عبدالله الوهيبي
“إن أكثر ما أثار فتنتي طوال حياتي
هو الطريقة التي يجعل بها البشر العالم معقولًا“[1]
رولان بارت ت1980 م
“الإنسان الحديث لا يحبّ، بل ينشد ملاذًا في الحبّ؛
هو لا يأمل، بل يطلب ملجأً في الأمل؛
ولا يؤمن، بل يبحث عن مأوى في عقيدة”[2]
نيكولاس غوميز دافيلا ت 1994م
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد سبق أن نشرت مقالة مختصرة[3] تتناول الفنون وأسسها الوجودية، ودورها في منح المعنى للإنسان الحداثي، وفي هذه الورقة أسعى لتناول “سؤال المعنى” من منظور أوسع، فأبحث عن ماهية السؤال ومبررات طرحه، ومدى إلحاحه الحداثي، كما أعرض أبرز الإجابات الفلسفية على سؤال المعنى و”الحياة الطيبة”، وأخص بالعرض والنقاش أطروحة الفيلسوف الفرنسي لوك فيري[4] موضحًا سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وثغراتها النظرية وإخفاقاتها العملية. واختياري لهذه الأطروحة بالذات يعود لكونها تمثّل مدخلًا مفيدًا لتناول أزمة الذات المعاصرة وتيهها الوجودي، كما أنها تعبّر عن طيف متنوع من الأطروحات الغربية التي تمركز القيمة الوجودية للعواطف والمشاعر الشخصية في إطار نرجسي مقدس، وتلقى رواجًا كبيرًا في عالم اليوم. وأختم بإلماحة إلى السردية المؤمنة المؤسسة للمعنى، وموقع الحب الحقّ ومكانته العقائدية داخلها.
هذا، وأرجو أن أكون وفّقت في تقريب أفكار الورقة الأساسية، ومن الله –وحده- العون والتوفيق.
(1)
يقوم الإنسان العادي في حياته اليومية بالعديد من الأفعال (أكل، شرب، رياضة، نوم، كتابة، قراءة، …الخ)، ويمكن لأي إنسان أن يحاجج غيره ببراهين مقنعة تثبت فائدة هذه الأفعال ومعناها وأهميتها، ولكن الإنسان –الحديث والمعاصر بالذات- ربما يواجه صعوبة كبيرة عند تأمله في فائدة هذه الفائدة، ومعنى هذا المعنى، أي الدلالة النهائية لكل هذه الدلالات الخاصة، وماهية السياق أو الإطار العام للحياة الذي تبدو من خلاله هذه الأفعال معقولة وذات مغزى[5]. والإنسان العادي لا ينفكّ يلحظ بحدسه إمكانية وجود أعماق أبعد في جوانب الوجود المختلفة، ومهما كان الإنسان فاضلًا، ومحاطًا بأناس على قدر من الطيبة والكرم، إلا أن ذلك لن يمنع تسلسل القلق الضجر إلى نفسه[6] إذا كان كل يوم يصحو على ذات الوجوه ويمارس ذات الطريق والأفعال بلا أفق[7]، حتى حاجات الإنسان الغريزية ترتبط لدى الكائن الإنساني بمعنى ما، وترتهن بقواعده ونظمه الرمزية، “ومن ثمَّ لا يتأتى فهم طريقته في الإشباع بمجرد تحليل بيولوجي”[8]؛ فحدس الإنسان وخبرته وأشواقه الباطنة تمنعه من الاطمئنان لمجرد الظواهر الخارجية للأشياء، بل يظل معّلق الخاطر مدفوعًا -من حيث يشعر أو لا يشعر- بالرغبة في مقاربة كنه الأشياء ومعناها الكلي، بالعلم أو بالمخالطة أو بالشعور.
يولد الإنسان في عالم لم يختره، ومع نمو إدراكه تواجهه مسائل الحياة وأسئلتها الأساسية، من أين جئت، وماذا يجب أن أعمل، وإلى أين المصير، ومهما تجاهل هذه الأسئلة الكبرى، أو ابتكر لها إجابات زائفة؛ فإنه سيقف –ولا بد- حائرًا وجلًا أمام الموت[9]. وهذا الذعر والارتباك أمام الموت -المفرّغ من المعنى- هو ما يدفع الإنسان الحداثي إلى اعتبار أن “كل تأمل في الموت يبدو تافهًا، بل ومَرَضيًّا، إلى حد جعل فرويد –مفكر الخيبات بامتياز- يقول بوضوح: (إننا عندما نبدأ في طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت فإننا نكون مرضى، لأنه لا شيء يوجد من هذا بكيفية موضوعية)”[10]. وفي المقابل فإن “كل الديانات تهتم بتهيئة الناس للموت، كل دين على طريقته الخاصة، كما تهتم بتهيئتهم لموت أحبابهم”[11]، فاعتبار الموت هو النهاية المطلقة، يفاقم من ألم الفقد والفراق، يحكي لوك فيري عن صديقه فرانسوا فوريه -أحد كبار المؤرخين الفرنسيين- أنه سأل في أحد البرامج التلفزيونية السؤال الآتي: “ماذا تود أن يقول لك الله إذا قابلته؟” فأجاب -وقد كان شديد الإلحاد- وبدون تردد: “أدخل بسرعة، إن أقاربك ينتظرونك!”، يعلّق فيري: “لو كنت مكانه لقلت كما قال”[12]. إذًا يأتي الموت أولًا –موت الذات وموت الآخر القريب والحبيب- بوصفه حدثًا حتميًا دافعًا للإجابة على سؤال المعنى، وكذلك يبدو الأمر مع مقدمات الموت ونُذُره، كالمرض والفقد، والشيخوخة التي تحولت في المخيّلة الحديثة إلى كومة من الآلام والمعاناة السلبية[13]، بل سعى المعاصرون إلى شرعنة ما يسمى بـ”القتل الرحيم”[14].
يبرز سؤال معنى الحياة ويبدو مشروعًا وملحًا لأسباب عديدة، منها عدم كفاية الحياة الظاهرة، وحتمية الموت والفقد –كما سبق-، وكذلك حتمية التعب والآلام بأشكالها المتعددة والقلق، والتي لا يخلو منها كائن بشري. والشعور الدفين بقلة الحيلة أمام حوادث الحياة الداهمة كالمرض المفاجئ، والإفلاس والكوارث الطبيعية. بالإضافة إلى بؤس الروتين والكدح المستمر من غير أفق لراحة مُرْضية، والتأرجح الدائم في (بندول شوبنهاور) بين الضجر والملل، فنسعى للمرغوب، وحين نحصل عليه، ما نلبث إلا أن نملّ، ثم نعاود البحث عن مرغوب آخر، وهكذا في تأرجح أبدي. وأيضًا ملاحظة التغيّر –والتدهور أيضًا- وهو الثابت الوحيد وسط كل المتغيرات، فالكبير يهرم والوردة تذبل والجمال يشيخ، والدول والحضارات تغيب وتتلاشى. فهذه الثغرات الغائرة في التجربة الإنسانية لا يمكن تجاهلها دائمًا، ولا يمكن حلّها إلا بوضعها في إطار أوسع يجعلها معقولة، ومقبولة، وذات دلالة.
(2)
لم يكن سؤال المعنى مطروحًا بهذا الإلحاح الشخصي للكائن البشري في الحقب التاريخية الماضية، لكون الإجابة على هذا السؤال تمثّل حينها جزءاً مركزيًا من وعيه للوجود ضمن تصوراته الدينية والاجتماعية والثقافية الذي نشأ في سياقها. وتبدو الإشكالات القديمة على سؤال المعنى تأخذ طابعًا نخبويًا فلسفيًا، أو تحمل نزوعًا متشائمًا عابرًا، أو تصاغ في سياق الاحتجاج على مشكلة الشرور، بيد أن سؤال المعنى -في ظل السيادة العامة لانعدام المعنى والتي تعدّ من محددات عصرنا – لم يكن هاجسًا شخصيًا كما هو الحال في الزمن المعاصر، وكون معظم الناس في الغرب –تحديدًا- لا يزالون يتلمّسون الأجوبة عن مسألة ما الذي يجعل الحياة الإنسانية جديرة بالعيش، أو ما يضفي المعنى على حياة الفرد، هذه الحالة حديثة جوهريًا[15]، أي: أن هذا التساؤل والبحث الفردي بهذه الكيفية غير مسبوق تاريخيًا، وإنما برز ضمن سياق واسع مرتبط بشكل عميق بصعود وتجذّر الحداثة في المجتمعات الأوروبية والغربية عمومًا.
وتتفاقم هذه الحالة الحديثة كلما اقتربنا إلى اللحظة الحالية، فقد ترسخ تضعضع المعنى في الحياة الشخصية مع تزايد معدلات العلمنة والفردنة[16]، ونلاحظ هذا التفاقم في التغيّر الحديث للنماذج السائدة في المعالجة النفسية، “فطالما أشار المحللون النفسيون إلى أن الحقبة الزمنية التي كان معظم زبائنهم يعانون من الهيستيريا أو الخوف المرضي أو التعلّق أو التركيز المرضي (الاضطرابات العصابية التقليدية) قد انقضت، ونشأ مكانها زمن تتركز فيه الشكاوى الرئيسية حول (فقدان الأنا)، أو الشعور بالفراغ، أو الركود، أو الافتقار إلى هدف، أو خسران الاحترام الذاتي”[17]. ومن هنا ظهرت الاتجاهات الوجودية داخل العلوم النفسية الحديثة[18]، والتي تتضمن أطروحاتها معالجة مشكلة المعنى بوصفها مدخلًا للعلاج النفسي، ومن أشهر الأطروحات في ذلك “العلاج بالمعنى”، والتي نشرها فيكتور فرانكل في أوائل السبعينات الميلادية[19]، وقدّم التحليل النفسي نفسه باعتباره بوابة جديدة للأمل في عالم ملحد[20].
وبرغم ضخامة سؤال المعنى وجوهريته بالنسبة للكائن الإنساني إلا أن منظومات الحداثة الجماعية لم تولِ هذا السؤال العناية الكافية، بل ظل سؤالًا عابرًا يعالجه الإنسان بمفرده في مراحل معينة من عمره، كالمراهقة وانفعالاتها الأولى، “أما بالنسبة للكبار، فإنه يظل محصورًا في الدائرة الفردية الخاصة، ولا يظهر إلا في مناسبات استثنائية، كالحداد أو المرض العضال”[21]. والأسوء من ذلك أن سؤال معنى الحياة ينظر إليه أحيانًا باعتباره سؤالاً باطلًا[22]، أو ليس ضروريًا[23]، أو حتى مثيرًا للسخرية[24]، فهو تساؤل موبوء تفوح منه رائحة الميتافيزيقيا[25] المنفّرة للإنسان المعلمن.
(3)
بعد أن اتضح لنا الآن ماهية سؤال المعنى ودوافعه الأساسية، وقبل أن نتناول الإجابات الأساسية الكبرى التي قدمت في التاريخ البشري عن هذا السؤال، أشير -في إيضاح عابر- إلى واقع الفلسفة الحالي، وموقعها الأساسي الذي تركته.
يكرر لوك فيري انزعاجه من التناول القاصر للفلسفة، فهي “تختزل –غالبًا- في الفضاء العمومي وفي أماكن التدريس في خاصيتين أساسيتين: تاريخ الأفكار، وتمرين على التفكير الشخصي. وربما نضيف الالتزام”[26]. وإذا أردنا أن نعرّف موقع الفلسفة الحقيقي تاريخيًا فعلينا أن ننظر لموقعها “بالنسبة للمشروع الديني”[27]، فقد كانت تقف ندًا مقابلًا وخصمًا منافسًا للأديان، وإذا كانت الأديان تسعى إلى تحقيق الخلاص لأتباعها، والفوز بالنجاة والسعادة الأبدية في العالم الآخر، وهذا هو مقصدها الأسمى، فإن الفلسفة تقدّم لأتباعها خلاصًا بديلًا:
“إذا كانت الأديان تصف نفسها بأنها (عقائد الخلاص) بواسطة الآخر وبعون الله، فإننا قد نستطيع وصف كبريات الفلسفات بأنها (عقائد الخلاص) بواسطة الذات، ودون عون من الله”[28].
وإذا سلّمنا بذلك، فليس من غاية الفلسفات الكبرى -وإن كانت تتناول عدة مناحي في المعرفة والأخلاق والجمال- إنتاج أطروحات نظرية، والوقوف على الحقيقة فحسب، بل هي تهدف -مع وفوق ذلك- إلى تحقيق الحياة الطيبة، مما يستلزم معالجة الثغرات الوجودية التي تعاني منها التجربة الإنسانية عمومًا، ولذا فإن كل الفلسفات الكبرى بلا استثناء تناقش –صراحة أو ضمنًا- مسألة التغلب على المخاوف، ولا سيما المتعلقة بالموت والتناهي الإنساني[29]. إن الموت –كما يقول شوبنهاور- هو بحق العبقرية الملهمة في الفلسفة، وقد عرّف سقراط الفلسفة بأنها “الاستعداد للموت”، “ولولا الخوف من الموت لما كانت أبدًا فلسفة ولا دين، فهما يتقاسمان المشروع نفسه، وهو التغلب على الحيرة الميتافيزيقية”[30]. ومن هنا يمكن القول –بحسب فيري- بأن الفلسفة “محاولة للإجابة[31] على السؤال الكبير المتعلق بمعنى الحياة بالنسبة للكائن البشري الفاني، وهو ما أسميه الروحانية اللائكية[32]، أو مذهب الخلاص بدون إله”[33].
إلا أنه في عالم اليوم لم يعد القسّ المسيحي ولا العالِم المختص يتحدث عن “معنى الوجود الإنساني”، وحتى الفيلسوف لم يعد يظهر إلا بوصفه أستاذًا مختصًا بهذا المجال دون أن يكون فيلسوفًا، أو بوصفه مثقفًا يظهر في وسائل الإعلام ليقدم دور الحكيم، السطحي والنرجسي[34]. ولفهم السياق الذي أنتج هذه الحالة لا بد من مراجعة التاريخ. يمكننا –وفقًا لفيري- تقسيم عصور الفلسفات الحداثية إلى ثلاثة عصور كبرى:
(1) عصر تأسيس الأنساق الكبرى التي حاولت منافسة الأديان في حدود العقل. وفي هذا العصر حاول كبار الفلاسفة -منذ ديكارت حتى ماركس- منازعة الدين، وقطع الطريق عليه في كل مجالات العقل، أما اليوم فلن تجد أي فيلسوف يطمح إلى إنتاج وصياغة عمل مماثل للأنساق اللاهوتية الكبرى.
(2) عصر التفكيك، ويبدأ منذ نهاية القارن التاسع عشر الميلادي، وفيه أعلن “موت الإله” و”نهاية الفلسفة” بوصفها مشروعًا ميتافيزيقيًا؛ وذلك بسبب تخلّي الفلسفة عن أن تكون دينًا معلمنًا، الأمر الذي أدى إلى نهايتها[35].
(3) العصر الحالي[36]، والذي تعاني الفلسفة فيه لسببين، الأول يعود لصعود نجم العلوم الإنسانية في الستينات، والتي ساهمت في شيوع فكرة نهاية الفلسفة، ووجوب مغادرتها للمشهد الثقافي لصالح الإنسانيات الحديثة. والسبب الثاني يتمثّل في كون ماهية الفلسفة ذاتها أضحت أمرًا إشكاليًا، و”إذا غضضنا الطرف عن الابستمولوجيا والتي هي تفكير خاص في العلوم، فيبدو أن الفلسفة لم يبق لها مهمة جديدة على المستوى النظري سوى قراءة الواقع، على نحو لا يتماهى مع القراءة التي تقوم بها الرياضيات، أو البيولوجيا، أو الفيزياء، ولا حتى التاريخ، أو علم الاجتماع، أو علم النفس”[37]. وعلى أية حال، فليس القصد فحص موقع الفلسفة المعاصر، وإنما الإشارة إلى تحولات تعريفها وماهيتها في السياق العام، وذلك تمهيدًا للعرض المقتضب للإجابات الفلسفية الكبرى، ومحاولة إبراز مشروعية الإجابات الجديدة، خصوصًا إجابة لوك فيري، والتي يحاول فيها استعادة المكانة الكلاسيكية للفلسفة باعتبارها معرّفة للحياة الطيبة، وتمنح أتباعها معنى الحياة.
(4)
إذا نظرنا نظرة إجمالية للتاريخ الفلسفي الأوروبي سنعثر على أربع أطروحات شمولية تتناول سؤال المعنى، وتؤسس لنظرة خاصة للحياة الطيبة، وتسعى لإشباع أشواق الكائن البشري وتوقه المستمر لفهم أسرار الوجود.
1- الأطروحة الكوسمولوجية: تعود جذور هذه الأطروحة إلى العصور اليونانية القديمة، وتقوم على فكرة أساسية هي أن العالم يتسم بالانتظام لا الفوضى، ويطلق اليونانيون على ذلك “الكوسموس” أو النظام الكوني. ولكل كائن -في هذا النظام الكوني الجميل والعادل- منزلة محددة تتناسب مع موضعه في سلم التراتب الشامل المنظم لمواقع الكائنات. وتتمثل الحياة الطيبة للبشر بمعرفة هذا البنيان المنظّم -الذي يصفونه بالإلهي- وتأمله، بقصد الارتباط به والقيام بالدور المناط بالكائن، مع ملازمة المنزلة المحددة له وتنمية الملكات التي اختص بها. وكلما ازداد إحساس الكائن بمشاركته في ألوهية التناغم الكوني السرمدي –الذي هو منبع كل حقيقة ومنتهاها- قلّ خوفه من الموت، لكونه أصبح جزءًا من هذا النظام السرمدي “الكوسموس”[38].
2- الأطروحة اللاهوتية: وهي التي جاء بها المسيح، وتقوم على الإيمان بخالق، واليقين بالبعث والحساب، وترتكز على شخصنة الخلاص، أي نجاة الفرد في الحياة الآخرة ونيل الغفران والحياة السعيد الخالدة، وهي تربط الخلاص باتباع تعاليم المسيح، وتأكيد التعلق وإخلاص الحب للرب الباقي[39].
3- الأطروحة الإنسانوية: وتقوم على مركزة الإنسان، وعقله وحريته، وترى أن قواه العقلية وإمكاناته الذاتية تؤهله ليكون صانع لمصيره الخاص، فأقامت هذه الإجابة الإنسان في مقام الكوسموس أو اللاهوت (الإله). وقد وُلدت هذه الإجابة بالتزامن مع انهيار علم الكون القديم[40]، وتضعضع فكرة انتظام وكمال الكون التي سادت في العصور القديمة، وتراجع نفوذ السلطات الدينية. أسس ديكارت الكوجيتو الذي يؤسس لحقبة جديدة تروم “إعادة بناء رؤية موضوعية للعالم بوسائل الإنسان الخاصة”[41]، و”الرفض المطلق لكل الأحكام المسبقة ولكل المعتقدات الموروثة من التقاليد ومن الماضي”[42]. وترتبط الحياة الطيبة في التصور الإنسانوي بالاهتمام بدور المعارف والثقافة والتربية في تحقيق المدنية والتحقق بالإنسانية، وإدماج التصور التقدّمي لتبرير الأفعال والإبداعات الشخصية، وإكسابها المعنى؛ فالإسهام المتميز في مسيرة البشرية نحو مستقبل أفضل وأكثر حريةً وعدلًا “يعطي صاحبه بعدًا من أبعاد الخلود، والذي يبدو في العالم الإنسانوي واللائكي والملحد بديلًا عن الخلاص المسيحي، وإن لم يضاهيه في القيمة”[43].
هذه الأطروحة ترفض –لا سيما في أشكالها المتطرفة- العقائد الدينية مطلقًا، ومع ذلك فهي تحاول جاهدة تعويض أتباعها عن هذا النقص الوجودي الفادح، وتسعى إلى ابتكار عقائد وأيديولوجيات “تمسّكت –وهي تجاهر بإلحاد جذري- بمُثُل عليا تمنح المعنى للوجود الإنساني، بل وتبرر الموت في سبيلها”[44]، فقدمت لمعالجة هذه الإشكالية أطروحتين أساسيتين:
الأولى: ما يمكن أن يسمى “أديان الخلاص الأرضي”[45]، مثل العلموية، والوطنية القومية، والشيوعية؛ وهذه الأخيرة “كانت تتضمن –حتى في صيغها المادية المغرقة في الدنيوية- فكرة (ما وراء [=غيبيات]) للحياة الحاضرة، بل أكثر من ذلك، كانت تتصور هذا الماوراء بصيغة لاهوتية، فهو متعال على الأفراد، ومندرج في لحظة خلاصية، هي لحظة الثورة. وهذا ما يفسر سلطة الافتتان الغريبة التي مارستها الشيوعية على مدى قرن ونصف من الزمان، وبانهيار الشيوعية انهارت كل رؤية لاهوتية للسياسة”[46].
وكذلك الوطنية، فقد رفع الوطن/الدولة حتى أضحى مقدسًا “متعاليًا”، واحتل الشعب المكان الذي كان مخصصًا للإله في الحب والولاء والتضحية والخضوع، وتبدّلت المواقع التقليدية بأخرى حداثية؛ فاستبدل الكهنة والقساوسة بالآباء المؤسسين، والدستور بدلًا عن النص الديني، وتحية العلم وأناشيد الولاء بدلًا عن الترانيم الكنسية، وأصبحت الشهادة في سبيل الوطن لا من أجل الله، وقررت أحكام المروق على الوطن بأقسى العقوبات وأضحت هي الخيانة العظمى بدلًا عن العقوبات التي كانت تواجه الهراطقة والمرتدين، واستبدلت الهوية الجامعة بالمواطنة بدلًا عن الأخوة في الدين والمحبة لأجل الرب…الخ[47].
الثانية: فكرة الكون الموسع عند كانط الذي يعطى المعنى للحياة الإنسانية، وهو الفكر الذي ينتشل الكائن من وضعه الخاص ليرتقي إلى فهم الآخرين[48].
وبرغم النفوذ الواسع والعميق للأطروحة الإنسانوية الحديثة في الغرب الحديث إلا أنها لم تستطع إبعاد أو محو المسيحية في الواقع الأوروبي، بل تعايشت معها بصعوبة، يحاول لوك فيري تفسير ذلك، ليس بإعادة السبب إلى مدى عمق الأبعاد الروحية للإنسان[49]، ولا لتجذّر فطرته الدينية[50]، وإنما يرى أن الأطروحة الإنسانوية بتبنيها لفلسفة التقدّم، وإن نجحت في أنسنة معنى الحياة عند اللاديني، إلا أنها أضرّت بـ”شخصنة” الخلاص، وقلّصت من الاعتبار الغائي لفرادة الإنسان ومشاعره وذاتيته الغير قابلة للاختزال، لصالح تصور كلي للحركة التاريخية الصاعدة[51].
وكذلك الأمر مع أديان الخلاص الدنيوي، “فحتى لو اندفع الإنسان لأجل قضية سامية اعتقادًا منه بأن المثل الأعلى يعلو فوق الحياة، يبقى –في النهاية- أن الفرد هو من يتألم دائمًا، وهو من يموت ككائن خاص، ولا أحد يقوم بذلك بدلًا عنه. أمام هذا الموت الشخصي، قد يتبين يومًا ما أن الشيوعية والمذهب العلموي والقومية ليست سوى مجردات فارغة لا أمل يرتجى منها”[52]. وتجد في كل ذلك صدىً مباشر للنزعة الفردية المسيطرة على إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية.
4- الأطروحة التفكيكية التقويضية: تقوم هذه الأطروحة على مهاجمة أقوى معتقدين حداثيين (الإنسانوية والعقلانية): كون الإنسان مركز العالم ومبدأ كل القيم الأخلاقية والسياسية، واعتبار العقل القوة المحررة، وأننا بفضله سنكون أكثر حرية وسعادة. ينطلق هذا النقد من اعتبار معتقدات الحداثة الكبرى ظلت “أسيرة للتراكيب الأساسية للدين الذي أكملته دون دراية منها، في الوقت الذي كانت تعتقد أنها تجاوزت تلك التراكيب”[53]. يستند نيتشه -وهو الممثل الأبرز لهذه الأطروحة- لمبدأ مركزي في تقويضه لكافة الأوهام الأخلاقية والتصورات السياسة الحديثة، وهو “أن كل المثل سواء كانت دينية بشكل واضح أم لا، أو كانت يمينية أو يسارية، روحانية أو مادية، تملك نفس الهدف ونفس البنية، فكلها تنبع من تركيبة دينية؛ لأن المقصود دائمًا هو اختراع (ما وراء) أفضل من هذه الحياة، وتخيّل قيم أسمى من الحياة وتقع خارجها، أو بلغة فلسفية قيمًا فوقية”[54]، كما أن العلوم أيضًا مثلها مثل الدين والميتافيزيقيا تدّعي “الوصول إلى حقائق مثالية، وإلى كيانات معقولة لا يمكن لمسها ماديًا ولا حتى رؤيتها”[55]. غني عن القول أن هذه الأطروحة لا تقدم إجابة لسؤال المعنى، ولا تنسق سردية معقولة للحياة الطيبة، بل هي أطروحة مشبعة بالنزعات العدمية والميول العبثية، مهما حاول بعض شرّاحها ومؤوليها استنباط رؤية “إنسانية” تؤسس لمعنى ما، يمكن للإنسان التعويل عليه.
(5)
تاريخ الفلسفة مليء بالتعرجات والانقسامات والتحولات، إلا أننا نلحظ في مجمل هذا التاريخ –بحسب فيري- تدرجًا معينًا في مسارين، الأول يتعلق بمصدر أو متعلق الحياة الطيبة، فقد كان يقع هذا المصدر خارج الإنسان، وأسمى منه، إما في تناغم الكون (بالمعنى اليوناني القديم) أو في الإله. ثم تدريجيًا أخذ ينحو تاريخ الفلسفة لما هو أقرب وأكثر حميمية في صميم التجربة الإنسانية، في العقل، ثم في الحرية، ثم في المعيشة المباشرة أو الأحاسيس. والثاني يتعلق بالتدرج في ضمّ أبعادًا من الوجود كانت مستبعدة أو مهمشة ومقموعة، ثم أخذت بالدخول في تاريخ الفلسفة بصورة تصاعدية، مثل الجنسانية، والطفولة، واللاشعور، والمحددات الاقتصادية، وغير ذلك[56]. ويمكننا بوضوح أن نرى في هذا التحليل تمهيدًا أوليًا للأطروحة التي يقترحها لوك فيري للإجابة عن سؤال المعنى، والتي يتحقق للكائن البشري من خلالها الحياة الطيبة.
يحاول فيري البحث عن المضمرات المتعالية، أو المقدسات التي ظلت حاضرة في المنظومات الحداثية ذات الطابع الإنسانوي[57]، وذلك لأجل إثبات المشروعية الفلسفية والنظرية لأطروحته بنسختها “الإنسانوية” المحدّثة، والمكرّسة لتبرير صيغة معينة من “التجاوز الميتافيزيقي”، في وجه الأطروحات التقويضية وامتداداتها النتشوية المعاصرة، ولأنه يعتقد أن الدين بنية إناسية [=أنثروبولوجية] أصلية ملازمة لتكوين الفرد[58]، ويقرّ بالدوافع القسرية الملجئة للاعتقاد بالقيم الروحية، فنحن لا نكفّ عن وضع قيم متعالية على الوجود، قيم تستحق المخاطرة بالموت من أجلها[59]. والحقيقة أنه من المتعذر نزع القداسة والتعالي عن الحالة والوجود الإنساني؛
“فكل جماعة بشرية تولّد –بحسب دينامياتها الخاصة- مقدسًا جديدًا يحوي ويدعم أفعالها، حيث يكون ذلك المقدس عالم الإنسان المرفوع فوق الفعل اليومي، ودون ذلك، فإن المجتمعات البشرية تعرف نوعًا من اليأس الوجودي، والذي ينجرّ عنه تبعًا لذلك أفولها”[60].
ويختار فيري مبدأ (التضحية) مثالًا للحجاج في هذا الشأن، لأن التضحية تمثل هدفًا فلسفيًا مزدوجًا، يكشف عن قدسية الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى يبرز قيمة الحياة ومعناها، ليبدو السؤال/المعضلة في ظل التصور المادي للحياة: لماذا لا نعدّ التضحية بالذات لأجل الآخر ضربًا من الجنون؟
يلاحظ فيري أن المنظومات المعلمنة حافظت وبشدة على الاهتمام بالآخر، والتضحية من أجله. فمحاربة الأنانية، والدعوة لفعل منزّه عن كل غرض، أو تفضيل سعادة الأكثرية على سعادة فرد، وغيرها من الأخلاقيات الحديثة (الأخلاقيات الكانطية والوطنية القومية نموذجًا) تبرز مُثُلًا عليا، تظهر –بكيفية ما- متعالية على الحياة[61]. وهذا الثبات المستمر لهذه المُثُل -برغم تبدل المرجعيات وأنسنة المصادر الأخلاقية- يؤكد رسوخ مبدأ الاهتمام بالآخر، والفضيلة الكبرى للتضحية.
وقد شهد التاريخ الأوروبي ثلاثة أشكال للتضحية بالذات لأجل المقدس الجماعي، الأول كان شعاره الموت من أجل الرب، وهو ما أفضى إلى الحروب الدينية في القرون الوسطى[62]، والثاني كان شعاره الموت من أجل الوطن، وقد قتل في ظل هذا الشعار 35 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، والثالث كان شعاره الموت من أجل الثورة، وكان من نتيجته أن خلّفت الشيوعية حوالي 120 مليون ضحية حول العالم[63]، وقد تراجعت -بفعل هذا التاريخ المثقل بالدماء- قيمة وتأثير هذه الشعارات والمتعاليات السياسية المعلمنة في أوروبا.
إذًا، ما الذي يستحق التضحية الآن؟ أو بعبارة أخرى ما المقدس؟ يجيب فيري مؤكدًا الركن الأساس في مذهبه:
“الإنسان هو المقدس، هذه هي الإجابة بالنسبة للغالبية العظمى، فهو من يفرحنا، وما يحمسنا بإبداعاته، وبموهبته، وبعبقريته”[64].
التضحية من أجل المقدس تعد فضيلة إنسانية عليا، وهذا المقدس أضحى هو الإنسان، وهو يضحى للآخر من أجل الحبّ، فقيمة الحياة الإنسانية تقوم على الحبّ، وهذا هو المبدأ الميتافيزيقي الجديد، وهو مبدأ إنسانوي بكل تأكيد، إلا أنه مغاير للمبدأ الإنسانوي الكلاسيكي، حيث كرّست فلسفات التنوير قيمة الإنسان في العقل والحقوق والتاريخ والتقدم، أما “الإنسانوية الثانية” –التي يبشّر بها فيري- فلم تعد مستعدة للتضحية بالإنسان لأجل الأمة أو الثورة أو التقدم التاريخي،
بل “تجد في محايثة وجودنا ذاتها، وفي مشاعرنا تجاه الآخرين مصدر يوتوبيا[65] إيجابية، تحمل مشروعًا يتمثل في توريث من بعدنا عالمًا يوفر لكل واحد وسائل التحقق”[66]، “على عكس يوتوبيات القرن العشرين، فإن هذه اليوتوبيا إنسانية محضة، ومن ثمّ فهي غير قاتلة”[67]. والميزة الأساسية في هذه التضحية أنها “لم تعد تفرض من الخارج، وإنما تقبل بحرية وتستشعر بوصفها ضرورة داخلية، لأن الشروط الاجتماعية قد تغيّرت -بكيفية جذرية- مع بروز الفردانية[68] العلمانية”[69]، يؤكد فيري: “إننا لا نعيش نهاية قيم التضحية، بل نعيش أنسنتها، بالانتقال من التضحية لفكرة دينية إلى التضحية للإنسان ولأجله”[70]، ومن جهة أخرى فهذه الإنسانوية “لا تلغي الروحانيات، بل على العكس من ذلك، توصلنا لأول مرة في التاريخ إلى روحانيات أصيلة، تخلصت من بهارجها اللاهوتية وتأصلت في الإنسان نفسه، لا في تصور عقدي للألوهية”[71].
(6)
يواصل فيري تأسيس أطروحته عن “الحبّ” برسم مخطط عام للسياق التاريخي/الاجتماعي الذي تولّدت فيه الأهمية الخاصة لمفهوم “الحب” في القرنين الأخيرين في الغرب الأوروبي، وذلك بالإشارة إلى ما قدّمه العديد من الباحثين في حقل تاريخ العواطف -وما يسمى بالذهنيات- في ما يخص التأريخ لتحولات الأسرة الأوروبية الحديثة، ويمكن أن نلخّص ما يمس موضوعنا في التحولات التالية:
(أ) الانتقال من زواج المصلحة بدوافعه الاقتصادية والاجتماعية، والذي غالبًا ما ينظمه الآباء، ويتدخل في إقامته التجمع القروي، إلى “زواج الحب”[72] الذي يقرر فيه الشريكان الارتباط بحرية، والذي اعتبر ثورة اجتماعية، وإن لم يصبح هو القاعدة إلا بعد الحرب العالمية الثانية.
(ب) نشأة الحياة الخاصة والاحتفاء بالعلاقة الحميمية[73].
(ج) تحوّل الحبّ الأبوي للأبناء ليكون أولوية في أغلب العلاقة الزوجية[74]، ومن هنا يأتي الدور الحاسم للعائلات في تنشئة أطفال اليوم، ويتسع إلى أبعاد جديدة غير مسبوقة[75]؛ فالأمر لا يتعلق بتدريس الطفل معارف معينة، وإنما بالعمل على ازدهار ونمو شخصيته ومراعاة مزاجه النفسي وتقدم مخيلته واتجاهه الإبداعي ومهاراته الرياضية والفنية على أفضل وجه[76].
وقد تشكّلت هذه التحولات في أوروبا الغربية تدريجياً بسبب الانتقال من مجتمع مغلق ومتراتب، إلى مجتمع فرداني ومساواتي؛ مما زاد من أهمية ومركزية المحبة في العلاقات الشخصية. وأيضًا للعوامل الاقتصادية دور بارز في هذه التحولات؛ فنشأة الرأسمالية والإجارة ساهمت في إجبار الرجال والنساء على التصرف باستقلالية، في سوق العمل على الأقل، وطبقاً لغاياتهم الخاصة ومصالحهم الذاتية، وقد أثّرت هذه الضرورات الاقتصادية الجديدة بصورة ملموسة على النزوح إلى المدينة ومفارقة تجمعات الانتماء القديمة، فالفلاحات –مثلًا- أصبح بمقدورهن التمتّع بهامش مهم من الحرية في إنشاء العلاقات في المدينة، بعيدًا عن الضغوط التقليدية للمجتمع والأسرة القروية. وهكذا نرى أن التحرر التدريجي للفرد اقتصادياً انجرّ بدوره إلى دائرة العلاقات الإنسانية، وأضعف تأثير الانتماءات القديمة في حيوات الأسر الحديثة.
وهذا التحول الاجتماعي الواسع[77] الذي تزامن مع تراجع الانتماء الديني، وانهيار الأيديولوجيات والسرديات الكبرى -التي كانت تدرج الفعل الفردي في أفق مشروع واسع وضخم-، وضبابية المستقبل، وموت الأمل بالتغيير الجذري، والتصاعد الكبير للنزعة الفردانية[78]؛ أمسى يلقى حفاوة واسعة لدى الإنسان المعاصر، الذي يرى في هذه المشاعر المركّزة والدفّاقة أداة لتحقيق ذاته[79]؛ إذ أن “مسألة المعنى لم تعد تجد مكانًا تعبّر عن نفسها فيه جماعيًا”[80]، فقد استقرّت الأيديولوجية الحداثية على الاعتقاد بأن “المسائل المتعلقة بالحياة الجيدة للإنسان، أو بغايات الحياة الإنسانية يجب اعتبارها غير محسومة، من وجهة النظر الشعبية العامة”[81]، فالفرادنية السائدة تعادي أية محاولة لتشكيل “أهداف كبرى” جماعية[82].
إن ظاهرتي تضخّم العاطفة في تكوين العلاقات الأسرية وتفلّت الأفراد من سلطة التقاليد الجماعية والدينية القديمة ساهمتا في نقل فكرة “المقدس” إلى موضوعات جديدة، أكثر ذاتية وجوانية؛ وتبعًا لهذا السياق وانفعالًا به؛ فقد تكاثرت المؤلفات في العقود الأخيرة التي تتناول الحبّ من الناحية الفلسفية، ككتاب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور “تأملات في الحب والعدالة” (1990)[83]، وكتاب الفيلسوف الإيطالي انطونيو نيغري “فينوس الواهبة للحياة- مقدمات في الحب” (2000)[84]، وكتاب عالم الاجتماع البولندي زيغومنت باومان “الحب السائل” (2004)[85]، وكتاب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو “مديح الحب” (2009)[86]، وكتاب “ثورة الحب- نحو حياة روحية لائكية” (2010)[87] للفيلسوف الفرنسي لوك فيري، وتلتقي هذه الأطروحات -المختلفة في منطلقاتها وأهدافها النظرية- في نقطة مركزية هامة:
“الاشتغال على مفهوم الحب بوصفه خيطًا تأويليًا فريدًا من أجل اختراع تجربة معنى مغايرة لكل ادعاءات الحقيقة التقليدية”[88].
وهذا التناول المثالي -بل والمتعالي- للحبّ ظهر في وقت مبكر في السينما، والتي تعكس –جزئيًا- تمثلات نزعة تقديس “الحبّ” في المخيلة الحديثة، وهو ما يرصده المنظّر الفرنسي اللامع ادغار موران في كتاب نشره عام 1962م، فيلاحظ موران أن غالب ظهور الواجبات العامة والدولة والوطن والدين والحزب في السينما ترتبط بوصفها حتميات خارجية، أو معضلات يمكن للحبّ أن يتغلب عليها، ويشرح النمط السينمائي لعرض “الحبّ” في ذلك الوقت:
“الفيلم لقاء بين رجل وامرأة، وحيدين، غريبين عن بعضهما البعض، ولكن ضرورة مطلقة ستربط بينهما، والشخصية المركزية والأساسية في الحب هي الزوجان… ومن ذلك الحين يكون الحبّ شيئًا أكثر من الحبّ بكثير. إنه الأساس النووي للحياة حسب أخلاقية الفردية الخاصة. إن المغامرة التي تبرر الحياة. إنه لقاء المرء بمصيره. فأن يحبّ المرء يعني أن يكون ذاته حقًا، أن يتواصل حقًا مع الآخر، أن يعرف الكثافة والكمال… والكائن المحبوب [يصبح] موضوع إسقاطات عاطفية هي نفسها إسقاطات التأليه؛ فالنشوة والعبادة والحرارة هي من طبيعة المشاعر الدينية نفسها، إنما على نطاق كائن فانٍ“[89].
أعود إلى لوك فيري الذي يطرح الحبّ باعتباره الإجابة التي توفر المعنى والحياة الطيبة للإنسان المعاصر، الحب لا بوصفه مجرد ارتباط عاطفي، بل علاقة روحانية متعالية ومقدسة:
فـ”الحب يفرض نفسه بوصفه بعدًا من أبعاد المطلق والمقدس في صميم وجودنا بالذات، والدليل على ذلك أننا مستعدون لكل شيء من أجل من نحب”[90].
فالحب –وفقًا لهذه الأطروحة- مفهوم متعالي/فوقي، أي فوق الحياة وخارجها؛ “لأنه يجعلنا نخرج -تقريبًا- من ذواتنا، ومع ذلك نحس بهذا الشعور لا باعتباره موجودًا في عالم أخروي ما، بل باعتباره متجذرًا في الأرض، في قلوبنا بوصفنا بشرًا. وهو يضطرنا إلى تجاوز ذواتنا، بحكم تعالي الآخر فقط، تعالي الشخص المحبوب الذي يتغلب على أنانيتنا الطبيعية، غير أن هذا التعالي إنما نعيشه ضمن المحايثة الأكثر حميمية، محايثة القلب الباطنية”[91].
وهذا التعالي يعني القدسيّة، وطبع العلاقة بالطابع الديني الصرف، وفيري لا يتردد في التصريح بذلك -وبوضوح شديد- حين يقول:
“حين تحب شخصًا ما فعلًا، فأنت تعيش في هذا الحب تجربة تقديس الآخر؛ إذ سيصبح بهذا مقدسًا بالمعنى الذي يمكن فيه أن تقدّم حياتك فداءً له. فأنت هنا تعيش تجربة متعالية، ولكن لا تشعر بها من خلال سماء الفكر أو الدين، ولا في أي مكان آخر، غير داخلك… وهذا هو ما أطلق عليه –وأنا أستعين هنا بالفيلسوف هوسرل- (التعالي في المحايث)، وهذا تعال علماني بمعنى من المعاني”[92].
هذه الفكرة “التعالي في المحايث” -يترجمها طه عبدالرحمن بـ”التعالي المقارِن”، أو “التعالي الأفقي”- يمكن تقريبها بمبدأ “الأفق”، “فعندما تفتح عينيك على العالم سترى الأشياء على خلفية ما، وكلما تقدمت فيه أكثر يتحرك هذا الأفق بدوره، كما هو الحال مع البحّار، فلا ينغلق هذا الأفق أبدًا كخلفية نهائية لا يمكن تجاوزها. وهكذا من خلفية إلى خلفية ومن أفق إلى أفق لا يمكنك أبدًا التوصل إلى الإمساك بأي شيء تستطيع اعتباره كيانًا أو (كائنًا) أسمى، أو سببًا أوليًا بإمكانه ضمان وجود الواقع. وفي هذا الوضع يكمن [التعالي] في قلب ما هو معطى لنا بالذات وما نراه ونلمسه، أي في قلب الملازمة بالذات”[93].
(7)
لا بد أن نلاحظ التأثر الواضح -الذي لا يخفيه فيري- بالديانة المسيحية، فـ”تظهر الإنسانوية اللائكية وكأنها علمنة مسيحية”[94]، وهو بهذا يستكمل الطريق الذي بدأته الحداثة في تجريد المفاهيم الدينية من مضامينها الغيبية، لصالح مفاهيم وأفكار أرضية محايثة. تظهر الاستعارة من المسيحية -أولًا- فيما يتصل بفكرة “الإنسان الإله”، والتي استعارها فيري من المسيحية، فالمسيحيون يعتقدون أن المسيح عليه السلام إله تجسد في الإنسان، وفيه اتّحد اللاهوت بالناسوت، فانتقل ذات المعتقد من الإنسان/الإله المرتبط بالذات المتعالية، إلى الإنسان/الإله المنفصل الارتباطات الغيبية المفارقة. وتظهر –ثانيًا- فيما يتصل بمركزة الحب وإعلاء منزلته القيمية، كما هي في المسيحية[95]، جاء في رسالة يوحنا الأولى: “لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ، وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ”[96]. وثالثًا؛ تظهر الاستعارة –وإن كان بصورة خفيّة ومضمرة- في التأثر بالأدبيات المسيحية التي تؤسس لمشروعية الذهاب إلى الباطن وأعماق الذات الحميمية لأجل تلمّس الحقيقة[97].
وإلى جوار التأثر بالمسيحية، نلحظ في التناول التدنيسي لمسائل الألوهية والتعالي تأثرًا متوقعًا بالأسطوريات [=الميثولوجيا] اليونانية، –وفيري مهتم بها وكتاباته مليئة بالإحالة إليها بل أصدر كتابًا شعبيًا[98] لتقريب أبرز تلك الأساطير-، وجهة التأثر أن هذه الثقافة اليونانية “ما تركت للألوهية وقارًا مستحقًا ولا مقامًا كريمًا”[99]، فقد تلطّخت في حكاياتها الذوات المقدسة بالمدنّسات، وهُزمت فيها الآلهة المزعومة وانتهكت كرامتها.
(8)
تعاني أطروحة فيري من ثقوب نظرية عميقة على عدة مستويات، كما تبدو مثقلة بأزمات عمليّة محبطة، وسأتناول فيما يلي ثغراتها النظرية، والتي يمكن إجمالها في (اجتزاء الروحانيات، والتباس مفهوم التعالي، ومفارقة الحب المدنّس، ومعضلة الأسئلة المعلّقة)، أما الثغرات العملية فتتركز في (الانكشاف الوجداني، وأزمة الدوام وتهديدات الفناء).
اجتزاء الروحانيات:
يحاول بعض الفلاسفة والمنظرين المعاصرين من اللادينيين والملاحدة اختلاس الروحانيات من الأديان، وهي المعاني والوجدانيات القارّة التي تشحن باطن الإنسان بالطمأنينة والسكينة المستقرة والرضا المستمر، وتعوضه عن ما يفقد، وتلبي حاجته الداخلية للتعالي على شؤون الحياة الظاهرة ومادياتها المجردة[100]، ففي عام 2006م نشر الفيلسوف الفرنسي الملحد اندريه كونت سبونفيل كتابًا بعنوان (روح الإلحاد- مقدمة لروحانيات بلا إله)، وفي عام 2014م نشر الملحد الأمريكي المعروف سام هاريس كتابًا بعنوان (اليقظة- دليل لروحانية بلا دين). ويأتي فيري –بأطروحة عن الحب المقدس- ضمن هذا السياق لاختراع روحانيات لائكية-، كما يشير في عنوان كتابه الفرعي (ثورة الحبّ-نحو حياة روحية لائكية). وتنحو بعض هذه الأطروحات إلى اقتراض أشكال منوعة من الفلسفات التأملية والإشراقية الشرقية القديمة[101]، لا سيما البوذية، والتي لا تجد قبولًا لدى فيري، لكون البوذية ترى السعادة والمعنى مكرّسة في فكرة “عدم التعلّق” بأي شيء مطلقًا، للنجاة من أوهام الذات، وأضرار الفقد، وآلام المحافظة على الذوات (الآخرين) والأشياء، بحيث تبدو التعاليم البوذية -المستوردة غربيًا- كميول “زهدية” متطرفة، لا يمكن تحقيقها إلا في صورة راهب منعزل وحيد، لا زوجة له، ولا أولاد، فهي مستحيلة عمليًا من هذه الجهة.
ومن الجهة الأخرى فالبوذية تناقض المزاج الفرداني الغربي، لأنها -في طريق نفييها الجذري للتعلّق- تسعى إلى القضاء على الأنا المتفردة، للوصول إلى نفي المعنى؛ فالعمق الأساسي للبوذية يكمن في أنها تساعد أتباعها للوصول “إلى رؤية للعالم تختفي فيها مسألة المعنى كليًا”[102]، فلا تقدم إجابة لسؤال المعنى، بقدر ما ترسم طريقة جذابة للتهرب منه.
وتنطوي محاولة اختراع روحانيات خارج الإطار الديني على دعوى مغلوطة وهي إمكان الفصل بين الدين بوصفه منظومة “طقوس”، والروحانيات الداخلية. ورفض “الطقوس”، (أو الشعائر بالمصطلح الإسلامي) باعتبار أنها شكليات ورسوم وتقاليد فارغة، يراد بها غالبًا الطقوس الكنسية المخترعة. والحق أن الروحانيات الجالبة للطمأنينة والسكينة والشعور بالامتلاء والثراء الباطني الممتد والثابت لا تتحصّل إلا بفعل الشعائر والمناسك والعبادات الظاهرة مع تحقيق مقاصدها الباطنة، فالروحانيات ثمار تلك التعبدات، ولا تنشأ في فراغ، كما أن قيام هذه المعاني القلبية الفاضلة يقوّي من أثر العبادات الظاهرة في النفس، ويطبع الروح بطابع السمو والعلو[103]. ولذا فإن:
“اختزال الدين في الروحانيات أسوء من اختزاله في العباديات، إذ حصر الدين في الشعور الإيماني الباطن أشد تضييقًا على الوجود الإنساني من حصره في السلوك التعبدي الظاهر؛ فالظاهر أمر مرئي يتحقق به انوجاد الإنسان [أي وجوده في العالم المرئي ببدنه وروحه] وإبصاره، في حين أن الباطن أمر غيبي يتحقق به تواجده [أي وجوده في العالم المرئي بروحه]، واستبصاره؛ ولا يمكن حصول التواجد والاستبصار إلا بحصول الانوجاد والإبصار”[104].
وسبب هذه الاختزال جهل هؤلاء الملاحدة واللادينيين بحقيقة الروحانيات؛ “لأن معرفة الروحيات الوجودية توجب الإيمان بالدين الحق، كما توجب الدخول في مجاهدة النفس على أصوله المنزلة، فهي معرفة نابعة من تجربة وجدانية حيّة، وهؤلاء لا يؤمنون بوجود هذا الدين الحق، ولذا هم لم يحصّلوا معرفتهم بالروحيات إلا بطريق ذهني مجرد”[105].
التباس مفهوم التعالي:
اقتبس فيري مفهوم “التعالي في المحايث” أو”التعالي المقارِن” من الفيلسوف الألماني ومؤسس الفلسفة الظاهراتية إيدموند هوسرل، الذي استخدم هذا المفهوم “عند وصفه للقصدية[106] التي يتمتع بها الشعور الإنساني، والتي تجعله يتعلق بالعالم باعتباره وجودًا خارجًا عنه، وذلك لإفادة أن الصفة الخارجية للعالم تتكون داخل الشعور نفسه، أي أنها تظل مقارنة له… وقد التبس هذا المفهوم على فيري، وذلك أنه أنزل الشعور بسمو القيمة نفس الرتبة التي يَنزلُها الشعور بثبوت العالم في الخارج، فانتقل من الدلالة النفسية إلى دلالته الأخلاقية، أي استبدل بوجود الوعي وجودَ الضمير، بحيث لم يعد لفظ التعالي يفيد أن الذي يوجد خارج الشعور هو العالم المادي، وإنما هو العالم الروحي”[107].
كما أن مفهوم “الإنسان الإله” لا يستقيم، لكونه “يتضمن تناقضًا صريحًا، فهو يجمع بين وصفين متعارضين: التعالي المقارِن الذي خصّ به الإنسان، والتعالي المفارق الذي يختص به الإله، والإنسان وإن كان قد يحصل الشعور بقيم متعالية يضاهي بها من هو أعلى منه مرتبة، إلا أنه لا يلزم من ذلك مطلقًا أن الرتبة التي تلي رتبة الإنسان في مراتب الوجود رتبة الألوهية، ولا أنه يستحق نزولها، ولا بالأحرى أنه يقدر على ذلك، فليس من سبيل إلى الخروج من وضعه المتناهي النسبي إلى وضع لا متناه مطلق”[108].
مفارقة الحب المدنّس:
الحب الذي جعله فيري أساس التقديس خلط فيه بين “حب الشهوة و”حب الشوق”، ورجّح جانب الشهوة فيه على جانب الشوق، وسماه “حب الهوى”، ولذا فهو يجعل الكره والموت أضدادًا لهذا الضرب من الحب، ويعتبر أن ملازمة آثار الكره والموت للإنسان الحديث دالّة على تجذر البعد المأساوي للوضع البشري عمومًا، ويبيّن أن الكره ينطوي على ألم مادي، وأن الموت يقطع سبيل التمتع الحسي، لكن فيري –مع ذلك- يصّر على أن يرفع رتبة “حب الهوى” إلى أفق أعلى بجعله أشبه بحب الشوق، ولا يخفى أن هذا الحب الأخير هو ما يحرّك القلب إلى طلب كمال الخلق وتمام اللذة الروحية، ولا يسكن إلا في الخلود إلى جوار المحبوب”[109].
معضلة الأسئلة المعلّقة:
نظرًا لحالة عدم الاتساق في المنطق الداخلي الذي تقوم عليه الفلسفة الإنسانوية الثانية عند فيري؛ فإنها تعترف بقصورها عن الإجابة على عدة أسئلة جوهرية[110] في منظومتها النظرية، وهذا يضعف معقولية الأطروحة، ويؤكد ارتباكها المعرفي، والإنسان في مستواه العملي مفطور على البحث عن إجابات محددة إزاء ما يعرض له، بل هو –ربما- يفضّل أن تكون الإجابة غير موثوق بها إذا كان المقابل عدم الحصول على إجابة مطلقًا، ومن هذه الأسئلة والإشكاليات المعلّقة:
1- الحجة والتأسيس البرهاني: فهذه الأطروحة -وخلافًا للنزعات المادية المتطرفة- لا تقدم برهنة عقلية على قيمها الإنسانوية المتعالية، وإنما تعول على مخاطر نفي التعالي؛ الذي يفضي إلى اختفاء إنسانية الإنسان نفسه. وليس هذا بغريب على الحالة الفلسفية الحديثة، فإننا نعثر منذ ديكارت إلى هوسرل مرورًا بكانط على أطر فلسفية كاملة تضع قيمًا ما أو دلالات معينة خارج العالم (=متعالية)، وذلك تحت عناوين من قبيل (أفكار فطرية، حقائق أبدية، مقولات قبلية، موجودات عليا).
2- مصادرة التميّز الإنساني: أنها تضع الإنسان في مكانة متميزة عن آليات الكون الطبيعي والحيواني، لنفس العلة السابق، وهي مخاطر نفي تميز الإنسان؛ فـ”إذا لم يكن البشر -بمعنى ما- آلهة، فإنهم قد لا يكونون بشرًا. إنه ينبغي أن يفترض فيهم شيء مقدس ما، أو قبول اختزالهم في الحيوانية المحضة”[111]، وهي محض مصادرة بلا برهان، فرارًا من الإقرار بالإكرام الإلهي والروح السماوية التي تميز الآدمي.
(9)
أما الإخفاقات العمليّة التي تعاني منها أطروحة “الحب” فتتركز في:
الانكشاف الوجداني:
دعوة الإنسان الحديث لأن يؤسس أهم جزء من وجوده ومعنى حياته على العواطف، بل والغرام الحاد أحيانًا، مع فقده لدعم التقاليد والتراتيب الاجتماعية الكلاسيكية (القروية والعشائرية) والسند الإيماني العظيم؛ يعني تجريد الإنسان الضعيف من كل الإمكانات الروحية والنفسية والاجتماعية الحامية والداعمة، وتعريض روحه العارية لمخاطر وآلام وعذابات مواجهة الشرّ بكافة أشكاله المروّعة، وغير العقلانية؛ كالموت، والكوارث، والإخفاقات العاطفية، والأحزان، والخيانات، فيمسي لا يملك سوى دروع هشّة تتوسل بالحب المثالي وتمجّد الحبيب المقدس:
“مثلنة الحب هي إنعكاس أكبر للطريق الذي اقتبسته الحداثة، والمزايدة هي المقلب الآخر للخسائر التي حملتها الحداثة. لا وجود لله، لا وجود للكاهن، لا وجود للطبقة، لا وجود للجار؛ إذًا على الأقل (أنت)، وعظمة هذا (الأنت) متناسبة مع الفراغ الذي ينتشر في كل مكان”[112].
أزمة الدوام وتهديدات الفناء:
مع شيوع الاعتقاد بأن الحياة الخالية من العشق لا تستحق العيش، وانعكاسات هذه الخيالات الحديثة على مركزة العلاقة مع الآخر على العواطف الكثيفة فقط[113] الأمر الذي أدى –كما تثبت التجربة والمشاهدة- إلى فشل العلاقات المتكرر وسهولة الانفصال[114]، وكان من نتيجة ذلك تقنين الطلاق -بعد أن كان محرمًا لدى الكنيسة- بل وتفاقمه، وهو صيرورة متوقعه لتأسيس الزواج على الحب والمشاعر الفوارة، ولذا نجد أنه كلما تحرّر الزواج من دوافعه التقليدية الاقتصادية والعائلية، وأصبح اختيارًا فرديًا، قائم على التآلف المنتقى؛ فإنه يواجه مشكلة (استنزاف الرغبة)[115]؛ فالغرام لا يستمر -في أحسن الأحوال- سوى سنيات قليلة[116]، وتكمن مشكلة الأزواج الحديثة في كيفية تحويل عشق البدايات الملتهب إلى علاقة دائمة، وصداقة حميمية مستمرة[117].
يعيد باسكال بروكنر في كتابه (هل فشل زواج الحب؟) المنشور عام 2010م سبب الفشل المتكرر للزيجات الحديثة إلى كون المجتمع الحداثي قد رفع الحبّ إلى رتبة العقيدة، فأضحى الفرد يتوقع ويستثمر كل شيء في هذه العلاقة، لكون الحبّ أضحى “صورة علمانية للخلاص”، ونتيجة ذلك أن التوقعات التي تراود الشركاء تجاه بعضهم البعض كبيرة جدًا[118]؛ الأمر الذي يؤدي إلى الانفصال عند أدنى خيبة أمل. فكل زوجة مطالبة أن تكون عشيقة متلهفة، وصديقة روحية، وأمًّا باذلة، وأن تظل –مع مرور الزمن وتراكم الأعباء- فاتنة وجذابة جسديًا، وناجحة اجتماعيًا، ووظيفيًا، وكل زوج مطالب أن يكون عشيقًا بارعًا، وزوجًا داعمًا، ورجلًا ناجحًا، وأبًا متميزًا، في الوقت نفسه. فالعلاقات المعاصرة –كما يلاحظ بروكنر- مهووسة بالتوفيق بين كل شيء، بين الحب الدافق والإثارة الجنسية، وبين تعليم الأطفال والعناية بهم وتحقيق النجاح الاجتماعي/الوظيفي، وتطمح -فوق ذلك- إلى تثبيت كل هذه المعادلات الصعبة على المدى الزمني الطويل.
وللفناء الذي يواجه هذه العلاقة “المقدسة” وجه آخر، أقسى وأبعد ألمًا، وهو الفناء بالموت والفقد، فعلى فرض التسليم بفعالية هذه الأطروحة وإيفاءها بوعودها في إنقاذ المعنى، وتوفير الحياة الطيبة، إلا أن حتمية الانفصال بالموت وفقد الحبيب، تهدم ما بقي من عقلانيتها؛ لأن هذا الفقد –في ظل أوهامها الملحدة- ليس فقدًا مؤقتًا، بل فقدًا مطلقًا عبثيًا لا رجعة فيه، وهكذا يمكن بسهولة ملاحظة هذه المجازفة المخيفة بالكينونة الروحية. ما يقترحه فيري أمام هذه المعضلة مثير للسخرية والشفقة في آن، فهو يرى أن على الإنسان أن ينمّي في نفسه -بهدوء وبدون أوهام- نوعًا من “حكمة الحب”، وأن يحبّ وهو يفكر كل يوم في الموت، “من أجل البحث عما ينبغي القيام به، هنا والآن، وبكل فرح، مع أولئك الذين نحبهم والذين سنفقدهم، إلا إذا فقدونا هم قبل ذلك”، ويعلّق على هذا التصور الإرشادي، باعتراف يائس: “إنني بعيد كل البعد عن امتلاك هذه الحكمة، ومع ذلك فأنا متأكد من وجودها، ومن أنها تشكّل تتويجًا لإنسانوية متخلصة من أوهام علم ما وراء الطبيعة ومن الدين”[119].
والنفس البشرية لن تعثر على المعنى ولن تحقق الطمأنينة الداخلية في ظل تهديد الفقد وقرب الموت، موتها وموت من تحب، إلا إذا آمنت باجتماع أربعة شروط أساسية:
“(1) أن لا يكون الموت هو النهاية، و(2) أن تستمر الهوية الشخصية بعد الموت، و(3) أن يكون ثمة اختلاف بين هيئتنا التي نحن عليها الآن وبين الشكل الذي سنكون عليه بعد الموت، و(4) أن يكون من المأمول أن تستمر حياتنا الأخرى بعد الموت في ظل ظروف سعيدة نسبيًا، بل سعيدة جدًا”[120].
وهي شروط توفرها المسيحية –والإسلام أيضًا-، ولا يمكن منافستها في هذا الشأن، ولذا لا يجد اللاديني لوك فيري غضاضةً –في هذا الصدد-من تأكيد أن الإنسانوية الأرضية لا تساوي شيئًا فيما يخص التعويض الأخروي ولقاء الأحباب بعد الموت، ويقول: “لا شيء يمكنه منافسة المسيحية على مستوى التجربة الأولى، ولكن بشرط أن نكون مؤمنين!”[121].
(10)
ظهر جليًا -فيما مضى- الثغرات الواسعة التي تعاني منها أطروحة فيري في الإجابة عن سؤال المعنى و”الرؤية إلى الوجود”، وهي تمثل أنموذجًا للهشاشة الملموسة في الأطروحات المعلمنة البديلة[122]، خصوصًا ما يتصل بمكابرة هذه الأطروحات وتجاهلها لمركزية سؤال أصل الإنسان والكون ومصيرهما، بدعوى تجاوز الميتافيزيقيا، “ومن ثمّ تخطّي الأسئلة الكلية، وما يرتبط بها من مطلب إنتاج السرديات الكبرى. نعم؛ ربما تتعطل آلية إنتاج السرديات الكبرى، لكن هذا التعطل لا يعني حصول الإشباع وانتفاء الحاجة الشعورية والعقلية إليها؛ لأنها موصولة بأسئلة الوضع الوجودي البشري في مستواه النفسي العميق”[123]؛ فهذا العالم المنظور لا يشبع النفس، ولا تكفي لذّاته لإطفاء التوق الباطن إلى ما هو فوق، فـ”كل نفس لا بد لها أن تأله إلهًا هو غاية مقصودها“[124]، يقول س. إ. لويس:
“لا تنشأ المخلوقات برغبات يستحيل إشباعها. يشعر الرضيع بالجوع: يوجد تحديدًا شيء يُسمى الطعام. يريد صغير البط أن يسبح: الماء موجود. يشعر الناس بالرغبة الجنسية: يوجد جنس. إذا وجدتُ في نفسي رغبةً لا يرضيها شيءٌ في هذا العالم، فأقرب تفسير لذلك أنني خُلِقتُ لعالم آخر[125]. إذا لم تُرضِ أيٌّ من المتع الأرضية هذه الرغبة، فهذا لا يثبت أن الكون صنع بشكل سيئ، بل لا شك أن المتع الأرضية لم تكن مُعدَّة لإرضائها، بل لإيقاظها واقتراح موضوعها الحقيقي فقط “[126].
تفشل محاولات بناء المعنى في حياة الإنسان المعاصر لإخفاقه المتكرر في بناء سردية مكتملة ومعقولة، وتتسم بالاتساق والامتداد الزمني، على الصعيد التاريخي والشخصي، وذلك نتيجة المبالغة في التمركز حول الإنسان والانقطاع الروحي ورفض التقاليد والعقائد، فيتقلص تفكير الإنسان في نفسه لينحصر في صيغة مكانية لا زمانية، وينغرس وجوده الباطني في أبعاد الوجود المرئية، مما يؤدي إلى فقدان العلاقة الوجودية الأصيلة بالنفس، بل فقدان أيضًا العلاقة الأصيلة بالآخرين[127]، “فالعزلة -كما يقول المفكر الإيطالي لويجي جوساني ت2005م- ليست أن أكون وحدي وإنما غياب المعنى،
“فالعزلة في الحياة الجماعية هي اتهام لحضورنا فيها دون إدراك المعنى، فنحن هناك من دون الاعتراف بما يجمعنا، ولذلك تصبح أقل سفاهة اعتراضًا يهدم كل بنيان الثقة”[128].
وهذا التقزّم للأبعاد الزمانية وفقدان السردية الممتدة يمكن ملاحظته في كثير من خطابات السعادة والروحانيات العلمانية وكتب علم النفس الشعبي والكتب الأكثر مبيعًا في تنمية الذات والتغلب على المشكلات، فيبرز فيها بكثرة الإرشادات التي تتمحور حول: الاستمتاع باللحظة الراهنة، وتعلم فن اللامبالاة، والحذر من الارتباط والتعلّق، وعدم اجترار الماضي، وتحاشي الأمل، وحب الذات والاكتفاء بها، والاستغراق في التأمل[129].
ما هي السردية؟ هي الخطاب المرتّب المتسلسل الواضح بين الأحداث بحيث تكون ذات مغزى، متضمنًا فهمًا محددًا للعالم، “ولكي نكوّن أقل معنى لحياتنا نحتاج إلى فهم حياتنا بشكل حكاية متسقة منطقيًا، فلكي يكون عندنا معنى بما نحن نكون، علينا أن نعرف كيف صرنا، وما المكان الذي نحن ذاهبون إليه”[130]. وهكذا يمكن بناء المعنى شخصيًا وتاريخيًا عبر “الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ ليبدو وكأنه قصة متماسكة”[131].
وعند تفحّص تصورنا الإسلامي سنجد أن السردية المؤمنة التي يقدمها الوحي تتأسس على التحقق الجازم بأن المدار والأس والأساس، والغاية والمنتهى، هو الله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فهو الأول والآخر، والدائم، والحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يمكن أن تصح رؤية للعالم ولا معنى للوجود من دون أن يكون الإيمان بالوجود الإلهي، واليقين بكماله المطلق عز وجل، ورعايته التامة، ونفوذ أمره وإرادته؛ هي الركن الركين، فهي الركيزة الوجودية الأصيلة الكفيلة بتشييد البنية التحتية المؤسسة لمعرفة صحيحة وأخلاقيات فاضلة ونظام متماسك للمعنى[132].
كما تتضمن هذه السردية مبدأ الإنسان، وسياقه التاريخي، والمغزى من وجوده، وعلاقته بالكون والآخرين، ومصيره.
ومبدأ حال الإنسان أنه مخلوق لله تعالى على هيئة خاصة من التشريف والكرامة (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، وحمّله الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) وهي “التكاليف الشرعية، من التزام الطاعات وترك المعاصي”[133]، وأوضح له الغاية من وجوده في هذا العالم بأجلى عبارة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وأخبره عن حتمية وروده إلى الدار الآخرة، وأنه يرد إليها وحيدًا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ليحتاط لنفسه فلا يعوّل على حسب أو نسب، ولا يغترّ بالكثرة الضالّة، وسخّر له الموجودات (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) ليستعين بها على مراد الله منه، ولا يخالف بها ولا فيها، بل يكون معها على حال تتناسب مع طبيعتها المؤمنة المسبّحة (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، وأورد له الحقائق التي تصوّب نظره إلى طبيعة وجوده العابر، فقال له أن الدنيا لا تعدل شيئًا في زمان الآخرة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، وأن الحياة الدائمة أولى بالعناية (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ)، ووعد المؤمن بالخلود المطلق في النعيم الأبدي (والَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
وهكذا ترى أن هذه “السردية” قد تركّبت باتساق متعقل يُبِين عن طبيعة الأزمنة الثلاث وموقع الإنسان داخلها ومصيره، على نحوٍ لا يمكن منافسته من أي “سردية” محايثة، لكونها تتضمن جوانب غيبية في المنشأ والمصير، وتفسّر الحالة الإنسانية في أخصّ معضلاتها الوجودية. ولا يمكن بناء سردية مبتورة لا تجاوز عمر الإنسان القصير، أو ترفض أو تتناسى أبعاده الروحية الخفية، أو تكابر في تقبّل موته المطلق من غير رجعة، وتتجاهل أشواقه الباطنة للخلود، وعطشه العميق للحياة الأبدية[134].
أما الحبّ، فهو أصل كل حركة في الوجود، وأعظم الحبّ وغايته ومنتهاه محبة الله تعالى، ومحبة رسوله e؛ فهي “أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين”[135]، بل:
“كل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال، وكل ما في غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى؛ فهو المستحق لأن يُحبّ على الحقيقة والكمال“[136].
ولا يُحبّ أحد لذاته إلا الله تعالى، لكماله في ذاته، ولأن هذا من معاني إلهيته سبحانه، ومحبة كل ما سواه إنما تكون تبعًا لمحبته تعالى، ومن تمام حبّه حبّ ما يحبه، من الأنبياء والصالحين، والأعمال الصالحة، “فالمخلوق إذا أحبّ لله كان حبه جاذبًا إلى حبّ الله تعالى”:
“فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحقّ فأحببته، فازداد حبّك لله”[137].
وكل محبوب سوى الله فهو محبوب لغيره، إما لإحسان أو استحسان خَلق أو خُلُق، أو غير ذلك، ومن كان حبه على هذا النحو “فإنه لم يحبّ –في الحقيقة- إلا ما يصل إليه من جلب منفعة أو دفع مضرة، وإنما أحبّ ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه، وليس هذا حبًا لله و لا لذات المحبوب. وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم لبعض”[138].
ولا يعني ذلك ذمّ جميع المحبوبات، بل المرء مفطور على المودة والانجذاب إلى ما يلائمه، كمحبة صديق أو قريب أو زوجة، وذلك لا يذمّ “إلا إذا ألهته هذه المحبة عن ذكر الله، وشغلت عن محبته”[139].
وقد يجتمع في المحبوب الجهتان، حب الطبع وحب الشرع، كما حكى الحافظ ابن كثير عن العالمة الفاضلة عائشة بنت إبراهيم بن صديق (ت741هـ) رحمها الله زوجة الحافظ جمال الدين المزي رحمه الله، وقد كانت “عديمة النظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها، وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح، يعجز كثير من الرجال عن تجويده، وقرأ عليها من النساء خلق، وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا”، قال ابن كثير عن زوجها المزي رحمه الله:
“وكان الشيخ محسنًا إليها، مطيعًا، لا يكاد يخالفها؛ لحبه لها طبعاً وشرعاً[140]“.
فالحب الفاضل هو ما كان لله وبالله، وهو الحبّ الوحيد الذي يقدّر له الخلود الأبدي، ولا يضره الانقطاع المؤقت بالموت، أما المحبات الأرضية فقلّما تخلو من التنغيص والكدر، فإن كملت انقطعت عن قريب، بملل أو موت أو سوى ذلك.
إن “معنى الحياة” في الشرع إنما يتحقق بتصحيح القصد، والإيمان بالرسالة، وضبط بوصلة على القلب على جهة العلو، طاعةً ومحبًا وإخلاصًا وتوحيدًا. وكل معنى من المعاني المخترعة، مما تعلمن في مؤسسات أو حركات أو أيديولوجيات، وتأنسن وتفردن في ذوات أرضية ونفوس فانية؛ فمصيره الزوال، ونهايته العدم، لا بل مصيره العذاب والهوان المقيم في الدار المقبلة، ولا يبقى إلا الله تعالى، الحيّ الباقي. وإذا كانت الأديان الباطلة، كالمسيحية واليهودية، تواسي أتباعها بالخلاص الأخروي، وتقوّي معتقداتهم من صبرهم واحتمالهم لمآسي الحياة، وما ذاك إلا بسبب ما وقع لهم من شعاع أنوار الحق، وإن حجبوا بقيّة النور بألواح التحريف الباطل، فكيف يكون الحال باعتقاد دين الحق، فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ). والله المسؤول بكرمه وألطافه أن يملأ قلوبنا بحبه وذكره وشكره، وأن يجعل حالنا ومآلنا إلى خير.
[1] جوناثان كلر، أقنعة بارت، ص20، ترجمة السيد إمام، نشر الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1 2013م.
[2] Nicolás Gómez Davila, An Anthology Compiled by Andis Kaulins, P 101 (408).
[3] انظر: أكثر من الحب وأكثر من الخمرة، موقع أثارة، 12 أكتوبر 2019م.
[4] لوك فيري، فيلسوف فرنسي، ولد عام 1952م، تخرج من السوربون، ثم درس في هيدلبرج بألمانيا في أواسط السبعينيات، وتخرج أستاذًا في الفلسفة. برزت شهرته عام 1985م حين نشر مع آلان رونو كتاب “الفكر 68″، وذاع صيته في تدريس وتقديم الفلسفة بصورة شعبية. أصدر أكثر من 20 كتابًا، ترجم منها: “الإنسان المؤله أو معنى الحياة” (صدر بالفرنسية 1996م)، و”تعلم الحياة” (صدر بالفرنسية 2006م) وبيع منه أكثر من 600 ألف نسخة، و”أجمل قصة في تاريخ الفلسفة” (صدر بالفرنسية 2014م)، و”مفارقات السعادة” (صدر بالفرنسية 2016م)، ومن كتبه البارزة التي لم تترجم إلى العربية: “النظام الإيكولوجي الجديد” (صدر بالفرنسية 1992م)، وترجم إلى أكثر من 15 لغة، و”ثورة الحب: من أجل روحانية علمانية” (صدر بالفرنسية 2010م).
[5] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله- أو معنى الحياة، ص13، ترجمة محمد هشام، نشر أفريقيا الشرق، ط1 2002م.
[6] انظر: بليز باسكال، بؤس الإنسان، مترجمة في مدونة العدمي المستنير. وهي مقالة لطيفة تحلل الضجر البنيوي لدى الكائن البشري.
[7] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص15، بتصرف، ترجمة محمود بن جماعة، نشر دار التنوير، ط1 2015م.
[8] الطيب بوعزة، مفهوم “الرؤية إلى العالم” بوصفه أداة إجرائية لقراءة تاريخ الفكر الفلسفي، ص26، مجلة تبين، عدد 8/2، ربيع 2014م.
[9] حتى العلم والذي يعول عليه الإنسان المعاصر أكثر مما ينبغي -مهما تطور- سيظل قاصرًا عن إدراك سرّ الحياة، “فـمهما تعمق الفرد في دراسة ظروف توالد البشر أو تفسير شيخوخة الخلايا عضويًا فلن يدرك سر الحياة ولن يفهم سر تناهيها، فالعلوم المتقدمة تصف وتفسّر –جزئيًا- ما هو كائن، ولكنها لا تستطيع تفسير كون الأشياء كائنة، فيس لديها إجابة على سؤال لايبنتز الشهير: (لماذا يوجد شيء بدلًا عن لا شيء؟!)” لوك فيري، الإنسان المؤله ص41-42.
[10] لوك فيري، الإنسان المؤله ص7-8.
[11] لوك فيري، الإنسان المؤله ص6.
[12] انظر: لوك فيري، تعلم الحياة- مبحث في الفلسفة للأجيال الشابة، ص384. وانظر عن: الأمل بعد الموت وارتباطه بالإيمان الديني، وأهميته في بناء المعنى لدى الإنسان: دوغلاس ديفيس، الوجيز في تاريخ الموت، ص30، 31، ترجمة محمود الهاشمي، نشر الهيئة العامة السورية للكتاب، ط1 2014م. وهنا يلفت انتباهي الارتكاس الإنسانوي العميق الذي يتمثل في هذه الإجابة، ففي موقف مهيب كهذا لا يحضر سوى البحث عن الإنسان الآخر، وتغيب كل معاني الغفران، أو المثوبة الخالدة، أو أي تخيّل ينطوي على معرفة حقة بالله وصفاته تعالى.
[13] يقول عالم الاجتماع نوربير إلياس: “توجد عزلة للمقبل على الموت، أي للمسن، وهي [ممارسة] حديثة على نحو خاص. إننا نخاف من الموت، ونخاف من كل ما يذكرنا به، ونفضّل أن نبعد عن مجال رؤيتنا هؤلاء الذين يذكروننا به. ولذلك نسجن المسنين في بيوت للتقاعد، حيث لا يرون إلا مسنين آخرين”. بواسطة: تزفيتان تودروف، الحياة المشتركة، ص97 بتصرف، ترجمة منذر عياشي، نشر المركز الثقافي العربي، ط2 2010م. وتأكيدًا لذلك يلاحظ ليبوفيتسكي وجان سيرو أنه “السينما لا زالت تتردد في مشاهدة الجانب المظلم من الشيخوخة الممتدة، عن قرب” شاشة العالم، ص119، ترجمة راوية صادق، ط1 2012م. وانظر: كريستوف فولف، علم الأناسة-التاريخ والثقافة والفلسفة، ص368 وما بعدها، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطية للنشر، ط1 1430هـ. وانظر: جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ-الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ص65، ترجمة حافظ إدوخراز، نشر مركز نماء، ط1 2018م.
[14] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله ص8.
[15] انظر: تشارلز تايلور، منابع الذات-تكوّن الهوية الحديثة، ص51، 61، ترجمة حيدر إسماعيل، نشر المنظمة العربية للترجمة، ط1 2014م.
[16] يرتبط تفشي الحديث عن انعدام المعنى بسياق الانفصال عن الآفاق الاجتماعية والكونية الرحيبة، والتي جعلت الفرد يفقد أمرًا جوهريًا، والذي وصفه البعض بـ (ضياع البعد البطولي للحياة)؛ “إذ فقد البشر–وفق هذا الزعم- تعلقهم بالمُثُل، واستعدادهم للتضحية بالنفس في سبيل مبدأ أو قضية… إننا نعاني من الافتقار لعشق أو شغف يستولي على تلابيب النفس فيحثها على مزيد من العمل النافع. لقد رُبط اختفاء المُثُل بتقلّص الحياة، فغابت عن ملاحظة الناس المنظورات الواسعة، لأنهم انكفأوا على ذواتهم وغرقوا في فردانياتهم، الأمر الذي ساهم في تسطيح الحياة، وإفقارها من المعنى”. تشارلز تايلور، مظاهر القلق في الحضارة الحديثة، ص151-152، ترجمة حسن العمراني، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد3-4.
[17] تشارلز تايلور، منابع الذات، ص62، بتصرف. المعالج النفسي رولو ماي يؤكد ذلك أيضًا، انظر: رولو ماي، البحث عن الذات، ص19-20، ترجمة عبد الجسماني، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 1993م. وقارن مع: جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ-الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ص80، ترجمة حافظ إدوخراز، نشر مركز نماء، ط1 2018م.
[18] انظر: رولو ماي وإرفين يالوم، مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي، ص51، ترجمة عادل مصطفى، نشر دار رؤية، ط1 2015م.
[19] انظر: الإنسان يبحث عن المعنى، فيكتور فرانكل، ترجمة طلعت منصور، نشر دار القلم، ط2 1440هـ.
[20] انظر: جوليا كريستيفا، أمراض النفس الجديدة، ص451، ضمن (القيم إلى أين) بإشراف جيروم بندي، ترجمة زهيدة جبور وجان جبور، نشر المجمع التونسي، ط1 2005م.
[21] لوك فيري، الإنسان المؤله ص13.
[22] كما يرى المحلل النفسي المعروف إيريك فروم، انظر كتابه: المجتمع السوي، ص242، ترجمة محمود الهاشمي، نشر دار الحوار، ط1 2015م. وانظر لرؤية تبدو مناقضة: المرجع نفسه، ص445.
[23] لوك فيري نفسه يقول: “بإمكاننا أن نعيش في مجتمعاتنا الحديثة، وبكيفية لا بأس بها، دون أن نطرح على أنفسنا أبدًا المسائل الجوهرية [أسئلة المعنى]” الإنسان المؤله، ص14.
[24] أشير هنا إلى نموذجين: الأول يعود إلى الفيلسوف توماس ناجل، وهو ملحد يتبنى الاعتقاد بعبثية الحياة، وانعدام المعنى من الوجود، بل يعتقد –مكابرًا بفجاجة- “أن العبثية واحدة من أكثر الأشياء الإنسانية فينا”، ويصف الارتباك والانزعاج من فكرة غياب المعنى –عند كامو مثلًا- بأنها رومانسية ومثيرة للشفقة، وتحمل بعدًا دراميًا مبالغًا فيه. انظر: توماس ناجل، العبثية، ترجمة مروان محمود، موقع معنى. و: توماس ناجل، ماذا يعني هذا كله؟-مقدمة قصيرة جدًا إلى الفلسفة، ص115-120، ترجمة حسين العبري، نشر دار سؤال، ط1 2018م. والنموذج الثاني: الناقد البريطاني تيري انجلتون في كتابه: معنى الحياة، ترجمة شيماء الريدي، نشر مؤسسة هنداوي، ط1 2014م.
[25] لوك فيري، الإنسان المؤله ص13.
[26] انظر: لوك فيري، ما جدوى الفلسفة المعاصرة، ص190، ترجمة إسماعيل مجغيط وزملاؤه، مجلة مدارات فلسفية، عدد 16، يوليو 2008م.
[27] لوك فيري، تعلم الحياة- مبحث في الفلسفة للأجيال الشابة، ص22، ترجمة د. سعيد الولي، نشر مشروع كلمة-هيئة أبو ظبي، ط1 2016م.
[28] المصدر السابق، ص26.
[29] انظر: المصدر السابق، ص19، 15-17.
[30] المصدر السابق، ص271-272، بتصرف.
[31] علينا أن نلحظ هنا أن الفلسفة –وفقًا لتصوّر فيري على الأقل- وخلافًا لرأي سائد مخادع؛ هي “فن إيجاد الأجوبة أكثر منها فن إثارة الأسئلة”. لوك فيري، تعلم الحياة، ص40.
[32] مصطلح فرنسي يذكر أحيانًا مرادفًا لمصطلح (العلمانية) إلا أن بينهما فروقًا دقيقة. انظر: سامي عامري، العالمانية طاعون العصر، ص110، نشر مركز تكوين، ط1 1438هـ.
[33] انظر: د. عبدالوهاب شعلان، لوك فيري في كتابه (De l’amour, une philosophie pour le xxi siècle)، مجلة أبوليوس، العدد الرابع، 2016م، ص130. ونلحظ هنا أن الاهتمام الأساسي في أطروحات لوك فيري –والذي كرره في عدد من كتبه- يتمركز في فكرتين أساسيتين: الأولى تحديد الفلسفة بوصفها بحثًا عن الحياة الطيبة والحكمة، بعيدًا عن الإيمان اللاهوتي. كما يشير هنا. والثاني ما يسميه “ثورة الحب”، وسنعرض لذلك لاحقًا. انظر: د. عبدالوهاب شعلان، المرجع نفسه، ص129.
[34] لوك فيري، العصور الثلاثة للفلسفة الحديثة ومهمة فكر معلمن، ص224، ترجمة إسماعيل مجغيط وزملاؤه، مجلة مدارات فلسفية، عدد 14، يوليو 2006م.
[35] انظر: المصدر السابق، ص225.
[36] انظر: المصدر السابق، ص223.
[37] المصدر السابق، ص227. يقترح فيري تحديد مهمة الفلسفة اليوم في “الكشف عن رؤى العالم التي غذت مسارنا التاريخي، واستعمال مفاهيم الأنطولوجيا استعمالًا نقديًا من أجل تطبيقها لفهم تاريخنا الماضي والحاضر”، أو بعبارة أخرى “تتبع تاريخ ميلاد وظهور اللحظات الفلسفية المؤسسة لتراثنا، وإعادة توصيف التاريخ الفكري بكيفية نقدية، تساعد في فهم الحقول الجديدة التي تتفتح أمامنا” المصدر السابق، والصفحة نفسها، بتصرف.
[38] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص23 وما بعدها، و: لوك فيري، تعلم الحياة، ص47 وما بعدها.
[39] انظر: لوك فيري، تعلم الحياة، ص93 وما بعدها. لم تكن الأطروحة اللاهوتية تلقي الاهتمام اللازم في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية، يقول فيري موضحًا ذلك: “عندما كنت طالبًا [في نهاية الستينات] لم تكن المسائل الدينية رائجة مطلقًا، ولم نكن نتطرق لتاريخ أفكار القرون الوسطى، كنا نقفز بخفة فوق كل الأديان التوحيدية الكبرى، وكنا نخوض الامتحانات ونصبح أساتذة في الفلسفة دون أن نعرف شيئًا عن اليهودية أو المسيحية أو الإسلام”، لكن منذ ذلك الحين –الستينات أقصد- تبدلت الأحوال، واستعادت الأطروحة اللاهوتية حضورها النسبي، في أوساط أكاديمية مختلفة.
[40] تعرض الكائن البشري –كما يشير سيغومند فرويد في نص شهير- لثلاثة جروح كبرى في مسيرته الحديثة: الأول كانت على يد كوبرنيكوس الذي قرر أن الأرض ليس مركز العالم، والثاني ارتكبه تشارلز داروين حين أكد الأصول الحيوانية للإنسان، والثالث ادعاه فرويد حين زعم أن النفس الإنسانية تتكوّن -في أقسام أساسية منها- خارج إطار الشعور والوعي. فلم يعد كوكب الإنسان ولا تكوينه الجسدي يحظى بخصوصية مميزة، وحتى ذاته لم تعد تتسيد كينونته الخاصة.
[41] لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص40.
[42] لوك فيري، تعلم الحياة، ص207.
[43] لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص41، باختصار وتصرف.
[44] لوك فيري، تعلم الحياة، ص214-215، بتصرف.
[45] “حاولت الثورة الفرنسية قدسنة الأمة، بحيث يفترض أن يصبح لحب الوطن الدور نفسه الذي كان في السابق لحب الله، كما سعت الأنظمة الشمولية بدورها إلى قدسنة أطراف دنيوية عوضًا عن الله، كالشعب أو الحزب أو طبقة العمال. إن الديموقراطيات الليبرالية المعاصرة لا تمحو كل الواجبات التي على المواطنين تحملها، لكنها لا تقدسنها، فهي لا تمنع الأفراد من اختيار ما يريدون تقديسه داخل دائرته الخاصة، كأن يكون العمل هو المقدس، أو العُطَل، أو الأبناء، أو الدين”. تزفيتان تودروف، روح الأنوار، ص75-76، ترجمة حافظ قويعة، نشر دار محمد علي، ط1 2007م.
[46] الإنسان المؤله، ص17.
[47] الإنسان المؤله، ص105، 109. للاطلاع على ملامح متنوعة مما يوصف بأنه “ديانة حديثة” كالمال والاقتصاد والقومية و”الأمريكانية” وغيرها؛ انظر: وليام كافانو، أسطورة العنف الديني، ص167-186، ترجمة أسامة غاوجي، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2017م.
[48] انظر: المصدر السابق، ص221.
[49] يعتقد الفيلسوف الإسباني البارز أورتغا إي غاسيت ت1955م أنه لا يوجد –على الأرجح- ما هو أشد حميمية من الحب “سوى ما نسميه (الشعور الميتافيزيقي)، أو الشعور الجذري والأهم والأساس الذي نمتلكه عن الكون. وهو يصلح أن يكون أساسًا ودعامة لبقية أنشطتنا، ولا يعيش أحد من دونه، وإن لم يمتلكه جميع الناس بالوضوح نفسه، فهو يحتوي على موقفنا الأول والحاسم إزاء الواقع الكلي، وعلى طعم الحياة والعالم بالنسبة لنا”. أورتغا إي غاسيت، دراسات في الحب، ص75-76 بتصرف، ترجمة علي أشقر، نشر الهيئة العامة السورية، ط1 2009م.
[50] ترى بعض الدراسات العلمية المختصة بنمو عقول الأطفال ومعتقداتهم أن الأطفال يكتسبون –بشكل سريع وطبيعي- عقولًا تسهل عليهم الإيمان بعوامل خارقة للطبيعة، وفي السنة الأولى من عمره يستطيع الطفل التمييز بين العوامل الفاعلة، وغير الفاعلة، أي يفهم الطفل أن العوامل الفاعلة لها القدرة على تحريك نفسها بطرق مقصودة لتحقيق أهداف معينة، ولديه الحماس لمعرفة هذه العوامل. وبعد تجاوز الطفل لعامه الأول بقليل يبدأ في فهم أن العوامل الفاعلة يمكنها أن تجعل من الفوضى شيئًا منظمًا، وهذه النزعة لإيجاد الوظيفة والهدف بالإضافة إلى فهم أن الهدف والنظام تأتي من الأشياء العاقلة يرجّح لدى الطفل رؤية الظواهر الطبيعية كأشياء مخلوقة عن قصد. انظر: جستون باريت، فطرية الإيمان-علم المعتقدات الدينية للأطفال، ترجمة ونشر مركز دلائل، ط1 1438هـ. ومن المهم التنويه بأن هذه الدراسات لا تزال محل جدل في الأوساط العلمية، وإنما أشرت لها للاستئناس لا الاحتجاج، وإلا فأصل دلالة الفطرة –يسميها طه عبدالرحمن الذاكرة الغيبية- ثابتة بالوحي القاطع، انظر: علي القرني، الفطرة-حقيقتها ومذاهب الناس فيها، ص43 وما بعدها، نشر دار المسلم، ط1 1424هـ.
[51] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص43-44.
[52] لوك فيري، تعلم الحياة، ص218-219.
[53] المصدر السابق، ص226.
[54] المصدر السابق، ص227-228.
[55] المصدر السابق، ص249.
[56] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص7.
[57] “عزو طبيعة ميتافيزيقية للظواهر الحديثة يعرض دائمًا بوصفه نقدًا للمشروع الحديث، وليس بوصفه شرحًا داخليًا له. إن إنكار البنية الميتافيزيقية التي تقوم عليها الحداثة تعتبر أساسية وأصلية في استمرار المشروع وتبريره بوصفه مشروعًا عقلانيًا. يقوم هذا الأمر على افتراض أن الميتافيزيقيا ترتبط بالأسطورة التي تنتمي إلى الماضي السحيق”. وائل حلاق، قصور الاستشراق- منهج في نقد العلم الحداثي، ص353 هامش (19)، ترجمة عمرو عثمان، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2019م.
[58] بواسطة: طه عبدالرحمن، روح الدين-من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، ص52، نشر المركز الثقافي العربي، ط2 2012م.
[59] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص202.
[60] ميشال مسلان، علم الأديان-مساهمة في التأسيس، ص319، ترجمة عز الدين عناية، نشر دار كلمة والمركز العربي الثقافي، ط1 1430هـ.
[61] انظر: المصدر السابق، ص28، ص98.
[62] يرفض وليام كافانو هذه الدعوى الشائعة، التي تزعم أن المذاهب الدينية هي السبب في اندلاع الحروب الأوروبية التي استمرت من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر، ويرى أن معظم العنف حينها يمكن تفسيره “باعتباره ناجمًا عن مقاومة النخب المحلية لمحاولة الملوك والأباطرة مركز السلطة”. انظر كتابه الهام: أسطورة العنف الديني- الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الديني، ترجمة أسامة غاوجي، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2017م.
[63] انظر: لوك فيري، مقابلة مع روبار صولي في صحيفة لوموند، مصدر سابق.
[64] انظر: لوك فيري، مفارقات السعادة، ص112.
[65] اليوتوبيا تعني صورة مثالية أو نموذجية لمستقبل ما يكون محلًا للتطلع والشوق، وقد تضخّمت التصورات اليوتوبية وتكاثرت مع ظهور الحداثة وتصاعد التحولات الصناعية والتقنية واندمج قطاع من الأدبيات اليوتوبية الغربية مع فكرة “التقدم التاريخي”، ومع تغلغل العلمنة ونفي الخلاص الأخروي ارتبط الوعي اليوتوبي الحديث بإنشاء مقابلات مثالية للنماذج الدينية لا سيما الفردوس، فقد طمح الإنسان الحديث –في بعض لحظات تاريخه- أن ينقل الفردوس إلى الأرض، كما اهتم في وعيه اليوتوبي بالخلاص من الموت. انظر: كامل شياع، اليوتوبيا معيارًا نقديًا، ص39، ترجمة سهيل نجيم، نشر دار المدى، ط1 2012م. وبهذا يظهر وجه التشابه بين اليوتوبيا الحديثة –أو قطاع منها- وبين الدين، فكلاهما يضع مستقبلات نموذجية تحثّ وتسهل حياة الإنسان الحاضرة، وأيضًا فإنهما يتقاسمان –كما يقول ارنست بلوخ ت1977م- “الحرص على التغلب على الموت، لكنهما يختلفان في الوسائل التي يستعملانها”. المصدر السابق، ص113.
[66] لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص317. بتصرف.
[67] المصدر السابق، ص338. “الحب الذي كان مخصصًا في الماضي للإله، أو لكيانات متعالية مثل الوطن أو الثورة، قد تأنسن، ولنفس الأسباب، التي تأنسنت لأجلها أيديولوجيات التضحية”. لوك فيري، الإنسان المؤله ص108-109. بتصرف.
[68] “الذات الحديثة والذات العاطفية باكتسابها سيادةً في عالمها الخاص، خسرت حدودها التقليدية التي توفرها الهوية الاجتماعية والنظرة إلى الحياة الإنسانية على أنها منظّمة لغاية ما” ألسيدير ماكنتاير، بعد الفضيلة-بحث في النظرية الأخلاقية، ص93، ترجمة حيدر إسماعيل، نشر المنظمة العربية للترجمة، ط1 2013م.
[69] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص104.
[70] انظر: المصدر السابق، ص107، بتصرف.
[71] لوك فيري، بواسطة: طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية، ص66.
[72] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص119-120. و: جاك غودي، سرقة التاريخ، ص422، ترجمة محمد التوبة، نشر العبيكان، ط1 1430هـ. يتعّقب المؤرخ الاجتماعي اللامع جاك غودي هذا التحليل لتحوّل الأسرة في الغرب، ويزيّف دعوى اختصاص الغرب الأوربي بظاهرة “الحبّ الرومانسي”، فقد بقيت –استنادًا لدراسات الأنثربولوجي البولندي مالينوفسكي ورأي أمثال راديكليف براون وليفي شتراوس وغيرهم- الأسرة في الحقب الماضية وأفرادها في حالة ترابط وتقارب، في الوقت الذي كانت فيه مجموعات القرابة الواسعة تميل إلى الاختفاء مع مرور الزمن، وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل نتخيّل وحدة اجتماعية كالأسرة تظل راسخة من غير أساس الحب (الجنسي) للزوج، والحب (غير الجنسي) للأطفال؟ يصعب ذلك. ويعلل غودي سبب الاحتفاء بهذا التحليل الاجتماعي، فيرى أن هذا “الشكل من الحب كانت مركزيًا بالنسبة لمؤرخي الحداثة –الموجهين توجيهًا أيديولوجيًا-؛ لأنه ينطوي على حرية الاختيار، وعلى الفردية، اللتين ينظر إليها بوصفهما قيمتين غربيتين بشكل جوهري”، ويواصل بالقول أن “الزواجات المرتّبة [التي يتدخل فيها الأقارب] والتي تبدو كريهة للأوروبيين المحدثين، لا تستبعد نمو العلاقة العاطفية بعد الزواج، وفي هذه الحالة الجنس يسبق الحب. [وهي حالة شائعة جدًا]، وإذا لم ينجح هذا الزواج، فإن العديد من المجتمعات تسمح حينها بالطلاق، والذي يكون يتيح لصاحبه إمكانية أكثر لـ(الاختيار الحرّ)”. المصدر السابق، ص424-425، 427 بتصرف.
[73] لمزيد من التوضيح انظر مقالة: هل “الرومانسية الزوجية” اختراع حديث؟، مدونة الكاتب.
[74] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص112-115، و: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص61. وراجع: تشارلز تايلور، منابع الذات، ص431-435. وانظر: تحليل هام لأولريش بيك لتحولات الفردانية المعاصرة وآثارها على الطفل في كتابه: مجتمع المخاطرة، ص307-308، ترجمة جورج كتورة والهام الشعراني، نشر المكتبة الشرقية، ط1 2009م.
[75] انظر فيما يتعلق بتضخّم أدوار الوالدين كتاب: بيتر ن.ستيرنز، الطفولة في التاريخ العالمي، ترجمة وفيق كريشات، نشر عالم المعرفة، ط1 2015م. (لاسيما الفصل الثالث عشر المعنون: معضلة سعادة الأطفال)، وأيضًا مقالة: التاريخ الاجتماعي لمرحلة الطفولة “الجديدة”، مدونة الكاتب.
[76] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص62. و”إذا كانت الأسرة قد تحولت إلى فضاء عاطفي جدًا، فإنها تحولت أيضًا –في الوقت نفسه- إلى شركة ينبغي إدارتها في جميع أبعادها على أفضل الوجوه، لا شيء يمكن إهماله، صحة الأطفال، الدراسة، برامج التلفزة، الموسيقى، اللغات، الألعاب والرياضة، كل شيء صار موضوعًا للتحسين والتطوير، صار الآباء يشبهون أكثر فأكثر مديري الشركات (الشبان والحيويين) المحبين لشركتهم المستمرة دائمًا“. جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب، ص184. وانظر: المصدر نفسه، ص181.
[77] يرى الفيلسوف الاجتماعي المهم جورج زيميل (ت1918م) أن “أعمق مشاكل الحياة الحديثة تنبع من محاولة الفرد التمسّك بالاستقلالية والفردية”. انظر: غيورغ زيمل، الحاضرة والذهنية، ترجمة جوزيف بوشرعة، منشورة على موقع معنى. وهي ورقة ممتازة تتضمن تحليلًا ضافيًا للظواهر النفس-اجتماعية وتشكلات الفردانية في حياة المدينة لدى الإنسان الحديث.
[78] أشير هنا لآثار تجذّر الفردانية، والتي –كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي ليبوفتسكي- أفضت إلى بروز ميول نرجسية لدى الأفراد، تتمثل في الإفراط في الحساسية النفسية، والبناء الداخلي المتزعزع، والتمركز حول التحقيق العاطفي للذات، وتضخم الشغف بالتعرف على الذات، والولع بـ”الإظهار الحميمي للأنا”، وكل ذلك قد تفاقم مع قدوم منصات التواصل الاجتماعي. تضعف النرجسية -بفعل هوسها بالحقيقة النفسية- القدرة على الأداء في الحياة الاجتماعية، وتجعل من المستحيل إقامة أي مسافة بين ما نشعر به وما نعبّر عنه، فيفقد النرجسي المعاصر القدرة على الانطلاق والتعبير لأنه يحاول أن يجعل مظهره على شاكلة كيانه العميق، وكلما تحرر الأفراد من الرموز والأعراف الاجتماعية بحثًا عن حقيقة شخصية، وكلما كانوا أكثر حميمية؛ أصبحت علاقاتهم مؤلمة وقاتلة وغير اجتماعية. فالتواصل الاجتماعي يتطلب قواعد وحواجز غير شخصية، لأن ذلك هو السبيل لحماية الأفراد بعضهم من بعض. انظر: جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ، ص68-69.
وهكذا تتشكّل أنماط ضارّة من السلوك -بتأثير من بروز هذه النزعة النرجسية المتزامنة مع مركزة الحب في العلاقات-؛ رصدتها الأبحاث الاجتماعية المتخصصة، من ذلك مثلًا ما يتصل ببحث الرجل والمرأة عن الإفراط في الصلة الحميمية، و”فتح القلب” للطرف الآخر، ومشاركته الحقيقة الكاملة وأدق خصوصيات الحياة الداخلية، والصدق المطلق، وعدم إخفاء أي شيء. وهذا التعرّي الروحي أمام الطرف الآخر يلقي عبئًا كبيًرا عليه، لكونه قد لا يتفاعل “كما يتوقع” مع أمور كهذه؛ فالهوس الأساسي لدى الفرد النرجسي يتركّز في الخوف من “العجز العلائقي، والوحدة، وعدم تفهم الآخرين، والتطلع إلى الشفافية والتواصل الذاتي المشترك” انظر: المصدر السابق، و: جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب، ص78. ولذا يرى عالم الاجتماع ريتشارد سنيت إلى أنه: “ليس هنالك من علاقة دائمة بوجه عام، ولا علاقة حب دائمة بوجه خاص، يمكن بناؤها على الأساس غير الثابت للحميمية المتبادلة” بواسطة: زيجومنت باومان، الحداثة والإبهام، ص249، ترجمة حجاج أبو جبر، نشر المركز القومي للترجمة، ط1 2018م. وانظر أيضًا: بيونغ تشول هان، مجتمع الشفافية، ص18، و71 وما بعدها، ترجمة بدر الدين مصطفى، نشر مؤمنون بلا حدود، ط1 2019م.
[79] انظر: ميشيل لكروا، عبادة المشاعر، ص27-32، ترجمة أمين كنون، نشر أفريقيا الشرق، ط1 2017م.
[80] لوك فيري، الإنسان المؤله، ص13.
[81] ألسيدير ماكنتاير، بعد الفضيلة، ص249.
[82] لوك فيري، الإنسان المؤله، ص188.
[83] ترجمه للعربية: حسن الطالب، وصدر عن دار الكتاب الجديد، ط1 2013م.
[84] لم يترجم للعربية حسب علمي.
[85] ترجمه للعربية: حجاج أبو جبر، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2016م.
[86] ترجمته للعربية: غادة الحلواني، وصدر عن دار التنوير، ط1 2014م.
[87] لم يترجم للعربية حسب علمي.
[88] أم الزين بنشيخة المسكيني، كيف نعيد اختراع مفهوم الحب؟، صحيفة الاتحاد، 21 يونيو 2018.
[89] ادغار موران، روح الزمان، 151-152 باختصار، ترجمة أنطون حمصي، نشر وزارة الثقافة السورية، ط1 1995م.
[90] لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص64، بتصرف.
[91] المصدر السابق، ص65، بتصرف.
[92] انظر: لوك فيري، مقابلة مع روبار صولي في صحيفة لوموند، ترجمت في موقع الأوان، 28 نوفمبر 2010م.
[93] لوك فيري، تعلم الحياة، ص348. وانظر: طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية-النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، ص56، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2014م.
[94] انظر: لوك فيري، تعلم الحياة، ص376. و: طه عبدالرحمن، روح الدين-من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، ص194-195.
[95] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص209. وفيري يطرح في هذا السياق مفارقة تاريخية للعلاقة بين العلمانية والمسيحية؛ وهي تكمن في “أن نشأة الحياة العاطفية الحديثة، والتأسيس العاطفي للعلاقات الإنسانية الثمينة، ارتبطت بالخروج من دين كان يزعم تبليغ رسالة حبّ” المصدر السابق، ص207-208.
[96] انظر: أغوسطينوس، شرح رسالة القديس يوحنا الأولى، ص107 وما بعدها، ترجمة يوحنا الحلو، نشر دار المشرق، ط4 2001م.
[97] وذلك كما نراه لدى عند أوغسطين، الذي يقول أن الباطن هو الطريق إلى الله ففي الداخل تقيم الحقيقة، وكان لهذه الفكرة –كما يقول تايلور- نتائج ضخمة على الفكر والثقافة الأوروبية الحديثة، فتشكّلت أنماط من الروحانيات المسيحية عبر القرون الوسطى، ثم تعلمنت هذه الفكرة في العصور الحديث، “فصرنا نذهب إلى الداخل لاكتشاف نظام، أو إضفاء معنى ما، أو تسويغ ما على حياتنا” تشارلز تايلور، منابع الذات، ص 276، 209، 221.
[98] Apprendre à vivre: Tome 2. La sagesse des mythes,2008, plon.
[99] انظر: طه عبدالرحمن، روح الدين، ص195.
[100] هذه جمل تقريبية، وإلا فالعديد من الباحثين يصف “الروحانية” بأنها مقولة غامضة للغاية، ويكاد يتعذر تحديدها. راجع: كيري ميتشيل، سياسة الروحانية-لبرلة تعريف الدين، ضمن كتاب (العلمانية وصناعة الدين) تحرير م.درسلر وأ.مانداير، ترجمة حسن احجيج، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2017م.
[101] ومن أبرزها وأشهرها حركة “العصر الجديد”، ومن رموزها البارزين ديباك شوبرا واكهارت تولي، ولهم أتباع في العالم العربي من أمثال صلاح الراشد، وفي التيار ذاته تشتهر كتب الفيلسوف الباطني الهندي أوشو (ترجم كثير منها للعربية)، وكثير من كتب تنمية وتطوير الذات تعتمد على بعض مضامين هذا الاتجاه الباطني المؤله للإنسان، انظر: هيفاء الرشيد، حركة العصر الجديد-مفهومها ونشأتها وتطبيقاتها، نشر مركز التأصيل، ط1 1435هـ.
[102] لوك فيري، الإنسان المؤله، ص24. وانظر: المصدر نفسه، ص23-25.
[103] انظر: طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية، ص140-146.
[104] طه عبدالرحمن، روح الدين، ص206.
[105] طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية، ص147. وفي ظني لا يزال موضوع “الروحانية اللادينية” بحاجة إلى بحث وفحص أعمق وأوسع، من ناحية تاريخ تشكّله بوصفه ظاهرة حديثة، ومن ناحية أسسه النظرية وتطبيقاته العملية.
[106] انظر: ادموند هوسرل، فكرة الفينومينولوجيا، ص34، ترجمة فتحي إنقزو، نشر المنظمة العربية للترجمة، ط1 2007م.
[107] طه عبدالرحمن، المصدر السابق، ص57-58.
[108] طه عبدالرحمن، المصدر السابق، ص67-68.
[109] طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية، ص69. وانظر: طه عبدالرحمن، روح الحداثة، ص130، نشر المركز الثقافي العربي، ط3 2013م.
[110] لدى بعض المنظرين اللادينيين وعي بهذه المشكلة، وهم يخافون من هذه الثغرة، وما قد تسببه من العودة إلى (الدين) حيث يجد المرء الإجابات المكتملة، يقول المفكر الأسترالي ديفيد تريسي: “التحدي الأساسي اليوم يكمن في البقاء مع الشك والفوضى والارتباك وعدم الحاجة أو التوقع لأجوبة جازمة، ولأنظمة كاملة، أو لنماذج واضحة. علينا دراسة ارتباكنا وعدم الاندفاع بعجلة نحو الماضي سعيًا وراء نظام عفى عليه الزمان، ولا التحرك جانبيًا لاعتناق أنظمة الثقافات الدينية الأخرى” تعقّب المقدس في مجتمع ما بعد الحداثة، ترجمة هيثم فرحت، مجلة الفكر العربي 1997م.
[111] انظر لما سبق: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص202-206.
[112] أولريش بيك، مجتمع المخاطرة، ص298-299، ترجمة جورج كتورة والهام الشعراني، نشر المكتبة الشرقية، ط1 2009م.
[113] لاحظ جورج زيمل بذكاء -وفي وقت مبكر- أن “الأساس النفسي الذي تشاد عليه الفردانية في الحاضرة [المدينة] هو تكثيف الإثارة العصبية نتيجة التغيير السريع والمتتالي للمثيرات الخارجية والداخلية”. انظر: جورج زيمل، الحاضرة والذهنية، مرجع سابق.
[114] في سياق الإشارة إلى تحولات قيمة الوفاء في المخيلة المعاصرة، يقول عالم الاجتماعي الفرنسي ليبوفتسكي: “لم يعد المتحابون يقسمون على وفاء أبدي، لأنهم استبطنوا –نوعًا ما وإن كانوا يرفضون ذلك- القانون الواقعي القاسي للهشاشة وعدم الثبات في الرغبة الغرامية. المطلوب البقاء وفيًا مادام الحب قائمًا، ثم تفتح لعبة الحياة من جديد… يعبّر انتصار الوفاء عن الرغبة في التخلص من آثار المسار الانعزالي لعصرنا الراهن. كلما زادت إمكانات الاختيار، زاد التفكك الاجتماعي، وكلما زادت الاستقلالية الذاتية صار التواصل بين الناس أكثر تعقيدًا وصعوبةً وكثير المتطلبات. يتضح في الاعتراف الجمعي بالوفاء الرعب من انعدام المعنى في المغامرات السريعة التي لا تدوم، ومن الفراغ الملازم لتكرار الغراميات قصيرة الأجل“. انظر: جيل ليبوفتسكي، أفول الواجب-الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديموقراطية الجديدة، ص77-78، ترجمة البشير عصام، نشر مركز نماء، ط1 2018م. وأظن أيضًا أن الاحتفاء الواضح بالصور الغرامية للمسنين يصب –جزئيًا- في الاتجاه نفسه؛ فهو ينطلق من رهاب الإنسان المعاصر من فقدان الأمان الشخصي الذي يظل مهددًا بانفصال العلاقات، وفقدان “الاندفاع” العاطفي تجاه الطرف الآخر، فتأتي تلك الصور محملّة بمشاعر للأمل بالاستمرارية، وتأكيد الإمكانية الإنسانية في “الاستمتاع” بالدفء العاطفي إلى سن متأخرة، برغم اضطراب العالم وتقلّبه.
[115] انظر: لوك فيري، الإنسان المؤله، ص121-123.
[116] أحد الإحصاءات الحديثة تشير إلى أن الملل يتسرب للعلاقات الحميمية بعد ثمانية عشر شهرًا أو سنتين على أكثر تقدير، ومن ثمّ ينتهي الشوق بين الأزواج. انظر: زيجومنت باومان، الحياة السائلة، ص121، ترجمة حجاج أبو جبر، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1 2016م.
[117] انظر: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ص327-328. بل إن الميول المعاصرة للمشاعر الحادة تؤثر على السلوك الغرامي، وتساهم في تفضيل الجنس (لما يوفره من إثارة شديدة) على تكوين العلاقة العاطفية، كما أنه هذه الميول تضعف من الاستعداد الفردي للتعبير عن الإحساس، والإعجاب، وسمو الارتباط بالآخر، والانسجام العاطفي. بل إن هذا النزوع للتطرف في الأحاسيس يضعف قدرة الأشخاص على الإحساس والسمو الشاعري في مجالات أخرى غير الحب، كمجال الأدب والشعر، “إن تراجع الحب الرومانسي وتسويق المشاعر الجنسية يتحملان مسؤولية إفقار الإحساس الأدبي الذي يتفشى في مؤسسات التعليم العام، فالمراهق الذي يمارس الجنس بانتظام ابتداء من سن الثالثة عشرة والرابعة عشرة هل بإمكانه أن يتأثر عند قراءة قصيدة عاطفية؟… إن الممارسة المبكرة للحياة الجنسية تقضي على أسس الإحساس المتوفر من أجل المتعة الجمالية، وتكبح اندفاعات الخيال اللازمة للاستمتاع برفقة الأعمال الفنية الإبداعية”. ميشيل لكروا، عبادة المشاعر، ص136-137. وانظر: جاك غودي، سرقة التاريخ، ص428.
[118] “النقصان في ثقل التقاليد تؤدي إلى الزيادة في الوعود في حياة الشريكين؛ كل ما يختفي يصار إلى البحث عنه في الآخر”. أولريش بيك، مجتمع المخاطرة، ص297، ترجمة جورج كتورة والهام الشعراني، نشر المكتبة الشرقية، ط1 2009م.
[119] تعلم الحياة، ص348-385 باختصار وتصرف.
[120] ذكرها الفيلسوف المسيحي دوني مورو في كتابه (طرق الخلاص)، بواسطة: لوك فيري، مفارقات السعادة-سبع طرائق تجعلك سعيدًا، ص13 (بتصرف)، ترجمة أيمن عبدالهادي، نشر دار التنوير، ط1 2018م.
[121] لوك فيري، تعلم الحياة، ص381.
[122] انظر: ستيف بروس، روحانية العصر الجديد بديلًا عن العلمنة-بطلان الديانة الفردية، ص191-205، ترجمة رامي طوقان، مجلة الاستغراب، عدد2، ديسمبر 2016م.
[123] الطيب بوعزة، مصدر سابق، ص34.
[124] ابن تيمية، تفسير آيات أشكلت، ص410، نشر مكتبة الرشد، ط1 1417هـ.
[125] يطرح الفيلسوف السويسري جان ماريجكو (ت1996م) سؤالًا صادمًا: لماذا تتسبب الحداثة بالجنون؟، ويجيب بأنها وضعت الإنسان الحديث في مواجهة المعضلة التالية: أن يشعر بأنه مسكون برغبة في اللامتناهي، ويشعر بعدم إمكان تسكين هذه الرغبة في هذا العالم، ومع ذلك فلا يسمح له بالاعتقاد بوجود عالم لا مرئي تستطيع فيه هذه الرغبة أن تحقق إشباعها. انظر: جان ماريجكو، اللامتناهي الفيزيائي واللامتناهي الروحي (لم تتسبب الحداثة في الجنون؟)، ترجمة محمد عادل، منشور على موقع مجلة حكمة في 26/10/2019م.
[126] بواسطة: فريدريك غيو، الله موجود-أدلة فلسفية، ص403، ترجمة فاطمة بورباب، نشر مركز تكوين، ط1 1440هـ. قارن جملته الأخيرة بقول ابن الجوزي رحمه الله: “شهوات الدنيا أنموذج، والأنموذج يعرض ولا يقبض” بواسطة: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة، 2/ 497، تحقيق عبدالرحمن العثيمين، نشر مكتبة العبيكان، ط1 1425هـ. ينصب اهتمام لويس على استعمال الرغبة المتعذر إشباعها بسبب النقص البنيوي للحالة البشرية باعتبارها برهانًا على وجود آخر يحقق الرغبة بتمامها، أما ابن الجوزي فيستعمل النقص البنيوي لشهوات الدنيا بوصفه محفزًا إلى الصيغة المكتملة في الآخرة.
[127] انظر: رولو ماي وإرفين يالوم، مرجع سابق، ص67-68.
[128] لويجي جوساني، الحس الديني، ص134-135، ترجمة سناء فضيل وزملاؤها، نشر أخوية شراكة وتحرر، ط2 2007م.
[129] لوك فيري، العودة إلى الفلسفات القديمة، مقالة منشورة في صحيفة لو فيغارو الفرنسية في يوليو 2017، ترجمها يوسف اسحيرد، متاحة على الشبكة.
[130] تشارلز تايلور، منابع الذات، ص98. وانظر: ألسيدير ماكنتاير، ص429، مرجع سابق.
[131] روي باوميستر، أيهما أفضل حياة سعيدة أم حياة ذات معنى؟، ترجمة محمد الغافري، موقع أثارة.
[132] راجع: إسماعيل الفاروقي، التوحيد، ترجمة السيد عمر، نشر دار مدارات، ط1 1435هـ.
[133] ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، 3/ 1186، تحقيق محمد بن سيدي محمد، نشر دار الضياء، ط1 1434هـ.
[134] انظر مبحث ماتع بعنوان (الجوع إلى الخلود) في: ميغيل ده أونامو، الشعور المأساوي بالحياة، ص39-57، ترجمة علي أشقر، نشر دار التكوين، ط1 2011م.
[135] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 10/ 48.
[136] المصدر السابق، 10/ 73.
[137] المصدر السابق، 10/ 608.
[138] المصدر السابق، 10/ 609
[139] ابن القيم، الداء والدواء، ص444، تحقيق محمد الإصلاحي، نشر دار عالم الفوائد، ط2 1436هـ.
[140] ابن كثير، البداية والنهاية، 14/ 189، نشر مكتبة المعارف، ط7 1408هـ.
مجهود عظيم وورقة بحثية في غاية السلاسة والمتعة!
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
ما شاء الله ورقة ثرية، أجابت عن عديد من الأسئلة، وأعادت الكثير من الظواهر المشاهدة إلى جذورها الفلسفية
ترتيب منطقي ولغة واضحة سهلة في الجملة على الرغم من تعقيد الموضوع المعالَج وتشعبه
ختام بديع، تنفست فيه..
وإن كانت لنا هذه الخلفية الإسلامية، إلا أننا فيما يبدو قد تأثرنا كثيرا بهذه الآثار الغربية، أو أن تلك النزعات هي طبيعية في كل إنسان ولا يعالجها إلا الفهم والتطبيق للسردية الإسلامية
هذه المقارنة ساعدت إلى حد كبير في إبراز تميز العقيدة الإسلامية
وساعدت على تأمل الإنسان في حاله ومدى تأثره بالفكر الغربي، أو الأفكار المناكفة للاعتقاد الإسلامي الصحيح أيًّا كان مصدرها..
جزاكم الله خير الجزاء، وزادكم من فضله.
هذه الورقة أجابت على كثير من الاسئلة.
شكرا لكم وبارك الله فيكم
حقيقة ورقة بحثية متميزة، كل الشكر على مجهوداتكم