- فاطمة بنت محمد الشاشي
خطبة الكتاب لدى المتقدمين من علمائنا هي بمثابة خطة البحث اليوم بأركانها من إجراءات بحثية وبيان منهج وخطة لعنوان الكتاب، ولهذا تعد خطبة الكتاب مفتاح منهج المؤلف مع ملاحظة أنهم رحمهم الله لم يكونوا يذكرون تفاصيل المنهج بل يتركون بعضها لاستقراء الباحثين.
والطبري رحمه الله كان ممن يلتزم بما خطه في خطبته في سفره العظيم -التفسير- وفي سائر كتبه، ولهذا قالوا في ترجمته رحمه الله: “كان يعمل في كتبه: أن يأتي بخطبته على معنى كتابه، فيأتي الكتاب منظومًا على ما تقتضيه الخطبة”[1].
وخطبة الطبري في التفسير من عيون الخطب فقد ذكر فيه الإمام رحمه الله حظًا وافرًا من منهجه في الكتاب، ولئن غدا تفسير الطبري لدى المتخصصين في الدراسات القرآنية كصحيح البخاري في الحديث فإنه لا غرو أن يبحث الباحث في تفاصيل منهج الطبري ويوغل في كشف دقائقه، ذلك أن للعقول المؤسسة فضلًا لا ينكر ودينًا لا يقضى فرحم الله إمام المفسرين ابن جرير الطبري.
والبحث في دقائق منهج الطبري رحمه الله تنقيب لشيء من أسرار حفاوة الأوائل بهذا التفسير العظيم كقول الخطيب البغدادي [ت: 463] عن هذا التفسير أنه “لم يصنف أحد مثله” [2]، وقول الإسفرائيني [ت: 406]: “لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا” [3]، وقد ذكر تلميذه ابن كامل أن هذا التفسير حمل في حياة مؤلفه شرقًا وغربًا “وقرأه كل من كان في وقته من العلماء وكلٌ فضّله وقدمه”[4]، وقال ابن تيمية [ت: 728] في الثناء على هذا الكتاب: “وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا”[5] ، فمهما استغرق المرء في قراءة هذا السفر فقليل في حقه.
ومما يلفت نظر المتأمل في هذا السفر أنه بالرجوع إلى خطبة هذا الكتاب نص مؤلفه على الإيجاز والاختصار فقال رحمه الله:” بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه”[6] فكرر رحمه الله إرادة الاختصار مما يدل على شدة عنايته به.
والاختصار الذي عناه الطبري لا يراد به بحال مفهوم الاختصار الذي شاع بأنه الكتاب الذي استل من آخر مطول، فلم يعرف ولم يكن هناك قبل الطبري كتاب تفسيري بنحو منهجه في التأليف؛ فلذا مفهوم الاختصار في كتابه هو اشتماله على أهم المعلومات في مادة الكتاب بأخصر عبارة وأوجزها[7]، وهذا المفهوم هو أقرب شيء إلى منهج المؤلف عند استقراء الكتاب، واستعراض ملامحه.
وأما مقدار هذا الاختصار والإيجاز فلم يبينه الطبري في خطبته، ويستفاد في معرفته من خلال قصة تأليف الكتاب حيث أراد رحمه الله إملاء التفسير بنحو ثلاثين ألف ورقة إلا أن همة تلامذته رحمهم الله ألجأته إلى اختصار الكتاب في نحو ثلاثة آلاف ورقة كما هو مشهور لدى أهل التخصص[8]، فالاختصار الواقع في الكتاب كبير فما كتبه المؤلف هو عشر ما أراده، وهنا يلح السؤال في معرفة منهجية الاختصار التي سلكها الطبري.
وكثيرًا ما تشتد الحاجة إلى هذا السؤال ونحن نقرأ مثلًا نقد الثعلبي [ت: 427] له بكثرة الطرق والروايات والمعادات، يقول الثعلبي رحمه الله: “وفرقة حازوا قصب السبق، في جودة التصنيف والحذق، غير أنهم طولوا كتبهم بالمعادات، وكثرة الطرق والروايات، وحشوها بما منه بُدٌّ، فقطعوا عنها طمع المسترشد مثل الإِمام أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري، وشيخنا أبي محمَّد عبد الله بن حامد الأصبهاني، وازدحام العلوم مضلّةٌ للفُهوم”[9]، وإنما أوردته مقالة الثعلبي كاملة لأبين أن عد هذا الكتاب من المطولات كان عند الثعلبي المتوفى في القرن الخامس ولم يكن بينه والطبري سوى قرابة قرن واحد، فليس أهل الزمان اليوم وهم يعدون الطبري من المطولات ببدع، وأمر آخر أهم في نظري وهو أهمية معرفة ما وقع فيه الاختصار عند الطبري مما لم يقع فيه الاختصار، وهذا الأمر يشكل محل تساؤل لدى معظم المتخصصين.
غير أن الثعلبي مع جلالته في العلم يحتمل ألا يكون اطلع على قصة تأليف الطبري لكتابه أو نسي إرادة الطبري للاختصار التي ذكرها في خطبة الكتاب، ولكنه أفادنا فائدة كبرى حين ذكر أن الطبري لم يختصر الطرق والروايات، وهذا يصدقه واقع الكتاب فلم تكن الطرق والروايات محل اختصار من الطبري، وهي عند النظر والتحقيق من محاسن كتاب الطبري؛ لما يعرف عند أهل العلم من قيمة الأقوال المسندة في التفسير؛ ذلك أنها هي العماد والركن ويظهر هذا في تزكية ابن تيمية لهذا الكتاب بالتزامه بالأسانيد فقال: ” يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة”[10]، وإن وجدت معلقات في الكتاب فهي يسيرة وليست الغالب على الكتاب.
وكل هذه الحيثيات تعود بالسؤال إلى معرفة مواطن الاختصار في تفسير الطبري، واستشكاف شيء من هذه المنهجية الفريدة، وهو لب القصيد من هذه السطور.
وهذه المنهجية تبرز في ملامح وتتجلى في مظاهر استقرأناها ولا نزعم أننا أحصيناها وهي:
- عدم الاستطراد في غير مقصود الكتاب (وهو التفسير):
القارئ لتفسير الطبري يدرك حضور مقصد التفسير والبيان لدى ذهن الطبري وهو يملي التفسير، والاختصار يملي على المؤلف ويحثه على مراعاة المقاصد “فأبرز ما يقوم عليه الاختصار: حذف ما يرى أنه يمكن الاستغناء عنهن والإبقاء على المعلومات المهمة فقط، ولا يخفى أن تحديد المعلومات المهمة من غيرها من الأمور الاجتهادية”[11]، ومن هذا المنطلق وضع الطبري ضابطًا فيما يدخل في تفسيره من اختلاف القراءات ووجوه الإعراب فقال: ” وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه، وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن، لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله، فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته”[12]، فنص رحمه الله أنه لا يورد من الخلاف الإعرابي والقرائي إلا ما له علاقة بالتفسير، وهو إمام لا يبارى في كل هذه العلوم، وهذه سمة في التفاسير المختصرة حيث يتوجه الاهتمام فيها إلى المعلومات التي لها أثر مباشر في بيان القرآن[13]، ولا يبعد أن يكون هذا الضابط هو ميزان الطبري فيما يدخله من سائر العلوم في التفسير.
ومن أجل ما يبين التزامه بهذا الضابط إحالته إلى كتاب القراءات في ذكر علل القراءات وأسماء الرواة فقال رحمه الله: ” وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في كتاب القراءات، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها”[14].
ونتيجة لهذا أعرض المؤلف عن الاستطراد في المسائل ويمكن أن نمثل على هذا بقوله في مسألة رؤية الباري: ” ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها، إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصد الكشف عن تمويهاتهم، بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان. ولكنا ذكرنا القدر الذي ذكرنا، ليعلم الناظر في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبس عليهم الشيطان مما يسهل على أهل الحق البيان عن فساده، وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة، فهم في الظلمات يخبطون، وفي العمياء يترددون”[15]، هذا مع ما علم من مكانته في علم الجدل يقول تلميذه عبدالعزيز الطبري: “وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به”[16].
2-ومن المظاهر التي يتجلى فيها نهج الاختصار الذي اختطه الطبري: حذف المسائل التي لا يراها من صلب التفسير، وهذا تبع للنقطة الأولى فاستحضاره لمقصود الكتاب كان قاضيًا عليه ترك هذه المسائل، فامتنع رحمه الله عن بحث مسائل ذكرها المفسرون بعده وامتنع عنها هو لأنه لا يراها من التفاسير ومن هذه المسائل: بحث الاسم هو المسمى فقال رحمه الله: “وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ، أَهُوَ الْمُسَمَّى أَمْ غَيْرُهُ أَمْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ؟”[17].
- ومن المظاهر التي يتجلى فيها نهج الاختصار الذي اختطه الطبري: الإحالات وهي على نوعين:
- إحالات في نفس التفسير: وهذا كثير جدًا، فينبغي على القارئ مراجعة نظائر الآيات التي يقرأ فيها لا سيما إن رأى نقصًا في المادة التفسيرية، ولا يتعجل بالاستدراك على الإمام.
- إحالات إلى الكتب الأخرى: وهذا قليل مقارنة بالنوع الأول، ولعله في هذا النوع يظهر شيء من مقاصد المؤلف كما في إحالته السابقة إلى كتابه في القراءات.
ومن الكتب التي أحال إليها المؤلف:
- البيان عن أصول الأحكام وقد أحال إليه المؤلف في قوله: ” وذلك أن خطاب الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي في أحكام الدين قضاء منه بذلك على جميع عباده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهي جميعهم، إلا فيما دل فيه على أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإذا كان ذلك كذلك بما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام”[18]، وقوله: ” وأمر الله فرض الانتهاء إليه، ما لم يكن دليل من كتاب أو سنة على أنه ندب، لما قد بينا من العلة في كتابنا المسمى: البيان عن أصول الأحكام”[19]، وقوله: ” وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم من قولهم: إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على العموم الظاهر دون الخصوص الباطن، إلا أن يخص بعض ما عمه ظاهر التنزيل كتاب من الله أو رسول الله، وأن التنزيل أو الرسول إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة، وسائر حكم الآية على العموم، على نحو ما قد بيناه في كتابنا: كتاب الرسالة من لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام، في قولنا في العموم والخصوص، وموافقة قولهم في ذلك قولنا، ومذهبهم مذهبنا، وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام، وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية، فإن خص منها بعض، فحكم الآية حينئذ على الخصوص فيما خص منها، وسائر ذلك على العموم”[20]، وقوله:” وقد دللنا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام» ، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكمًا ثابتًا، وألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع”[21]، وغيرها من المواضع، فيترجح أنه كتاب في أصول الفقه، وإحالته إلى هذا الكتاب تبين مدى تأثير علم الأصول على علم التفسير لدى الطبري حيث نجد يحيل على الكتاب في الاستدلالات والاصطلاحات، ولو وجد هذا الكتاب -والحمدلله على كل حال- لتبين تأثر وتأثير الشافعي عليه، وقد بلغت إحالته على هذا الكتاب أكثر من 10 مواضع[22].
- لطيف القول في شرائع الإسلام وقد أحال إليه عند قوله:” وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج الحد الذي وصفنا، قياسًا على إجماع الجميع على أن الحد إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به، أن الحد عليها واجب، فجعل الله أيمانه الأربع والتعانه في الخامسة مخرجًا له من الحد الذي يجب لها برمية… وقد استقصينا العلل في ذلك في باب اللعان من كتابنا المسمى (لطيف القول في شرائع الإسلام “، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع”[23]، وجاء وصف هذا الكتاب بأنه مجموع مذهبه الذي عول عليه أصحابه، وأنه من أفضل أمهات المذاهب وأسدها تصنيفًا، واللطف في عنوانه لا يراد به صغر الحجم، وإنما يراد به دقة معانيه وكثرة النظر والتعليلات فيه[24].
- كتاب الصلاة يقول رحمه الله: “وأما الشفق الذي تحل به صلاة العشاء، فإنه للحمرة عندنا، للعلة التي قد بيناها في كتابنا كتاب الصلاة”[25].
- كتاب الجراح، وأحال إليه عند قوله: “وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول ذلك: أن السلطان الذي ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما قاله ابن عباس، من أن لولي القتيل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: «ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية»[26] وقد بينت الحكم في ذلك في كتابنا: كتاب الجراح”[27].
- كتاب الأيمان: وأحال إليه عند قوله: ” وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك لما قد بينا من العلل في كتابنا «كتاب الأيمان» من أن الحنث موجب الكفارة في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف على معصية كانت اليمين أو على طاعة”[28].
- كتاب السرقة: وأحال إليه عند قوله:” وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم، والتلميح عن أولاها بالصواب بشواهده في كتابنا: كتاب السرقة، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع”[29].
- كتاب الأطعمة: وأحال إليه عند قوله: ” وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بينا في كتابنا كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك”[30].
ومن اللطائف هنا أنه رحمه الله قد يحيل إلى كتاب مستقبل كما في إحالته إلى كتابه الكبير في الأحكام عند بحث مسألة عد الآية السابعة في سورة الفاتحة فقال: ” وسنستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة، والتابعين، والمتقدمين، والمتأخرين في كتابنا الأكبر في أحكام شرائع الإسلام إن شاء الله ذلك”[31].
ويظهر أن هذه الكتب جزء من الكتاب الكبير في الأحكام الذي سماه بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، إذ جاء في ترجمته أنه أخرج من كتاب البسيط هذا كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكروا فيه أنه رحمه الله كان يخرج الكتب ككتاب الصلاة وآداب القضاء ولم يكن ينتظر اكتمال كل الكتاب[32].
وتكمن أهمية هذه الإحالات في معرفة تواريخ تأليف هذه الكتب وأنها سابقة لكتاب التفسير، وقد يبين رحمه الله ما سيؤلفه بعد التفسير، كما أنها تفيد في جمع ما تفرق منها في التفسير لكون معظمها مفقودة.
4-ومن المظاهر التي يتجلى فيها الاختصار: الاكتفاء بأمهات الأدلة والحجاج دون نظائرها:
ويمكن التمثيل له بمسألة الرد على منكر الميزان حيث يقول رحمه الله: ” ويسأل من أنكر ذلك، فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة ويخفف موازين آخرين، وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق ذلك، فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل؟ فقد يقال: وجه صحته من جهة العقل، وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقه وكتب أعمالهم، لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروج من حكمة، ولا دخول في جور في قضية، فما الذي أحال ذلك عندك من حجة أو عقل أو خبر؟ إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرت، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين وضوح فساد قوله وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك. وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته، إذ كان قصدنا في هذا الكتاب البيان عن تأويل القرآن دون غيره، ولولا ذلك لقرنا إلى ما ذكرنا نظائره، وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله”[33].
- في كيفات صفات صلاة الخوف اكتفى ببعض الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال:” وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه”[34].
- في الرد على منكر صفة الاستهزاء لله اكتفى رحمه الله بأهم الأدلة وقال: ” وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه”[35].
والأمر كذلك في الشواهد العربية إذ لم يكن يروم حصرها جميعًا فقال رحمه الله عند بحثه لأصل العبودية: “والشواهد من أشعار العرب وكلامها على ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى”[36]، ويقول في أسلوب الالتفات:” والشواهد من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه”[37]، وغيرها من الأمثلة.
وقد يترك بعض العلل ويحيل إلى كتابه الآخر كمثل علل اختياره للفيء في قوله تعالى: “فأما الفيء، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو ما رده عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم فيئًا؛ لأن الفيء إنما هو مصدر من قول القائل: فاء الشيء يفيء فيئا: إذا رجع، وأفاءه الله: إذا رده. غير أن الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر إنما هو ما وصفت صفته من الفيء دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب، لعلل قد بينتها في كتابنا: «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين»” [38].
وبعد فهذه هي وجوه تجلت بعد تأمل واستقراء، والظن بأبي جعفر رحمه الله أن في جعبته علمًا كثيرًا، فحصر وجوه اختصاره متعذر بالنسبة لما عرف من علمه لمن يقرأ في ترجمته عليه شآبيب رحمة الله.
ولعل من حسنات الاختصار والإيجاز الذي سلكه المؤلف أنه أكمل كل الكتاب دون أن تخترمه المنية، ومهما يكن الأمر خلاف هوى المتخصصين فأمر الله خير لأبي جعفر رحمه الله وللعلم ولنا.
[1] معجم الأدباء (6/2452).
[2] تاريخ مدينة السلام (2/548).
[3] تاريخ مدينة السلام (2/548).
[4] معجم الأدباء (6/2452).
[5] مجموع الفتاوى (13/361).
[6] جامع البيان (1/7).
[7] ينظر: مفهوم البحث في الفقه الإسلامي، د. عبدالوهاب أبو سليمان (ص 144).
[8] ينظر: تاريخ مدينة السلام للخطيب البغدادي، تحقيق بشار (2/548).
[9] تفسير الثعلبي (2/12).
[10] مجموع الفتاوى (13/385).
[11] التفاسير المختصرة، د. محمد البركة (ص71).
[12] جامع البيان (1/185).
[13] ينظر: التفاسير المختصرة، د. محمد البركة (ص71).
[14] جامع البيان (1/150).
[15] تفسيره (9/463).
[16] معجم الأدباء (6/2451).
[17] جامع البيان (1/115).
[18] جامع البيان (14/585).
[19] تفسير الطبري (17/277).
[20] جامع البيان (2/100).
[21] جامع البيان (2/457).
[22] ينظر: الآراء الأصولية للطبري، د. علي عطية (3).
[23] جامع البيان (17/188).
[24] ينظر: معجم الأدباء (6/2458).
[25] جامع البيان (24/244).
[26] رواه البخاري ح(6880)، ومسلم ح(1355).
[27] جامع البيان (14/584).
[28] جامع البيان (4/63).
[29] جامع البيان (8/410).
[30] جامع البيان (14/176).
[31] جامع البيان (1/105).
[32] ينظر: معجم الأدباء (6/2459).
[33] جامع البيان (10/71).
[34] جامع البيان (7/424).
[35] جامع البيان (1/316).
[36] جامع البيان (1/159).
[37]جامع البيان (1/150).
[38] جامع البيان (11/185).