فكر وثقافة

ما قبليات المعرفة والخوف من الفوات

  • محمد الريوش

في كتاب طريف للفرنسي جان لو شيفلي بعنوان: “تأملات… وغيرها من الأفكار الحرة” يرى أن ما “يتميز به الإنسان النزاع إلى حياة البرية كونه ليس في حاجة إلى معرفة ما إذا كانت ستمطر أم لا”. وذلك راجع إلى أن النزعة الطبيعية تذهب إلى مجاراة الطبيعة والتماهي معها بكل تفاصيلها، فالمشي عاريًا أمر طبيعي، وأكل النباتات، والعيش في الجبال، وعلى الشواطئ، وقطع أكباد المسافات الطويلة حافيًا، أشياء تقبلها الطبيعة…، فالمتماهي مع هاته العقيدة ليس له رغبة في معرفة متى المطر…، إذ لا حاجة تدفعه إلى تلك المعرفة…، والإنسان عندما يعود إلى حياة كهاته يتماهى بشكل تام مع الحيوان في خصائصه، التي منها عدمُ الاهتمام الفكري بقضايا لا تؤثر في وجوده…، فلا شيء داعٍ للقلق سوى الأخطار المحدقة…

لقد كان الدافع للإنسان نحو تعقل المعارف، وتجميع العلوم، ونقل التجارب ما يخدمُ مصلحته في دنياه؛ فالمعرفة تطورية من حيث هي معرفة؛ ومن ثم فالبحث فيما لا طائل تحته أمر يدل على عبث صاحبه، وعلى تفريطه وسوء إدراكه. ولو أخذنا على سبيل التمثيل قصة حي ابن يقضان ـ بغض النظر عن صيغها المختلفة منذ أبدع فكرتها ابن سينا وكذا تطويرها من خلال شهاب الدين السهروردي مرورا بعمل ابن طفيل وابن النفيس ـ نجدُ أنّ أكبر همّ في إنتاج المعرفة الإنسانية هو “الحاجة إلى المعرفة”؛ إذ دون تلكم الحاجة ودون تفسير حدودها وأبعادها لا تكون هناك حاجة، فالحاجة حافز ومحرك ودافع وباعث، وعدم تلبية تلكم الحاجة يعدُ أمرًا غريبًا عن الفطرة، أو بعبارة أخرى أمرًا يتناقض وفكرة “الإنسان” التوّاق إلى تلبية رغباته بما يضمن له الاستقرار النفسي  والاقتصادي والمدني.

إنّ الأبعاد التي يتسع لها الوجود المعرفي توزن بمدى إشباع الرغبات والحاجات الملحة. دون ذلك يبقى الإنسان مجرد سؤال هائم على قدمين؛ الإنسان سؤال يبحث له عن معناه، ولعل ذلك ما كان يقصده الجاحظ بعبارته الشهيرة: “إنّ المعاني ملقاة على قوارع الطرق، وإنما يتميز الناس بالألفاظ”؛ هب أنّ الإنسان في رحلته ينشد معنى لا يتوافق مع حالة لفظه، هل يكون معبرًا؟ إنّ تشبيه الإنسان بـ “السؤال” الماشي على قدمين أمر له معقوليته؛ لأنّ كلا من “السؤال” و”الإنسان” يلتقيان في كونهما “أسلوبًا“: الأول للاستفسار أو الاستنكار وغيرهما من ضروب البلاغة، والآخر في كونه نمطًا صعبًا من أنماط الوعي بالذات وتمظهرها في الخارج.

على مدى الحياة، يحرص الإنسان على رصف وتوضيب ومسح الطاولة، أو ما يسميه ديكارت “بتأجيل الحكم”؛ فكل ما عليه هو من وضعه هو، وما عليها يعكس صورته واختياراته؛ وكل من يراه تغلي “الحاجة” في دواخله بالعبارة التاريخية: “تكلم حتى أراك”؛ فبمجرد كلام الأخير تتمثل طاولته للسامعين فيها كمائدة موسى، أو كعجل بني إسرائيل؛ فالإنسان وهو ينطق بأولى كلماته في وجه المستمع له، يتخيله السامع إما روضة من رياض المدينة الفاضلة، أو حفرة من حفر النار…، ذلك ما تكشف عنه عبارة الإمام علي “الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام”…

كون الإنسان سؤالاً، يقتضي ذلك أن يكون نابعًا من “حاجة” كما تقدم؛ والحاجة ضرورة لها حدود ومقاييس موازين…، وكل خروج وتجاوز لذلك يعدُّ عبثًا وضربًا من الهلوسات المعرفية…، وعدم احترام “الحاجة” إلى السؤال خلق لنا نوعًا من المثرثرين؛ يقولون كل شيء ولا يقولون أيّ شيء! فلا يوجد سؤال دون دافع له، ومن ثم لا يوجد طلب معرفة من غير حاجة…، وما يمكنُ أنْ نراه ونسمعَ عنه في عصرنا هذا أنّ السعي وراء تفاصيل الحياة أضحى عرضًا مرَضِيًّا …، إنه الخوف من فوات شيء ما عن معرفتنا؛ فتجد الواحد منا يتملكه رعب إنْ انقطع عنه الانترنت، وانفصل تتبع آخر أخبار ممثله المفضل…، وربما يتفصد عرقًا إنْ هو فاته كيف يصنعُ الصابون بطريقة تقليدية في جمهورية الموزنبيق…، اثبت أيها الكائن المعرفي لن يفوتك شيء! إنّ هذا اللون من الخوف من أنْ يتجاوزنا الآخرون معرفيًا، بغض النظر عن قيمة تلك المعرفة راجع إلى تلكم الحاجات النفسية غير المشبعة، كما يرى الباحث في جامعة اوكسفورد Andrew Przybylski؛ هذا تفسير ممكن، كما يمكنُ أنْ نضيف إليه تفسيرًا آخرًا هو الفراغ المقيت الذي أدى إلى ظهور اضطرابات في الاختيار…، إنّ اختياراتنا المضطربة سبب الفراغ الذي ينخر خلايا التفكير عندنا.

المعرفة والحاجة إليها مثلها مثل باقي الحاجات؛ فحاجتنا محدودة بالشبع، وحاجاتنا الجنسية المرتبطة بالقدر الذي نلبيها بها…، تعقل المعارف يجعلنا نرى أنّ ما يربطنا بالمعارف عاطفي أكثر منه عقلي، فالميل إلى المعرفة ميل انفعالي، فلا يميل أحد منا إلى المعرفة باختياره، إننا نهوي نحو المعرفة قسرًا…، إنّه نفس التعبير التوارتي: עֵץ הַדַּעַת טוֹב וָרָע،  شجرة معرفة الخير والشر؛ لذا فالمعرفة لها لذة وألم يقودان الإنسان إن لم يكونا معقلنين إلى متاهات وضياع…، كل معرفة لا تنتج لا يعول عليها “وعرف آدم حواء امرأته فحبلت…”، فالحمل ضرورة كل معرفة…، وعقم المعرفة أحد أسبابه عدمُ مراعاة ظروف نجاحها…، إنّ طلب المعرفة دقيق للغاية، ولكأنه استعداد جنسي لا مثيل له، نجاحه قائم على تحقق المثير، والاستعداد الذهني، وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك.

المعرفة محدودة بأفق الحاجة إليها. وأنّ ما نبيه من سقف آمال لا ينبغي هدمه بعبث في التوجه؛ صحيح أنّ العُقد النفسية التي خلقها لنا التقدم التكنولوجي، جعلتنا “كائنات مترقبة”، وكأننا مبشرين بنبي جديد، أو لعنة قادمة…، نتساءل في فزع: “ما العمل؟”، وإنْ كان لا شيء يدعو للعمل…، ونتساءل “أين المفر؟”، وإنْ كان لا شيء يدعو للفرار…، إنّ الكائن المترقب غريب الأطوار حقًا…، إنّه ريشة في مهب الريح…، سمعت مؤخرًا عن شابة ألمانية انقطعت عن صفوف الدراسة احتجاجًا على السياسة الحكومية تجاه البيئة، قد تبدو فكرة مجنونة بالنسبة لطالب مناضل وكسول…، أهكذا هي نهايتنا؟ إنّ الأنماط الفكرية تتغير…، ولست أدري كيف سيكون مستقبل الإنسان بعد حينٍ من الدهر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى