د. عائض بن سعد الدوسري
مرت المرأة الغربية -عبر عصور مختلفة ومتنوعة- بألوان عديدة من الظلم والجور، وإهدار إنسانيتها وكرامتها تحت شعارات مختلفة: وثنية، أو دينية، أو عقلانية تحررية، أو ماركسية واعدة. وكانت أبرز ظاهرة هناك اتفقت عليها تلك التنظيرات أو انتهت إليها عمليًا: تجذير فكرة الصراع والمفاصلة، والتضاد الذي لا يقبل التوافق بين الرجل والمرأة من طرف، وبينهما وبين العائلة من طرف آخر.
ومن الأحداث التي وقعت في سياق التنوير والعقلانية، وقد يعتبرها كثيرون أحداثًا غريبة وقعت في غير سياقها المتوقع، أن عصر التنوير وعصر الثورة الفرنسية وما تلاه من عقود اعتبر عصر إهانة وتقتيل النساء واضطهادهن، حيث اعتبار رجال الثورة الفرنسية وحكومة الثورة النساء والحركة النسوية العدو الذي لا يجب التساهل معه. يقول روجيه جارودي، المفكر الفرنسي المشهور وسكرتير الحزب الشيوعي السابق في فرنسا: “كان القرن التاسع عشر الأشد قتلاً للنساء في الغرب!”.
وقد حاولت الحركة النسوية الغربية الاستنجاد بأي قشة يمكن أن تحمي ظهرها أمام هذا الاضطهاد الضارب بجذوره في التاريخ والعقل الغربي. فلجأت إلى نظريات غربية كثيرة متضادة، ثم لما لم تجد مبتغاها ولم تحقق أهدافها الراديكالية في صراعها مع الرجل؛ انقلبت عليها!
ففي أيام الثورة الفرنسية الأولى لجأت نسويات إلى رجال الثورة مطالبين بأن تدخل المرأة ضمن مفهوم (الإنسان) الذي جاء وثيقة الحقوق لتثبيت حقوقه كرجل حصرًا، إذا مفهوم الإنسان لدى الثورة الفرنسية يعني الرجل فقط. فقوبل النساء بالتعليق على المشانق والقتل بالمقاصل. حتى إن إحداهن قالت في حسرة وندامة، أنه حين تعامل المرأة في الشرور كالرجال، فتقاد كالرجال تمامًا وتصعد على المشنقة لتموت أو يقطع رأسها بالمقصلة، ألا يحسن أن تُعامل في الخير كذلك مثل الرجال؟! وعندما أعلنت وثيقة حقوق الإنسان في مطلع الثورة الفرنسية، طالبت امرأة اسمها أولامبده غوج، بإضافة مواد تحمي حقوق المرأة، فقام رجال الثورة بإعدامها فورًا! وفي عام ١٧٩٣م قررت اللجنة التشريعية في الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية قرارًا صاعقًا ومؤلمًا بحق المرأة والضعفاء والأطفال، حيث قررت اللجنة التشريعية للثورة الفرنسية أنَّ: “الأطفال وفاقدوا العقل والقاصرون والنساء والمحكومون بعقوبات، لن يكونوا مواطنين”. وكذلك حين طالبت رولان دي لابلاتيـير، وهي سياسية ومفكرة الفرنسية، برفع الظلم عن المرأة الفرنسية، قام رجال الثورة الفرنسية بإعدامها، ومما قالته وهي في طريقها تقاد إلى المقصلة للإعدام: “أيتها الحرية! أيتها الحرية! كم من الجرائم ترتكب باسمك!”. وهكذا استمر الاضطهاد والتمييز طويلاً، تقول فرانسواز جاسبار: “هي حقيقة يؤكدها أن القانون الفرنسي ظل حتى نهاية القرن العشرين يميز بين المرأة والرجل”.
وحين ظهرت الاشتراكيَّة بمذاهبها المتنوعة في القرن التاسع عشر، وكذلك الشيوعيَّة الحديثة في الغرب، وخصوصًا في أوجها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، رأت المرأة الغربية أنها وجدت مبتغاها وغايتها فيها، وأنها النظرية والتطبيق الذي سيحميها من وطأت الرأسمالية البشعة التي استغلتها وحطمت كيانها وأخلاقها وذوقها. فاعتنقت الشيوعية التي بيَّن منظروها للمرأة أنَّ الرجل والأسرة والأطفال هم تجليات المِلْكية الخاصة، وأن سبيل تحريرها لا يمر إلا على جثث رموز المِلْكية الخاصة التي هي أعظم مظاهر الرأسمالية، ففهمت المرأة أن حريتها لا تمر إلا على قبور البرجوازية بتحطيم أدواتها: العائلة، والرجل، الأب والزوج. تقول النسوية هايدي هارتمان، من الحركة: “إنَّ كلا من الرأسمالية والنظرية الأبوية مسؤولان عن قهر المرأة”. وتقول النسوية ميشيل باريت: “قهر المرأة يكمن في الأيديولوجيا الأسرية باعتبارها ذات دور فعال في تكاثر الرأسمالية”. تقول جولز تاونزند: “الحجة النسوية الراديكالية تقول إن المشكلة الحقيقية في نظر المرأة هي الرجل”.
ولا شك أن المرأة ظلمت في الرأسمالية الغربية، وأن غاية المكانة التي ستبلغها المرأة في الوسط الرأسمالي، أن تتحول من إنسانة ذات روح كريمة إلى بضاعة ذات جسد يعرض ويؤجر ويباع ويُشترى، فالأدوات الرأسمالية المتنوعة لديها قوة باهرة وسلطة مؤثرة لإيهام مجسدات المانِيكان=mannequin بأنها حرة ذات اختيار وإرادة، لكنها في الواقع والحقيقة ليست كذلك!
ومن الواضح أن التاريخ الغربي قد نجح في حفر أخاديد عميقة جدًا في وجدان المرأة، وجعل مبدأ الصراع والتضاد -الذي لا يقبل الوئام والتلاقي والتصالح- يتجذر لديها بحيث يصعب تصحيحه وتغيير إلا من خلال تغيير جذري، وصار المرء يدرك أنه في الحقيقة أمام نوع من النسوية ليست في الحقيقة حركة فكرية بالدرجة الأولى، بقدر ما هي عقدة أو أزمة عميقة!
وهكذا توجهت النساء والحركات النسوية صوب الماركسية، متخذين منها القبلة التي تقصد ويبحث لديها عن إجابة شافية لمعضلتها. تقول النسوية الماركسية جوليت ميتشيل: “ينبغي لنا أن نطرح الأسئلة النسوية، ولكن علينا أن نحاول العثور على إجابات ماركسية”. لكن النساء والحركات النسوية بعد عدة عقود في ظل الماركسية أصابتهن الخيبة ونال منهن الإحباط، واكتشفن أنهن كالمستجيرات من الرمضاء بالنار. تقول الاشتراكية التائبة زيلاه أيزنشتاين: ”الاشتراكية لا تبشر بخير نظري أو سياسي يذكر للمذهب النسوي”. ويفسر أحد الباحثين سبب هروب كثير من المنتميات إلى الحركات النسوية من سفينة الماركسية، بأن الماركسية نفسها فشلت عن الإجابة عن نفسها والبقاء حيَّة بنجاح! يقول رونالد أرنسون: “انخفض تأثير الماركسية في الفكر النسوي، وذلك بسبب أن الماركسية نفسها كانت تمر بأزمة نظرية وسياسية عميقة”.
وهكذا تعددت رحلة النساء الغربيات من التنوير إلى الرأسمالية إلى الماركسية بحثًا عن الجواب الذي يُمكن لهن من خلاله أن يجدن الخلاص من تاريخ طويل مرهق بالآلام والإهانة والاضطهادات المستمرة. وفي سياق رحلة البحث المضنية، وجدت النساء أنفسهن في كثير من الحالات وسيلة وأداة تم استغلالها بذكاء كبير؛ لتحقيق أهداف لا تمت بصلة حقيقية إلى حقوقهن المشروعة. وذلك ما نقل الصراع في الغرب من المرأة مع الرجل إلى المرأة مع المرأة، لأنها رأت أختها صارت مجرد وسيلة لمختلف النظريات الغربية التي تستغلها في سبيل تحقيق طموحاتها وتطلعاتها الخاصة. تقول سيلفيان أجاسينسكي: “هدف المساواة بين الجنسين قد أبان عن التناقضات الخفية للنزعة النسوية، وذلك راجع إلى قيامه بتسييس الاختلافات بين الجنسين”. وتقول جول فالكيه، أستاذة علم الاجتماع بجامعة باريس-ديدرو، ٢٠١٥م: ”مسألة تساوي الجنسين أصبحت على وجه العموم أداة مهمة لإضفاء الشرعية أو المشروعية…وأصبحت حقوق النساء وسيلة لتبرير العديد من الحروب الاستعمارية الجديدة، والسياسات القمعية ضد الأقليات العرقية والطبقات الشعبية. نتيجة هذه التدخلات كانت التدهور الفظّ في أوضاع النساء، كما يسع أيًّا كان أن يلاحظ ذلك”.