- أسد دانديا
- ترجمة: علي عبد الله
- تحرير: محمود سيّد
يأتي فصل الشتاء وسط هذه الجائحة التي نمرُّ بها، كأنّ أزماتنا لا نهاية لها. إنّ بُنية التمييز العنصري لأصحاب البشرة السوداء، قد تعرَّتْ بالكامل عَيانًا للناس. وتعرِّفُ المطالِبةُ بإلغاء السجون روث ويلسون غيلمور هذه البُنية بأنّها العقوبات التي تُصدِرها الدولة أو هي تجاوز القانون واستغلال الجماعات الضعيفة على اختلافها لدفعها نحو موتٍ مبكّرٍ. ومن المؤكّد أنّ حالة الطوارئ التي نعيشها اليوم بالنسبة لأصحاب البشرة السوداء والسكان الأصليين ليست الاستثناء ولكنها القاعدة، كما كتب فالتر بنيامين ذات مرةٍ. ومما زاد الطين بِلّةً، استمرار الطبقة السياسية والنخبة المثقّفة في طرح النيوليبرالية نفسها من خلال الإصلاحات القائمة على السوق والتي هي المسؤول الأول عن الحالة الراهنة. إنّ لحظتنا الثقافية تتمثّل بشكلٍ جيدٍ في تفسير أنطونيو غرامشي لمفهوم فراغ السلطة أو تعليق عمل الدولة أو الحكومة، إذ يقول: “تتمثّل الأزمة بشكلٍ دقيقٍ في حقيقة أنّ الكبار يموتون بينما لا يتمكّن جيلٌ آخر من أنْ يولد، وفي هذا الفراغ تظهرُ أشكالٌ كثيرةٌ من عوارض الكآبة”.
لو كان ثَمّة أيّ شيءٍ لنتعلمه من التمرّد الذي أعقب مقتل جورج فلويد، وانعكاساته حول العالم، فهي تلك الاحتمالات بظهور نظامٍ اجتماعيٍّ جديدٍ، ومن ثَمّ ظهور طرقٍ جديدةٍ للتحرّر من الفراغ. لقد صارت الإجابة بالنفي كلمةً شائعةً عندما نسأل الناس عما إذا كانت السجون وأعمال الشرطة ضروريةً لحفظ سلامة المجتمع، أو عمّا إذا كانت الدولة القومية كشكلٍ من أشكال التنظيم السياسي تسير في الطريق الصحيح. إنّ طرح هذه الأسئلة بمثابة تحدٍّ للظروف التي جلبت لنا انهيارًا اقتصاديًّا وكارثةً بيئيةً وصعودًا لليمين الفاشي، والتي تفاقمت جميعها بفعل الجائحة العالمية. وفي ذلك تكتب توني موريسون: “هذا هو الوقت المناسب لذهاب الفنان إلى عمله. لا وقت لليأس، ولا مكان للشفقة على النفس، ولا حاجة للسكوت، ولا مكان للخوف. نحنُ نرفع صوتنا، نكتب، نُجسِّد اللغة. وهكذا تتعافى الحضارات.”
إنّ طول مدّة الحظر بسبب الوباء وفراغ الوقت الذي نَجَمَ عن ذلك، فاقمَ الأزمة بالنسبة للكثيرين. إنّ التعريف العلماني والمفهوم الثابت للزمن، الذي يعتمده أكثرنا قد تفكَّكَ على صعيدٍ عالميٍّ، وردّ كلَّ ادعاءٍ بوجود النظام والحياة الطبيعية. وبدلًا من أن نسأل عما إذا كان بإمكاننا العودة إلى الحياة الطبيعية على الرغم من أننا لا نستطيع، أودّ تسليط الضوء على التفكير في فتح طرقٍ جديدةٍ في ما يتعلق بالزمن وسط أزماتنا. إذا كان الوضع “الطبيعي” هو ما أدخلنا في الأزمة، علينا إذًا التساؤل عن مركز هذا الوضع والتفكير بشكلٍ طموح حول كيفية تطوير المفاهيم واللغة لنحرّر أنفسنا من قبضتهما. كيف نفهم الأزمة في الزمن، والأزمة والزمن، وأزمة الزمن، والأزمة كزمن؟ والأهمّ من ذلك، كيف نفعل ذلك دون تعزيز التركيبة المعرفية التي نسعى للخروج منها؟
بحثًا عن أجوبة، سأرجع إلى فالتر بنيامين، الفيلسوف الألماني اليهودي الذي ظهر في أوائل القرن العشرين والذي به افتتحت مقالتي، لأضعه في حوارٍ مع مُفكرٍ إسلاميٍّ عاش في الحقبة نفسها وهو الفيلسوف محمد إقبال. بُغية الهروب من قفص الزمن، نجد تداخلًا لافتًا بين ما كتبه بنيامين في العام 1942 بعنوان “رسالة في فلسفة التاريخ”، وما كتبه إقبال في كتابه الذي نشره في العام 1930 بعنوان “تجديد التفكير الديني في الإسلام”، حيث يرجع الكاتبان إلى تقاليدهما الدينية المختلفة ليفسّروها تفسيرًا يتحدّى القيود المعرفية الصارمة (مثل التديّن والعلمانية)، التي يفرضها عليهم مفكّرونا الحاليّون. ما المعلومات التي يمكن استخراجها من هذه الأعمال لنُعيد التفكير بطريقة فهمنا للزمن والتاريخ في ظلّ أزمةٍ وبائيّةٍ يبدو أنها عطّلت أفكارنا؟
على عكس فهمنا للزمن والتاريخ بأنهما يتبعان مسارًا خطّيًا، يقدِّم لنا مُحاوِرانا فُرصةً للتفكير في ما كتبه الباحث طلال أسد في كتابه الصادر في العام 2003 بعنوان: “تشكّلات العلمانية”، إذْ يذكر فيه مصطلح “الزمن المُتباين” الذي يعني مفاهيم الزمن التي تُحرّك العديد من تقاليدنا الدينية، والتي تنزع الحاضر من الماضي باستمرارٍ، وتنزع العالم المُجرَّب من العالم المُتوقَّع، وتُنادي بتغييرهما وإعادة الاتصال بينهما. ولنبدأ بالتأكيد على وجود عدة طرق لنتصوَّر بها الزمن، وتُمكِّننا من الخروج من هذا المأزق. ربما يمكننا عن طريق إحياء مفهوم “الزمن المُتباين” أن نُبطل مفاهيم الزمن والتاريخ المنطقية والحسابية والخطية التي كانت مفروضةً علينا من خلال الرأسمالية والدولة العلمانية القومية الحديثة.
يتصارع إقبال مع الزمن في الفصل الثالث من كتابه، مُنتقدًا ما يُسميه “المذهب الذرّيّ للزمن” والذي يربطه بالمدرسة الأشعرية. يقول إقبال بأنّ الزمن عند الأشاعرة هو تتابع الآنيّات الفردية، ويترتب على هذا الرأي بوضوح، أنه بين كل آنَيْن فرديَّيْن أو بين لحظات الزمن توجد لحظةٌ غير مشغولةٍ أي خاليةٌ. وهذا معناه أنّ هناك خلاءً أو فراغًا في الزمان، وهو مفهومٌ يراه إقبال غير معقولٍ. ثم يتابع لينتقد نظرة الأشاعرة إلى هذه المسألة من ناحيةٍ “موضوعيّةٍ خالصةٍ”. وبالتالي، فقد فشلوا في إدراك الجانب الذاتي للزمن. وحتى نُحرِّر أنفسنا من هذا النظام، لا يجب التفكير بالزمن على أنه ذرّيّ بل على أنه “عُضوي”، أي كعلاقةٍ جدليّةٍ بين “الكينونة المطلقة” والتي تعني الإله الذي يُدرِك ويعلَم وله الغنى المُطلق، وقدرته غير المحدودة على الخلق، و”الأنا” التي تعني الإنسان، الذي يُمثّل بدوره واحدةً من هذه القدرات غير المحدودة. ولذلك فالأنا هي الحياة الخالدة لكنها في الوقت نفسه الحياة داخل إطار الزمن.[1]
لنأخذ مثالًا ملموسًا، يُقدّم إقبال تحليلًا لقصة “هبوط آدم” مقارِنًا بين الرواية القرآنية والرواية الإنجيلية. في هذه القصة، يدخل البشر العالم المؤقت، حيثُ للزمن والتاريخ بدايةٌ. يشير إقبال إلى أنّ القرآن في قصصه نادرًا ما يقدّم لنا كَمًّا مُهمًّا من التفاصيل التاريخية، لكنه يهدف إلى توجيهنا إلى أخلاقٍ كُلّيةٍ أو معنىً فلسفيٍّ، إذْ ليست الأولوية للأسماء والأرقام لكنها للعِبَر والدروس الأخلاقية التي تُشير إليها القصص. ويُنادي القرآن قارئيه إلى استرجاع قصص الأنبياء واستذكارها، في إشارةٍ لهم بمساهمتهم في الأحداث. فالتاريخ القرآني إذن هو تاريخٌ شاملٌ يخرج بدفعاتٍ، حيث توضع “الأنا” في حوارٍ مع “المطلق”. وفي هذا المعنى، تعيش الذات في الأبدية (أي في علاقةٍ جدليّةٍ مع الإله)، وتعيش في ما يسمّيه إقبال “الزمن المُتسلسل” على حدٍّ سواءٍ (وهو الزمن المنظِّم لحياتنا اليومية).
في قصة هبوط آدم في القرآن، تُخرَج البشرية من الجنة بسبب الأكل من الشجرة المحرَّمة، مع أنّ تلك الجنة ليست هي التي وَعَدَ بها القرآنُ في الدار الآخرة، لكنها مكانٌ آخر موصوف بـ”الدار الأبدية للصالحين”.[2] وفي ذلك المكان، أي في الجنة التي أُخرِج منها آدم، وقعَ الحدث الأول وهو معصية الإنسان لربه ثم تبعها إخراجه منها. يقول إقبال أنّ المحطة الأولى للإنسان قبل الهبوط ترمز إلى حالةٍ بدائيّةٍ يكون فيها الإنسان غير مرتبطٍ عمليًّا بمُحيطه، وبالتالي لا يشعر بالحافز القوي عند الإنسان بالتوالد، والتي تكفي لوحدها لتكون علامةً على بداية الثقافة الإنسانية. وبالتالي، فإنّ الهبوط كأزمةٍ جوهريّةٍ ينعكس بالحقيقة كصعود: فهو أظهرَ قُدرة الإنسان على العصيان والرفض والتمرّد، وهي الصفات عَينُها التي جلبت عليه المغبّة في الجنة، وبذلك ترقى البشرية إلى حالاتٍ أعلى على الأرض.
يقول إقبال بأنّ معصية الإنسان الأولى هي أيضًا التجسيدُ الأول لإرادته الحرة، ولهذا غُفِرَ لآدم ذنبه الأول حسب الرواية القرآنية. ولم يعُدِ الخير الآن قضية إكراهٍ، بل هي النفس الحرة المُستسلمة للمُثُل الأخلاقية، وهي ما ينبعُ من رغبةٍ في التعاون بين الذواتِ الحرة.
إنّ جوهر الأزمة في السرد الإنجيليّ يُصبح مكانًا للحرية المطلقة في الرواية القرآنية.
في هذه القراءة لهبوط الإنسان، يُحافظ إقبال على دقة السرد القرآني لكنه يُدخل عليها ضرورة الإبداع والإرادة الحرة التي يجب أن تجدّد نفسها في كل لحظة بدل أن تسلك طريقًا محددًا مُسبقًا. ويقول إقبال أنّ الكائن الذي حُدّدت كل تحركاته مُسبقًا كالآلة لا يُولِّد خيرًا. إنّ الحرية في الفشل تُعطي معنىً لحرية النجاح، وفي المصائب وحدها يُصبح ظهور النصر مُمكنًا. وهذا لا ينحصر بالإنسان بل يشمل الإله أيضًا، فالاثنان في علاقة عُضوية، يقول إقبال: فالإله قد خاطرَ ليُظهِر عظيم ثقته بالإنسان، وعلى الإنسان الآن أن يُبرِّر هذه الثقة.[3]
يتقاسم فالتر بنيامين التوجّه نفسه مع إقبال في مُقاربته للزمن. فالمسار الفكري لكِلا الرجلين قد تشكَّلَ عن طريق الأزمات التاريخية: فقد كان الاستعمار البريطاني بالنسبة لإقبال، وصعود النازية بالنسبة لبنيامين. ولقد كان هذا الأخير مُنزعجًا كما كان إقبال من مفهوم الوقت الذي يدّعي أنّ مساره التاريخي مسارٌ خطيٌّ مُحدّدٌ مُسبقًا. لكننا إذ نجد أنّ إقبال ينتقد جمود التفكير الديني، نجد بنيامين يُصوِّب نحو ما كان يراه تاريخانيةً مُبتذلةً قد تجاوزت النظرية الماركسية.
في بحثه التاسع، يُعيد بنيامين تخيّلَ لوحة “الملاك الجديد” لـ”بول كلي” كتمثيلٍ لـ”ملاك التاريخ”، مدفوعًا إلى الوراء بعاصفةٍ قويةٍ كل ما تستطيع فعله هو مشاهدة تجمع بقايا الحطام وراءها. يقول بنيامين: “هذا الذي نسمّيه تطوّرًا هو نفسه العاصفة”، وتجمّع بقايا الحطام يمثّل كل أزمات الماضي. إنّ مُهمة التاريخية المادية هي أن تجمع القِطَع عن وعيٍ، وتُصلِح الماضي وتمزّق بذلك الحاضر. هذه المهمة النشطة تقف بعكس عمل المؤرخين، الذين يرون أنّ الماضي فترةٌ منتهيةٌ في مسيرة التطوّر. يسعى بنيامين من خلال تدخُّله تخليص التاريخية المادية من التاريخانية.
قدّم إقبال شيئًا مشابهًا خلال مُناقشته للعلم والزمن الإلهيَّيْن. فالمعرفة كما التطوّر ليست ثابتةً لكنها بالأحرى تُشير إلى نوع من التجمع والتطور. بشكلٍ مُشابهٍ لما طرحه بنيامين في “ملاك التاريخ”، الذي يرى كل الماضي في لحظةٍ واحدةٍ، يفكّر إقبال في مفهومٍ للعلم الإلهيّ يجعل الإله عليمًا بشكلٍ فوريٍّ بالتاريخ بنظرةٍ شموليةٍ تَعتبرُ الأحداث مُنظمةً في “الحاضر” الأبدي. إنّ هذا الطرح الجذاب الذي يُقدِّمه إقبال يُحافظ على فكرة علم الإله السابق، إلا أنه يستبعد مفهومًا شاملًا هو حرية الإله. إنّ المستقبل بلا شكٍّ موجودٌ مُسبقًا في الكل العضوي لحياة الإله الإبداعية، لكنها موجودةٌ مُسبقًا كإمكانيةٍ مفتوحةٍ وليست كترتيبٍ ثابتٍ للأحداث بمخططٍ واضحٍ.[4]
في حُجّةٍ مشابهةٍ لهذا الاحتمال الجوهري، يؤكّد بنيامين أنّ التاريخ ليس ببساطةٍ أرشيفًا يُقاس بالتواريخ أو يكتشف من خلال الوثائق، لكنه بالأحرى شيءٌ موجودٌ لـ”يُصنع” مرارًا وتكرارًا. ويكتب بنيامين في بحثه الرابع عشر أنّ التاريخ هو مادة البناء التي لا يتشكّل مكانها بشكلٍ متجانسٍ وزمنٍ فارغٍ، بل في ما يتحقّق بالزمن الحالي. يحتجّ بنيامين في بحثه الخامس أنّ التاريخانيين يدّعون أنّ الحقيقة لن تهرب منا لأنها دائمًا هنا، وعلى العكس، فالتاريخيون الماديون يرون أنّ واجب الحقيقة تجاه التاريخ هي أن تتواجد حين يجب أن تتحكم بالذاكرة لتظهر في لحظة الخطر. والأمر نفسه بالنسبة لإقبال، فالتاريخ ببساطة لا يُمكن أن يُتخيَّل كصورةٍ تظهر تدريجيًّا لأحداثٍ مرتبةٍ ومحدَّدةٍ مُسبقًا، لأنها بذلك لن تترك مكانًا للتجديد والمبادرة. وبناءً على ذلك، لا يمكن لكلمة “خلق” أن يكون لها معنًى، والتي نرى معناها فقط من خلال نظرتنا لقدراتنا على القيام بحركة مُبتكرة. ونُشير هنا إلى أن الأشعرية تُمثِّل لإقبال ما تُمثِّله التاريخانية بالنسبة لبنيامين.
يعتمد بنيامين أيضًا على التقاليد اليهودية في استذكار موتاهم، والتي تُرسِّخ له بتطبيق عملي تفسير التاريخ بمفهوم “المدى الطويل” longue durée الذي يرى أنّ الماضي مُرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ بالحاضر. وبحسب ما كتب بنيامين في بحثه الثامن عشر، فقد كان تحريم التنبُّؤ بالمستقبل وتقاليد استذكار الماضي هما اللذان حفظا اليهود من الانغماس في الزمن المُتباين الفارغ: فمن المعروف أنّ اليهود ممنوعون من التنبُّؤ بالمستقبل، فالتوراة والصلوات تُقيِّدهم بتعاليم محدَّدةٍ على عكس تقاليدهم في استذكار الموتى. إنّ التركيز في قُدّاس اليهود على تذكّر الماضي بينما يرسِّخ الفردُ نفسَه في الحاضر، يُقدِّم ذلك لكل لحظةٍ فرصةً في الحرية والخلاص. ويقول بنيامين أنّ تحريم التكهُّن بالمستقبل لم يُرْضِ البعض، لكنه على الرغم من ذلك لم يُحوِّل المستقبل إلى زمنٍ مُتباينٍ وفارغٍ عند اليهود، لأنّ كل ثانيةٍ هي الطريق الضيّق التي منها قد يدخل المسيح. ليس بإمكاننا ببساطةٍ تجاوُز مُشكلة الزمن من خلال توقّع مستقبل تخليصي، بل من خلال العمل بصورةٍ واعيةٍ على استرجاع كل لحظات الزمن في الحاضر.
إنّ إمكانية إبداع الإنسان -بحسب إقبال وبنيامين- قائمةٌ بشكلٍ مُحدَّدٍ؛ لأنّ ما يمثّل أمامنا لا يُمكن أن نعرفه، وبالتالي، يجب أن يكون مصنوعًا بصورةٍ واعيةٍ. وهذا ما يكون بالضبط في الأزمة سواءٌ كانت هبوط الإنسان أو إعصار التطوّر حيث تكمُن فرصٌ جديدةٌ للخلاص. وبالتالي، فإنّ العمل الإبداعي يتطلَّب انتباهًا ضروريًّا للحاضر دون التسليم لما “يجب” على المستقبل أن يكون عليه. ينتقد بنيامين المفاهيم المحدَّدة مُسبقًا للتطوّر، بينما ينتقد إقبال المفاهيم المحدَّدة مُسبقًا للزمن، وكلاهما يرى أنّ انتقاده لتقاليده يقوده إلى استنتاجاته التحرّرية. ويقول إقبال أنه يؤمن بوجود غايةٍ إلهيةٍ في الكون، لكنها في النهاية سوف تجد تجسيدها الكامل في إنسانٍ أرقى، وليس في إلهٍ خاضعٍ للزمن[5]. إنّ قراءة حوار بنيامين وإقبال يعني أن نستعيد التاريخ والزمن كأماكن نستطيع فيها أن نجعل التطبيق العملي الجوهري أمرًا ماديًّا.
ليس الزمن في إسلام إقبال ولا في يهودية بنيامين خطيًّا ولا دائريًّا، لكنه مُتجدّد. وهذا التجدّد هو بالتحديد ما يُمكِّننا من تصوّر العالم مجدَّدًا، سواءٌ كان ذلك مدفوعًا بتصوّرٍ خطيٍّ مُسبقٍ، أو كان محصورًا بنهايةٍ لدورةٍ أبديةٍ. من أجل فهم ذلك، علينا التغلّب على عجزنا والقفز نحو التحرّر. مع أننا نتصارع مع الوضع العالمي الحالي أي الفراغ، ونحلم بالإمكانيات الاجتماعية الجديدة، يجدر بنا أن لا نُسلِّم أنفسنا للنماذج التي تجعل مُخيّلاتنا رهينةً للواقع الحالي. إننا في أزمةٍ، لكننا من خلالها تحديدًا سنجد حرّيتنا.
[1] أي أن الإنسان تتجلى فيه قدرة الخالق تعالى، والحياة الخالدة هنا يقصد بها الروح، التي توجد في الدنيا، ثم الآخرة. (المراجع)
[2]خلاف بين المفسرين هل الجنة التي كان فيها آدم هي جنة الخلد أم لا، وإقبال اختار القول الثاني، أنها غير جنة الخلد، ورجح شيخ الإسلام لأدلة ذكرها أنها جنة الخلد. (المراجع)
[3] يتحدث إقبال هنا عن حرية الإرادة وأنها ضرورية لمبدأ الثواب والعقاب، فإذا لم تكن حرا في أن تخطئ، فلا معنى للتكليف. بالطبع قد عبر عن هذا المعنى بعبارات قد لا تليق في الحديث عن الذات الإلهية، ولا يُوافق عليها. (المراجع)
[4] ينطلق إقبال هنا من خلفية صوفية فلسفية، ويتحدث عن علم الإله بالجزئيات، لكنه هنا يحاول نقد مسألة التطور التاريخي، وأن التاريخ يسير في اتجاه خطي، لكن النقد جاء على حساب مسألة علم الله السابق وتقديره للخلق؛ مخلوطًا مع فكرة وجوب الأصلح على الله من المعتزلة؛ فوجب التنبه. (المراجع)
[5] المقصود أن التقدم والتطور لن يحدث بأن نعزو كل ما يحرزه الإنسان للمنحة الإلهية جاعلين الإله خاضعا لما يحدث في الزمان، بل بأن يسمو هذا الإنسان ويحقق غاية الله من خلقه. (المراجع)