- جلين سينيسكالش
- ترجمة: أحمد زايد
- تحرير: عبدالله الفهد
اسم الكتاب: رافضو الإيمان: التاريخ العاطفي للشك.
تأليف: أليك رايري Alec Ryrie
سنة الإصدار: 2019.
دار النشر: دار نشر جامعة هارفارد (HUP).
إن تتبّع ملامح ظهور ودعم الإلحاد الحديث له صلةٌ بالمناقشات المعاصرة المتعلقة بقدرة الإيمان على البقاء في عالم مُعلْمَن. يجادل البعض بأنّ الإلحاد أصبح رؤيةً عالمية راسخة على أنّه نتيجةٌ للتفكير النقدي حول التجربة البشرية مع الدين (على سبيل المثال، لودفيج فيورباخ، كارل ماركس، سيغموند فرويد، وفريدريك نيتشه). وسرعان ما تأثّرت الجماهير بهؤلاء فاتبعوهم. لكن ثمة رواية أخرى -وهي أيضا مقنعة- تؤكد أن الانقسامات الكنسية، والممارسات التعسفية داخل الكنائس في عصر ما بعد الإصلاح قد ساعدت على تحفيز ظهور الإلحاد. وقد تُعلمنا هذه الدراسات أن المثقفين دافعوا عن فلسفة الإلحاد التي انتشرت في أوروبا الغربية، لكنهم جميعًا قدموا أفكارهم داخل سياق اجتماعي-ديني خاص. ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن التفاعلات المعقدة بين الثقافة واللاهوت والفلسفة ساعدت في تطور الإلحاد.
لا يخرج المؤرخ البريطاني أليك رايري عن هذه السرديات، لكنه يؤكد أن بعض التيارات العاطفية داخل المسيحية البروتستانتية المبكرة كانت مسؤولة عن نشأة الإلحاد، يقول رايري: ”ما يهمني هو أن عدم الإيمان كان حاضرًا بوضوح بشكل عملي… قبل أن يكون له شكل نظري… السردية التقليدية هي أن الفلاسفة هاجموا الدين فتوقف الناس عن الإيمان. ولكن ماذا لو توقف الناس عن الإيمان وبعد ذلك وجدوا أنهم بحاجة إلى حجج لتبرير عدم إيمانهم؟“ (ص 3-4). ولذلك فإن كتاب رايري مهتم بالجذور العاطفية للإلحاد الحديث. إنه ليس دحضًا عقلانيًا للإلحاد في حد ذاته؛ فإنه يقول “أنا أزعم أن البشر غير عقلانيين؛ أو بالأحرى نحن لسنا آلات، وأن ”خياراتنا“ بشأن ما نؤمن له وما لا نؤمن به تُصنع بشكل حدسي من خلال ذواتنا، وليس من خلال المنطق/العقل الخالص” (ص11).
يمهد رايري الطريق لحجته الشاملة في الفصول القليلة الأولى من الكتاب. هناك اعتقادٌ شائعٌ حول العصور الوسطى وهو أن كل شخص في أوروبا كان مسيحيًا، لكنه يفند هذه الأسطورة، بحجة أن المشككين كانوا موجودين في فترة العصور الوسطى.
ومهما كان الأمر، فإن عدم الإيمان كان أكثر من مجرد ظاهرة خفية وعارضة، لأنه بحلول عصر الإصلاح الديني، كانت هناك قوى عاطفية مختلفة ساعدت على تعزيز عدم الإيمان بطرق جديدة ليس من ضمنها المحاججة العقلية.(ص48-56-152-159) ومن هنا يمكننا أن نستنتج أن ”الإصلاح الديني أنتج ما هو أكثر من مجرد ضباب من الارتباك الديني، حيث يمكن لروح الإلحاد أن تتحرك فيه بحرية نسبية. كان هذا الارتباك الديني يجر المسيحيين بعيدًا عن الإيمان“(ص49). بالإضافة إلى ذلك ”اعتاد المسيحيون البروتستانت علي مقابلة الحجج الفلسفية للمسيحين الكاثوليك بالسخرية لا بالحجج المضادة“.(ص54) فكانت المحصلة هي ذلك الغضب (السخرية والحنق والاحتقار والاستياء) والقلق، والشكوك المتعلقة بحقيقة العقائد الأساسية للكنيسة. وهو ما أدّى بدوره إلي إشعال نار الإلحاد الحديث.
وابتداءً من القرن السابع عشر، بدأ الملحدون في اتخاذ صورة نمطية معينة. فمعظمهم كان يُنظر إليهم على أنهم رجال أثرياء ومتعلمون يتمتعون بمكانة اجتماعية جيدة. والأهم من ذلك، أنهم لم يتبنّوا وجهة نظرهم باعتبارها نتيجةً للمحاججة الرصينة.
بدلاً من ذلك، فمعاداتهم للدين كانت معاداة فورية وعملية، وكأنها نوع من الاحتجاج ضد المسيحية نفسها، (ص82-85) وبكلمات رايري ”إذا كانت هناك ملاحظة موحدة لكل هذا، فهذا لم يكن رفضًا للعقيدة المسيحية. إنه تحدٍ: لأي قاضٍ أو رجل كنيسة أو ملك أو إله قد يدّعي أنه يستطيع أن يخبر أمراء العالم هؤلاء (يقصد الملحدين) كيف يتكلمون أو يعيشون“.(ص89) في هذه المرحلة من التاريخ، تجاوزنا الآثار الأولية التي سببها الإصلاح البروتستانتي.
حاول بعض المدافعين عن الدين معالجة الاعتداء الحاصل في قلوب المؤمنين الصادقين. وكان الأساس المنطقي لذلك هو أن المنطق قد يساعد في ترويض العواطف. لكن على الرغم من أن الجدل العقلاني سرعان ما أصبح شائعًا، إلا أنه أدى إلى نتائج عكسية. كما يلاحظ رايري أن ”القلق وقوة محاولات الإصلاح الديني البروتستانتية جعلت الشك جزءًا خطيرًا من النظام البيئي الديني، وبمجرد وجود هذا الشك، فإن الأساليب المستخدمة للتعامل معه جعلته يزداد سوءًا.
إن محاولة إخماد الفتنة من خلال الجدال معها كانت هي الاستجابة البروتستانتية، لكنها كانت استجابةً داحضةً لذاتها. فالنقاش بطبيعته مفتوح، واليقين الذي يُسعى وراءه يتلاشى في الأفق مثل السراب. وفي محاولة للتغلب على القلق في قلوب العوام، عزز المدافعون المعاصرون عن غير قصد شكًا إضافيًا، وأصبح الجدل بين الإيمان المسيحي والإلحاد واضحًا لدرجة أنه بحلول عام 1660، ظهر الإلحاد في العلن كمنظومة فلسفية مستقلة“.(ص181)
هذا الكتاب يعتبر مساهمة في المناقشات العلمية حول تاريخ الإيمان والإلحاد الحديث. وقد كُتب كتابة جيدة، وقدم حججًا قوية، وأفكارًا عميقة، حيث وضح الكاتب أن القلق والغضب لعبا دورًا رئيسيًا في تطور الإلحاد.
وأرى أن الكتاب قد يكون مناسبًا لأن يكون مصدرًا تكميليًا في الدورات الأكاديمية على مستوى الدراسات العليا التي تتناول التفاعل بين العلمنة واللاهوت والتاريخ والإلحاد.