- الكسندر موريرا ألميدا وهارولد جي كونيغ
- ترجمة: أحمد عبد العزيز
- تحرير: سنا الشمّاط
اسم الكتاب: العقل غير القابل للاختزال: نحو علم نفس القرن الحادي والعشرين- اسم المؤلف: إدوارد كيلي، وإيميلي ويليامز كيلي وآخرون
- الناشر: رومان وليتلفيلد ناشرون
- سنة الإصدار: 2007م
تفجّرت الثورات العلميّة عبر التاريخ نتيجةً لبحث العلماء في ظواهرَ لم تكن معروفة قبلًا، وإعادة النظر في مجموعة واسعة من ظواهرَ تمّ تجاهلها مسبقًا، ولنا في مقراب “تلسكوب” غاليلو خير مثال، كما داروين ورحلته التي استمرّت خمس سنوات في بيجل حيث جمع أدلّة تجريبية كثيرة كانت موضع تجاهل من قِبَل معظم العلماء حينها، حتى جاءت الاكتشافات الثورية لتدحض النماذج العلميّة التي كانت سائدة لفترة طويلة في مجالات الفلك والأحياء، ولاقَوا في سبيل ذلك نهاياتٍ نعرفها.
يقترح إدوارد كيلي وزملاؤه -مؤلفو الكتاب الذي بين أيدينا اليوم- شيئًا مشابهًا حيث إنّهم يجادلون بشكل مقنع أنّ علم النّفس في أيامنا هذه عليه أن يوسّع من نطاقه الضيّق ويبدأ بالتعامل مع مجموعة واسعة من الظواهر إن أراد حقًّا أن يقدّم مساهمة حقيقيّة ومهمّة لفهم طبيعة العقل، وعلاقته بالجسد.
كما أنّهم يرَون أنّ علم النفس طوال القرن الماضي وعبر اتّباعه وجهة نظرٍ ساذجة عن العلم؛ تخلّى تدريجيًّا عن دراسة موضوعه الرئيسيّ “العقل”.
من الجدير بالذكر هنا أن نستذكر معنى علم النفس اصطلاحيًّا والذي هو بالمقام الأول: دراسة الروح والعقل، ويُمكن أيضًا أن يقال الأمر ذاته بخصوص الطبّ النفسيّ (طبّ العقل أو طبّ الروح).
يتبنّى أطباء وعلماء النفس المعاصرين عادةً رؤيتين حول العقل:
تستند الرؤية الأولى على القول بعدم استطاعتهم دراسة العقل في الواقع، أمّا الرؤية الثانية التي يتبنّونها فهي أنّ العقل قد تمّ تفسيره بالكامل كمجرد نشاطٍ للدماغ الماديّ، ويتمّ تقديم أمثلة تدعّم هذه الأخيرة، وتُفضي إلى أنّ العقل يتغيّر ويتأثّر بدرجة ما في ظلّ تغييرات فيسيولوجية عصبية أو إصابات في الدماغ.
يُعَدُّ هذا النهج موقفًا معرفيًّا منطقيًّا خطيرًا، كما ذكر فيسلوف العلم الكبير كارل بوبر: “إنّ العثور على أمثلة تؤكّد تقريبًا أيّ نظريّة هي مَهمّة سهلة للغاية”. وفقًا لبوبر؛ فإنّ الطريقة المُثلى لاختبار نظرية ما يجب أن يكون بالبحث عن أدلّة تُخطِّئها، وبالضرورة فإنّ النظريات الجيّدة ستقاوم المحاولات القويّة لإيجاد أدلةٍ تُخالفها.
يناقش كيلي وزملاؤه -في فصول الكتاب- أنّ وجود أمثلة على المصاحبة النفسية الفيسيولوجية (كلّ حالة عقليّة تترابط مع ظهور نشاط عصبيّ مُعيّن في الدماغ) لا تكفي كإثبات على أنّ الدماغ يُنتج العقل، بدايةً “قيّد العلماء عمليات ملاحظاتهم للترابطات الدماغية-العقليّة إلى المواقف التي يكون فيها الدماغ هو المتغيّر المستقلّ، والعقل هو المتغيّر التابع” بمعنى أنّ التغييرات الدماغية هي التي تُحدِث تغييرات عقليّة، لكن الأمثلة في الضفة المُقابلة المعاكسة يتمّ تجاهلها دومًا، والتي تُفيد بأنّ العقل يُحدث تغييرات دماغية، من ذلك مثلًا ذهابك لجلسات العلاج النفسيّ عند تغيرّ حالتك العقليّة لتتخلّص من الاكتئاب والذي يصاحبه حدوث تغييرات في بنية ونشاطات دماغك، بمعنىً آخر يصبح العقل هو المتغيّر المستقلّ والدماغ هو المتغيّر التابع.
يمضي كيلي وزملاؤه قُدمًا في بلورة رؤيتهم حول علم النفس المعاصر وضرورة استئنافه للنهج الذي اتّبعه بعض روّاد علم النفس مثل: ويليام چيمس فريدريك مايرز، والذي يرى أنّ العلم الحقيقيّ لدراسة العقل لا بدّ له من مراعاة الخبرات البشريّة الواعية العقليّة، قبل أن يُتِمّ تطوير نظرية علميّة عن العقل.
شارك كلّ من مايرز وجيمس بعمق في البحث الروحانيّ ودراسة الخبرات الدينيّة، وأكّدوا أنّ هذه الظواهر لا يجب تجاهلها لأنّها ستساعدنا بشكل كبير على فهم طبيعة العقل، وعلى الرّغم من الانفصال الزمنيّ بحوالي قرن بين جيمس ومايرز من جهة وكيلي وزملائه من جهة أخرى؛ إّلا أنّه يظهر جليًّا لنا تذمّرهم جميعًا من علماء العقل الذين يتجاهلون هذه الظواهر لمجرّد أنّه لا يمكن تفسيرها ضمن النماذج التي يتمّ قبولها عادة عن العقل.
إنّ رفض الأدلة التجريبية التي لا تتوافق مع النماذج السائدة في العلم، ليس بالأمر غير
المألوف، فيلسوف العلم توماس كون (1922-1996) بيّن أنّ العلماء عادةً لا يعترفون بالظواهر التي لا يمكن تفسيرها من خلال النماذج التي يلتزمون بها حيث يقول: “هل يمكن أن تكون صدفة على سبيل المثال أنّ علماء الفلك الغربيين لم يرَوا تغيّرًا في السماوات الثابتة سابقًا خلال نصف القرن إلّا بعد اقتراح نموذج كوبرنيكوس الجديد؟ بينما سجّل الصينيون -الذين لم تمنع معتقداتهم الكونية التغيير السماوي- ظهور العديد من النجوم الجديدة في السماء في وقت سابق”.
يُقدّم لنا كتاب العقل غير القابل للاختزال مراجعة شاملة للأدلة التجريبية التي تشكّك في الافتراض القائل بأنّ “خصائص العقل سيتم تفسيرها بالكامل من خلال الدماغ”.
مؤلفو الكتاب هم من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، ولديهم خلفيات في العديد من المجالات الجدليّة: علم النفس، الطب النفسي، التاريخ، الفلسفة.
يبدأ كتاب العقل غير القابل للاختزال بإعطاء نظرة عامة على علم الأعصاب المعاصر متبوعًا بملخّص للنهج الذي اقترحه فريدريك مايرز لعلم النفس، ومن المثير للدهشة أنّ العديد من العلماء وأخصائيي علم النفس السريري (الإكلينيكي) الذين يتعاملون مع العقل لا يعرفون شخصًا مثل فريدريك مايرز الذي قّدم العديد من المساهمات المهمة في هذا المجال.
بعد أول فصلين؛ تمّ تخصيص الفصول الأربعة التالية من الكتاب للحديث عن مجموعة واسعة من الظواهر النفسية المُهمّة لكن المُهملة في نفس الوقت.
باتّباع طرق مايرز يبدأ كيلي وزملاؤه بذكر الأمثلة الأكثر شيوعًا ثم ينتقلون تدريجيًا إلى أمثلة تتحّدى بشكل أكبر النموذج السائد عن العقل كنشاط دماغيّ حصرًا، وهذه الظواهر تتضّمن: التأثير النفسي الفسيولوجي (علم النفس الجسدي، العلاج الوهمي أو تأثير البلاسيبو، الاضطرابات الانشقاقية/ الانفصالية، التغييرات الفسيولوجية التي يسببها التنويم المغناطيسي، التأثير العقلي عن بعد)، الذاكرة، التلقائية العقلية (اضطراب الهوية التفارقي، التلقائية الحركية، الغشية/ الغيبة، التخاطر)، ظواهر الاقتراب من الموت والظواهر ذات الصلة (تجارب الاقتراب من الموت، تجارب الخروج من الجسد، الأحلام الجليّة، التجارب الظاهرية، رؤى فراش الموت)، العبقريّة (الإلهام الإبداعي، الشخصية الإبداعية)، والتجارب الروحانية.
واعتماداً على الأدلة القديمة والحديثة يعيد الكتاب فحص نظرية مايرز عن الهويّة، وبما أنّ مؤلفي الكتاب يعرضون فيه نتائج قرن من الزمان من البحث في مجال الروحانيات؛ ينتهي الكتاب بملحق مفيد يحتوي على مراجع المجال.
الخلاصة الرئيسيّة لهذا الكتاب هي أنّه في ضوء الأدلة المتاحة؛ إذا أخذ المرء في عين الاعتبار كلّ الأدلة ولم يقصر بحثه على مجموعة ضيّقة من الظواهر (كما يحدث عادة في علم النفس والعلم المعرفي المعاصر)، فإنّ النظريات السائدة حاليًا بخصوص معضلة العقل والجسد معيبة بشكل كبير، ولا تستطيع تفسير مجموعة واسعة من الخبرات البشرية العقلية الواعية.
وعلى خطى ويليام جيمس وفريدريك مايرز؛ فإنّ كيلي وزملاءه يقترحون أنه بدلًا من أن يكون العقلُ نتاج الدماغ، فإنّ الدماغ قد يعمل كمرشّح فقط للنشاط العقلي في حياتنا اليومية، حيث يجادل مؤلفو الكتاب في أنّ “الدماغ قد يعمل كعضو يقّيد، وينظّم، ويمكن أو يسمح بالتعبير عن النشاط العقلي فقط”.
دعم هذا الادّعاء المثير للجدل هو الهدف الرئيسي لهذا الكتاب الذي يقع في 800 صفحة، وقائمة مراجع تقاِرب 1800 مرجع، كتاب “العقل غير القابل للاختزال” هو كتاب جيّد يلّخص ويراجع مجموعة واسعة من الخبرات البشرية المهمّة والمثيرة للاهتمام والمُهمَلة في آنِ واحد، كما أنّه كتاب أكاديميّ، يزوّد القّراء بحقائقَ تاريخيّة مهمّة، وفي نفس الوقت تُذكر فيه المعلومات الحديثة حول التطورات الحاليّة في علم الأعصاب.
على الجانب السلبي، في بعض الأحيان يصبح الكتابُ مكرّرًا فيما يتعلق بادّعاءاته الرئيسية
في بعض أجزائه، مثل الفصل المتعلّق بالذاكرة صعبة التتبع، ولأنّ المؤلفين يرغبون في دعم
استنتاجاتهم فإن الكتاب أصبح طويلًا جدًا وهذا قد يزعج بعض القرّاء، ومع ذلك يمكن للقارئ أن يركّز فقط على الفصول المتعلّقة بمواضيع محددة ذات أهمية أكبر.
قيد آخر هو أنّ الكتاب يراجع الدراسات التي تمت في أوروبا وأمريكا الشمالية لأنّ الظواهر النفسية التي يناقشها هذا الكتاب تتضّمن تجاربَ روحيّة، فإنّ دراسة هذه التجارب على مستويات مختلفة من الثقافات سيكون أمرًا مرحبًّا به، وأخيرًا ولأنّ الكتاب يتحدث عن النماذج العلميّة وحدود وأساليب العلم فمن المفيد إدراج أفكار الخبراء في فلسفة العلم.
على أنّ نقاط الضعف هذه لا تقّلل من قيمة الكتاب، كيلي وزملاؤه يستحقّون الثناء على شجاعتهم الأكاديمية في التعامل مع هذه المواضيع المثيرة للجدل، سواء اتّفقت مع استنتاجاتهم أم لا؛ فإنّ مراجعتهم الشاملة مفيدة في تقديم الأدلة والأفكار التي تتحدى النظريات السائدة بخصوص ظواهر العقل والجسد.