطئ أمان، أو يتمسك ولو بقشّة تُعينه في أمواج الشبهات التي يعيشها.

رأيته في معرض القاهرة للكتاب، تصفحته على عجل، كنت قد شحنت كتبي فلم أستطع شراءه، لكني فرحت عندما أعلن مركز تكوين ناشر الكتاب عن تدشين متجره الإلكتروني بمناسبة هذه الأوقات العصيبة والحجر المنزلي، ولأن الكتاب لم يصل المتاجر بعد، أسرعت في طلبه وقرأته فور وصوله.

“المخرج الوحيد” هذا هو عنوان الكتاب الذي سأستعرضه بإيجاز في هذه المقالة، والذي كتب مؤلفه الدكتور عبدالله بن سعيد الشهري عنوانًا فرعيًّا له أطربني كثيرًا “ملحمةُ الخلاص بين قلق السعي ومدد الوحي”. وإن كان الكتاب قد جاوز الست مئة صفحة، إلا أن تقسيم فصوله ومباحثه تأخذ بيدك على مهل لتتجول بك بين حقول الفلسفة وبيوت العلوم الإنسانية، وأحضان علوم الشريعة حتى تصل بك إلى المخرج الوحيد! وإن وجدت فيها من النظرة الأولى بعض تشتت وعدم ترابط.

سعة اطلاع المؤلف وتعدّد اهتماماته ستتبدى لك من أول مبحث حتى آخر صفحة، مستحضرًا مقولات الفلاسفة وآراء المفكرين عربيّهم وغربيّهم، معاصرهم وسالفهم، موافقًا بعضهم ومخالفًا الكثير منهم. والأجمل في الكتاب أن يعرض لك نصوصهم من مصادرها المباشرة، وبترجمته الخاصة في الأغلب حتى وإن كان الكتاب له ترجمة للعربية.

سأشير إلى العناوين الرئيسية وبعض التفاصيل على عجالة، لكن ليكن في حسبانك أن في كل مبحث الكثير من المسائل والمعالجات لمواضيع دقيقة ونقاشات ثرية لن يسع المقال لفهرستها حتى فكيف بذكرها والتعليق عليها.

عنوَن الفصل الأول بـ “الحيرة والزيغ”، والذي حاول فيه توصيف المشكلة، وقلق الإنسان المثقل بالتساؤل، وهل الفلسفة قادرة على الإجابة على أسئلته أم أنها تزيد الأسئلة تعقيدًا وكثرةً فقط! كما بيّن فيه أنواع الأديان، السماوية والتي اخترعها الإنسان، وما الحل في تشويهات البشرية للأديان، حتى لا يقودنا هذا التشويه من البديل السيئ إلى بدائل أسوأ.

“البحث عن الحقيقة” الفصل الثاني، خصصه للأديان السماوية الثلاثة : الإسلام واليهودية والنصرانية، وأي الآلهة فيها هو الحق، وما هي صفاته ونسبه، مشرّحًا أخطاء اليهودية والنصرانية في تعريف الرب، وتخبّطهم في بيان الطريق إليه بعد التدخلات البشرية في صياغة الكتب السماوية الخاصة بهم.

الفصل الثالث كان أطول من سابقيه عنوانًا ومضمونًا، “الإسلام والعلم والخلق وأصل الإنسان”، ويظهر من خلال العنوان محتواه، إذ تعمّق المؤلف فيه بمناقشة قضية أصل الإنسان ونظرية التطور وكيف ينبغي قراءتها والتعامل مع دعاواها، ومن المزايا في هذه الجزئية أنه ناقشها من منظور علمي أكثر من المنظور الديني، واعتمد على ردود علماء الطبيعة في مناقشتها، ليبين التقاطع المقبول منها مع الشريعة الإسلامية. ولخّص في سياق بيان عظمة الإسلام وعدم تعارضه مع العلم الحديث وخاصة في قضايا خلق الإنسان والإخصاب والأجنة.

كتاب “الإنجيل والقرآن والعلم” للدكتور موريس بوكاي، وهو جرّاح فرنسي حاصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية. من أجمل مباحث هذا الفصل التي راقت لي “الله: إبداع أزلي.. خلق سرمدي”، ناقش فيه مفهوم الزمن وعلاقته بالله مع بعض القواعد المهمة في التعامل مع صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى. واستمر في بقية الفصل مناقشًا قضايا علمية وتقاطعاتها مع الإسلام.

من المواضيع التي يكثُر الحديث عنها في العصر الحديث، وتُتناول من أكثر من جانب، ومع كل أزمة وحادثة يُعاد النقاش حولها: قضية “المعنى”، وكيف نكتشف معنى الحياة، والعلاج بالمعنى، وغيرها من الأسئلة حول هذا الموضوع. أحسن الكاتب في تناول هذا الموضوع في مبحث “المعنى والهدف وحياة الإنسان” والذي استعرض فيها المرجعيات التي يجاب من خلالها على سؤال المعنى، وذكر منها: العلم، ومذهب المتعة، والنجاح والثراء، والدين عمومًا. ولأن الاعتماد على العلم وحده كمصدر لإيجاد معنى الحياة غير كاف أبدًا في إعطاء أجوبة شافية على الأسئلة الأخلاقية والروحية، كما يقول فيلسوف الوعي الشهير كين ويلبر: “إن العلم لا يملك شيئًا تقريبًا ليخبرنا عن الخير والشر، والحكمة ونقيضها، والمرغوب وغير المرغوب”. كذلك مذهب المتعة الذي حاول الفلاسفة الرواقيون من القديم اعتماده كمصدر لمعنى الحياة، “ففي نهاية المطاف، من المستحيل أن نعيش فقط من أجل أهداف مادية، ومجتمع المتعة الذي لم يعُد يَعِي أسسه الروحية لا يمكن أن يستمر” كما هو رأي السياسي والكاتب البولندي يبجييجيرتيتش. والأمرُّ من هذا، محاولة صنع معنى الحياة من النجاح والثروة، والتي اختصر نهايتها عالم النفس تيم كاسر بقوله: “الحياة المتمحورة حول جمع المال وتحصيل الشهرة حياة بلا مغزى”. لهذا لم يتبق سوى الدين مصدرًا لاكتشاف معنى الحياة والطمأنينة بأجوبته، ولا أدلّ على هذا من تصريح رأس الإلحاد سام هاريس والذي عنون أحد كتبه بـ”نهاية الإيمان”، حين قال: “لا نستطيع العيش بالعقل وحده. من أجل ذلك لا يمكن لأي قدر من العقل، عند اتخاذه كمُعقّم، أن يُنافس بلسم الإيمان حين تغزو مخاوف هذا العالم حياتنا”!.

والأكثر قناعة وطمأنينة من إجابات الأديان، هو ما يُقدّمه الإسلام في هذا السياق، والذي اختصره المؤلف بالمبحث التالي  لما سبقه، تحت عنوان “الإسلام ومعنى الحياة”. وأن معنى كونك مسلمًا كما يقول إسماعيل الفاروقي “أن ترى الله وحده باعتباره المعيار القاضي، وإرادته وحدها هي الأمر، ونمطه هو وحده المطلب الأخلاقي للخلق”. فالمعنى العميق للحياة في الإسلام نابعٌ من مفهوم التوحيد، والشعور الطاغي بحرية الاختيار. وأنه لولا الله “لا شيء يمكن أن يكون خيرًا أو شرًّا، ولا شيء يمكن أن يكون صحيحًا أو خاطئًا”.

التوحيد جوهر دين الإنسان الأول، ولم ينشأ على الشرك ثم أتى التوحيد بعده كما يزعم بعض الفلاسفة والتطوريين. وسمات الدين الصحيح الذي يجب أن تتوفر فيما يُزعم أنه لكل البشر، هي البساطة والوحدانية، وهذا ما يُبنى عليه الإسلام.

أطول فصل في الكتاب كان الرابع، تحت مسمى “توضيح العبادة”، وقد ناقش فيه أركان الإسلام، وأركان الإيمان ثم مرتبة الإحسان مُصححًا فيها الكثير من المفاهيم الخاطئة تجاه هذه الأركان سواء من داخل النقاش الإسلامي أو من خارجه كالتصورات تجاه الملائكة وخوارقهم والمعنى الصحيح للقدَر وغيرها، ليُبيّن بعدها المفهوم الصحيح للإسلام، وأنه الحاكم على كل تصرفات المرء، وليس فقط الضابط للعلاقة بين المرء وربه. وختم الفصل بمقاربات في مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة والديموقراطية، وأخيرًا تعريف مختصر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وخصائصه.

الطريق إلى المخرج الوحيد، سيتخلّله حتمًا “حقائق خفية وعوامل مُعيقة”، حاول إبرازها وبيان الطريقة الأنسب في مجاوزتها في الفصل الأخير من الكتاب، والذي يعتبر الوصايا الأخيرة للمؤلف موجَّهًا للتائهين نحو الطريق الذي لم يُسلك بعد، وأن الطريق التي يسلكها الكثير من الناس قد لا تكون هي الطريق الصحيحة لأحدنا، وناقش فيه الإساءات التي كان يُوصف بها الإسلام طوال القرون السابقة، والتي طالت المرأة ومكانتها في الإسلام، وموقف الإسلام من الرق، خاتمًا الكتاب بمبحث “صوب الحقيقة”.

إن قبول حقيقة الإسلام لا يعتمد فقط على وضوح الأدلة، ولكنه يعتمد أيضا على ما يريد الأفراد أن يصنعوه من أنفسهم ومجمل حياتهم. فأولئك الذين يقدّرون قضية المعنى،والصادقون في تعظيم نعمة الحياة، لن يجدوا صعوبة في فهم الغرض من الوجود.

في هذه الحياة، هناك من الباطل والغموض ما يكفي الراغبين في الكفر ليصبحوا كافرين. لكن، في الوقت نفسه، تغمر هذا العالم آيات على الحقيقة والحكمة لا تدع أحدًا لديه رغبة في الإيمان يفقد طريقه أو يعجز عن العثور على الحق. إن هذا جزء من عدالة الله الكاملة: أن كلّ شخص سيفتح عينيه على ما يناسب إرادته ويلائم موقفه. ولذلك لم يبعد ويليام جيمس كثيرا حين اعتبر هذه المسألة بالنسبة لكل واحد منا مسألة قلب وإرادة قبل أن تكون مسألة منطق وفكر؛ يقول جيمس: “كيف يمكن للفكر المحض أن يقرّر؟ إن كان قلبك لا يريد عَالَمًا ذا حقيقة أخلاقية، فالمؤكد أن رأسك لن يجعلك تؤمن بعالَم من تلك العوالم (الأخلاقية)”. حقًّا، سيجد من فضّل الكفر، ما يكفي من الباطل لتسويغ شكه وتبرير خداعه لذاته. وأيضا سيجد من فضّل الإيمان، واستبعد العبث، وتطّلع لما وراء هذه الحياة، ما يكفي من الآيات لإصابة الحق، ونيل البصيرة، والتماس اليقين.

ليس هناك إلا مخرجٌ واحد فقط: الفرار إلى الله. صحيح، قد لا تكون الحقيقةُ جاهزة دائما، و”استقصاء الحقائق والعثور عليها ليس بالأمر الهين” كما يقول “فاجنر”، ولكنها “الحاجة الماسة تدفع الإنسان إلى البحث، وتسهّل له سبيل الاستدلال فَيَصِل إلى الحقيقة”.

اقرأ ايضاً: الحاجة إلى الهداية

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مراجعة جيدة جزاكم الله خيراً
    “التوحيد جوهر دين الإنسان الأول، ولم ينشأ على الشرك ثم أتى التوحيد بعده كما يزعم بعض الفلاسفة والتطوريين.” سبحان الله قبل مدة قصيرة شاهدت مقابلة مع رجل يقص دراسته لتاريخ اديان الامم التي اكتشفت من المبشرين المسيحيين.. وكان ذلك من اسباب اسلامه، وهو يكتب الان كتابا في هذا.
    اللقاء مليء بالمعلومات المدهشة عن اصول اديان كثير من الامم و مخادعة التطوريين وتغييبهم للأدلة:
    https://youtu.be/6WSheLsV4gQ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى