- توماس كافايي-فول & كيريل نيكيتين
- ترجمة: زيد أولادزيان
- مراجعة: فريد أكوزال
بعد خمسة عشر قرنا من الأبحاث التي يجريها أكابر المفكرين، الرياضيات والمعلوميات تقولُ كلِمتَها: حسب قواعد المنطق، وجود الإله ضروري!
يتحدّث عنه المؤمنون بحماسٍ، والملاحدة بقناعةٍ، واللاأدريون بحذرٍ. منذ فجر التاريخ، وكيفما كان الاسم الذي أُعطي له، واكان تانكا بالنسبة لشعب سو (Sioux)، مولونكو بالنسبة للبانتو (Bantous)، السماء الزرقاء الخالدة بالنسبة للمغول، يهوه، الله، أودين، براهما… سمِّهِ كما شئت! كريستوف بنزموللر (Christoph Benzmüller) هو أوّل من استطاع تأكيدها بثقة: «الإله، في تعريفه الأكثر شُهرةً في الميتافيزيقا، موجودٌ ضرورةً. لا يمكن أن نتخيّل عالَمًا لا يوجد فيه إله». هذا اليقين، يستخرجه هذا الباحث في جامعة برلين من الرياضيات، بل ومن قَلْبِها أيضا: المنطق. بل أفضل: إنّه يُؤسّسُه على مقدرة الإعلاميات على التثبُّت من صحّة الإثباتات بدون خطأٍ ممكنٍ. إنهاءً لقُرونٍ من النقاشات الميتافيزيقية، تحقّق برنامجه (logiciel) من صحّة الحُجّة الأنطولوجية التي يُعتبَر حسَبَها وجودُ الله ضروريًّا لكُلِّ نظامِ تفكيرٍ منطقيٍّ. فكان جوابُ الحاسوب: «العبارة ‘الإله موجود’ قضيّةٌ صحيحة بالمعنى الرياضي والمنطقي»، كما يعبّر بقوّة كريستوف بنزموللر.
نوضّح بأنّ منهجيّته ليست قائمة على الإيمان، «هذا العمل ليس من هدفه خدمة أغراض دينٍ معيّنٍ – ليس هناك شخص غيرُ مؤمنٍ سيسمح لنفسه بالمناسبة بالاقتناع بصيغةٍ رياضيّةٍ. لا، المهمّ هو البحث عن اتّساق مفهومٍ (la Cohérence d’un Concept)، سواءً سمّيناه الإله أو لا، هذا يُمَكِّن من معرفةٍ أكبر عن المعتقدات المرتبطة به». نُضيف بأنّ هذا لا يتعلّقُ بإلهٍ ذي شكلٍ مُحدَّد –شيخ، ملتحي، وحكيم [كما يُصَوَّر] في كثيرٍ من الأحيان– ولا بكائنٍ تُفضي طبيعتُه بالضّرورة إلى فِعلٍ (Action)، خلّاقٍ أحيانًا، ومُدَمِّرٍ أُخرى. «هذا الاستدلال يُثبِت الوُجودَ المنطقي-الرياضيّ (logico-mathématique) لـكيانٍ مُجرّدٍ يُمثِّل بعض الخصائص، لكنها ليست تلك التي توقِد الحُبّ، ولا بدرجةٍ أقلّ التعصُّب»، هكذا يُعلّق شهيد رحمان، الرياضي والفيلسوف في جامعة ليل (Lille).
المنهجيّة ليست قائمة على الإيمان، المُبَرهَنةُ لا تدّعي أنّ الإله موجود واقعيّا، فقط بأنّه من اللاعقلانيّ القولُ بأنّه غيرُ موجودٍ
نؤكّد خاصّةً أنّ هذا العمل لا يُقرُّ بأهميّة الإيمان، بل اتّساقَه. المُبرهَنَةُ لا تدّعي أنّ الإله موجود واقعيّا، فقط بأنّه من اللاعقلانيّ القولُ بأنّه غيرُ موجودٍ. وهذا في حدّ ذاتِه مُذهلٌ بالفعل… هذا التّحليل للبنيات المنطقيّة لمعتقداتنا يمكِّن من رؤية هذه الصّورة التي لطالما هدّأت وطمأنت البشريّة –التي تُطاردها، كما يقول آخرون– بكُلّ فرادَتِها. إنها حقيقة: سواء كنّا نؤمن به أم لا، فالإله له صفة أعلى بكثيرٍ من الكيانات الأخرى التي تملأ عقلنا.
لنأخُذ [كمثالٍ] الحصان أُحاديّ القرن (licorne). هذا النوع من الأحصنةِ بقَرنٍ، الذي ظهر في العالم القديم، ويستمرُّ في الحضورِ من خلال الأدب والخيال الطُّفوليّ. بالطّبع، وُجودُه ليس مستحيلًا – لا مبدأَ تطوُّريَّ يمنع الانتقاء الطبيعيَّ لحيوانٍ ما. لكنّ كُلّ عقلٍ راشدٍ ومنطقيّ مدفوعٌ إلى الاعتقاد بأنّه كائنٌ خيالي بالكامل. الأمر ليس كذلك بالنسبة للإله. الدليل الأنطولوجي يثبت ذلك: وجودُه في عقولنا ليس فقط مُمكِنًا، بل ضروريّا. الإيمان بالإله إذن ليس مثل الإيمان بالأحصنة أُحاديّةِ القرن. المبدأ كان دائما هنا، حاضرًا في الطبيعة حتى قبل أن نُضفيَ عليه الطّابعَ الرّسميّ، على نحوِ مُبَرهَنَةِ فيثاغورس. على عكس حصاننا ذي القرن، والعفاريت (lutins) و[المخلوقات الغريبة] الأخرى (trolls)، الإله لم يأتِ من الخيال، بل من المنطق. يؤكّد باتيست مِلِس (Baptiste Mélès) الباحث في المنطق وفلسفة المعلوميات بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) قائلا: «هناك اختلاف أساسيّ بين شيءٍ خياليٍّ كالحصان أُحاديّ القرن وبين الإله: الكائن من الأحصنة أُحاديّة القرن يشتمل على تناقُضاتٍ، في حين أنّ خصائصَ الكائن الإلهيّ الذي نُبرهِنُ على وُجودِه هُنا تخلو، ضمن شروط المنطق، من أيّ تناقُضٍ».
بحث فلسفي
يعود هذا إلى أزيد من ألف سنةٍ حيثُ تمّ استشعار هذه الضّرورةِ للوُجود الإلهيّ. إذا كانت الفرضيّات الأولى تُعزى إلى الفيلسوف الروماني بوثيوس (Boèce)، فإنّ صياغةَ الرّاهب البنديكتيّ الذي عاش خلال القرن السادس الميلاديّ أنسلم من كانتربري هي التي جعلت المشروعَ مشهورًا (انظر ص. 72-73). وكم من الحِبر انسَكبَ من وراءِ هذا المسعى! ولقد أُجريَت تعديلاتٌ عليه من طرف ديكارت، وهيجل، ولايبنتز، وقد ناقَشَه باسكال، وكانط، وسبينوزا، ولكنّه كان يدور دائمًا حول حُجَّةٍ ذات بساطةٍ مُحيِّرةٍ: «الإله يمتلك كلّ الكمالات، في حين أنّ الوجودَ كمالٌ، إذن فالإله موجودٌ».
أدبيّةٌ أكثر منها منطقيّة، قد تبدو حُجَجٌ كهذه أنّها من مجالِ النّقاش الفلسفيّ، بعيدًا كلّ البُعد عن مقاربةٍ منطقيّةٍ-رياضيّةٍ. هذا بدون احتسابِ كورت غودل (Kurt Gödel). هذا المنطقيّ الخالص مشهورٌ بِبرهنتِه في بداية سنوات 1930 على وجودِ حقائقَ رياضيّةٍ غير قابلة للإثبات. حتى ذلك الحين، كان يُمكن الاعتقاد بأنّ كلَّ صُعوبةٍ يُمكن تخطّيها. ولكن لا! بالاعتماد على اللُّغة الرسميّة للمنطق المعاصر، برهنَ الرياضيّ النّمساويُّ على أنّ بعضَ الحقائقِ لا يمكن التحقُّق منها. مُكَلَّلًا بهالةٍ من الهيبة والمكانةِ، يبدأُ كورت غودل العملَ على الدّليل الأنطولوجيّ الشّهيرِ منذ سنوات 1940، بدايةً في فيينا، ثمّ في برينستون، في الولايات المتحدة.
لأنّه وخِلافًا لما توقَّعَهُ كانط، الذي قال بأن المنطق الفلسفي القديمَ «قد أُغلِق وبلغَ نهايتَه» (close et achevée)، لم يتوقّف هذا المنطقُ في الواقع عن التطوُّر بل حتى أنّه قد تحوّل بشكلٍ جذريّ في نهاية القرن التاسع عشر، بعد اتّحاده مع الرياضيات الرسميّة. الرياضي الألماني جوتلوب فريجه (Gottlob Frege) قد وضع على وجه الخُصوص، سنة 1879، واحدةً من اللُّغات الرسميّة التي تمكِّن من التحقُّق من استدلالٍ فلسفيّ بنفس طريقةِ عمليّةٍ حسابيّةٍ. تبِعَهُ، سنة 1910، المنطقيّ الأمريكيّ كليرنس لويس (Clarence Lewis)، والذي تفجَّر منه المنطق الطَّوريّ (أو: منطق المُوجِّهات) (la logique modale) خلال العُقود التالية. يعلّق الفيلسوف فريديريك نيف (Frédéric Nef): «مفاهيمُ من قبيل ‘الضرورة’ أو ‘الإمكان’، المستعمَلة في الثيولوجيا والمنطق، اكتسبت بالتالي الاحترامَ المرتبطَ بقابليّتها للحسابِ أو بكُلِّ الموضوعات القابلة للحساب، التي لها حُجيّة في الوسط العلميّ». كورت غودل ركّز إذن على ترجمة الإله في لغة المنطق الطَّوريَ هذه، باتّباع قواعِد النّظام المنطقي K.
يؤكّد باتيست مِلِس: «من ناحية الدّقّة، فإنّها الأقلُّ اشتباهًا بها، لأنّها تستجيب لأكبر عددٍ من القُيود المنطقيّة». استلهم غودل من الاستدلالات الثيولوجيّة للايبنتز، السابقة لهذه اللغات الحديثة، وبالخصوص مفهومه عن «الكمالات»، والذي حوّله إلى «خصائص إيجابيّة» – الإله مُعَرَّف بكونِه الذي يمتلِكُها جميعًا. يبحث عن أفضل المُسَلَّمات (axiomes)، الافتراضات الأكثر أساسيّةً وإثمارًا. وبعد عُقودٍ من العمل المُنفرد، ينتهي بكونه راضيًا عن نتيجته.
عبارة ‘الإله موجود’ هي قضيّةٌ صحيحة بالمعنى المنطقي والرياضي كريستوف بنزموللر، باحث في الفلسفة والرياضيات بجامعة برلين
وقد تُدُوِل إثباتُه الأنطولوجي لأوّلِ مرّةٍ سنة 1970 في أروِقَة جامعته، وهو مكوَّنٌ من 12 سطرًا غامضًا تتضمّن 5 مُسَلّمات، و3 تعاريف، و3 مُبَرهَناتٍ، ونتيجةً منطقيّةً (انظر ص. 71). مُفضيًا إلى الاستنتاج، قام الرياضيّ، حسب الأسطورة، بتلخيصِها لأمّه بهذه الكلمات القليلة الرقيقة على بطاقةٍ بريديّةٍ: «أمّي، ستكونين سعيدةً، الإله موجود!» هذا الإثبات تمّ نشرُه بشكلٍ رسميٍّ سنة 1987، بعد تسعِ سنواتٍ من وفاته.
برنامج معصوم من الخطأ
غير أنّ هذا الإثبات لم يُنهِ النقاش الذي طال أمَدُه والذي بدأ في وقتٍ مبكِّرٍ مُنذُ خمسة عشر قرنًا… على الرغم من أنّه بسيطٌ وموجَز وأنيق للغايةِ، فقد تمّت مُساءلتُه بشدّةٍ، كما تمّ تعديلُه من قِبَل مُختلَف المناطقة، وبالخُصوص في اختيار المسلّمات (axiomes)، ولكن أيضًا دقّة الإثبات. في المنطق، كلُّ خُطوةٍ تُقدِّم كميّةً من المشكلات الفرعيّة (sous-problèmes) أكثر تعقيدا بعضها مثل بعضٍ. يسجّل كريستوف بنزموللر: «العديد من النظريات تفتقد للدّقة، لأنّ أيّ فرضيّة تعتمدُ بنسبةٍ كبيرة على حدس الباحث. وفي عهد غودل، بعض عمليّات التحقُّق كانت تتطلّب وقتًا ومنهجًا كانا بعيدَيْن عن المُتناوَل». وكأنّه تهكُّم جديدٌ من طرف كيانٍ يبدو أنّ عليه أن يبقى بعيدَ المنال، بدا النقاشُ محكومًا عليه بالخُلود.
هنا تتدخّل أعمال كريستوف بنزموللر، المتخصص في أدوات التحقُّق الأوتوماتيكي من الإثباتات الرياضيّة. هذه البرامج (logiciels) التي تمكِّن من التثبُّت من صحّة كلّ خطوةٍ من خطوات الاستدلال قد أصبحت فائقةَ القوى. يقرِّرُ الباحث: «بفضل الأدوات المعلوماتيّة، نستطيع التحقُّق من اتّساق قضيّةٍ منطقيّة في وقتٍ قصيرٍ جدّا». بالمُقابَلَة بين المنطق القديم والرياضيات والمعلوميات، يرسم الباحث مع إدوارد زالتا (Edward Zalta) من جامعة ستانفورد ملامِحَ تخصُّصٍ جديدٍ: الميتافيزيقا المحوسَبَة، «خطوة أولى في بناء حلقة وصلٍ بين النُّظُم المعلوماتيّة والمفاهيم الميتافيزيقيّة». سنة 2013، أصبح برنامجُه ليو-II (Leo-II) جاهزًا تمامًا. وحُلم الفيلسوف الألماني غوتفريد فيلهيلم لايبنتز بجعْلِ المنطقِ حِسابًا خوارزميًّا مُقَرَّرًا ميكانيكيّا لم يعُد بعيدًا عن المُتَناوَل. وأيُّ افتِتاحٍ أفضل من مواجهةِ أكبر المفاهيم ميتافيزيقيّةً؟
موت الإرادة الحُرّة
يبدأ الباحث بترميز الدليل الأنطولوجي لغودل في برنامجه، في صيغته الرّمزيّة كما هي مُقدَّمَةٌ في المخطوط الأصليّ. يضغط على زرٍّ، وتظهر النتيجة في ثوانٍ معدودةٍ: غودل كان مخطئا! المُبرهَنَة غيرُ مُتَّسِقةٍ، الأكسيومات لا تصمُد، الاستنتاج «الإله موجود» غير صالح… يا للعجب! لم يكشِف واحدٌ عن هذه الثغرة رغم العديد من الفلاسفة والمناطقة والرياضيين الذين قاموا بفحص العمل الأصليّ لغودل. يعترف يان شميت (Yann Schmitt)، الفيلسوف في جامعة باريس-I-بونثيون-سوربون: «الآلةُ تأتي لتدارُك حدود الإنسان الذي لا يستطيع القيامَ بعددٍ كبير من الحسابات». ولكن لا خوف: على مرّ التاريخ، أعاد العديدُ من الباحثين صياغةَ مبرهنة غودل بشكل طفيف. وبشكلٍ خاصٍّ دانا سكوت (Dana Scott)، الذي سمح له المنطقيُّ بنسخِ إثباتِه عندما كان على قيدِ الحياة، والذي قام بتغييرٍ ضئيلٍ في السّطر الثامن. يُدرِج كريستوف بنزموللر مع زميلِه برونو ولتزنلوجل-باليو (Bruno Woltzenlogel-Paleo) بعضَ هذه الرموز في ليو-II… والذي يتحقّقُ من صحّة إثبات الوُجود الضروريّ للإله. غودل بالكاد أخطأ!
في أعقاب ذلك، البرنامج يكشِف عن مشكلة، سجّلها قبل ذلك بعضُ المناطقة: نُسخة دانا سكوت صحيحة، ولكنّها تنطوي على انهيارٍ طوريّ (في منطق الموجهات)، أي أنّه يتطلّبُ قَبول أنّ كلَّ ما هو موجودٌ، فهو موجودٌ ضرورةً، أنّ كلّ شيءٍ حتميّ. إذا كُنتَ تمتلِكُ درّاجةً حمراء، فإنّه ما كانت لتكون غيرَ ذلك، لم يكُن بإمكانكَ البتّة امتلاكُ درّاجةٍ زرقاءَ مكانَها. إنّ كُلَّ دقّة المنطق الطَّوريَ الذي يُميِّز بين الممكن والضّروريّ تنهار. باختصار، الإله موجود، نعم، ولكن ليس الإرادةَ الحُرّة. استنتاجٌ ما لا يروق لكريستوف بنزموللر: «بعضُ الباحثين يظنّون بأنّ غودل كان راضيًا بهذا الانهيار الطَّوريّ، ولكن يبدو لي غير مُتَّسِقٍ استعمالُ نوعٍ من المنطقِ لإثبات استدلالٍ، وإيجادُ أنّ نفسَ هذا المنطِقِ يتهاوى مع استنتاجه».
في النهاية، الإنسان وحدَه من يقرِّر
المنطقيّ يفكّر بالتالي في خيارَين بديلَين اثنَين لنظريّة غودل. تلك التي طُوِّرَت في سنوات 1990 من طرف الفيلسوف كورتيس أندرسون (Curtis Anderson)، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، الذي عدّل الأكسيوم الأوّل لكَيْ يكون نفيُ خاصيّةٍ سالبةٍ، مثل الكَسَل، لا يُعطي بالضرورة خاصيَّةً موجبةً، واضِعًا [بذلك] مفهوم الخاصيّات “المُحايِدة”. ونظريّةُ ملفين فتينغ (Melvin Fitting)، الفيلسوف الأمريكي الذي يُعيد سنة 2002 صياغة عمل غودل في ترتيبٍ أعلى للمنطق يمكِّن من التمييز، مثلا بالنسبة لكلمة “قِطّ” تسمية ذلك الذي بالجوار، والتسمية التي تخُصُّ النّوع بشكل عامّ. يُدخِل كريستوف بنزموللر في برنامجه للميتافيزيقيا المُحوسَبة هتَين المُبرهَنَتَيْن اللَتين أُعيدت صياغتُهما. والنتيجة، المنشورةُ منذ سنتَين، بدون التباسٍ: إنّهُما صالحتان، بدون انهيارٍ طَوريٍّ هذه المرّة. أوف! الإرادة الحُرّة تمّ الحفاظ عليها. المَسعى الأنطولوجي قد بلغ نهايتَه.
لكن أيضا، وبالحديث عن الإرادةِ الحُرّة: ماذا نفعلُ بحقيقةٍ ما؟ ألا تظلُّ سوى إدراكٍ لوُجود هذا الإله المنطقي-الحوسبيّ، لا عن طريق الإيمان، بل العقل؟ يُحذِّر جيرار هويت (Gérard Huet)، المنطقيّ في المعهد الوطني للبحث في العلوم والتكنولوجيات الرقميّة (Inria): «ينبغي أخذ هذا العمل خارج حدود الأعراف بقليلٍ من المسافة، ‘الإله موجود، لدينا برهان على ذلك’: إنّه بالفعل استنتاج غودل، ولكن إذا أردنا أن نكون أكثر دقّةً، فعلينا القول بأنّ ‘اتّحاد كلّ الجواهرِ الإيجابيّة هو تصوُّر مُتّسِق‘.»
وفي هذا السّياق، الإله لديه صِفة قريبة جدّا من المفاهيمِ الرياضيّة المُثبَتِ اتّساقُها. يُقارِن أوليفير جاسكيه (Olivier Gasquet)، الباحث بمعهد البحث في المعلوميات لتولوز: «تلك الخاصّة [المبادئ] بالعدد الحقيقيّ مُثمرة للغاية، ولكن مع ذلك، يبدو من الوهميِّ البحث لمعرفةِ هل هي موجودة واقعيًّا». بعبارةٍ أُخرى، هذا العمل لا يوضّح الإله بقدرِ ما يوضّح الفكرةَ التي نُكَوِّنُها عنه. يُشير شهيد رحمان: «يجب الاتّفاقُ بشأنِ التعريف البدئيّ، أي بشأن الأكسيومات المنطقيّة. وهذا يمكن للإنسان فقط تقريرُه. الحاسوب لا يُمكنه، بمُفرَدِهِ، التّوصُّل إلى وُجود الإله».
هناك ثغرات للهُروب، مثل رفضِ التعريف البدئيّ لغودل. يُمكن ألّا نكون موافقِين على عبارة “الوُجود الضروريّ هو خاصيّة إيجابيّة”. بدونها يتلاشى الإله! يبتسم كريستوف بنزموللر: «ولكنّ النّقيضَ أيضًا ممكن، إذا كان من أحدٍ مُلحِدٍ بعُمقٍ وافق على الأكسيومات والمنطق، سيكون من اللاعقلانيّ من جهتِه أن لا يعترفَ باستنتاجها».
سبق أن عرض الأنثروبولوجيون وعلماء الأعصاب وعلماء النّفسِ حُجَجَهُم المفسِّرَةَ لماذا الإنسان حيوانٌ مؤمن – بل هو بالمناسبة الحيوانُ الوحيد المؤمن (انظر ص. 74). عملُ الميتافيزيقا المُحوسَبَة هذا يُكمِل الصّورة. ليس اتّباع التفكير الواعي هو ما أوصَل الناس إلى هذا الكيان الذي يُشرِف على العالم بكماله. ولكنّه الإيمان، وكونيّتُه المُذهلة، قد استطاع التأثيرَ بواسطة هذه الضّرورة للوُجود الإلهيّ، التي تشكّل جزءًا من منطق التفكير. يوافق كريستوف بنزموللر: «أرى في الواقِع أنّ هذا قد استطاع أن يلعبَ دورًا كبيرًا، الاتّساقُ في مبدأٍ ما من شأنِه تيسير الاستمساك به، ولو بشكلٍ لاواعٍ». بما أننا نتكلّم ونُفكّر، فهذا يجعل من الإله موجودًا بالفعل. إنّنا نؤمن بهذا قليلا مُسبقًا.
أكثر من 6 أُناسٍ من 7 هم مؤمنون
- اليهوديّة
تقوم على إله واحدٍ، بعِلمٍ لا نهائيّ، وبقدرةٍ كُليّة، وبحُضور شاملٍ: يهوه.
- المسيحيّة
حوّلت إله اليهود إلى ثالوثٍ: الأب، والإبن، والروح القدس.
- الإسلام
يرجع إلى إلهٍ لا يتجزّأ، الله، الذي يكتملُ وحيُه في القرآن.
- الديانات الهندية (الدارمية)
براهمان ودارما هي المبادئ التي يمكن أن تتجسّد في الآلهة.
- أديان أخرى
الإحيائيّة (L’animisme) وعبادةُ الأسلافِ تبقى حاضرةً بكثرةٍ في العديدِ من المجتمعات.
- بدون دين
الملاحدةُ يرفضون الإيمانَ بإلهٍ، واللاأدريّون لا يتّخذون قرارًا بهذا الشأن.
الأديان تسير بشكل جيّد…
كلّ العباداتِ مُجتمِعةً، عدد المُخلصين في العالم في تزايُدٍ ثابتٍ ومن المفروض أن يستمرّ على هذه الانطلاقة. تطوُّر تحمِلُه ديمغرافيّة ديناميّة.
والإلحاد يتقدّم…
بالرّغم من كونهم أقليات، الأشخاص غير المؤمنين يرَوْن نسبتهُم من عدد السكان تزدادُ، خاصّةً في أوربا وآسيا. فرنسا هي واحدةٌ من البلدان الأكثر إلحادًا في العالم.
الميتافيزيقيا الحوسبيّة تُدمج ثلاث تخصُّصاتٍ
تهتمُّ بالمفاهيم الميتافيزيقيّة…
وبخاصّةٍ مفاهيم الثيولوجيا، حيث الإلهيّات تُدرَس باتّباع استدلالٍ منطقيٍّ، وليس عن طريق تجربةٍ روحانيّةٍ.
في اللغةِ الرياضيّة…
وبخاصّةٍ لغة المنطق الرسميّ، حيثُ الاستدلال وتفسيرُه مُصاغانِ عبر حسابٍ رمزيٍّ.
باستعمال قوّةِ المعلوميات…
وبخاصّةٍ طرق التحقُّق بواسطة الحاسوب، التي تُمكِّن من التثبُّت من أنّ كلَّ خطوةٍ من الاستدلالِ صحيحةٌ، بدون خطأٍ مُمكنٍ.
والشيطان، في هذا كلّه؟
إذا كان الإله قد اجتاز بتفوُّقٍ اختبار الوُجود، ماذا عن ملعونِه المُعادي؟ طرحنا السؤال على كريستوف بنزموللر، الذي استمتع بتمريره في غربال الميتافيزيقا الحوسبيّة: «نُضيف إلى الإثبات أنّ خاصيّةً تكون سلبيّةً إذا وفقط إذا لم تكُن إيجابيّة، ونُعرِّف كيانًا باعتباره الشيطانَ إذا وفقط إذا كان يمتلِك كلّ الخصائص السلبيّة».
في أجزاءٍ من الثانية، يرُدُّ البرنامج ليو-II استنتاجَه: وجودُ الشيطانِ غيرُ ممكنٍ! يعلّق الباحث: «‘أن نكون مثلما نحن’ هي خاصيّة إيجابيّة، إذن ‘أن لا نكون مثلما نحن’ هي خاصيّة سلبية منطقيّا يمتلكها الشيطان. إلّا أنّه لا يوجد كيان لا يتطابق مع نفسِه».
وجود الإله مُثبَتًا في 12 خُطوة
1- تعريف الإله
الاستدلال يبدأ بوضع تعريف الإله: أن تكون كإله يعني امتلاكَ كل “الخصائص الإيجابية”.
2- “خصائص إيجابية”
هذه المُسلَّمة الأولى تحدّد مصطلح “خاصيات إيجابية”، المُستلهَم من مصطلح “الكمال” للايبنتز: تضعُ أنّ خاصيّةً مُعطاةً، أو نفيَها، إيجابيّ.
3- الإيجابيّة تنتقل
هذه المسلَّمة الثانية تضع بأن كلَّ خاصيّةٍ ناجمةٍ عن خاصيّةٍ إيجابية، فهي أيضا إيجابيّة.
4- الإيجابيّة تعبّر عن نفسها
هذه المبرهنة الأولى تثبت بأنّ كلّ خاصيّة إيجابيّةٍ فإنّه من الممكن تمثيلُها، أي مُعَبَّرٌ عنها من طرف كائنٍ.
5- أن تكون إلهًا أمرٌ إيجابي
هذه المُسلَّمة الثالثة تضع بأنّه أن تكون كإلهٍ هي خاصيّة إيجابيّة.
6- الإله ممكن
هذه النتيجة المنطقيّة تضع بأنّه أن تكون كإلهٍ من الممكن تمثيلُه. بعبارةٍ أخرى، الإله ممكن.
7- ضرورة الخصائص الإيجابية
هذه المسلَّمة الرابعة تضع بأنّ الخصائصَ الإيجابيّة موجودةٌ بشكلٍ ضروريٍّ.
8- تعريف الجوهر
هُنا، يُعَرَّف ما هو “الجوهَر”: خاصيّةٌ “E” هي جوهرُ كائنٍ إذا كانت كلُّ خصائصِ هذا الكائن تنطوي على “E”. أضاف دونا سكوت: وإذا كان هذا الكائن يمتلِك “E”.
9- جوهر الإله
هذه المبرهَنة الثانية تعُدُّ بأنّه أن تكون كإله هي جوهرُ الإله.
10- ضرورة الوجود
هُنا يُعرَّف الوُجود الضّروريّ لكائنٍ: هو التّمثيل الضَّروري لماهيّتِه.
11- أن توجد هو بالضرورة إيجابي
هذه المُسَلَّمة الخامسةُ والأخيرة تضعُ بأنّ الوُجودَ الضروريَّ هو خاصيَّة إيجابيّة.
12- الإله موجود
الاستنتاجُ يفرِضُ نفسَه: ماهيّةُ الإله هي بالضّرورة مُمَثَّلَة. بعبارةٍ أُخرى: الإله موجود.
خمسة عشر قرنًا من السّعي نحو إثبات وجود الإله
القرن السادس
بوثيوس
فيلسوف ورجل سياسة روماني، بوثيوس (480-524) هو الأول الذي اقترح حجّةً أنطولوجيّة. باستخدام المنطق الأرسطيّ كتب بأنّ: «لا شيء أكبر من الإله يمكن التفكير فيه» واستنتج بأنّ الرؤيةَ المسيحيّةَ للطّبيعةِ الإلهيّة صحيحة.
القرن الحادي عشر
أنسلم من كانتربري
إنّ إضفاء الطابع الرّسميّ من القدّيس أنسلم من كانتربري (1033-1109) هو الذي جعل الدليل الأنطولوجيّ مشهورًا. مستلهِمًا من كتابات بوثيوس، استنتج هذا الراهب البنديكتيّ في خمس قضايا منطقيّةٍ بأنّ وُجودَ الإله لا يُمكن أن ينحصر في الوجود الفكريّ [الذهنيّ] فقط، ولكنّه يوجد في الواقع [الخارجيّ].
القرن السابع عشر
ديكارت
يُقَلِّص الفيلسوف والرياضي الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الحُجّةَ إلى ثلاثِ قضايا. وبشكلٍ خاصّ، يعرّف الإله بوصفِ “كامل”، والوجودَ باعتباره خاصيّةً مُلازمةً للكمال، ممهِّدًا بذلك لأعمال لايبنتز وغودل.
القرن الثامن عشر
لايبنتز
الكمال كما وصفه ديكارت لا يُرضي الفيلسوفَ الألمانيّ غوتفريد فيلهيلم لايبنتز (1646-1716). فيحوّله إلى كمالاتٍ، بحيث يمتلِكُها الإله جميعًا. الإله بدأ يُنظَر إليه كموضوعٍ رياضيَ مزوَّدٍ بخصائصَ.
1970
غودل
المنطقيّ النمساوي كورت غودل (1906-1978) يحوّل مفهوم الكمالات إلى خصائصَ إيجابيّةٍ. ويكتُب إثباتًا لوُجود الإله باللغة الرياضيّة، بلُغةِ المنطق الطَّوري.
2018
بمُساعدة برنامجِه للتحقُّق من الإثباتات الرياضيّة، أثبت المعلوماتيّ كريستوف بنزموللر من صحّة الصِّيَغ المُعدَّلة بشكلٍ طفيفٍ من الحجّة الأنطولوجيّة لغودل.
اقرأ ايضاً: ما الذي يخيفُ الملحدين الجدد؟
أفي الله شك؟!!