مراجعات كتب

كتاب أحكام القُرَان للإمام الشافعي

عبدالله الداغستاني

(صباح السبت، 19 رجب الفرد، 1441 ، مدينة كِيِيفْ، أوكرانيا)

 

لم يكن سهلا أبدا أن أجد بياني وأنا بصدد التعريف بكتاب «أحكام القران» للإمام الشافعي، فالقرآن مكنز العلوم الذي لا يخلق من كثرة الرد، وأحكامه منهاج الحضارة والرقي على مر العصور والأحقاب، والإمام محمد بن إدريس الشافعي من أعلم أهل عصره به وبها، وقد شهد له بذلك يونس بن عبدالأعلى فقال: «كنت أولا أجالس أصحاب التفسير وأناظر عليه، فكان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شهد التنزيل»([1]).

وأما الكتاب فهو كتابه «أحكام القُرَان» الذي من تأليفه هو، لا جمع البيهقي الشهير، «أحكام القران» الذي وصفه شيخ الشافعية أبو القاسم الرافعي بقوله: «كتاب أحكام القرآن من كتب (الأم)، ضمنه الكلام في آيات كثيرة ناطقة بالأحكام الفقهية، وهو في قدر ثلاثة أجزاء»([2]).

كتاب «أحكام القران» للشافعي عرفه الناس مقرونا بكتاب آخر بنفس العنوان، هو «أحكام القران» جمع البيهقي من متفرق نصوص الشافعي، والذي طبع في مكتبة الخانجي بمصر بتحقيق عبدالغني عبدالخالق وتقديم الكوثري، تقديم الكوثري الذي قال فيه: «ومما ألف في أحكام القران في مذهب الإمام الشافعي ÷ كتاب (أحكام القران) للإمام الشافعي نفسه كما يعزوه البيهقي إليه، وإن لم نَطَّلِعْ عليه»([3]).

ومنذ ذلك الحين اشتهر بين الباحثين القول بأن كتاب الشافعي من تأليفه مفقود لا أمل في العثور عليه، وانتشر بينهم النظر إلى كتاب البيهقي على أنه الأنموذج الحاكي عن أصله، والمورد الذي يتعلل به الصَّدي.

كان من فضل الله عليَّ العثور على نسخة هذا الكتاب الجليل واكتشافه، ثم العمل على تحقيقه ودراسته ونشره، وهذه كلمات تعريفية مقتضبة عن قصتي مع الكتاب خلال العمل عليه وقبله.

 

قصة الاكتشاف:

كان بدء الاتصال بالكتاب عندي من الاتصال بالشافعي نفسه، فمعرفتي بعظيم قدر الشافعي في علمه بالتفسير والأحكام ودقيق الاستنباط لا شك رابط قوي وملفت للنظر، ثم أنا بطبيعتي ودراستي كنت لماحا للمنهج الإسلامي العام، والشافعي هو الممثل الأمين لهذا المنهج وما كان عليه في العصر الأول.

معرفة الكتاب على أنه من كتب الشافعي كاف عندي للهيام به، لا أبتغي فوق ذلك سببا آخر غير كونه من تأليفه، لكن الناس رأيتهم مالوا إلى راحة اليأس بدل إجهاد النفس بالبحث والتنقيب، هذا الذي لم أقتنع أنا به، ثم شيء آخر: إن كتابا في مثل محل «أحكام القران» يستحيل على الشافعية أن يهملوه، ليس من أجل الفروع الكثيرة المودعة في الكتاب، وإنما كذلك لأنه من الأصول الثلاثة التي قامت عليها صرح أصول الشافعية، هي: «الرسالة» و«أحكام القران» و«اختلاف الحديث».

بدأت رحلة البحث عن الكتاب واكتشافه من خلال نصوصه المودعة في الكتب الناقلة عنه، وممن أكثر النقل عنه الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني في «المختصر»، الكتاب الذي شرفت بتحقيقه والعمل عليه، فكانت تلك النصوص التي يوردها في الكتاب ثم أجدها بحروفها في «الأم» من الأمور التي صرفت النظر إلى المسار الصحيح في سبيل الاكتشاف، حيث بدأت أبحث عن الكتاب في «الأم» قبل البحث عنه في خزائن المخطوطات، وللعلم فإن القرب أيضا قد يكون حجابا ساترا مثلما البعاد.

استفدت من تحقيق «المختصر» للمزني الفوائد الكثيرة المتعلقة بالمعرفة بالشافعي وكتبه، والتي ستكشفها الأيام إن شاء الله إن كانت لها بقية، وأسأل الله أن لا يصرفني عن الشافعي وعلومه بالصوارف والعوائق حتى أكمل مشروع العمر الذي هو حديث النفس وقرة العين.

ومن الفوائد التي استفدتها من العمل على مختصر المزني: تلك الكلمة المقتضبة التي تكررت في عدة مواطن حيث ذكر «أحكام القران» للشافعي، إذ يقول المزني رحمه الله: «وفي (كتاب الطلاق) من (أحكام القران)»([4]).

وفائدة هذه العبارة تكمن في تصحيح التصور عن طبيعة الكتاب، حيث إن الكتاب لا تستتر فقط في «الأم» قبل خزائن المخطوطات، بل تسترت كذلك بالاصطلاح الطارئ على عنوانه، حيث جعل الباحثين يتجهون إلى نوع خاص من المؤلفات يبحثون عن كتاب الشافعي على أساسها وقياسها، وقد أبعدوا، فليس عدلا تفسير كلام الشافعي على الاصطلاحات الطارئة من بعده، فظاهر عبارة المزني: أن «أحكام القران» كتاب على الأبواب الفقهية، فلا يستبعد أبدا أن تكون بعض أبواب الفقه المودعة في «الأم» أجزاء من كتاب «أحكام القران».

الوهم والخطأ ليس دائما نتيجة صعوبة موضوع البحث وتعقيده، وإنما جهل بسيط في طريقه، وصحيح إن المعلومة لا يجوز وصفها بالبسيطة، فكثيرا ما تأتي المعلومات البسيطة بالمعارف الجليلة، ولكنها تحتاج إلى قلوب حيَّة، وطبيعة لمّاحة.

نقل المزني عن كتاب «أحكام القران» للشافعي مصرحا به في أكثر من عشرين موضعا من «المختصر»، وكلها موجودة في «الأم» سهلة تخريجها، الأمر الذي هيج قلبي وأنار طريقي.

فبدأت أنظر في نقول العلماء غير المزني عن هذا الكتاب، وثُمّ أخرِّجها من «الأم»، البيهقي في عامة كتبه ينقل عن الكتاب قضايا أصولية وحديثية، والزركشي في «البحر المحيط» استوعب قضايا الكتاب الأصولية، ووجود هذه النصوص كلها في «الأم» دليل قاطع على أن الكتاب مطبوع ضمنه، وهو لكذلك، لكنه لا يعرفنا بالكتاب، أوله وآخره، فصوله وترتيبه، فكان لا بد من العثور على نسخة خطية صحيحة للكتاب.

لما سلَّمت مختصر المزني لتجارب الطبع ذهبت إلى المكتبة السليمانية أطالع المخطوطات، أحاول أن أجد فيها ما أتعلل به في «مشروع آثار الشافعي» الذي أنا شغوف به، وصدفة وقعت على نسخة «كتاب أحكام القران للشافعي» من مخطوطات بدايات القرن السابع الهجري، وبالفور تصفحت النسخة لأتأكد أنها ليست لكتاب البيهقي جمعه من نصوص الشافعي.

كانت فرحة غامرة، بدأت لا أتمالك نفسي من آثارها، طورا أكبت نفسي أخشى أن يكون ما أرى سرابا لا حقيقة له فتذهب روحي حسرات، وطورا أفسح المجال لحلو الحياة في فسحة الأمل، كدت أفقد صوابي وأنا متأنٍّ صبور.

كان لا بد من دراسة هذه المخطوطة دراسة وافية قبل الاحتفال بها، لكني لا أملك نفسي أن لا أكشف عنها لصديقي العزيز الشيخ مشاري الشثري حفظه الله ورعاه، ليرد علي بتأكيد واجب دراستها، وما زال يتابع معي تطورات بحثي حتى اطمأن قلبه وأعلن عنه في كتابه العبقري «عبقرية الإمام الشافعي .. المدد والمداد».

 

الكتاب في «الأم»:

بدأت أستخرج فصول النسخة المخطوطة من أبواب «الأم» مع ترتيبها على المخطوط لأكتشف أن الكتاب مقطع أوصاله في ثلاثة مواضع منه:

القسم الأول – «باب عشرة النساء» إلى «باب في إتيان النساء قبل إحداث غسل»([5]). وقد علق مصحح طبعة بولاق من «الأم» في بداية هذا القسم بقوله: «انفرد بعض النسخ هنا بإثبات هذه التراجم، وإن كان بعض ما فيها تقدم بمعناه، لا بلفظه، فأثبتناها حرصا على ما فيها من الفوائد، وإن كانت مشتملة على شيء من تحريف النساخ، والله الموفق. كتبه مصححه».

القسم الثاني – «باب الشهادة في البيوع»([6]).

القسم الثالث – «باب الإشهاد عند الدفع إلى اليتامى» إلى آخر الكتاب «باب ما يجب فيه اليمين»([7]). وعلق مصحح طبعة بولاق من «الأم» في بداية هذا القسم بقوله: «وقد كان قبل هذا الباب (باب الشهادة في البيوع)، فنقله السراج البلقيني إلى (كتاب البيوع) في الجزء الثالث، فارجع إليه. كتبه مصححه».

وظاهر بيِّنٌ من كلام المصحح في الموضعين عدم إدراكه للوحدة الموضوعية للكتاب بسبب هذا التقطيع، فلم يدرك في القسم الأول منه أنه أمام كتاب جديد من كتب «الأم»، ولذلك بدأ يقارن بين أبوابه وأبواب كتب أخرى فيه ذكرت قبله، لكنه في القسم الثالث ربط بينه وبين القسم الثاني حتى يمكنه تفسير قول الشافعي في أوله: «وهو في مثل معنى الآية قبله». يريد قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]، وقد تكلم في تأويله في «باب الشهادة في البيوع».

رجعت إلى نسخ «الأم» بترتيب الأصل، والتي تحافظ على صلة نصوص وأبواب كتب الشافعي على ما تركها عليه المؤلف، فلما وجدتها كلها تؤكد ترتيب النسخة الأصل التي عثرت عليها لم يبق عندي كبير شك أني أمام كتاب «أحكام القران» الذي كثرت ظنون الناس وأوهامهم حوله.

 

كتاب «التعليق على أحكام القران للشافعي»:

وثُمّ ذكرت عنوانا في المكتبة الظاهرية مررتُ به خلال بحثي عن مخطوطات «المختصر» للمزني، كان العنوان: «كتاب أحكام القران للشافعي»، هكذا دون إشارة إلى البيهقي وجمعه، استوقفني لبعض الوقت، وسجلته في الكشكول فلعل وعسى، ثم تركته مرددا ما ابتدعه غيري: «جمع البيهقي، نسبوه للشافعي توسعا وأغفلوا ذكره»([8]).

رجعت هذه المعلومة إلى ذاكرتي واستخرجت الرقم من الكشكول لأطلب من الشيخ الفاضل عادل العوضي أن يمن علي كعادته معي جزاه الله خيرا، فجَدَّ جزاه الله خيرا حتى تمكن من النسخة وأرسلها لي مشكورا، لأكتشف أني أمام كنز آخر بحق.

النسخة عبارة عن مجموع من أوقاف العمرية، كتب على طرته: «أوله: أحكام القران لإمامنا …. محمد بن إدريس الشافعي المطلبي بخط شيخ شيوخنا الشيخ شمس الدين البرماوي الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه»

هذه النسخة عبارة عن قطعة من الكتاب، أو بالتحقيق عبارة عن الأبواب الثلاثة الأولى للكتاب، وبعده سقط لا أعرف قدره، وأتوقع أنه المتبقي من الكتاب كاملا، ثم أعاد الكتاب مرة أخرى، فذكر منه الباب الأول، وأشار في الهامش إلى أنه «كتاب أحكام القران من رواية الربيع عن الشافعي»، وبعده في الهامش: «والتعليق على أحكام القران العظيم للشافعي جمع الفقير محمد بن طاهر».

إذن نحن أمام «شرح أحكام القران» للشافعي، هذا الكتاب الذي لم أهتد بعد إلى صاحبه، ولم أتمكن بعد من تمام نسخته، لكن أملي في الله أن يوفقني له كما وفقني لمتنه، وكان فضل الله علي عظيما.

العثور على هذه النسخة متنا وشرحا قطعت جميع أبواب الظنون في سبيل اكتشاف الكتاب، وكان ذلك نهاية رحلة البحث عن الكتاب.

 

موضوع الكتاب:

فهذا كتاب «أحكام القُرَان» من تأليف الشافعي، لا جمع البيهقي، هذا الكتاب الذي وصفه أبو القاسم الرافعي بأن الشافعي «ضمنه الكلام في آيات كثيرة ناطقة بالأحكام الفقهية»([9]).

وعده الزركشي في مقدمة كتابه الفحل «البحر المحيط» من كتب الشافعي الأصولية فقال: «الشافعي ÷ أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه: (كتاب الرسالة)، و(كتاب أحكام القران)، و(اختلاف الحديث)، و(إبطال الاستحسان)، و(كتاب جماع العلم)، و(كتاب القياس) الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم»([10]).

 

وصدقا كلاهما!

فالكتاب مبوب على الأبواب الفقهية، يبدأ كل باب منه بما نزل فيه من الآيات، يفسر الشافعي القريبَ الدلالةِ من أحكامها، ثم يذكر ما فيها من الخلاف بين علماء الأمصار، ثم يورد ما وقع له فيه من المناظرات.

ويلاحظ اقتصاره على الأبواب المعنية بأحكام النساء، حتى قال شارحه محمد بن طاهر في تعليقه عليه: «ظهر من استقراء ما في هذا الكتاب أنه في ما يوجد في القرآن العظيم من أحكام النساء، لا جميع الأحكام، وإن استطرد في أواخر الكتاب لشيء من الشهادات ونحوها كما سيأتي وجه الاستطراد والمناسبة، فلفظ الترجمة عام والمراد بها خاص»([11]).

بل إن الأصل المعتمد في التصحيح عندي زاد في عنوان الكتاب عبارة: «فيما يتعلق بالنساء» كما هي في الصورة، ولا أراه إلا إضافة توضيحية يقصد بها التنبيه إلى موضوع الكتاب.

الشافعي احكام القران

ويمكن استنباط هذا المعنى من استنطاق نص الشافعي في أول الكتاب أيضا، حيث بدأه بذكر آية الأمر بمعاشرة النساء بالمعروف، ثم قال ‘: «فجَعَلَ اللهُ للزَّوْجِ على المَرْأةِ وللمَرْأةِ على الزَّوْجِ حُقوقًا بَيَّنَها في كِتابِه وعلى لِسانِ نَبِيِّه مُفَسَّرَةً ومُجْمَلَةً، ففَهِمَها العَرَبُ الذين خُوطِبُوا بلِسانِهم على ما يَعْرِفُون مِن مَعاني كَلامِهم، وقد وَضَعْنا بَعْضَ ما حَضَرَنا مِنها في مَواضِعِه، واللهَ نَسْألُ الرُّشْدَ والتوفيقَ»([12]).

فهذا النص يمكن اعتباره بمثابة خطبة الكتاب، ويتخذ على أنه نص الإمام على مراده من «أحكام القران»، وأنه يعني أحكام القران المتعلقة بالنساء والعشرة بالمعروف.

ويلاحظ كذلك أن الكتاب ليس شاملا لجميع أحكام الآيات الواردة فيه، وإنما اقتصر منها على بعض ما حضر منها في مواضعه كما أشار إليه الشافعي نفسه، وأشار إلى وجه هذا الاقتصار في باب اللعان منه فقال: «خالَفَنا بعضُ النّاسِ في جُمْلَةِ اللِّعانِ وبعضِ فُرُوعِه، فحَكَيْتُ ما في جُمَلتِه؛ لأنّه موجودٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وتَرَكْتُ ما في فُرُوعِه؛ لأنّ فُرُوعَه في (كتاب اللعان)، وهو مَوْضُوعٌ فيه، وإنّما كَتَبْنا في كِتابِنا هذا حُكْمَ الكتابِ والسُّنَّةِ فيه»([13]).

فهذا النص يشير إلى أنه يختار الأحكام القريبة المأخذ من القران مع السنة، ولا يعنى بالإغراق في مسائل الباب وفروعه، فهو بذلك يختلف عن سائر كتبه الفقهية الخاصة بالأبواب، وبذلك أيضا استحق النسبة الشريفة أن يعبر عنه بـ«أحكام القران».

والكتاب كذلك في الأحكام الأصولية التي تتعلق بالقرآن وتحدد مسار فهم آياته واستنباط الأحكام منه، فيكون موضوع الكتاب علم أصول الفقه كما أشار إليه الزركشي.

وعلى هذا ينبغي النظر في القضية الأصولية المحورية التي يخدمها الكتاب وتنتظم حولها مسائله، والذي أراه في ذلك هو الجمع بين القران والسنة، بحيث يكون الثاني بيانا للأول وتفسيرا، ولا يكون معارضا له ومخالفا، وهذه قضية طالما تعرض له الشافعي في مختلف كتبه، وهي كذلك قضية محورية في الرؤية الأصولية عند الشافعي أوْلاها من البيان القسط الأوفر في رسالته، ويومئ إليه عبارته السابقة: «وإنّما كَتَبْنا في كِتابِنا هذا حُكْمَ الكتابِ والسُّنَّةِ فيه»، كما أنها تتكرر في مسائل الكتاب وخلافياته كثيرا، فجدير بها أن تكون هي القضية المحورية له، وأن يكون الكتاب مع كتابه الآخر «اختلاف الحديث» يمثلان رؤية شافعية متكاملة في علاقة السنة بالقران، وعلاقة السنة بالسنة.

 

وجه ابتكار الكتاب وأوليته:

وعليه فأدق تعبير عن الكتاب هو تعبير البيهقي حيث جعل الكتاب «من الكتب التي تجمع الأصول وتدل على الفروع»([14])، وإنما اختلف من اختلف من العلماء بسبب ملاحظة بعض أوجه الابتكار فيه مع ترك الوجه الآخر، وهي في جملتها وبعد التدبر الكلي في نصوص الكتاب ثلاثة أوجه من الابتكار:

الوجه الأول – ابتكار الكتاب في التأليف في تفسير آيات الأحكام، وقد سبق الشافعي إلى هذا النوع من التأليف مقاتل بن سليمان في كتابه «تفسير الخمسمئة آية من القران في الأمر والنهي والحلال والحرام»، لكن الشافعي أدق اختيارا للآية محل البحث، وأوسع تناولا لها، وأوضح منهجية، وأهم معالمها عنده خمس خطوات مرتبة:

الأولى – ترجمة الباب المعني بالشرح من أبواب العلم.

الثانية – ذكر الآية أو الآيات التي تمثل أصل الباب.

الثالثة – ذكر المأثور المعتمد عنده في تفسير الآية أو الآيات.

الرابعة – ذكر المسائل التي يستنبطها من الآية أو الآيات دون أن يغرق في التفاريع والتفاصيل.

الخامسة – ذكر الخلاف في الباب، وقد يكون في مسألة واحدة من مسائله، أو في عدد من المسائل، وأغلب ما ذكر منه خلافه مع الحنفية، وبعضه مع المالكية أو غيرهم.

الوجه الثاني – ابتكار الكتاب في التأليف في أحكام النساء في القران، وإن لم يكن شاملا مستوعبا على عادة الكتب الأولى في أي موضوع مستحدث.

الوجه الثالث – ابتكار الكتاب في التأليف الأصولي، ولا يخفى على أحد أولية الشافعي بهذا الاعتبار، فهو مبتكر التأليف في علم أصول الفقه في «كتاب الرسالة» الذي يمكن أن يعتبر خلاصة فكرته الأصولية، وقد تعرض فيه إلى تقرير المعنى المنهجي الذي بنى عليه أصوله، وهو النظر إلى نصوص الشريعة على أنها كل متكامل يفصل ويبين بعضها بعضا، وهذا المعنى الذي شرحه بالتفصيل في كتابيه: «أحكام القران» و«اختلاف الحديث»، تكامل السنة مع القران في الأول، وتكامل السنة مع السنة في الثاني.

ومن جهة أخرى نجد الشافعي في «الرسالة» يقرر المعنى الأصولي أصالة ثم يشفعه بما يجليه من التطبيق على الفروع المختلفة، وأما في كتاب «أحكام القران» فيقرر الفروع القريبة الاستنباط من القران، وخلال ذلك يأتي بالأصول المختلفة يضبط بها اجتهاداته واستنباطاته، والكتاب بهذا الاعتبار يمكن أن يعتبر أول تأليف في مجال التطبيق الأصولي.

 

وأخيرا

بقيت موضوعات أخرى تتعلق بالكتاب، وأجد مجال المقال يضيق عنها، وقد أبنت وفصلت في دراستي التي قدمت بها الكتاب، كما أني قمت بوضع كشافات عشرة للكتاب بغية تقريب فوائده من القراء، وفيما بين الدراسات في أول الكتاب والكشافات في آخره قمت بالتعليق على نص الكتاب بما يصحح النص أو يبين عن مقاصد الشافعي ومراميه.

وأسأل الله أن يتقبل مني هذا العمل ويضع له القبول في قلوب العباد، وينفعني به ثوابه وعلمه وينفع به الناس، وأقول في دعوة عامة للرجوع إلى معين العلم الصافي:

الأمة الإسلامية بأئمتها من السلف الكرام، ومن سار على نهجهم من الخلف الأوفياء، لا بالأوباش المضللين الذين يتصدرون المنصات الهزيلة ويصدَّرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 


([1]) أخرجه البيهقي في كتاب «أحكام القران» له (رقم: 1).

([2]) «شرح مسند الشافعي» للرافعي (3/357).

([3]) انظر مقدمته لكتاب «أحكام القران» جمع البيهقي (طبعة الخانجي 1/14).

([4]) انظر الفقرات ذات الأرقام: (2259، 2553، 2567).

([5]) انظر «الأم» (بولاق: 5/95-162 ، رفعت فوزي: 6/274-456).

([6]) انظر «الأم» (بولاق: 3/76-78 ، رفعت فوزي: 4/179-180).

([7]) انظر «الأم» (بولاق: 7/74-87 ، رفعت فوزي: 8/186-215).

([8]) ليس القصد إنكار أصل وقوع هذا التوسع، فقد وجدت ذلك عند ابن الرفعة وابن السبكي، وإنما الاتكاء عليه في عدم البحث والتدقيق عن كتاب الشافعي.

([9]) انظر «شرح المسند» للرافعي (3/357).

([10]) انظر «البحر المحيط في أصول الفقه» (1/10).

([11]) انظر الورقة (9/ب) من المخطوط.

([12]) انظر «أحكام القران» للشافعي (فقرة: 1).

([13]) انظر «أحكام القران» للشافعي (فقرة: 186).

([14]) انظر «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/246).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى