- تحرير: عبد الرحمن بن سليمان الميمان
استهلَّ غانمٌ صارخًا وأهلُه على مَقرُبة مِن المسجد النبوي الشريف.
عاش طفولته حتى استوى مميِّزًا يصطحبه والده إلى الصلاة.
رأى اجتماع الناس بعد كل صلاة على شيخٍ مستند إلى الجدار، وهو يتحدث إلى طلابه، وهم مُطْرِقون مُنْصِتون.
أبدى غانمٌ سؤاله لوالده: أي رجل هذا؟ وماذا يريدون منه؟
فأجاب الوالد -وهم في طريقهم إلى بيتهم- بأنَّ هذا أحد المشايخ يحفظ كذا وكذا مِن متون العلم، وأشعار العرب، ويشرح كذا وكذا من المنظومات والمنثورات، وهو منقطع إلى التعليم.
استبدَّ بغانمٍ العَجَب وجَهِد أن يملأ عينه من الشيخ في الصلاة المقبلة.
ثم لم تسمح نفسه حتى وقف على حلقة الشيخ مأخوذًا بالفرق الكبير بين مستوى ثيابه الرثة، ومستوى تقريراته الرفيعة!
لم يملك نفسه فطلب من أبيه أن يكون ضمن جلساء الشيخ، فأشار عليه أبوه بأن يعرض نفسه على الشيخ ثم يرى.
اقتحم غانم الحلقة حتى وقف على رأس الشيخ واستأذنه ليجلس مثل الطلاب عنده، لكن الشيخ ترفَّق به وأخبره أنه لن يستفيد شيئًا، لكن إن رغب فليحفظ القرآن حفظًا متقنًا، ويتبصَّر في مبادئ العلم، ثم يلتحق به.
انزعج الفتى من صرامة الشيخ، وأبدى امتعاضًا منها، لكن الشيخ استبدل المصلحة بالمجاملة.
حاول غانم أن يتذاكى فعرَض على الشيخ أن يجمع بين الحضور عنده والاشتغال بمبادئ العلم، فرفض الشيخ بحُجَّة أن الاشتغال بأكثرَ مِن علم مَضِلَّة للفهم، ومهواةٌ في التحصيل.
أخذ غانم يطوي الأيام وهي تمضي ثقيلة، يتحفَّظ القرآن ويواظب على دروسه، حتى رأى أنه حقَّق شرط الشيخ، ثم عاد وهو يحمل في يده كتابًا معاصرًا ليقرأه على الشيخ، لكن الشيخ اختبره أولًا، ثم أبى أن يسمح له بالقراءة من كتابه؛ بدعوى أن الكتاب المعاصر ليس مستغلقًا يتوقَّف الانتفاع به على شيخ.
حاول الأب إقناع الشيخ بحجة سهولة الكتاب في عبارته، وأنه مرتَّب على المصطلحات وفق الحروف الأبجدية، فاشتد إباء الشيخ، وقال: هذا يصلح للمراجعة، ولا يُخرِّج عالِمًا.
ثم قرَّر متنًا معتبرًا للقراءة والشرح.
عاد غانم في اليوم التالي بالمتن وهو واثق من الشيخ، فاستفتح بالقراءة نظرًا، لكن الشيخ نَهَرَه ليقرأ حفظًا!
وَجَم غانم وقال بتلعثُم: أفعل إن شاء الله.
ثم قام والأرض تئنُّ مِن خُطاه الثقيلة، وهو يقلِّب الرأي فيما يستقبل.
استشار أباه فيما يفعل، فاختار له أن يصير إلى رأي الشيخ.
حفظ غانم ثلاثة أسطر من المتن، ثم بادر حلقة الشيخ يعشو إلى منارها، ويلوذ بآثارها، أذِن له الشيخ بالاستفتاح، فتلعثم وطاشت حروف المتن بين لثَّتيه.
سأله الشيخ مستنكرًا: هل كرَّرت محفوظك؟
فقال: ماذا تقصد يا شيخ؟
فأجابه: ماذا تفعل إذا حفظت؟
قال: أقف عن القراءة!
فقال الشيخ: حفظٌ بلا تكرار ضعيفُ القرار، سريع الزوال.
ثم أمره بأن يكرر محفوظه مئة مرة.
انصرف غانم إلى بيت أهله وهو يتوكَّأ على عصا الحسرة، مشتملًا على ثياب الهوان.
ألفى أباه بوجهٍ ذابل، ولسانٍ معقود، لا يجيب على أسئلته إلا بإطراقةِ الكَسِيف.
أفرغ أبوه عليه صبرًا، وثبَّت أقدامه في رحلة العلم، وذكر له أن الشيخ يريد أن يبنيه بناء مَشِيدًا.
تجرَّع غانمٌ ذُلَّ الطلب، وشَدَّ حبال حفظه بتكراره حتى صار المتن يتصبَّب مِن فِيه.
عاد راشدًا إلى شيخه ومعه مِن العلم ثلاثة أسطر، هي غذاؤه ودواؤه.
قرأها على الشيخ، فانطلق الشيخ يشرح مبانيها، وينشر معانيها، وكأنما يتلو مِن كتاب، حتى إذا قال قولًا قليلًا، ختم كلامه.
استزداه غانم ليفيض، لكن الشيخ قال له موجِّهًا: إن ضبطتَ ما قررتُه لك فهذا كثير.
مرَّت أسابيع ختموا فيها أبوابًا معدودة، ومسائل محدودة.
ثم لقي غانم بعض أصحابه فسَبَحَت أحاديثهم في بحار العلم، وخاضوا في الكلام حول كتب كثيرة، ومسائل شهيرة، وغانم بينهم كأنه طفل بين شيوخ.
عاد إلى شيخه ناقمًا يرى أنه قد أضاع عليه الفُرص بانتقاء متن وجيز ليس فيه من العلم ما يُقوِّم القَدَّ، ويُورِّد الخَدَّ.
ولاذ بشيخه لينتقل إلى كتاب أوسع يحتوي على خلاف أهل العلم، والمناقشات والردود، وينطوي على فوائد وزوائد.
ألقى الشيخ على غانم باللائمة، وأوسعه عتابًا، كيف يرغب عن سبيل الراسخين، ووعده أنه فيما لو صبر سيكون ظافرًا لا خاسرًا.
أقام غانم على طريقته الرتيبة، بين حفظٍ مُرهِق، وتقريرٍ مقتصد، وهو يرى الناسَ يستطعمون أطايب المعرفة، فزيَّنت له نفسه الأمَّارة بالسوء أن ينتقل إلى شيخ آخر يوافقه على رأيه، لكنَّه وقع على شيخٍ زَجَرَه، وامتنع مِن التدخُّل في منهجية شيخه، وأوصاه بالـمُصابَرة عنده.
فلمَّا علِم شيخه جعله يستَرْوِح بالتطبيق، إعرابًا وتصريفًا وتقطيعًا وقسمةً للمواريث؛ ليَنْشَط للعلم، ويحذِق الفنَّ.
ولَمَّا حانت الإجازة الطويلة رأى غانم أنها جديرة بالظفر، وأحب أن يختار كتابًا واسعًا تهدأ به نفْسه، فعرَض على شيخه (الفتح لابن حجر)، فاستنكر الشيخ، بحجَّة أنَّ مَن لم يحفظ أصول السنة، ويتقن أصول العلم، فهو ليس ممن كَتَب لهم ابنُ حجرٍ شَرْحَه الكبير!
ثم كرَّ عليه يريد أن يقرأ (الطبري)، فقال: أيُّ بضاعة معك تؤهلِّك له؟
فقال: أسمع أنه كتاب عظيم، فقال: وهذا يجعل التأهل له أكبر؛ لتفهم ما يقول.
فقال غانم: وكيف أتأهَّل له؟
قال: تدرس المختصرات -كـ(الجلالين)- حتى تصل إليه راشدًا.
فالتمس من الشيخ أن ينتخب له كتابًا يناسبه، فكان (شرح الأربعين النووية).
ولم يزل غانم عاكفًا بين يدي شيخه يدبُّ في العلم دبيبًا حتى جاء اليوم الذي تلقَّى فيه أصول العلم كلَّها حفظًا وشرحًا، واشتدَّ عُودُه، فقُدِّر له أن يسافر معلِّمًا، وجَمَعَه القَدَرُ بثلَّةٍ مِن أقرانه في الطلب، وقرروا أن يشتغلوا بالعلم مباحثة ومدارسة، ما بين متون وشروح.
فكان كل واحد يَرُوم شرح نصيبه من المتن يَسْتَمْهِل للتحضير، وربما باغَتَه الوقت، فشرح شرحًا هزيلًا، إلا غانمًا كان هو الوحيد الذي يقرأ المتن حفظًا ثم يعطف عليه شارحًا دون استمهالٍ وتعلُّل.
وكلَّما قرؤوا في كتب العلماء ضاقوا ذرعًا بكثافة المسائل، وغزارة المعلومات، فكان غانم يمتلك لكلِّ إشكالٍ مفتاحَه، ولا يزال يُعالِجه حتى يفتحه.
ثم قد تَعْرض الحاجةُ إلى جوابٍ قد تقدَّم، فلا يتذكَّره إلا غانم؛ لأنَّه وقف عليه وهو أهلٌ لفَهْمه والانتفاع به.
فعرف غانم أنَّ أصحابه قد جلسوا على بساط رحيبٍ من العلم، لكنَّه لا يلمس العلم إلا لمسًا رقيقًا، وعرف أكثر أنَّ شيخه قد عَصَمَه مِن الشتات بالثبات، حتى أوفى على زمن النبات، فأكبَرَ له ذلك، وهيَّأ في نفسه أنَّه إذا رجع يَغْمُره بدعواته وامتنانه، فرجع وقد انصرف الناس مِن مَدْفَن الشيخ الكريم.
* جاءت هذه المقالة استجابة لنصيحة جمعٍ مِن الإخوة بذكر العلاج، بعدما ذَكرتُ المشكلة في المقالة الأولى، وهي على الرابط التالي
هذا هو الأصل، تعقيب يقول بعض العلماء أنه يجوز الابتداء بالمتون العليا إذا كانت علي يد متقن لها من أستاذ، أما المشائخ فغدو فلة يستأثر بها الرجال أما توجد أمثلة للنسوة، ولاختيار مايليق حتي لايتخبط الإنسان بين علوم الآلة والعلوم الشرعية.