فكر وثقافة

لغز المساواة

  • جوشوا روثمان
  • ترجمة: الجراح القويز
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: ناريمان علاء الدين

بلغ مايكل وأنجيلا للتو الخامسة والخمسين، وهما يعرفان شخصين أحدهما تُوفي بسبب سرطان، والآخر بحادث سير. وقد خطر لهما أن يضعوا خطةُ لأطفالهم، فهما يدخران بعض المال في البنك. إذا افترضنا أنهما سيموتان في حادث طيران، فماذا سيحصل؟

لديهما أربعة أبناء، تتراوح أعمارهم من أواخر سن المراهقة إلى أواخر العشرينات. أكبرهم سنًا هي “كلوي” البارعة في الرياضيات والتي تعمل كمبرمجة في (Google)، تأمل أن تبدأ شركتها الخاصة. أما ويل فحاصل على شهادة الخدمة الاجتماعية (social work)، فهو يُسدّد قرضه الدراسي أثناء عمله في مركز لإعادة تأهيل المدمنين. جيمس وأليكسيس، كلاهما في الكلية. فجيمس الذي يثمل دائمًا وليس لديه إنجازات، مقتنع بأنه يستطيع أن ينجح كـ “واحد من مشاهير اليوتيوب” (YouTuber). وقد أُوقف عن الدراسة لمرتين بسبب الحِيَل التي يفعلها في الجامعة. وأليكسيس التي تأمل أن تصبح شاعرة، لديها حالة مرضية وبسببها يحتمل أن تصبح عمياء في منتصف العمر.

في البداية كانت خطة مايكل وأنجيلا أن يُقسما أموالهما بالتساوي. ثم أعادا التفكير في ذلك، فت “كلوي” قريبة من تحقيق هدفها بنجاح مربح في وادي السيلكون، وبذلك ستأكل الديون الوصية لتحقيق هدفها في مساعدة الضعفاء. أما لو ذهب الورث إلى جيمس فسوف يكون أكثر كسلًا، وسينفقه على الملابس والأكل. وبما أن أليكسيس بسبب حالتها الطبية قد تحتاج للمساعدة لاحقا في حياتها؛ بدأ مايكل وأنجيلا بالتفكير بأنه ليس من المنطق أن يقسموا أموالهم إلى أجزاء متساوية. فهم يحتاجون إلى شيء أكثر تعقيدًا لأن ما يُهمهم هو أن يكبر أبناؤهم وهم متساوون، وذلك يعني إعطاء أحد الأبناء ورثًا أكثر من الآخر (وهو احتمال غير مقبول).

سلّط الفيلسوف رونالد دوركين (Ronald Dworkin) الضوء على هذا اللغز الأبوي بمقال عنوانه “ما هي المساواة” في عام 1981. وكتب بأن الأبوين في مثل هذه الحالة بين هدفين لتحقيق المساواة: أحدها “تكافؤ الموارد” ويتم تحقيقه عن طريق تقسيم الورث بالتساوي، ولكن له جانب سيء وهو تجاهل الفوارق الجوهرية بين الأطراف. الثاني “تكافؤ المصالح” بمحاولة اعتبار الاختلافات عن طريق حسابات معقدة. إذا أخذنا الطريق الأول فسوف نقع بتجاهل الفوارق الجوهرية بين الأبناء. وإذا أخذنا الثاني، فإننا نخاطر بتقسيم الورث بشكل خاطئ وغير متساوي.

في عام 2014 طلب مركز بيو للأبحاث من الأمريكيين أن يصنفوا “أعظم الأخطار في العالم”. العديد منهم وضع “عدم المساواة” أولاً، قبل “الكراهية الدينية والعرقية”، والأسلحة النووية، والتدهور البيئي. ومع ذلك فالناس لا يتفقون مع “المساواة” بمعناها الحقيقي. على سبيل المثال: في السنوات الماضية، كان سكان مدينة نيويورك يناقشون موضوع صفوة المدارس الثانوية العامة في نيويورك، مثل (Stuyvesant) و(Bronx Science)، حيث هناك بعض المجموعات العرقية في المدرسة منتشرة على حساب المجموعات العرقية الأخرى. فماذا نفعل؟ أحد الأطراف يرى بأن المدينة يجب أن تضمن المساواة الإجرائية، أي أن جميع الطلاب والأسر يتم إخبارهم عن اختبار القبول وحثهم على الدراسة. والطرف الآخر يرى أنه من أجل أن يكون هناك مساواة قائمة على التمثيل، لذلك عليهم أن يتخلّوا عن الامتحان، وأن يضعوا نظام قبول جديد مصمم لقبول الطلاب حسب التركيبة السكانية للمدينة. كلتا المجموعتين يسعون إلى أهداف مساواة جديرة بالاهتمام، لكن كل نهج منهما متعارض مع الآخر. فدوركين يقول: لأن الناس لديهم ظروف مختلفة، فعلينا أن نفرّق بين معاملتنا للناس بمساواة وبين معاملتنا لهم كمُتساوين.

إن تعقيدات المساواة مثيرة للإحباط خصوصًا أنه من السهل فهم عدم المساواة. المدراء التنفيذيون في المتوسط​​ يحققون أكثر مايحقق موظفوهم بما يقارب ثلاث مئة مرة، وذوو الثراء الفاحش يشكلون سياستنا بتبرعاتهم. والملّاك يفضلون الأتمتة (automation) على العمّال، كما يفضلون الاقتصادات الحضرية في الوقت الذي تركد فيه الاقتصادات الريفية، والأغنياء لهم رعاية صحية أفضل ممّن دونهم. على الصعيد السياسي، ننعي فقدان ما أسماه ألكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville) “المساواة في التعرض للظروف الكبرى”، إذا استثنينا الرق، فهذه السمة كانت ولا تزال متجذرة في المجتمع الأمريكي، وهي ليست متعلقة بالمال فقط. فقد أشار إلى ذلك توكفيل بقوله أن “ممارساتنا العادية في الحياة” كان فيها مساواة أيضًا، فقد كنا نتصرف كأن لم تكن بيننا اختلافات. أمّا الآن فهناك صفوف “درجة أولى” مخصصة في دور السينما، وهناك خمس مستويات من أوبر. ما زلنا نناضل لنعالج اللامساواة الواضحة في جميع النواحي على أساس العرِق والجنس والتوجه الجنسي والجوانب الأخرى للهوية. اللامساوة في كل مكان، وغير قابلة للتجاهل. وبما أننا شخّصنا المرض، فلماذا لا نتفق على العلاج ؟

في يناير 2015، ألقى الفيلسوف السياسي في كلية الحقوق بجامعة نيويورك جيريمي والدرون (Jeremy Waldron) سلسلة من المحاضرات في جامعة إدنبره حول الطبيعة الأساسية للمساواة بين البشر. وقد بدأ بإثارة الجمهور بقوله: “انظروا حولكم، وابحثوا عن الاختلافات التي بينكم”. والجمهور كان يضم الشباب وكبار السن، الرجال والنساء، الحسن والدميم، الأغنياء والفقراء، الأصحاء والعاجزين، أصحاب المكانة العالية والمنخفضة. ثم قال: نظريًا الجمهور قد يكون فيه “جنود ومدنيون، هاربون ومدانون ومواطنون ملتزمون بالقانون، مشردون وأصحاب ممتلكات” حتى “المفلسون، والأطفال، والمجانين”، وكلهم لهم حقوق قانونية مختلفة حسب حالهم.

في كتاب (One Another’s Equals: The Basis of Human Equality) الذي يستند على تلك المحاضرات، يشير جيرمي والدرون إلى أن الأشخاص يختلفون أيضًا من ناحية المهارات، الخبرة، الإبداع، الفضيلة. ثم يتسائل بالنظر إلى هذه الاختلافات، بأي معنى يعتبر الناس “متساوين”؟. يؤمن والدرون بمساواتنا الأساسية كفيلسوف، ولكنه مع ذلك يريد أن يعرف لماذا يؤمن بها.

ومع إعلان الاستقلال، “فمن البديهي” أن يصبح جميع البشر متساوين. ولكن، من منظور معين، فإن اللامساواة قد تحولت إلى أمر بديهي؛ فقبل عقد من الآن، سألت الكاتبة ديبورا سولومون (Deborah Solomon) دونالد ترامب (Donald Trump): عن رأيه في فكرة أن “جميع البشر خلقوا متساوين”، فرد بقوله:”هذا ليس صحيحا، بعض الناس يولدون أذكياء جدًا وبعضهم ليس كذلك، بعض الناس يولدون في غاية الجمال وآخرون ليس كذلك، لذلك لا يمكن القول بأنهم جميعاً وُلدوا متساوين”. اعترف ترامب بأن لكل الناس الحق في تلقي معاملة متساوية بموجب القانون لكن صرّح بأن عبارة “كل الناس خلقوا متساوين” تعتبر          “عبارة محيرة جدًا للكثير من الناس”. ووفقًا لاستطلاع أجري عام 2015: أكثر من 20% الأمريكيين يعتقدون أن عبارة “كل البشر خُلقوا متساوين” خطأ.

على الرغم من ذلك فإن جيرمي والدرون يرى أنه من الممكن اعتبار الناس متساوين وغير متساوين في آن واحد ولا يعد ذلك خيارا متناقضًا. فالمجتمع يُصنّف أعضاءه إلى فئات مختلفة – كالاشخاص الملتزمين بالقانون والمجرمين، والعباقرة وغيرهم- ومع ذلك فإنه يتيح لبعض المبادىء الاساسية للمساواة ان تفرض أحكاما معينة، وإن كان عليها في بعض الأحيان أن تتخطاها. أصحاب مذهب المساواة مثل جيرمي والدرون ودوركين يسمون هذا المبدأ بـ”المساواة الراسخة (deep equality)”. وبسبب هذا المبدأ، فحتى أولئك الاشخاص الذين اكتسبوا مكانة رفيعة بسبب أعمالهم كالأبطال وأعضاء مجلس الشيوخ ونجوم البوب ​​هم بالأساس ليسوا أفضل من أي شخص آخر. وتبعًا لذلك فإن جيرمي والدرون يقول بأن المساواة الراسخة تؤمن بأنه حتى أبشع السفاحين يمكن اعتبارهم من الجنس البشري، “مع مايترتب على ذلك من مكانة واستحقاق” فمن بين سائر المبادىء، ينبغي على هذا المبدأ أن يعني بأنه من الخطأ أن نعزل الأطفال الصغار من المهاجرين في السجون القذرة، مهما كان وضعهم القانوني. فوالدرون يريد أن يعرف مصدر هذا الإلزام وتلك المساواة.

في نطاق بحثه كان يستكشف القرون التي تغص بالتاريخ الفكري. الكثير من المفكرين من شيشرون إلى جون لوك كانوا يحتجون بأن القدرة على التفكير هي ما يجعلنا متساوين، ولكن أليست هذه القدرة نفسها مُوزعة بشكل متفاوت؟ وهناك آخرون ومنهم إيمانويل كانط احتجوا بحسّنا الأخلاقي، ولكن ألا يجعل هذا المساواة مُقتصرة على الصالحين؟ وهناك بعض الفلاسفة مثل جيريمي بنتام (Jeremy Bentham) يرون أن قدرتنا على المعاناة هي ما يجعلنا متساوين، ولكن أليس تدخل الحيوانات معنا في ذلك؟ ورشّح آخرون أن ما يجعلنا متساوين هو قدرتنا على الحب، ولكن ماذا عن الأشخاص الأنانيين والقاسية قلوبهم؟ من الناحية العملية سيكون من الجيد إذا كان هناك معيار أساسي يُحدد المساواة الراسخة، كأي قاعدة يمكن أن نوجّه بها تفكيرنا. إذا تحول معيار المساواة الراسخة إلى قدرتنا على المعاناة فإنّ مايكل وإنجيلا سيرتاحون أكثر عند إعطاء ابنتهم الكيسيس أكثر من أشقائها لأنها ستصاب بالعمى. لكن جيرمي والدرون لم يقتنع تماما بأيٍ من هذه المعايير.

فقد لاحظ في التقاليد الدينية المختلفة بأن المساواة لا تنبع فقط من القناعة المنتشرة العريضة بأننا جميعًا مخلوقون صورة الله،[1] ولكنها تنشأ من إدراك المغزى الذي يتكبده كل شخص في ملحمة الوقوع في الخطأ ثم تدراكه بالتوبة، فنحن متساوون لأن الله مهتم بتسيير أمورنا. ولاحظ بأنه حتى الملحدين أيضًا: قد يحددون مساواتنا في فكرة أن لكل شخص قصته الخاصة. اقتبس جيرمي والدرون هذا من مفهوم “الميلاد natality” لحنّة آرنت (Hannah Arendt)، فالتصور الذي يقول بأن ما نشترك فيه كلنا هو كوننا “وافدين جدد”، على التاريخ، وأن “قدرتنا على البدء من جديد هي ما يجعلنا مؤثرين”، ومع ذلك فقد كانت حنّة متشائمة بخصوص السعي بالتدليل على المساواة. وفي رأيها بأن الهولوكوست أثبت أنه “لا يوجد شيء مخيف أكثر من تجلي تجردنا من بشريّتنا”. إذا صحّ هذا، فإن المساواة ستفقد بديهّية كونها فطرية في الانسان، وأنها ليست إلا اختراع اجتماعي بشري اخترناه لنتعامل مع بعضنا.

في النهاية، يستنتج والدرون أنه لا يوجد “شيء سامٍ كالروح، وصغير، جذاب، وموحد” يجعلنا متساوين؛ ليس هناك سوى مجموعة من الحجج لمساواتنا الراسخة، قد تُقنع اذا اجتمعت، ولكنها ليست كذلك إذا تفرقت. المساواة هي فكرة مُرّكبة تربط بين الحدس التكميلي والتنافسي.

إن طبيعة المساواة المُبهمة تجعل من الصعب حل مُعضلاتها باستخدام المبادئ الأولى. في كل موقف، يجب أن نستشعر طريقنا عند تقدمنا، ونوفق بين حدسنا المتضارب حول معنى “المساواة”. لا تزال المساواة الراسخة فكرة مهمة، فهي دونا عن سائر الافكار تخبرنا بخطأ التفرقة والتعصب. لكنها ليست واضحة بما يكفي لحل الإشكال الشائك حول كيفية تقسيم المجتمع لما لديه. ولحلّ هذا الإشكال، فعلينا أن نعزّزها بمبادئ أخرى أضيق نطاقًا.

تميل المجتمعات التي لديها أفضل فرصة للمساواة إلى أن تحدد هدف مشترك وواضح. العدّاؤون المتنافسون في سباق المئة متر لديهم مهارات متنوعة ويتدربون في ظروف مختلفة ؛ من منظور معين، فإن هذه الاختلافات تجعل السباقات غير عادلة، كيف يمكنك التنافس مع شخص لديه جينات أفضل؟. لكن العدائين يشكّلون مجتمعًا يقوم على المساواة بهدف مشترك – معرفة أسرعهم – ولذا اخترعوا القواعد والإجراءات مثل (التصفيات المؤهلة، وحظر المنشطات) التي تسمح لهم بالتفكير في سباق نزيه طالما لم يبدأ أحد قبل الآخرين. من خلال تبني نظرية مُتفق عليها للمساواة قبل السباق، فالعدَّاؤون يُدركون مغزى اللامساواة في نتيجة السباق. وبالمثل، فطاقم المستشفى يجد طريقة للقيام بالعمل الضروري بشكل متساوي، ربما من خلال اعتماد نظرية للمساواة تتجاهل بعض الاختلافات (بعض المرضى أغنياء وبعضهم فقراء) مع الاعتراف باختلافات أخرى (بعض المرضى حالتهم عاجلة، والبعض حالاتهم أقل من ذلك). فالذي يُهم، قبل كل شيء، هو أن النظام يكون منطقيًا للمعنيين بالأمر.

ولأن الحفاظ على مثل هذه الاتفاقات يتطلب عملًا مستمرًا، فإن مجتمعات المساواة دائمة التعرض لخطر التفكك. ومع ذلك، فإن المشهد القائم على المساواة مليء بكثير من الاتفاقيات والعقود الاجتماعية التي تتمثل في : البلديات، الجمعيات التعاونية، والمنافسة المنظمة بشكل جيد حيث يتم استخدام نظرية مشتركة للمساواة لهدف عملي ما. الأسرة الفردية قد تُقسم المهام وفقا لنظرية تعتمد على المساواة للحفاظ على التوازن بين الأعمال المرهقة والتي يلزم القيام بها بسرعة مثل تنظيف الحمّام، مع المهام البطيئة والمبهجة مثل: المشي مع الكلاب. من السهل نسبيًا خلق هذا النوع من المساواة الحرفية، ولكن من المُضني تحقيق المزيد منه. المجتمع لا يمكن أن يجتمع في غرفة واحد ليحدّد العقود التي ترسخ المساواة، ولكن بدلاً من ذلك، يجب عليه أن يحدد مبادئها الأساسية العريضة بتأنٍ.

لايوجد مبدأ مثالي، فكلها تنطوي على مخاطر تتضح مع مرور الوقت.عند تقسيم السلع، الكثير من الناس يحاول التمسك بمبدأ الضرورة، فالأولويات التي تخطر في بالنا يجب أن تكون مطابقة للحاجات الأساسية، ولكن الخطر الخفي هنا يظهر بمجرد أن نتجاوز نقطة معينة من الاكتفاء. عندما ذهب فيودور دوستويفسكي (Fyodor Dostoyevsky) إلى المدرسة العسكرية، كتب إلى أهل بيته يطلب حقه من ريع الأرض لأنه يريد الحصول على حذاء جديد ومفروشات أخرى بحجة أنه سيطرد من المدرسة إذا لم يحصل عليها، لكن والده ميخائيل أندرييفيتش (Mikhail Andreevich) كان يمر بضائقة مالية، لكنه أدرك أن حاجات ابنه قد تغيرت فوافق على طلبه. وتوفي والده بعد ذلك بوقت قصير في ظل ظروف غامضة، وأصبح دوستويفسكي يعتقد أنه قُتل من قبل العبيد الذين يعملون عنده بسبب إجهادهم بالعمل. توضح تلك الواقعة التي ألهمته لكتابة (الأخوة كرامازوف)، مشكلة أساسية تُخلُّ بالمساواة يسميها الفلاسفة: “مشكلة الأذواق الباهظة”

مشكلة أن الأشياء التي قد تكون ضروريةَ لشخص ما تعتبر ترفا لشخص آخر مألوفةٌ لأي شخص يتجادل دائما مع أحد محبي الطعام أو رفيقه بالسكن بشأن فاتورة البقالة. لا تنطبق هذه المشكلة على الجوانب المادية فقط ولكن على المجتمعية أيضا. بالنسبة لمناصري البيئة، فإن حماية البومة المرقطة أمر ضروري ؛ بينما الحطّاب الذي على مشارف خسارة عمله، سيعتبر ذلك ترفًا. المشكلة مُلحة لدرجة أن أحد الفلسفات السياسية “المهتمة بتحديد الأولويات” “prioritarianism”[2] جعلت ديدنها تصنيف وفصل الناس الذين لديهم حاجات حقيقةَ عن أصحاب الرغبات التكميلية. الإجراءات الطبية التي تبدو اختيارية اليوم قد تصبح ضرورية غدًا. والتحصيل العلمي الذي لم يكن شائعًا في وقت ما مثل: الشهادات الجامعية، الآن أصبحت الحاجة متزايدة لها. في دراسة للمكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية (National Bureau of Economic Research)، قام أربعة من خبراء الاقتصاد بتقييم نجاح حرب الرئيس لايندون جونسون (Lyndon Johnson) على الفقر. ووجدوا أنه من خلال التحديث الذي طبّقه الرئيس على تعريف الفقر، انخفض معدل الفقر في أمريكا من 19.5% في عام 1963 إلى 2.3% في عام 2017. ومع ذلك، أشاروا في بحثهم بأن “التوقعات لحد الحياة الأدنى تطورت”. فاليوم أضحى مقدار الاستفادة من شبكة الأمان الاجتماعي التي أرستها الحرب على الفقر – مثل ​المساعدات الغذائية، والمساعدة الطبية… إلخ – هو بحد ذاته علامة على الفقر، ومن الضروري للمساواة وجود شبكة أمان فعالة تضمن – دراسة جامعية مجانية، رعاية طبية للجميع -. يحاول بعض المفكرين أن يُحجّم مشكلة الأذواق الباهظة بالسؤال عما يراه الشخص “العادي” أو “النموذجي” ضروريًا، لكن إذا كان من السهل تعريف النموذجي بدقة، سيجعلنا ذلك نفترض افتراضات ظالمة تؤثر على حكمنا. في مقال مؤثر عام 1999 بعنوان “ما الهدف من المساواة؟” نبهت الفيلسوفة إليزابيث أندرسون (Elizabeth Anderson) إلى صفة غريبة في عقدنا الاجتماعي: فإنك إذا طُردت من وظيفتك، فإن إعانات البطالة تبقيك واقفا على قدميك؛ بينما إذا توقفت العمل من أجل إنجاب طفل فإن عليك التعامل مع خسارة الدخل بنفسك. ووضّحت بأن هذا التناقض ناشئ عن فرضية أن “رغبتك في الإنجاب ماهي إلا أحد الأذواق الباهظة”. وعلى حد قولها بأن هذا يُجسد أحد الافتراضات المُتحيزة جنسانيا فقد أصبحت “الأنانية والمصلحة الشخصية” هي المعيار الإنساني. “الضرورة” مُرتبطة بفكرة الحد الأدنى، وهذا في الواقع يجعل سقفها مرتفعا. ولكي نلغي هذا السقف علينا إعادة التفكير بمهام المجتمع.

ربما لأن الضروريات تضغطنا باستمرار وتتطلب الكثير، فإن التزاماتنا بالمساواة تميل إلى مبدأ مختلف، وهو الحظ. أشار الفيلسوف ريتشارد أرنيسون (Richard Arneson) أشار إلى فكرة قبل عقدين من الزمان: “بعض الناس موفقّون بالحظ الجيد، والبعض الآخر ملعونٌ بسوء الحظ، ومن مسؤولية المجتمع بالكامل أن يغير توزيع الخير و الشر الناشئين من العشوائية المشكلّة لحياة الإنسان كما نعرفها”. وسبك ريتشارد مصطلحًا لهذه الفكرة وسماها بـ”نزعة مساواة الحظ luck egalitarianism”.

بدلا من تصنيف الناس حسب احتياجاتهم، فإن نظام مساواة الحظ يحاول تحقيق التكافؤ لسوء لحظ. فإذا وُلدت في الجانب الخطأ من الحياة أو تدمر منزلك بسبب كارثة طبيعية غير متوقعة، فإن هذا النظام يرى أحقيتك للمساعدة. وإذا أخطأت بإهدار مدخراتك أو فشلت بمشروع… إلخ فأنت وحدك. ولحسن الحظ أن المساواة تضمن لنا مفاهيم “ساحة اللعب المتكافئة” و “شبكة الأمان الاجتماعي” فالأولى تُوازن الحظ السيّء الذي وُلدنا به، والثانية تُوازن الحظ السيّء الذي نُبتلى له كراشدين.

كأمريكيين علينا أن نعرف قيمتين متباينتين: الفردانية والمساواة. عن طريق تقليل الاختلافات الحاصلة بسبب سوء الحظ وقبول الاختلافات التي جلبها الناس لأنفسهم، تَعِدُنا مساواة الحظ بأن نكون متساوين وفردانيين بنفس الوقت. ولكن، كما جادل أندرسون وآخرون، فإن القيام بذلك أصعب مما يبدو، وإحدى المشاكل أن العمل على موازنة الحظ السيء يجعلنا نتعاطف مع الذين نساعدهم بتصنيفهم كضحايا بائسين، وهو ما يحرمهم من حق “الاحترام المتساوي” الذي يستحقونه كمواطنين ديمقراطيين. (ربما لهذا السبب، فإن الأشخاص الذين قد يستفيدون من تمديد البرامج الحكومية غالبًا ما يصوتون ضدها).

هناك مشكلةٌ أخرى، والتي يوضحها المنظّر السياسي ياشا مونك في كتابه (The Age of Responsibility: Luck, Choice, and the Welfare State)، وهي صعوبة التمييز بين الاختيار والحظ. ففي حال تفضيلك النوم بدلاً من الذهاب إلى العمل يوميا ثم طُردت، فمن الواضح أنك اتخذت خيارًا سيئًا. ولكن ماذا لو وُلدت في عائلة ذات دخل فوق خط الفقر مباشرة، ثم تركت الدراسة الثانوية للحصول على وظيفة نهائية؟ فمن المُرّجح، أنك عانيت من سوء حظ واتخذت قرارات سيئة. لنفترض أنك تخليت عن فرصتك في جامعة ولايتك لتعمل في مصنع السيارات الذي يعمل به والداك، وبعد ذلك أُغلق المصنع. إغلاق المصنع يعتبر أمرًا خارجًا عن سيطرتك، لكن قرار العمل بدلًا من الذهاب للكلية كان قرارك. إذا كنت قد اكتسبت المزيد من المهارات، فهل ستكون أكثر قابلية للتوظيف؟ أم أن قوى العولمة التي أدّت إلى إغلاق المصنع قد قلّلت فرص عملك بغض النظر عن تدريبك؟ قد تسهر ليلة بعد ليلة وأنت تفكر في مثل هذه الأسئلة دون أن تجد إجابة شافية. ولذلك يقول مونك بأنه من غير المعقول أن نتوقع ” أن بيروقراطية الدولة ستجيب على هذه الأسئلة الافتراضية المعقدة للملايين من مواطنيها”.

ويجادل مونك بأن الفرق بين الاختيار والحظ ليس مسألة حقيقة بل مسألة مفهوم. تفسيرات السلوك البشري بشكل عام تُقسّم إلى مجموعتين: تلك التي تُركز على القوى التي تواجهنا وتلك التي تركز على كيفية مقاومتنا لها كأفراد. ونفس الظاهرة يمكننا أن نشاهدها فيما يسمى التفريق بين البنية والفاعلية. يقول مونك أنه في معظم القرن العشرين، نظر علماء الإجرام إلى الجريمة من منظور بنيوي: وقد حثوا السياسيين على مكافحتها عن طريق الحد من الفقر -السبب الجذري-. مع ذلك، بعد مدة غيروا المسار ثم بدأوا في تقصّي دوافع المجرمين والتساؤل عن كيفية ثني المجرمين المحتملين عن ارتكاب الجرائم، بصفتهم “فاعلين”. يقول مونك إن علماء الإجرام لم ينكروا رؤيتهم السابقة حول الفقر، فقد كانوا ينظرون إلى الجريمة من منظور مختلف. كان المنظور القائم على تقصي الفاعل أكثر فائدةً لضباط الشرطة، الذين لا يمكنهم انتشال الفقر من الاحياء، لكن يمكنهم تغيير طريقة عمل الدوريات.

يعتقد مونك أن معظم الناس يفهمون ببداهة، أن التفريق بين البنية والفاعلية – مثل الفرق بين “الطبع” و “التطبع” – هو تفسير رائج ولكنه ليس واقعيًا. كل التفسيرات محدودة، ونحن نروي فقط الجزء الذي نعرفه من القصة. وهذا هو السبب في تناقضنا وتناقض السياسيين الشديد بشأن نزعة مساواة الحظ التي يرون العالم من خلالها. فالمحافظون يبالغون في مدى سيطرة الناس على حياتهم، على أمل تقييد حجم دولة الرفاه، والليبراليون يبالغون في عجزنا على أمل توسيعها. لكن كلا الموقفين غير مقنع. يقول مونك: “في حين أن الناخبين يتقبلون فكرة أنه من الظلم الشديد أن تموّل بعض المدارس الحكومية أكثر من غيرها، لكنهم ليسوا مقتنعين بأن الطلاب لا يحصلون على مستويات جيدة فيها إلا بسبب الحظ”، “وبينما يفهمون أن سبب ركود المستوى المعيشي لمتوسط الناس منطوٍ على تحولات هيكلية كبيرة في الاقتصاد العالمي، إلا أنهم يتشككون عند إخبارهم بأن بعض القرارات الفردية لا تلعب أي دور في تحديد مصير الاقتصاد “.

هناك مشكلة في معرفة مشكلات نزعة المساواة (egalitarianism). فالعقل هنا يحارب العاطفة لأن تلك التعقيدات لا تخرج عن نطاق القانون الأخلاقي. وعندما أقرأ لوالدرون وأندرسون ومونك ومفكرين آخرين حول نزعة المساواة، أجد نفسي أتذكر وقتًا عندما كان عمري إحدى عشر أو اثني عشر عامًا، فقد كان والداي منفصلين والحديث بينهما قليل. ذلك الوقت ذهبت فيه إلى ثلاث مدارس متوسطة في ثلاث سنوات، إحداها سيئة، والأخرى متوسطة، والأخيرة جيدة. كانت المدرسة السيئة قريبة من منزل أمي، حيث كنا نعيش في الطابق السفلي، بعد أن قمنا بتأجير الطابق الرئيسي. كانت المدرسة الجيدة في ضاحية غنية، سجلت فيها من خلال إدعائي بالعيش في عنوان لصديق للعائلة يملك شقة صغيرة، فوق مساحة تجارية. (هذا يسمى: الاحتيال في التسجيل وهو أمر شائع في جميع أنحاء البلاد، خصوصا في الأماكن التي بها مناطق تعليمية غنية وفقيرة متجاورة)

لفترة من الوقت كنت آخذ الحافلة المدرسية إلى الشقة، ثم أتسكع هناك حتى وقت متأخر من المساء. حتى أصبح هذا الفعل لا يمكن السكوت عنه. وضعت أمي خطة: اتفقت مع سائق أجرة بأجر شهري، على أن يأخذني من المدرسة يوميا ثم يذهب بي إلى بيت والدي، فالمسافة قصيرة ولم تكن الاسعار مرتفعة، وذلك في الساعة 2:30 ظهرًا في ضواحي ميرلاند، وقد وافق على ذلك.

بدأ سائق التاكسي بيتر في اصطحابي من مكان مخفي تحت بعض الأشجار بجوار ملاعب كرة القدم. كان من غرب إفريقيا، بلكنة يصعب علي فهمها أحيانًا، وقد تحدثنا عن مدينته وصديقته والكتب التي كنت أقرأها – ستيفن كينج في الغالب – والتي عبر عن اهتمامه بها بلطف. في نهاية المطاف، اكتشف مكاني السري اثنان من أصدقائي الذين يتم اصطحابهما بعد المدرسة، وانضموا إليّ هناك. وكانوا يلوحون لي بعدما يصطحبني بيتر.

ذات يوم، عندما وصل بيتر كان منزعجًا ولم يلوح لأصدقائي حتى وذهبنا إلى اليسار بدلاً من اليمين، ثم قال لي “علي أن أذهب لمكان قبل أن أُنزلك، ولكن لا تخبر والدتك حسنًا ؟”، إلى أن دخلنا في نهاية المطاف في حي من المنازل الصغيرة الفوضوية. وفي الطريق أخبرني بيتر كيف تُشّغل أعمال سيارات الأجرة، فهو لم يكن يمتلك سيارته، إنما استأجرها من شركة سيارات الأجرة بعقد إيجار منتهي بالتمليك. إذا لم يسلم دفعته الشهرية -وقد كان المبلغ مرتفعا للغاية-، أخذت الشركة سيارته. وعندما توقفنا أمام منزل قريبه، انتحب وقال: “أنا أقود وأقود وأقود، لكن لا يمكنني أن أفعلها، لا يمكنني “. بعدما نزل راقبته وهو عائد إلى السيارة، وهو يحمل بعض النقود التي اقترضها.

لم أكن طفلًا معزولًا، فقد كنت أعرف عن الصعوبات الاقتصادية. ففي ذلك العام، أكثر من مرة انقطعت الكهرباء عنا لأن أمي تأخرت في دفع الفواتير، وكنا نستحم ونتناول العشاء في الظلام. لقد أخفت عني يأسها، ولكن بيتر شاركني يأسه، فبالنسبة له كان يمكن أن يصل إلى القاع بشكل كامل وبسرعة. وبعد أكثر من عقد في صدفة ديكنزية، التقط بيتر -الذي مازال سائق أجرة- والدي من المطار وأعطاه بطاقة عمله. وقد أوصل بيتر ذلك العام والدي وعائلته في رحلة، حيث اجتمعنا من جديد واستمتعنا مع بعضنا. لكنه لم يمض وقت طويل بعد ذلك، فقد كان يعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم ولم يكن لديه تأمين صحي. وبعد ذلك بزمن كان يبحث عن علاج لعدوى أصابت قدمه ثم دخلت إلى مجرى الدم حتى تُوفي بسبب صدمة إنتانية (septic shock).

لا تتطلب معرفة الظلم جهدًا ذهنيا، أنا وبيتر شخصان متساويان على نفس الأرض. ما هو المعقد في ذلك؟

الفجوة بين الحدس والحجة – بين الإساءة وأفضل رد عليها-، تعرض له روبرت تساي (Robert Tsai’s) في كتابه “المساواة العملية: إقامة العدل في أمة ممزقة “Practical Equality: Forging Justice in a Divided Nation”. تساي بروفيسور القانون في الجامعة الأمريكية، يُولي أهمية كبيرة للحدس المُتمثل بكوننا “متساوين مع بعضنا البعض”. ومع ذلك فأنه يقول: في الديموقراطية المتنوعة من المُحتّم أن يختلف الناس حول معنى المساواة. واستنتج أن البحث في أسئلة المساواة ماهو إلا بحثٌ في أسئلة محيرة ومزعجة ومن الحكمة أحيانًا أن نتحايل عليها. فاللامساواة يمكن مقاومتها والمساوة يمكن تحقيقها، بِسُبُلٍ أخرى أقل تعقيدًا.

تساي محامي دستوري، وهو على دراية بكيفية ظهور الحجج حول المساواة في المحاكم. وكثيرا ما يقول بأن الجاذبية الأخلاقية للمساواة نتائجها عكسية. وللنجاح فيها عليك أن تكون في جانب العدالة، وتبعا لذلك لا خيار لك سوى اتهام أولئك الذين يعرقلونها بأنهم عنصريون، أو كارهين للنساء (misogynists)، أو نخبويين، أو ظالمين. يروي تساي قصة حصلت في مدينة كيلبورن، وهي قضية للمحكمة العليا من عام 1985، لولاية تكساس ضد مركز كيلبورن للمعيشة (Cleburne Living Center) ، وهو أن هناك شركة خاصة تقدمت لفتح منزل جماعي لثلاثة عشر مقيماً من ذوي الإعاقة الذهنية في كيلبورن، وتمت معارضة ذلك بقانون محلي يتطلب الحصول على تصريح للمؤسسات المستضيفة “لذوي الاعاقة الذهنية”. وأشار مسؤولو المدينة أنهم لديهم بعض المخاوف: للحفاظ على “صفاء” الحي، والخوف على كبار السن المجاورين، واحتمال أن يتنمر عليهم طلاب ثانوية مجاورة لهم، وكانوا يعتمدون في دفاعهم على أصول مرسوم ماضي لتحسين النسل في البلاد. (في عام 1927، قررت المحكمة العليا قطع نسل المعاقين ذهنيا “لحماية صحة الدولة”.)

عندما وصلت القضية إلى المحكمة العليا، كانت الحجج المضادة لذلك المرسوم مؤطرة بقضية المساواة. فبعض الناس شبّه المرسوم بقانون الفصل العنصري (apartheid law): فكانت حجتهم بأنه لا يوجد فرق عن القانون الذي يسمح ببناء المستشفيات للناس من أي دين أو عرق. ودفاعًا عن القانون، فقد جادلت إدارة ريغان: بأنه نظرًا لأن المعاقين لديهم “احتياجات وقدرات مختلفة” فإن التعامل معهم بشكل مختلف لا يعني وجود “ازدراء أو أهداف خبيثة”. تم تعيين الجدول لمناظرة المساواة المستعصية. وقد تمت إثارة سؤالٍ مشحونٍ أخلاقياً حول موضع الإعاقة الذهنية في مجتمع ملتزم بالمساواة، والجواب سيؤثر بشكل ملموس على الملايين من المعاقين. وهذه المناقشة كانت مرتبطة بالاتهام القائل بأن الذي عارضوا وجود المنزل ماهم إلا متعصبون ورجعيون، وهذه التهمة من المؤكد أن تُكسبهم ولاء العديد من المواطنين ليدافعوا عنهم. وبدا احتمال وصول المحكمة إلى استنتاج حكمٍ مقنعٍ شاملٍ احتمالاً بعيد المنال.

يقول تساي: في النهاية قرر القضاة تجنب التفكير من حيث المساواة، وبدلاً من ذلك طبقوا “قاعدة العقل”، وتقصوا عقلانية مخاوف المواطنين حول المنزل، واستنتجوا بأنها ليست كذلك. وعلى هذا النهج، تجنبت المحكمة تمامًا مسألة هل الأشخاص المعترضين دافعهم التعصب، وتجنبت أيضا سؤال والدرونسيك (Waldronesque) عما قد يعنيه معاملة الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية بمساواة. ومع ذلك فإن المحكمة مازالت تحكم بقرارات أساسية للمساواة، و “وضعت إجراءات تمييزية قائمة على حظر الصور النمطية الضارة”

وقد استخدمت المحكمة نفس النهج في قراراتٍ أخرى لتعزيز المساواة. في قضية الولايات المتحدة ضد ولاية فرجينيا عام 1996، قدمت طالبة في المدرسة الثانوية شكوى ضد معهد فرجينيا العسكري، بسبب استبعاده للنساء. وكانت حججها تعتمد بشكل رئيسي على المساواة، ولكنها تعثرت عند سؤالها ماذا يعني أن يعامل المعهد الرجال والنساء على حد سواء، وبدلاً من التطرق لهذه القضية، فقد قضت المحكمة بأنه لا يوجد أساس منطقي لحرمان النساء من القبول.

يعتقد تساي بأن هذه الحالات وغيرها، تُظهر أنه من العملي غالبًا السعي إلى “المساواة بوسائل أخرى” بدلاً من الغوص في تعقيدات النقاش حول المساواة. المعقولية (Reasonableness) أو العقلانية (rationality)، هي إحدى المعايير التي يمكن أن نُخضع لها الأنظمة والقواعد التي لا تضمن المساوة. يمكن للمرء أيضًا أن يتساءل عما إذا كانت العقلانية عادلة ؟، أو هل لها عواقب سيئة ؟، أو هل تم النظر فيها لجميع الآراء المعنية ؟. إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة دائما، ولكنها أسهل من الإجماع حول معنى واحد “للمساواة”. ويجادل تساي بأننا نتقدم عندما “نركز على الغضب الأخلاقي”.

اللغة بنفسها قد تكون مُضللة لنا، فتُروعنا بعدم المساواة لتتحوّل أذهاننا مباشرة إلى العكس. وكما يدّعي تساي: أنه لتجنب هذا الدافع، سيكون علينا التخلي عن الوضوح البلاغي، لأن ذلك قد يقربنا إلى فطرتنا الأخلاقية السليمة. وقد شرح ذلك الفيلسوف ديفيد شميدتز (David Schmidtz) في كتاب له بعنوان “Elements of Justice”. فقد ابتدأه بالطلب منا بالتفكير في ما يجعل الحي مكانًا مناسبًا للعيش فيه، قد يكون المجتمع المزدهر يحوي بقالة ومحطة إطفاء ومكتبة وملعب. وبالمثل فإن نظام العدالة يجب أن يحوي بُنى مختلفة ليكون صالحًا للحياة. من السهل أن نتخيل العدالة على أنها شيء وحدوي يتكون من مبنى مهيب ومحكمة عليا. لكنها أشبه بمجموعة من المباني، لكل منها وظيفته الخاصة.

في حي العدالة يحدد شميدتز أربعة عناصر: المساواة، والأحقية،والمعاملة بالمثل والحاجة. نعتمد عليها في سياقات مختلفة، لحل أنواع مختلفة من المشاكل. فالمواطنون متساوون أمام القانون، وعلى النقيض من ذلك فالعُمال يُعاملون حسب ما أنجزوه، وفي علاقات الشراكة نحن نفضل المعاملة بالمثل، وعند معاملتنا لأطفالنا نسأل عن حاجاتهم. (في حالة مايكل وأنجيلا نجدهم يركزون على الضرورة دون المفاهيم الأخرى فبدلًا من السؤال عن الاستحقاق أو ماذا فعلوا لهم مؤخرًا، نجدهم يسألون ماذا يحتاج أبنائنا) فلا مبدأ من هذه المبادئ يعتبر نافعًا لكل الحالات، بل في الواقع قد يتنافرون عند الاجتماع، وقد يتم استخدامهم بشكل غير مناسب. فلا يوجد أحدٌ يريد زواجًا قائمًا على الأحقية، أو مكانُ عملٍ قائمٍ على المعاملة بالمثل لأنه فاشل.

وتبعا لذلك ففي الحياة الواقعية نحن نحوم حول حي العدالة. فالمدربة لا تعامل فريقها بناء على المساواة، وللفوز عليها أن تقدّم أفضل اللاعبين غالبًا. لكنها لا تعامله بناء على الأحقية المحضة، فالفريق الجيد يساعد اللاعبون فيه بعضهم عند الحاجة، ويعاملون بعضهم بالمثل، ويكافئون الأفراد المنجزين، ويتلقون معاملة متماثلة كفاية ليشعروا بِصِلَتهم بمشروعهم المشترك.

تنعكس الإحباطات والتعقيدات في نزعة المساواة (egalitarianism) على التعقيد الخفي للمساواة نفسها، فهي تبدو بديهية وسهلة ويمكن لأي أحد أن يعلن وجودها، لكن تحقيقها يتطلب أن نعترف ونُبدّل بين الكثير من المفاهيم المتعلقة بالصواب أي أنه نوع من المساواة الأخلاقية، حتى المساواة في نفسها تعتبر مثالية وغير كافية. فلا يوجد نسخة من الصواب يمكن أن تستبعد البقية.


[1] – يشير إلى ما ورد في سفر التكوين (خلق الله الإنسان على صورته ومثاله)؛ وفي صحيح البخاري (خلق الله آدم على صورته) وانظر الكلام عن الحديث في دواوين السنة. الإشراف.

[2] – هي مذهب ضمن الأخلاق والفلسفة السياسية يرى أن جودة النتاج العام يعتمد على الرفاهية العامة لجميع الأفراد الذين لديهم قدر زائد يُعطى للأفراد الأسوأ حالًا؛ وهي تشبه النفعية، ولذلك فهي شكل من أشكال العواقبية التجميعية؛ إلا أنها تختلف من حيث إنها لا تضع رفاهية جميع الأفراد على قدم المساواة، بل تعطي الأولوية للأفراد الأكثر سوءًا. -الإشراف.

المصدر
newyorker

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى