فكر وثقافة

أن تكون إنساناً في زمن التكنولوجيا

  • تأليف : توم تشاتفيلد – Tom Chatfield
  • ترجمة : أحمد الديب
  • تحرير : عائشة السلمي

من أجل تعاون مثمر بين الإنسان والآلة، يجب ألا تطغى مفاهيم السرعة والربح والكفاءة على المفاهيم البشرية مثل الإبداع والإحساس والتساؤل.

عندما أفكر في مستقبل علاقة البشر بالآلات، تثبُ إلى ذهني فكرتان مُقلقتان متضافرتان.

أولًا: هذا الارتباك بين الوجود الفردي والوجود الجَمعي. فقد صارَت التكنولوجيا تربطنا ببعضنا إلى حَدٍّ غير مسبوق، تَجَلَّى معه مدى اعتمادنا في تعريف ذواتنا على الآخرين، فصرنا نتبنَّى أفكارًا لم تخرُج من عقولنا نحن، وإنما مِن أمواج مَدِّ وجَزر الوعي البشري الجَمعي.(1)

ليست هذه بحقيقة جديدة بالطبع، لكنها لم تكن من قبل قط بهذا الحضور والسفور. فأغلب البشر اليوم لم يصيروا فقط قادرين على القراءة والكتابة – وهو إنجاز لم نحققه إلا في القرن الماضي – وإنما صار باستطاعتهم كذلك، للمرة الأولى في التاريخ، المشاركة بشكل يومي ولحظي في السجل الثقافي البشري العالمي المقروء والمسموع والمرئي، بفضل كل تلك الأجهزة “الذكية” المتصلة بشبكةٍ نجحَت في مَدِّ خيوطها إلى كافة أصقاع الأرض. وهي حقيقة مُدهشة ومُربكة: أن الوعي البشري الجَمعي صار سحابةً متجسِّدةً من تكاثُف ملايين وملايين من قطرات النَّدى الفكرية.

ثانيًا: هذا السؤال المُحيِّر حول كيفية رؤيتنا لأنفسنا. كثيرًا ما نردِّد مصطلح “الطبيعة البشرية”، لكن مفهوم تلك الطبيعة كان ولا زال فضفاضًا مائعًا، قابلًا لإعادة التشكيل المستمرة تحت مَطَارِق التكنولوجيا. صار طوفان التقنيات الرقمية يُمطرنا بالأسئلة حول مكانتنا في الكون، ومعنى كوننا كائنات واعية عاقلة قادرة على التواصل.

أما الآلات التي صنعناها، فبالرغم من أننا لا نستطيع – حتى الآن على الأقل – أن ندعوها “عاقلة”، إلا إنها صارت تنتحلُ شيئًا فشيئًا تلك المقوِّمات التي كنا نظن أنها مقصورة على البشر، مِن إدراك ومنطق ولُغات وتصرّف وتفاعُل وتكيُّف وتعلُّم. وصِرنا نتساءل بقلقٍ متزايد مُستحَق عن مآلات هذا التطوُّر المحموم.

وأقول إن هاتين الفكرتين المُقلقتين متضافرتان، لأنهما – في رأيي – تستندان إلى أصلٍ خاطئ مشترك: وهو المغالاة في تقدير عقلانيتنا واستقلاليتنا. فنحن نميل – عند التساؤل عن معنى أن نكون بشرًا – إلى التفكير في أنفسنا كأفراد عاقلين مستقلين، ونميل – عند توصيف علاقتنا بالتكنولوجيا – إلى رؤية أنفسنا “كمُستخدِمين” مُنعزلين تتوقف مصالحهم وخياراتهم على مهارتهم ورُشدهم، و”كمُستخدَمين” يقف بقاؤهم على شَفا التهديد الدائم بظهور بدائل أكثر كفاءة.

هذه إحدى زوايا النظر إلى علاقة البشر بالآلات، لكنها زاوية تعطينا نحن البشر أكثر – وأقل، في الوقت نفسه – مما نستحق. يرى البشر أنفسَهم ككائنات عاطفية اجتماعية شديدة التعقيد، وتؤكِّد أبحاثهم العلمية في مجالات الاقتصاد وعلم النفس والعلوم العصبية كل يوم على استحالة اختزال تعقيدهم هذا إلى مُفردات محددة المعالم، إلى معانٍ رقمية مُصمَتة مثل الذاكرة والمعالجة والمُخرَجات.

ويستحيل أيضًا على لغات البشر أو ثقافاتهم أو عقولهم أن تقف في عُزلة جامدة، أو أن تخرج فجأةً إلى حيز الوجود مُكتملةً ناضجة. نتوكَّل – نحن البشر – على بعضنا إلى درجةٍ قلَّما نحب أن نعترف بها، وبالرغم من وجود القليل جدًا من المُشتركات بيننا وبين ما نصنعه، إلا إننا نعاني من تلك العادة السخيفة بإلقاء اللوم على صنائع أيدينا، من أجل أشياء لم يقترفها سوانا.

ما يجعل كل تلك الأسئلة تطفو بإلحاحٍ على السطح هي حالة الغليان التي يشهدها التطوُّر الدارويني للتكنولوجيا. لا نستطيع بالطبع وصف الآلات التي صنعناها بأنها كائنات حية، لكنها ترزح بالفعل تحت ضغط تطوُّري هائل لا يقل أبدًا عن مثيله الواقع على الأنواع الحية، فقط يتميز عنه بوجود قيودٍ أقل. هناك أموال طائلة تُضَخ، وشركات عملاقة وحكومات حول العالم تخوض منافسات شرسة وسباقات محمومة لتطوير أنظمة تكنولوجية أكثر فاعلية وكفاءة، حيث تكفي لحظة واحدة من التردُّد أو التشكُّك حول استيعاب وتَبَنِّي الجديد الذي يأتي به العلم كل ساعة، لأن يجد المتردِّد نفسه يلهثُ وحيدًا في المضمار، بعد أن تجاوَزَه أصحابُ السَّبق والحسم.

ويتجاوز هذا المنطق التطوُّري التنافسي – حسبما أشار الفيلسوف “دانييل دينيت” وآخرون – مجالاته البدهية مثل الشئون الاقتصادية والصناعية والعسكرية، إلى مجالات الحياة اليومية. فإذا أثبت العلم مثلًا أن خوارزمية طبية ما قادرة على الوصول إلى تشخيص أدق من الأطباء، فسيكون من غير المنطقي – وربما من اللاأخلاقي كذلك – أن نرفض اللجوء إليها، وإذا أصبحت السيارات ذاتية القيادة أكثر أمناً وأقل كُلفةً، فسيكون من الصعب أن نقاوم التشريعات التي ستجعلها إلزامية. وعديدةٌ هي الشواهد التي تُنبِّئ بأن تلك اليد التطوُّرية لن تترك مجالًا من مجالات الاجتهاد البشري دون أن تعبث به.

تصبح الآلات يومًا بعد يوم أكثر مهارة في اتخاذ قراراتنا بالنيابة عنا، بناءً على ما نغذيها به من كميات غير مسبوقة من البيانات. لننسَ الآن نظرية نشوء الذكاء الاصطناعي العام (2) ولنتذكر فقط أننا نُسلِّم كل يوم المزيد من قرارات حياتنا اليومية إلى عقول آلات تُعالج الأمور بسرعة وكفاءة لا ريب فيهما، لكنها تبقى عقولًا لا تُفكِّر، ولا تشعر.

وعند تلك الحقيقة الأخيرة بالتحديد يجب أن نتوقف ونفكر قليلًا. فقد صرنا نتأمل آلاتنا – التي ندعوها “ذكية” – بدهشة وإعجاب، ونرسم في خيالنا مستقبلًا تُملي هي فيه – لا نحن – كيف نتصرف، بل تُحدِّد لنا ابتداءً ما يجب علينا أن نفعله. لا نستطيع ألا نرى في آلاتنا معانٍ مثل الاستقلال وامتلاك النوايا والغايات.

لكن عندما ننسب إلى الآلات هذه المعاني التي لا تمتلكها حقًا، فإننا نكون قد أسأنا فهم العديد من النقاط الجوهرية. أولًا: ليس البشر حقًا بهذا الغباء والبلادة، ولا يوجد فعلًا ما يدل على أنهم ماضون في طريقٍ تطوُّري محتوم إلى مزبلة التاريخ الطبيعي. ثانيًا: معيار الكفاءة الآلية هذا أفقر بكثير من أن نبني عليه تصوُّرًا شاملًا لفهم ذواتنا البشرية. ثالثًا: استهداف تنحية البشر قدر الاستطاعة عن القيام بالمهام – طمعًا في ضمان السرعة أو تحقيق الأرباح المادية أو الانتصارات العسكرية – لا يرسم أفضل صورة ممكنة لمستقبلٍ تتضافر فيه جهود البشر والآلات لاستثمار قدرات كليهما على أكمل الوجوه.

ومن بواعث التأمل، أن كفاءة الآلات المثيرة للإعجاب هذه، تُعزَى بقدر كبير إلى تخفُّفها من تلك الأعباء التي تجعل البشر بشرًا بالأساس: مِن مزيج الإحساس والشعور والإيمان والتحيُّزات والشهوات، الذي يفور هادرًا في العقل البشري. نحن بلا شك كائنات مُنحازة رائعة، تستخدم ذكاءها وتقنياتها في سعيها الذي لا ينقطع لتجسيد أحلامها على هذه الأرض.

فهل تتحلى “دوافع” آلاتنا – وهي تفعل بلا كلل كل ما تفعله بالنيابة عنا – برغبات الازدهار والتواصُل والشعور بالغائية؟ هل نؤمن حقًا بأن لهذه الرغبات الإنسانية المَحضة قيمةً ما؟ إذا كنا نفعل فماذا ننتظر حقًا حتى نعيد التفكير في معتقداتنا بخصوص هذا الشأن؟

إذا كنا نطمح بالفعل إلى بناء آلات أفضل، وبناء علاقات أفضل مع وعَبر هذه الآلات، فنحن في أشد الحاجة إلى حوارٍ حقيقي حول خصائص هذه العلاقات، وحول ماهيات أفكارنا ومشاعرنا وتفضيلاتنا، وحول معاني الازدهار البشري الحقيقي، الذي يتجاوز بكثير مجرد تحقيق معايير الكفاءة.

فما هي يا ترى صورة التعاون المثمر بين البشر والآلات؟ أستطيع أن أقول إنها تلك التي لا يغيب البشرُ فيها عن الكواليس، حيث يصير بإمكانهم على الدوام مراجعة دوافع أنظمة حياتهم بنظرٍ عقلي شامل ونافذ، واتخاذ ما يلزم من التوجيه والتعديل.

وما هي صورة التعاون المثمر بين البشر بوساطة الآلات والتكنولوجيا؟ لدينا العديد من الصور المتحققة بالفعل، تشترك جميعها في تحقيق أقصى استفادة ممكنة من مُدخَلات المعادلة: مِن إبداع البشر اللامحدود وفضولهم المُتسائل اللامتناهي، وسرعة الآلات الخارقة وقدراتها المذهلة على المعالجة والبحث والاستدعاء. وبعبارة أخرى: تحقيق تعدُّدية تستفيد من تميُّز مكوِّناتها، وتُدرك أن الكفاءة وحدها ليست بالغاية، وإنما هي مجرد وسيلة لتقييم سرعة الحركة، ولا صلة لها على الإطلاق بالاتجاهات المرجوَّة للتحرُّك.

ولنتَّفق أخيراً على أننا نعيش في حقبةٍ مدهشة، نستطيع فيها أن نتبادل أفكاراً كهذه معاً بشكل لحظي. وإذا كان هذا التضخم المعلوماتي الجمعي الذي نعيشه يخبرنا بشيء واحد، فهو أن البشر يهتمون – قبل كل شيء آخر – بالبشر الآخرين: بأفكارهم ومعتقداتهم وأفعالهم وتفضيلاتهم ومخاوفهم ومُضحكاتهم ومُبكياتهم، وبما يمكن أن يتعاونوا على تحقيقه.

أما آلاتنا فأمامها حتمًا مسيرة تطوُّر نعجز تمامًا عن التنبؤ بمآلاتها، وستظل الأسئلة تُمطرنا حول المدى الذي ستبلغه الآلة، والسرعة التي ستمضي بها مسيرتها. وستظل الآمال المألوفة تداعبنا في أن تقرِّبنا الأيام القادمة من فهم أنفسنا أكثر، وتُنبِّئنا بما نحتاجه حقًا، ليس فقط لضمان البقاء على قيد الحياة وإنما لتحقيق رغد العيش، فتصير الأنظمة التي نطوِّرها لحياتنا خادمةً لهذا الرغد المنشود، لا مُقوِّضة له.

اقرأ ايضاً: أنا، أنا، أنا، الملذات العصبية لجيل السيلفي

المصدر : What does it mean to be human in the age of technology?


[1] يحضرنا هنا قول الشاعر الكبير “محمود درويش” عن “نرسيس” في قصيدته “لاعب النرد”: ولو كان أذكى قليلًا، لحطَّمَ مرآتَهُ، ورأَى: كَم هو الآخرون! (المترجم)

[2] الذكاء الاصطناعي العام (أو التام) هو واحد من الأهداف التي تسعى إليها الأبحاث حالياً في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو الوصول إلى صنع آلة تستطيع “بذكائها” النجاح في إجراء أي عملية ذهنية يقوم بها العقل البشري. (المترجم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى