- باول أبيلا
- ترجمة: أحمد التويجري
- تحرير: عبد الرحمن الجندل
يكون الاقتصاد صحيًا إذا كان ينمو، وكلما كان الاقتصاد أكبر كان المجتمع أفضل حالًا وأكثر تطورًا؛ تلك هي الأفكار المتجذرة في أعماق الأنظمة الاقتصادية، وتصعب مناقشة مقولة أن النمو الاقتصادي هو الهدف بحد ذاته وهو الدليل على تطور المجتمع.
كانت الثورة الصناعية سببًا لنموٍ اجتماعي غير مسبوق؛ ففي عام: 1820م، كان 90% من العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما في عام: 2015م، انقلب الحال فأصبح 90% من العالم يعيشون فوق خط الفقر، وبالنسبة للتعليم ففي عام: 1800م، كان المتعلمون يشكلون 12% من سكان العالم، بينما في عام: 2016 أصبح 86% من الناس متعلمين.
إن أيَّ تحسنٍ في مؤشر من مؤشرات الاقتصاد يؤدي إلى ازدهار المجتمع، لكن ما إن يصل الاقتصاد إلى سقف معين من النمو ينفك ارتباطه بازدهار وتطور المجتمع، أي بعد هذه النقطة، لا يؤدي النمو الاقتصادي إلى تحسن في حال المجتمع؛ وقد استقصى أستاذ الاقتصاد: (ريتشارد إيسترلين) هذه الفكرة، فأشار إلى أن مستوى السعادة في أمريكا لم يتزامن مع فترة النمو الاقتصادي في الفترة ما بين: 1946م، و1970م، والتي كانت بعد الحرب العالمية الثانية.
عُرفت بعد ذلك مفارقة إيسترلين والتي تدور حول عدم المساواة في توزيع الثروات، فالاقتصاد يمكن أن ينمو، لكن هذا النمو قد يصب في أرصدة الأغنياء دون الفقراء، فالفقراء يزدادون فقرًا والأغنياء يزدادون ثراءً، ولذلك لا ينعكس تحسن الاقتصاد على حال المجتمع.
ليست المشكلة في تكوين الثروات؛ بل في تضخم هذه الثروات واحتكارها بأيدي قلة من أفراد المجتمع، ففي الولايات المتحدة 20% من مجموع الثروات يملكه أفراد يشكلون 0.1% من المجتمع. أيضاً، فإن مجموع ما يملكه أفقر 3.8 مليار شخص، يساوي ثروة أغنى 26 شخص في العالم.
الهدف من الاقتصاد المتنامي
إن إعادة توزيع الثروة قد تخفف من آثار مفارقة إسترلين، لكن هل يمكن تفسير المفارقة بشكل أبسط؟!
حيث إن السعادة لم تكن يومًا هدفًا للنمو الاقتصادي؛ بل إن الهدف من النمو الاقتصادي هو الاستمرار في النمو، وهذا لا يؤدي بالضرورة إلى مجتمع أكثر سعادةً وأكثر رفاهية، وإن من يطرحون فوائد النمو الاقتصادي لم يذكروا يومًا أن السعادة هي الهدف النهائي، وإنما يذكرون أن الازدهار الاقتصادي هو الهدف المنشود، وهو الذي يؤدي إلى زيادة ثروات المجتمع.
يعد الناتج الإجمالي المحلي، هو الأداة الأكثر شيوعًا لقياس أداء الاقتصاد في مجتمعٍ ما، وكثيرًا ما يُستخدم الناتج الإجمالي المحلي كمؤشرٍ على مستوى معيشة الفرد؛ فإذا نما الاقتصاد وزاد الناتج الإجمالي المحلي فهذا جيد، وإن قلّ فالعكس هو الصحيح.
وبالنظر لذلك نجد أن الناتج الإجمالي المحلي لا يخبرنا عن حال المجتمع، ويشهد لذلك ما قاله (روبرت كينيدي): “الناتج الإجمالي المحلي يقيس كل شيء عدا ما يجعل الحياة ذات قيمة”.
إن المشكلة في الناتج الإجمالي المحلي هي نفس المشكلة مع النمو الاقتصادي بشكل عام، وهي أننا نركز على النمو الاقتصادي دون النظر إلى حال المجتمع؛ هل نستطيع التأكد من أن حاجات الناس مُجابَةٌ إذا كان مقياسنا لا يدرجها ضمن معاييره؟ إذا كانت السعادة ليست الهدف النهائي، فلا يمكن القول إن النمو الاقتصادي يؤدي بالضرورة إلى ازدهار المجتمع؛ لكن هل السعادة شيء يمكن قياسه؟
حتى لو حاولنا فالناس ليسوا متفقين على ما يُشعرهم بالسعادة، فما يُسعدني يختلف عما يُسعد غيري؛ ويبقى السؤال إذن: هل يمكن أن نجد هدفًا يمكن قياسه وتحقيقه؟ هدفًا يمكن أن يتطلع أي اقتصاد لتحقيقه لجعل المجتمع يزدهر؟ وإذا كان الجواب بنعم، فهل يمكن للاقتصاد أن يساعدنا في ذلك؟
المشكلة المرتبطة بالنمو المستدام
عندما نفكر في جعل الاقتصاد المتنامي رافدًا لتحقيق الازدهار والرخاء للجميع؛ فنحتاج أن نناقش المشاكل المحتملة التي تصاحب الاقتصاد المتنامي.
في عام: 1972م، صدر كتاب بعنوان “حدود النمو”، يَطرح ولأول مرة فكرة أن عملية النمو لا يمكن أن تكون دائمة على الأرض لأن الموارد فيها محدودة[1]، ولقد كان هذا الطرح صادمًا؛ حيث أشار إلى أن النمو المستمر على كوكب ذي موارد محدودة مستحيل، كما توقع الكاتب أيضًا أن عدد السكان سينكمش في نقطةٍ ما خلال القرن الواحد والعشرين وذلك حينما نواجه محدودية الموارد؛ فالموارد الطبيعية التي نعتمد عليها لن تصبح كافية للنمو بل ستصبح معيقةً له.
وكما قال (كينيث بولدينغ ساخرًا): “إن أي شخص يعتقد أن النمو المتسارع يمكن أن يستمر إلى الأبد في عالم محدود فهو إما مجنون أو خبير اقتصادي”.
لكن استحالة استمرار النمو في الأرض بسبب محدودية الموارد أصبحت فكرة مثيرة للشفقة، وأُشبعت نقدًا؛ لأنها تختبر اللبنات الأساسية لنظامنا الاقتصادي، وعلى الرغم من أن كثيرًا من الاقتصاديين يعارضون ما ورد في الكتاب، لكن ما ورد فيه أثبت دقته؛ ودليلُ ذلك أن اعتمادنا وبحثنا عن مصادر أكثر، يدل على شح الموارد، وأننا بدأنا في مواجهة محدودية الموارد.
سبب يدعو إلى التغيير
إن المشاكل البيئية التي نشهدها اليوم تحتّم علينا تغيير نظرتنا للعالم وللاقتصاد، فعلى سبيل المثال: الاحتباس الحراري؛ حيث إن مشكلة الاحتباس الحراري ليست مشكلة قائمة بذاتها وإنما هي نتيجة لمشكلة قائمة وهي عقيدة البحث عن النمو المستدام.
هذه مسألة صغيرة تتعلق بالتأثيرات البيئية على الاقتصاد؛ فالنمو أو الزيادة الدائمة هدف يُشكل كل قرار تجاري، وكل قرار سياسي، وهو الحافز الكامن وراء رغبات كل شخص، وإن الاقتصاد يحفز كل واحد منا على عمل أمور تؤثر سلبًا على البيئة، حتى صار تدمير البيئة هو وسيلتنا التي نعتمد عليها للنجاة!
من المهم أن ندرك أن النمو الزائد عن الحاجة لا يؤدي إلى تحسن حال المجتمع، ناهيك عن أن النمو المستدام يؤدي إلى تدمير البيئة وليس لدينا حل لهذه المشكلة؛ ولذلك يجب أن نغير اقتصادنا إذا أردنا أن نحافظ على بقائنا.
الاقتصاد القائم على احتياجات الناس
على الرغم من صعوبة إعادة تصميم الاقتصاد، لكنه في المقابل يتيح لنا فرصة إبداع نظام يوفر حياة كريمة للجميع.
ماذا يحتاج الإنسان ليعيش حياة كريمة؟ يجب أن نضع هذا السؤال في المقدمة عندما نريد إعادة صياغة الاقتصاد.
حاول الاقتصادي التشيلي: (مانفريد ماكس نيف) الإجابة على هذا السؤال؛ إذ يقول مانفريد ماكس نيف: “إن جميع البشر لديهم حاجات أساسية بغض النظر عن تاريخهم أو البيئة التي أتوا منها، هذه الحاجات ثابتة بينما تتغير الرغبات وما يُشبعها عبر الزمن، الرغبات سائلة وتعتمد على ثقافة وتاريخ كل شخص أو مجتمع.”
الاحتياجات البشرية متداخلة وتعتمد على بعضها البعض، وهي عبارة عن نظام متكامل، فإذا أردنا أن نلبي رغبة واحدةً فيجب أن نكون قادرين على تلبية جميع الرغبات، ولابد أن نعي بأنه لا يوجد تسلسل هرمي للاحتياجات؛ فضرورة كل احتياج مساوية لضرورة الاحتياجات الأخرى باستثناء ما نحتاجه لنبقى على قيد الحياة، فلا يمكننا أن نناقش الاحتياجات وليس لدينا طعامٌ أو شراب لأننا سنموت قبل أن ينتهي النقاش.
مصفوفة الاحتياجات
يقول ماكس نيف: إن للإنسان تسع حاجات أساسية وهي: الحاجة إلى البقاء، الحاجة إلى الحماية، الحاجة إلى الاهتمام، الحاجة إلى التفاهم، الحاجة إلى المشاركة، الحاجة إلى الترفيه، الحاجة إلى الإبداع، الحاجة إلى الهوية، والحاجة إلى الحرية.
ونحن نشبع حاجاتنا من خلال: وجودنا وتعزيز صفاتنا الشخصية، وتملك الأشياء المادية، والتعبير عن مشاعرنا، والتفاعل مع ما حولنا، وعلى سبيل المثال: لنشبع حاجتنا للبقاء نحتاج إلى مسكن ومطعم لنحافظ على صحتنا.
ليس هناك دليل أو قالب جاهز لإشباع احتياجات الإنسان، وكل احتياج يمكن تلبيته بطرق لا حصر لها، لكن من الجيد أن يكون لنا تصور لما نحتاجه لنعيش حياة كريمة، وأيضًا لنضع في الحسبان أننا يمكن أن نقع في مُشبعات زائفة توهمنا أنها ستشبع احتياجاتنا، لكن ما إن نحصل عليها حتى يحدث العكس.
لنأخذ الاستهلاك كمثال لتلبية احتياجاتنا: الدعاية توهمنا أننا إذا اشترينا المزيد فإننا نُشبع المتعة والهوية لدينا، وهي تعطينا هذا الشعور بالإشباع، لكن هل هذا الإشباع حقيقي؟ نحن في الحقيقة نجري على جهاز السير المتحرك، نركض في مكاننا، نحاولُ أن نتبع آخر صرخات الموضة، والضغط التي نتعرض له للمحافظة على مظهرنا قد يؤثر على شكل الهوية والتي هي من أهم الحاجات الأساسية عند الإنسان.
وثمة نوع آخر منها وهي: المُشبِعات المُعيقة، وهي التي تجعلك تُشبِع حاجةً واحدة لديك وفي نفس الوقت تمنع إشباع حاجة أُخرى؛ فمشاهدة التلفاز بشكل مفرط -مثلًا-، تُشبع لدينا الحاجة إلى المتعة، لكن تُضعف لدينا حاجات أخرى مثل الحاجة إلى الفهم والإبداع والهوية، وفي المقابل، هناك مُشبعات تستطيع أن تشبع أكثر من حاجة في نفس الوقت كالرضاعة فهي تُشبع الحاجة إلى البقاء، وفي نفس الوقت تحفز الحاجة إلى الحماية والهوية والعاطفة.
الاقتصاد القائم على الاحتياجات
عندما يُبنى الاقتصاد على احتياجات الإنسان، -بدلًا من النمو غير المتناهي كما يُزعم- يكون للاقتصاد رؤية محددة؛ وعندما يكون لدينا رؤية شاملة، ويكون لدينا تصورٌ واضح للنجاح، فهذا سيسمح لنا بتوجيه الاقتصاد إلى الأهداف المنشودة.
الهدف ليس خلق المدينة الفاضلة (مدينة أفلاطون)، فلو أن كل شخص لدية معرفة لحاجاته وكيف يُشبعها، لما احجتنا إلى اللهث خلف السعادة المؤقتة أو المتوهمة، وقليل من يعرف الاحتياجات، وإن عرفها فلا يستطيع تلبيتها.
وفي الوقت الحالي، مبدأ البحث عن النمو المستدام يتغلغل في كل منحى من مناحي الحياة، وإن تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد يخدم احتياجات الإنسان، سيُعيد تشكيل المجتمع وسيغير دوافعه.
تغيير توجه الحكومات
الحكومة ستلعب دورًا كبيرًا في دعم المجتمع للحصول على احتياجاته، وهي في الوقت الحالي تطرح البرامج بهدف ربح أصوات الناخبين، وإن ما نحتاجه من الحكومات، هو المقدرة على طرح خطط تهدف إلى تلبية احتياجات الناس.
المشردون في المملكة المتحدة مثال جيّد، تعد المملكة المتحدة من أغنى دول العالم بحسب الناتج الإجمالي المحلي، وفيها ما يقرب من: 320.000 ألف متشرد، وفي المقابل فإن لدى الحكومة المال والموارد لحل هذه المشكلة، لكنها لا تسعى إلى حلها لأنها ليست من أولوياتها.
لو طرحت الحكومة فكرة أنها ستضع خطة وتنفق مقدارًا من المال لحل مشكلة التشرد، لكان الرد بأنه من الأفضل أن ننفق المال في أمر له جدوى أكبر.
التركيز على المشاكل الاجتماعية
إن عدم حل مشكلة المشردين، يُبين لنا أن الاقتصاد يحتفي بالفرد، ويُهمل المجتمع بشكل عام؛ فإذا بذلت جهد وسعيت وطورت من مهاراتك ستعيش بحالة ممتازة، لكن إذا لم تستطع فلماذا يجب على الحكومة أن تساعدك، أنت المسؤول، الكثير من الناس لديه وجهة نظر أن المتشردين هم الذين أوصلوا أنفسهم إلى هذا الحال، هذه مشكلتهم ليست مشكلة الحكومة؛ لكن القضية معقدة في الواقع، وهي تدل على فشل اجتماعي لا على فشل فردي، وكما قال غاندي: “عظمة أي أمة تُقاس بطريقة تعاملهم مع الضعفاء”.
يبقى السؤال إذن، من المسؤول عن مساعدة المشردين؟
في الوقت الحالي، فإن المشردين يعتمدون على الجهات الخيرية لدعمهم، أستغرب كثيرًا من فكرة الاعتماد على الجمعيات الخيرية ليس لأنها لا تدير أعمالها بالشكل المطلوب، بل لأن وجودها يدل على وجود مشاكل لم تُحل من قبل الحكومة وكأن الجمعيات الخيرية هي المخولة لحل هذه المشاكل.
وجود الجمعيات الخيرية قد يدل على فشل الحكومة في توفير المال الكافي لحل المشكلات، فالمشكلة تحتاج إلى حل من الحكومة، فلو حُلّت المشكلة لم نحتج إلى جمعيات خيرية تساعدنا في حل المشكلات الاجتماعية، لكن مع هذا، فإن الأمر متروك للجمعيات الخيرية لحل المشاكل الاجتماعية عن طريق جمع التبرعات من الناس على الرغم من أن الحكومة هي المسؤولة عن الحلول فيما يخص المشاكل الاجتماعية.
فبدلًا من حكومات تفكيرها منصب على صناديق الاقتراع، نحتاج إلى حكومات تركز على توفير الحاجات الأساسية لكل فرد.
ففي المجتمع الذي يُركز على الحاجات الأساسية للإنسان، سيكون مستوى الفقر مؤشرًا مهمًا للنجاح والفشل؛ فمثلًا: إذا كان المشردون ليس لديهم سكن وهو من الحاجات الأساسية لأي فرد، فإن الاقتصاد المعتمد على الحاجات الأساسية سيحفز الحكومة لتخصيص جزء من الدخل لحل هذه المشكلة، بدلًا من الاعتماد على الجمعيات الخيرية التي يرمون عليها مسؤولياتهم تجاه المجتمع.
تغيير دور العمل والوظيفة
تحتاج العلاقة بين الأعمال التجارية والمجتمع إلى إعادة نظر.
شركات ضخمة مثل أمازون تجني أرباحًا طائلة، ويرجع الحصول على هذا القدر من الأرباح بدرجة كبيرة إلى نموذج العمل في أمازون؛ فحين تكون موظفًا في أمازون، فقد تُعامل كرجل آلي مقابل أجر منخفض، فالصورة ليست دائمًا وردية!
من منظور السوق تُعد شركة أمازون استثمارًا تجاريًا جيدا؛ وفي المقابل ليس هناك معيار عند الاستثمار يقيّم الشركة بناءً على تعاملها مع الموظفين أو بناءً على الأجور التي تدفعها لهم؛ ولذلك كانت أمازون ممتازة لمضاعفة أرباح المساهمين، وفي الوقت نفسه لم تكن جيدة في الاهتمام بحاجات موظفيها الإنسانية.
حالياً، الموظفون هم أدوات لوصول الشركة لأقصى ربح ممكن، لكن ما نحتاجه هو نظام عمل في الشركات يعامل الموظفين على أنهم أفراد ويسعى في تلبية احتياجاتهم الأساسية.
في الاقتصاد القائم على الاحتياجات، لن تستطيع أمازون أن تعمل بالطريقة التي تعمل بها الآن، فالاقتصاد القائم على الاحتياجات سيعيد تصميم الشركات من كيان يبحث عن أقصى ربح، إلى كيان يدعم موظفيه للحصول على احتياجاتهم.
وبذلك تكون وظيفة الشركات أو النظام التجاري، هو توفير خدمات ومنتجات لدعم احتياجات الناس في المجتمع.
فما هو جيد للتجارة يجب أن يكون جيد للمجتمع أيضًا، وإلا فما الدور التي تقدمه الشركات؟ مضاعفة أرباح أقلية في المجتمع وجعلهم أكثر ثراءً فقط؟ يبدو أن هذا هو واقعنا غير المنطقي.
تغيير قيمة الوظائف
سوف يتحول سوق العمل بشكل جذري في الاقتصاد القائم على الاحتياجات.
في الوقت الحالي، الذين نعتمد عليهم بشكل أكبر يحصلون على أقل الأجور، وفي المقابل نجد أن الذين لا نعتمد عليهم كثيرًا يحصلون على أعلى الأجور؛ فقيمتك تعتمد على كم من المال تستطيع أن تقدمه لصاحب العمل وليس على أهمية ما تقدم.
في الاقتصاد القائم على الاحتياجات، القيم تتمحور حول مقدار ما تُساهم به لمساعدة الناس في تلبية احتياجاتهم، لذلك الوظائف المتضمنة للإيثار، والتي تقدم قيمة اجتماعية عالية كوظيفة الطبيب أو الممرض تُكافأ بصورة أكبر بناءً على القيمة المقدمة، وفي الوقت الحالي، أجرك في سوق العمل يعتمد على مقدرتك في زيادة أرباح الشركة، بينما في الاقتصاد القائم على الاحتياجات، الوظائف التي تُلبي احتياجات الناس يكون لها تقدير أكبر.
هذا التحول سيحدث ثورة في سوق العمل ويساعد على توجيه أفضل العقول إلى الوظائف التي تقدم قيمة علية للمجتمع.
تغيير دوافع الناس نحو العمل
عقيدة النمو لها تأثير كبير علينا كأفراد، أصبح هدف كل شخص هو الحصول على أكبر نصيب من الكيكة بغض النظر إذا كان هذا النصيب على حساب معاناة الآخرين.
عقيدة ” أنا ومن بعدي الطوفان ” تخلق سوقًا لا يمكن النجاح فيه إلا عندما يُقدم الشخص مصالحه على كل شيء، لذلك نحتاج إلى مبادرات تحفز مشاركة المصالح بين أفراد المجتمع بدلًا من أن الناجح في هذا السوق سيجني كل شيء في الحياة، وحين يكون هدف الاقتصاد إشباع احتياجات كل شخص ستتغير الطريقة التي ننظر بها إلى الحياة والطريقة التي ننظر بها إلى الآخرين وهذا بدوره قد يساعدنا على التخلص من النزعة الفردية التي تسمم بها المجتمع.
أليس المال هو الدافع نحو العمل؟
قد يطرح البعض بأن الطمع والأنانية طبيعة بشرية ونظامنا الاقتصادي ما هو إلا انعكاسٌ لذلك؛ فحينما نضع احتياجات الناس أولوية في النظام الاقتصادي فما الذي سيحفز الناس للعمل؟
الجميع يسعى للنجاح، لكن مفهوم النجاح يتغير مع تغير الزمن والمفاهيم عند الناس، في الوقت الحالي، النجاح هو أن تكون غني، لذلك يسعى الناس إلى أن يكونوا أغنياء وعندما يحققوا ذلك يشعروا بالفوز والتفوق على الآخرين.
وعندما يُصبح معيار النجاح في المجتمع يعتمد على تلبية الاحتياجات سيتأثر الناس بذلك وسيسعون إلى تحقيق النجاح بناءً على المعايير الجديدة.
في حين أن النجاح إذا كان يعتمد على مقدار ما يستطيع الفرد جمعه من المال، سيتفشى الطمع والجشع ويستمر السباق على المال إلى ما لا نهاية؛ لكن عندما تتغير مقاييس النجاح، يتغير معنى أن تكون ناجحًا، ويتغير معها الهدف والطريقة الموصلة للنجاح.
في الاقتصاد المعتمد على الاحتياجات، النجاح يدور حول إمكانية مساعدة الآخرين لتلبية احتياجاتهم بالإضافة إلى احتياجات الفرد، فعملك يمكِّنك من تلبية احتياجاتك بالإضافة إلى المساهمة في تلبية احتياجات الآخرين.
ما الغاية من هذا كله؟
لو خرجت بشيء من هذا المقال فعساه أن يكون: معرفة وجود أنماط وبدائل أخرى لطريقة الحياة التي نعيشها الآن.
ما الهدف من فعل أشياء تكون سببًا في معاناة الآخرين؟ وأشياء تسبب أضرارًا للبيئة؟ هل ما زلنا نحتفظ بعقولنا؟ المشكلة أن المجتمع صار أشبه بالسمك الذي يعيش بداخل الحوض، يعتقد أن الحياة في الحوض هي الحياة الطبيعية، الحياة تسير على هذا النحو بشكل طبيعي فما المشكلة إذن؟
البعض قد يقول إن هذا النظام هو أفضل ما لدينا، لكن كيف يكون أفضل ما لدينا يؤدي إلى تدميرنا، هل قمنا بمحاولات لعمل الأشياء بشكل مختلف؟ أم أننا نبحث عن الأعذار؟ هل نقول هذا الكلام لأننا نعيش في حوض السمك؟
ما كان واضحًا من خلال النظر إلى الفترة الأخيرة، هو أن النظام الاقتصادي لا يعمل كما ينبغي، النظام الاقتصادي في العالم يُدار بيد طبقة ثرية يخدمها النظام ويعطيها السلطة والقوة مما يجعل التغيير تهديدًا لهذه الطبقة ولثرواتها، فلذلك ما الدوافع التي تجعلهم يسعون إلى تغيير النظام الذي يمنحهم الثراء والسلطة.
يبدو أن هذه الطبقة الثرية أعماها الطمع والجشع فتناست الكوارث البيئية التي نتسبب بها حاليًا؛ فالطمع والبحث عن السلطة بالإضافة إلى التطلع للمزيد من الثراء عوائق ستمنع احتمالية تغيير شكل الاقتصاد.
وما لا يُمكن إنكاره، هو أن الحلول لمواجهة هذه التحديات مطروحة ويمكن تنفيذها، وإن ما ينقصنا هو الإرادة والرغبة في التغيير، فتطوير اقتصاد قائم على الاحتياجات الإنسانية سيكون حلًا جذريًا لمعانتنا الحالية، وفي النهاية، إذا كان الاقتصاد يعمل لينمو فقط وليس لتلبية احتياجات الناس فما فائدة الأعمال كلها إذن؟
[1] إن كل محاولة من الإنسان لاستدامة الشيء أيًا كان ذلك شيء هو ضرب من الخرافة، ونقص في العقل، وذلك أن المتناهي يستحيل عليه أن ينتج لا متناهي، فتنبه.