فكر وثقافة

هل هناك قواعد للتاريخ؟

  • أماندا ريس*
  • ترجمة: زينب عبد المطلب
  • تحرير: ريم بنت علي الطيار

يعتقد المؤرخون أن الماضي معقد بشكل لا يمكن اختزاله، وأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به بشكل كبير.

لا يتفق العلماء معهم، من منهم المحق؟

من البديهي أن أولئك الذين لا يتعلمون من الماضي يُحكم عليهم بتكراره ومآسيه، ولكن من النادر جداً أن نرى تفسيرا للكيفية الدقيقة التي يمكن من خلالها أن يساعدنا التاريخ في بناء مستقبل أفضل، بالطبع هذا لا يمنع مؤرخين مثل: يوفال نوح هراري من تقديم المشورة لقادة العالم في دافوس، أو العلماء مثل: جاريد دايموند من كتابة أفضل الكتب مبيعاً حول انهيار المجتمعات التقليدية؛ لكن نادراً ما تكون الآليات التي قد تمكّن معرفة الماضي من تغيير الأفعال في الحاضر واضحة، وغالباً ما يصبح المؤرخون الذين يأخذون التاريخ الكبير إلى شريحة أوسع من القراء، ويُقطّرون أصوات ماضي الإنسانية العديدة في قصة إنسانية واحدة محط نظر وريبة، مثل ما يُظهر ملف تعريف البروفيسور هراري في مجلة النيويوركر -الذي اتهمه، من بين أمور أخرى-بـ “التعميم المؤكد”؛ هل تكمن المشكلة في فعل الرواية نفسه؟ إذا كانت البيانات الكبيرة تمكننا من تحويل التاريخ الكبير إلى مسائل رياضية بدلاً من سرديات، فهل سيجعل ذلك تفعيل ماضينا أمراً سهلاً؟ يعتقد بعض العلماء ذلك بالتأكيد.

في فبراير/شباط 2010، توقع بيتر تورتشين، عالم بيئة في جامعة كونيتيكت، أن عام 2020 سيشهد ارتفاع حاد في التقلبات السياسية للديمقراطيات الغربية، كان تورتشين يستجيب بشكل حاسم للتكهنات المتفائلة للتقدم العلمي المطروحة في مجلة Nature: حيث قال: إن الولايات المتحدة متجهة نحو ذروة طفرة أخرى من عدم الاستقرار (تحدث هذه الطفرة بانتظام كل 50 عاماً أو نحو ذلك)، بينما كان الاقتصاد العالمي يصل إلى نقطة انحسار “موجة كوندراتيف”، أي تراجع حاد في دورة طويلة الأجل يحركها النمو. إلى جانب عدد من المؤشرات الاجتماعية “التي تبدو متفاوتة”. كانت جميع المؤشرات تشير إلى وجود مشاكل خطيرة تلوح في الأفق. في العقد الذي تلا تلك النبوءة، جعلت الانقسامات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المتجذرة -والجسيمة غالباً-والتي ميزت المجتمع الأمريكي الشمالي والأوروبي بشكل متزايد، “التحليل التاريخي الكمي” لتورشين يبدو رجما بالغيب بشكل ملحوظ.

قبل عامين، في يوليو/تموز 2008، قدم تورتشين سلسلة من الادعاءات الهامة حول طبيعة ومستقبل التاريخ، متوصلاً إلى ما يتجاوز “التفسيرات المائتين” المقترحة لتفسير سقوط الإمبراطورية الرومانية، كان تورتشين مصدوماً لأن المؤرخين لم يتمكنوا من الاتفاق على “أي من التفسيرات مقبولة وأيها يجب رفضها”، وأكد أن الوضع كان “مضحكاً كما لو أن نظريتا فلوجيستون والديناميكا الحرارية وجدتا بشروط متكافئة في الفيزياء.” أراد تورشين أن يعرف لماذا كانت الجهود المبذولة في الطب والعلوم البيئية من أجل إنتاج أجسام وبيئات صحية لا يقابلها مبادرات لخلق مجتمعات مستقرة؟ من المؤكد أن الوقت قد حان “ليصبح التاريخ علماً تحليلياً، وحتى تنبؤياً” لعلمه أنه من غير المرجح أن يتبنى المؤرخون أنفسهم مثل هذه الأساليب التحليلية للماضي، طرح تورتشين تخصصاً جديداً هو “العلم الاجتماعي التاريخي النظري” أو “الديناميكا الحيوية” -علم التاريخ.

ومثل سلفه سي بي سنو قبل 60 عاماً، أراد تورتشين تحدي الحدود الفاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية -حتى مع أن المحاولات الدورية لتطبيق نظريات العلوم الطبيعية على السلوك البشري (علم الأحياء الاجتماعي، على سبيل المثال)، أو لإخضاع العلوم الطبيعية للتدقيق المنهجي لـلعلوم الاجتماعية (الحروب العلمية) أسفرت بشكل متكرر عن حروب عصابات عدوانية. إذن ما هي آفاق جهود تورتشين لخلق مجتمع مستقبلي أفضل من خلال تطوير علم التاريخ؟

هناك تراث حافل من نمذجة التاريخ العلمي من دراسة الماضي من أجل بلورة المستقبل؛ في القرن التاسع عشر استخدم المؤرخ الإنجليزي هنري توماس باكل نهجاً عاماً للماضي في محاولة لتحديد “القوانين الطبيعية” التي حكمت المجتمع، ويقدم نتائجه في سلسلة من المحاضرات العامة المشهورة جداً، وكذلك من خلال الكتاب الطموح للغاية، حتى إن لم يكمله، History of Civilisation in England (1857). كان معاصر باكل، الوضعي الفرنسي أوغست كونت، قد اقترح في وقت سابق “قانون المراحل الثلاث” الذي صمم المجتمع البشري على أنه يمر بمراحل “لاهوتية” و “ميتافيزيقية”، قبل الوصول إلى فهم ذاتي علمي يتم من خلاله بناء مجتمع أفضل. تمت ترجمة عمل كونت من قبل عالمة الاجتماع الإنجليزية هارييت مارتينو، التي أرادت أن تجعل “الجمهور على دراية بـ ’ القوانين العظيمة العامة الثابتة’ العاملة في المجتمع”. أثار عمل كونت عدداً من ردات الفعل، بما في ذلك الداروينية الاجتماعية الأكثر تفصيلاً لهربرت سبنسر، الذي صاغ عبارة “البقاء للأصلح”. كان سبنسر أقل تفاؤلاً بكثير من كونت فيما يخص مستقبل البشرية أو العلوم الإنسانية، مؤمناً بأن الإنسانية كانت أنانية بشكل أساسي.

لقد تم عكس وإسقاط المقاربات العضوية بين التطور البيولوجي والاجتماعي التي اعتمد عليها عمل سبنسر المؤثر والمشهور جداً من قبل علماء فيكتوريين آخرين، وغالباً عبر طرق نعتبرها الآن عنصرية بشكل صريح أو ضمني. جون لوبوك -الذي كان مثل سبنسر عضواً في توماس هنري هكسلي “X Club” في لندن، وهي مجموعة من الذكور حصراً (والبيض) تأسست لمناقشة التطور والسياسة-استخدم “أخلاق وعادات الهمجيين المعاصرين” لتوضيح استكشافه لإنسان ما قبل التاريخ. اعتمد لوبوك على فهم قرائه أن الشعوب المحلية التي واجهها الأوروبيون في استكشافاتهم العالمية يمكن التعامل معها على أنها أحافير وتجسيدات حية لمراحل سابقة من التطور البشري.

استندت جميع هذه النماذج في نهاية المطاف إلى فكرة “التقدم”، التي جادلت بأنه مع زيادة تعقيد البشرية والمجتمعات، أصبحت البشرية “أفضل” أيضاً وأكثر عقلانية، وليبرالية، وحداثة، وأكثر قدرة على إدارة الطبيعة.

ما هو أكثر من ذلك أنهم ضموا داخلهم فكرة أن المستقبل سيكون أفضل، سواء تم تصوره كمجتمع كارل ماركس الشيوعي، أو حكم فرانسيس غالتون بالاستحقاق المستند إلى تحسين النسل (اليوجينيا)، أو اليوتوبيا الاشتراكية لإدوارد بيلامي.

إن فكرة أن مثل هذا التقدم كان لا مفر منه قد خرجت عن مسارها بشكل حاد بسبب الإبادات الجماعية، والأنظمة الشمولية في منتصف القرن العشرين، ولكن لا يزال يتردد صدى مفهوم القوانين العامة للتطور الاجتماعي من خلال الدراسات الحديثة؛ ففي صياغة المؤرخ الفرنسي ألفريد سوفي لمصطلح ” العالم الثالث ” عام 1952، على سبيل المثال؛ ظهر جانب آخر من هذا البحث عن قوانين عامة في محاولة تحديد أنماط معينة في التاريخ.

سعى المؤرخ البريطاني أرنولد جيه توينبي في كتابه A Study of History (1934-1961) إلى إيجاد مثل هذه الأنماط من خلال دراسة مقارنة للحضارات، كما فعل الباحث الألماني أوسفالد شبينغلر. في عام 1925، ادعى الاقتصادي السوفياتي نيكولاي كوندراتييف أنه حدد دورات أو موجات في الاقتصاد العالمي، تمتد من 40 إلى 60 عاماً، وقد تم إحياء هذه الفكرة بقوة في الغرب من قبل إرنست ماندل في مقاله لعام 1964 حول اقتصاديات الرأسمالية الجديدة للسجل الاشتراكي.

بحلول أواخر الستينيات، أصبح التفاؤل بشأن القدرة البشرية على إدارة المستقبل غامضاً إلى حد ما. اجتمعت المخاوف بشأن الكارثة النووية مع مخاوف بيئية جديدة، في حين سهلت التطورات الحادة في القدرة الحاسوبية تنظيم مجموعات بيانات تاريخية معقدة لتصور سيناريوهات كارثية واقعية. كانت عالمة البيئة دونيلا ميدوز وزوجها دنيس ذات أهمية خاصة في تطوير استراتيجيات لنمذجة المستقبل البيئي العالمي باستخدام برنامج الكمبيوتر “World3″، الذي يحاكي التفاعلات بين النمو السكاني والإنتاج الصناعي/الزراعي.

شكلت عمليات المحاكاة الأساس للكتاب الصادر عن مركز أبحاث Club of Rome  المؤثر للغاية والأكثر مبيعاً،The Limits to Growth  (1972)، الذي ذهب إلى أن النمو الاقتصادي غير مستدام، وإذا استمر عند المستويات الحالية آنذاك فسيؤدي إلى كارثة. تم إجراء محاكاة للأنظمة المعزولة سابقاً، ولكن ما تم إنتاجه هنا كان نموذجاً لكيفية تفاعل هذه الأنظمة على مستوى العالم، وكلما زادت قدرة أجهزة الكمبيوتر، زادت تعقيد الأنظمة التي يمكنها نمذجتها، لكن بالطبع، تعتمد دقة أي نموذج على الافتراضات المبدئية لمبرمجيها وطبيعة البيانات التي أدخلوها فيها -وهي نقطة لم تغب عن العديد من نقاد  The Limits to Growth.

عندما يتم إنشاء مجموعات البيانات ويسمح بالوصول إلى السجلّات رقمياً، لا يرى المستخدمون نسخة طبق الأصل بسيطة من المواد الأصلية. إنهم ينظرون إلى ملفات الكمبيوتر التي ستكون قد خضعت لسلسلة من التحولات التي تخفي الافتراضات المضمنة في البنية الرقمية، بالإضافة إلى الظروف التي تم بموجبها إنتاج البيانات. علاوة على ذلك، بالنسبة لغالبية المؤرخين، فإن “الحقائق التاريخية” ليست عناصر منفصلة موجودة بشكل مستقل، بانتظار العلماء ليتعقبوها ويجمعوها ويصنفوها بأمان؛ بل يجب أن يتم إعدادها وتفسيرها. قد تبدو السجلّات النصية سهلة نسبياً في إعادة الإنتاج، على سبيل المثال؛ ولكن -تماماً كما هي الحال مع الحفريات الأثرية-فإن السياق المادي الذي يتم فيه العثور على المستندات ضروري لتفسيرها: ما هي المجموعات أو العناصر أو التجارب التي ثمّنتها الأجيال الماضية وسجلتها، وأي منها يجب إنقاذها من هوامش السجلّات؟ ماذا تخبرنا الهامشيات عن كيفية تغيّر معاني الكلمات؟

لقد برهنت الضجة الأخيرة حول المزاعم البحثية التي أجراها عالما نفس، ومؤرخ اقتصادي وعالم بيانات في جامعة وارويك، على مدى جدلية استقراء الشعور أو الحاسية التاريخية من خلال النظر في معاني الكلمات. استخدم توماس هيلز، أوجينيو بروتو، ودانيال سغروي، وتشانوكي إيلوشكا سيريسيني، اللغويات الحاسوبية من أجل وضع خطة للعلاقة بين السياسة العامة والسعادة الفردية على مدى الـ 200 عام الماضية. ولكن هل من الممكن حقاً قياس السعادة الذاتية من خلال حساب عدد المرات التي تكررت فيها كلمات مثل “متعة” أو “فرح” في أكثر من 8 ملايين كتاب تم تحويله رقمياً بواسطة Google؟

حتى ما يبدو واضحاً مثل عبارة “تم تسجيل الوفاة” يجب تفسيرها في سياقها. حين قرأتها في السجلات التاريخية الرقمية لمحكمة أولد بيلي الجنائية في لندن، اعتقدت الكاتبة الأمريكية نعومي وولف أن العبارة تعني أن الرجال المتهمين بالشذوذ الجنسي لا يزالون يُعدمون من قبل الدولة البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن كما أوضح المؤرخ الإنجليزي ماثيو سويت لوسائل الإعلام، فإن العبارة أفادت في الواقع كيف يمكن للقاضي أن يتجنب الحكم على الرجال المثليين بالإعدام.

تصبح أهمية السياق والتفسير أكثر حيوية عند تجاوز النص إلى الثقافة المادية للماضي. يجب على العلماء الذين يعملون في التاريخ الزراعي -وهو عنصر أساسي في السرد الموجه بيئياً لهراري ودايموند-أن يكتشفوا من السياق ومن خلال فعل تخيلي تفسيري كيف تم تقييم الأراضي، وكيف تم استخدام الأدوات، ومن استخدمها، ومن استفاد منهم أو في الواقع، أن يسألوا، على من تم استخدام الأدوات.

السجل التاريخي محدود حتماً؛ لأن الوصول إلى تجارب بعض المجموعات أسهل بكثير من الوصول إلى تجارب آخرين. يوضح التاريخ الاقتصادي القياسي Cliometrics نهجا في التعامل مع التاريخ يتشابه في بعض الجوانب مع ديناميكا تورتشين الحيوية بشكل جيد. بارتباطه الوثيق بدوغلاس نورث وروبرت فوجل (اللذان حصلا عام 1993 على جائزة نوبل لعملهما في التاريخ الاقتصادي)، يطبق علم الاقتصاد القياسي الأساليب والنظرية الاقتصادية الكمية على التاريخ: على سبيل المثال، يستخدم علماء علم الاقتصاد القياسي مجموعات بيانات واسعة النطاق وطولية ومتعددة القطاعات للبحث في قضايا السياسات الرئيسية، يرجع الفضل إلى هذا التخصص في تحويل التاريخ الاقتصادي من أن يكون قائماً على السرد إلى ممارسة مُعرّفة رياضياً، ولكنه كان أيضاً محور جدل هائل ومستدام.

كما هو الحال مع علماء القرن التاسع عشر، كان للعِرق دور حاسم يلعبه هنا، عمل فوغل الهام (مع ستانلي إنجرمان) هو Time on the Cross (1974)، وهي دراسة كمية للعبودية الأمريكية، استخدم فيها فوجيل سجلات المزارع لإظهار أن الرق كان وسيلة فعالة من الناحية الاقتصادية للإنتاج، وللإشارة إلى أن العبيد الجنوبيين كانوا أفضل من العديد من العاملين بأجر من الشماليين، ركز الغضب المتوقع الذي أعقب ذلك إلى حد كبير على النقطة الحرجة (أقروها فوغل وإنغرمان ولكن لم يعالجوها) بأن سجلات المزارع لم تستوعب طبيعة العبودية بالكامل، كيف يمكنهم ذلك بينما تم إنشاؤها من قبل مجموعة من البشر على حساب مجموعة أخرى؟

لهذا السبب من بين أسباب أخرى، لا تتناسب لغة العلم الوضعية -لاختبار الفرضيات إزاء البيانات -بشكل جيد مع ممارسة التاريخ، يعامل علماء تاريخ الاقتصاد القياسي التاريخ كمختبر يحتوي على العديد من سلاسل البيانات التي يمكن اختبار نظريات اقتصادية مختلفة على أساسها، ولكن منذ أن أولت ممارسة ليوبولد فون رانكه التاريخية -الباحث الألماني في القرن التاسع عشر الذي أسست التاريخ المهني -اهتماماً وثيقاً بالمصادر المستخدمة من قبل المؤرخين ودرسها بشكل نقدي، استطاع أن يظهر وعياً ثابتاً بأهمية التوزيع التفاضلي للقوة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والتكنولوجية عندما يتعلق الأمر بإعدادهم.على حد ما قاله إميل دوركايم، يجب ألا تُعامل الحقائق التاريخية على أنها “أشياء”.

ولكن هذا هو بالضبط ما اقترحه تورتشين في عام 2003. وهو عالم بيئة ومختص بدراسات السكان أصلاً، تحول تورتشين عن هذا الموضوع بعد أن قرر أن جميع المشاكل المثيرة للاهتمام قد تم حلها بالفعل، مستلهماً بعمل عالم الاجتماع الأمريكي جاك غولدستون، الذي حاول في التسعينيات ترجمة فلسفة ألكسيس دو توكفيل إلى معادلات رياضية، بدأ تورتشين في ربط حجم السكان بالناتج الاقتصادي (والأهم من ذلك، مستويات التفاوت الاقتصادي) وكذلك عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي من أجل قياس التغييرات في هذه المتغيرات الثلاثة عبر الزمن، كان عليه تحديد مجموعة من مصادر البيانات المختلفة.

يمكن التعامل مع البنية الاجتماعية، على سبيل المثال، كناتج لعدم المساواة الاقتصادية، وعدم المساواة في الرعاية الصحية -ولكن لقياس أي منهما، تحتاج إلى اختيار مؤشرات تقريبية ومناسبة تم تعقيد العملية أكثر بحقيقة أنه عندما تتعامل مع تسلسل زمني يمتد لآلاف السنين، يجب أن تتغير هذه المؤشرات بمرور الوقت. قد يكون نسيج ذاك التغيير نوعياً وكمياً، وإذا كان نوعياً، إذن -حسناً، هل ما زلت تقيس نفس الشيء بالفعل؟

بالاعتماد على بيانات حول حجم المنزل، وعيّنات لبية جليدية من غرينلاند، وتشوهات الهيكل العظمي ومستويات اكتناز العملات النقدية من بين أمور أخرى، ادعى تورتشين أنه حدد مجموعات بيانات يمكن التحكم فيها مكنته من تتبع التغيير في عدد السكان والاقتصاد والسياسة على مدى آلاف السنين.

على وجه الخصوص، حدد نمطين متكررين على أنهما حاسمان لفهم التاريخ السياسي: الدورات الاجتماعية الديموغرافية المدنية ودورات الأب والابن، أشارت الأولى إلى فترات زمنية امتدت لقرون، حيث ارتفعت موجات عدم الاستقرار الاجتماعي السياسي وانخفضت على خلفية النمو السكاني. مع وصول حجم التعداد السكاني إلى القدرة الاستيعابية للأرض، ستنخفض مستويات المعيشة، بدأت المجموعات التي كانت نخبوية في السابق، التي تعاني من فقدان الموارد أو المكانة، في التمرد على النظام السياسي القائم.خلال الفوضى التي تلي ذلك، ستنخفض مستويات السكان، ويمكن اكتشاف تقنيات جديدة أو استراتيجيات جديدة لاستغلال القديمة منها، وستبدأ موجة جديدة.

 خلال هذه الدورات التي استمرت لقرون كان من الممكن العثور على التذبذبات الأقصر، “الأب والابن” لمدة 50 عاماً، حيث على سبيل المثال: تجربة الحرب من قبل جيل واحد تقود الجيل التالي إلى رفض العنف، بينما الجيل الثالث (الحفيد)، لم يختبر مباشرة الرعب الذي يخلفه الصراع، يكون على استعداد لبدء الدورة من جديد، بالمناسبة كانت هذه الدورة هي الأساس الأساسي لتنبؤ تورتشين بالفوضى في عام 2020.

في عام 2010، ظهرت Cliodynamics، المجلة الرئيسية لهذا التخصص الجديد، مع مقالها الأول (من قبل عالم الاجتماع الأمريكي راندال كولينز) الذي يركز على نمذجة النصر والهزيمة في المعركة فيما يتعلق بالموارد المادية والمعنويات التنظيمية في خطوة توازي دعوى كونت السابقة بشأن المراحل المتعاقبة من التعقيد العلمي (من الفيزياء، مروراً بالكيمياء وعلم الأحياء، إلى علم الاجتماع)، رفض تورتشين بحماس فكرة أن التعقيد جعل المجتمعات البشرية غير مناسبة للتحليل الكمي، بحجة أن هذا التعقيد بالضبط هو ما جعل الرياضيات ضرورية.

اعتبرت التنبؤات الجوية غير موثوقة ذات مرة بسبب التعقيد الهائل لإدارة البيانات اللازمة، لكن التحسينات في التكنولوجيا (الأقمار الصناعية وأجهزة الكمبيوتر) تعني أنه من الممكن الآن وصف التفاعلات بين أجزاء النظام المختلفة رياضيّاً وبالتالي نمذجتها -وبذلك نعرف متى يكون من الحكمة أن نحمل مظلة. ومن نفس المنطلق، أصر تورتشين على أن نهج الديناميكة الحيوية لم يكن حتمياً. لن يتنبأ بالمستقبل، ولكنه سيعرض بدلاً من ذلك للحكومات والقادة السياسيين النتائج المحتملة لخيارات السياسة المتنافسة.

ومن الأهمية بمكان، ومرة أخرى على خلفية قدرة الحاسوب المتاحة بوفرة والرخيصة، استفادت الديناميكا الحيوية من الطفرة في الاهتمام بالعلوم الإنسانية الرقمية. تمت رقمنة السجلات الحالية وتحميلها وجعلها قابلة للبحث: في كل يوم، على ما يبدو، يتم تقديم المزيد من البيانات بتنسيق يشجع على القياس الكمي ويتيح التحليل الرياضي -بما في ذلك قاعدة بيانات Old Bailey على الإنترنت، والتي اصطدم معها ولف. في الوقت نفسه، كان الديناميكيون الحيوين يصححون مسارهم. بعد أربع سنوات من إصدارها الأولي، تمت إعادة تسمية العنوان الفرعي للمجلة الرئيسية الخاصة بهم، من مجلة التاريخ النظري والرياضي The Journal of Theoretical and Mathematical History إلى مجلة التاريخ الكمي والتطور الثقافي The Journal of Quantitative History and Cultural Evolution. كما ذكرت افتتاحية تورتشين، كان الهدف من هذه الخطوة وضع الديناميكا الحيوية ضمن تحليل تطوري أوسع. في إعادة صياغته لما قاله عالم الوراثة الأمريكي الروسي ثيودوسيوس دوبجانسكي، ادعى أن “لا شيء في تاريخ البشرية له معنى إلا في ضوء التطور الثقافي.” نظراً لخلفية تورتشين البيئية، فإن هذا النهج التطوري للتاريخ ليس مفاجئاً، ولكن بالنظر إلى النتائج التاريخية لجعل السياسة بيولوجية فربما تكون مقلقة.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذا التحول التطوري الواضح انعكس في تحول أوسع نحو العلوم الطبيعية من جانب (بعض) متخصصي العلوم الإنسانية كما لوحظ، فإن تجارب الحرب العالمية الثانية، والإمبريالية بشكل أكثر عمومية جعلت العلماء الغربيين حذرين بشدة من استخدام علم الأحياء والتطور لتفسير الثقافة والمجتمع؛ فقد بدت الروابط بين كراهية الآخر والسياسات الجنسية مقلقة جدا، وبالمثل نتج عن المحاولات التي تم إجراؤها في السبعينيات من القرن الماضي بهدف وضع قواعد بيولوجية واجتماعية يمكن تطبيقها على المجتمع البشري وغير البشري انشقاقات فكرية شرسة قسمت تخصصات؛ مثل الأنثروبولوجيا إلى نصفين. بحلول التسعينات، ربما تحول التركيز الظاهر من العرق إلى معدل الذكاء، مع ظهور كتاب ريتشارد هيرنشتاين وتشارلز موراي The Bell Curve  (1994)، الذي ادعى أنه أثبت تجريبياً أن الفقراء أغبى من الأغنياء. ومع ذلك، فإن السلسلة التي تلت ذلك من المعارك الفكرية، والسياسية شرسة جعلت العنصرية المستمرة واضحة.

ومع ذلك فإن النهج التطوري متعدد التخصصات الذي يتضمن منهجيات كمية ونوعية يميز أيضاً البرامج الفكرية الناشئة المعروفة بأسماء مختلفة مثل “التاريخ العميق”، أو “التاريخ الكبير.” تتحدى هذه المجالات التخصصات المرتبة زمنياً التقليدية والجغرافية لقسم التاريخ التقليدي، من خلال الجمع بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لتطوير سرد التجارب الإنسانية التي تبدأ مع الانفجار الكبير، وتنتهي فيما بعد البشرية.

ومن الجدير بالذكر أنهم في تطويرهم للدراسات التجريبية والأطر النظرية التي يمكن أن تساعدهم في تحليل أطول زمن بعيد ممكن، هم يتواصلون مع الجماهير العادية، مثل ما يتواصلون مع الزملاء الأكاديميين. كما لوحظ سابقاً، من كتاب دايمون The Third Chimpanzee (1991) إلى كتاب هراري Sapiens (2011)، أنتج الكتّاب في هذا التقليد روايات واضحة، وقابلة للفهم عن نشأة الإنسانية، (وإلى أين قد تكون متجهة) مبنية بشكل واضح حول روايات التكيّف التطوري.

الخطر هنا، بالطبع هو أن هذه الأساليب تميل إلى افتراض أن العلوم الطبيعية قادرة على إنتاج معرفة موضوعية، وأن عكس منهجياتهم سيؤدي إلى معرفة “أفضل” في بقية الفروع الأكاديمية أظهر نصف قرن من البحث في تاريخ العلم أن هذا المنظور خاطئ للغاية.

العلوم لها تاريخها الخاص -كما هو الحال مع فكرة الموضوعية – وأن التاريخ مرتبط بعمق بالسلطة، والسياسة، والأهم من ذلك، بجعل التفاوت الاجتماعي أمراً طبيعياً بالإشارة إلى الدونية البيولوجية. لا يمكن لأي برنامج مصمم لفهم السلوك البشري من خلال النمذجة الرياضية للنظرية التطورية أن يتجاهل هذه النقطة.

يحتاج المؤرخون أيضاً إلى دراسة موقفهم من القياس الكمي ودور الموارد الرقمية في فهم الماضي من المفارقات، أن أحد نجاحات تاريخ الاقتصاد القياسي-إصلاح التاريخ الاقتصادي -يعني أن المؤرخين الاقتصاديين تخلوا عن التاريخ للاقتصاد إلى حد كبير. التاريخ الكمي، كما تشير المؤرخة البريطانية البلغارية لودميلا يوردانوفا، تم تجاهله من قبل أقسام التاريخ، حيث يختار الطلاب دراسة المناهج الحديثة المعاصرة عن تاريخ الإنسان والحيوان بدلاً من ذلك، إن التباحث بشأن العلاقة بين التاريخ’ الكبير’ والتاريخ الصغير ليس مستحيلاً، ولكنه أصعب كثيراً في ظل غياب الافتراضات المنهجية المشتركة والتفاهمات اللغوية.

على سبيل المثال، هل يفترض أن تشير كلمة “الدولة” إلى العملية وموظفي الحكومة، أو إلى الأرض الواقعة ضمن الحدود الوطنية؟ كيف يغير “التعرف البصري على الأحرف” (الأساس الذي يتم على أساسه رقمنة النصوص وجعلها قابلة للبحث) شكل النص الأصلي عند إنشاء ملفات لغة ترميز قابلة للامتداد، وهي بالتأكيد ليست نسخ أصلية عن المادة الأصلية؟ إن عملية الرقمنة هي عملية إبداعية وتحويلية، مما يعني أن عمل المؤرخ يرتكز بشكل متزايد على العمل الاجتماعي التقني الذي لا يتم فهمه بشكل كامل، ولا يتم تحليله بشكل كافٍ دائماً أو حتى إدراكه.

كل ذلك مقبول، يمتلك علماء الديناميكية الحيوية وزملائهم في الواقع قواسم مشتركة مع علماء الأنثروبولوجيا النظريون في القرن التاسع عشر أكثر مما قد يرغبون في الاعتراف به، وتعتمد تحليلاتهم المنشغلة بذاتها ونماذجهم الرياضية المجردة، بالضرورة، على التلاعب بالبيانات التي جمعها علماء آخرون، والنقد الرئيسي لبرنامجهم هو أن علماء الديناميكا الحيوية غير حساسين إزاء محدودية تلك البيانات وفروقها البسيطة.

إن الأمر المذهل في هذا بالطبع هو أن هناك مجموعة من العلماء التطوريين الذين لديهم شعور نقدي متطور للغاية حول الحاجة إلى تفسير البيانات ووضعها في سياق -خاصة عندما يتعلق الأمر بالسلوك الاجتماعي: هؤلاء هم علماء ميدانيون عندما يدرسون علم الأحياء السلوكي أو علم البيئة، غالباً ما يتبنى العلماء الميدانيون نهجاً انعكاسياً للغاية في تسجيل البيانات وتفسيرها، ويتساءلون دائماً عن كيفية إسقاط سجلاتهم الرصدية للأحداث التي حدثت، يحتاج علماء الميدان باستمرار إلى الانخراط في الذاتية التفسيرية؛ نظراً لأن المتغيرات الرئيسية في دراستهم ليست تحت سيطرتهم في الحالات التي تكون فيها البيانات غير مكتملة بشكل جذري، كما هو الحال عندما يعمل العلماء الغربيون في إقليم ما بعد الاستعمار، يستخدمون مساعدين ميدانيين محليين ومتطوعين لجمع البيانات لتفسيرها لاحقاً في ديارهم.

باختصار، ليس من الواضح على الإطلاق أن إنشاء علم للتاريخ هو في الواقع شيء جيد، ولكن ما هو خطير بالتأكيد هو السماح لمنظور معين بشأن ما يعنيه دراسة شيء ما علمياً أن يحتل مركز الصدارة في مناقشة القضية. يجب أن تكون الانعكاسات المنهجية للعلماء الميدانيين حول كيفية ممارسة العلم خارج المختبر، وكيفية ربط النماذج الرياضية بالسلوك الحي، لا تقدر بثمن لأي جهد جاد يهدف إلى تطوير فهم تطوري للتاريخ. وبما أن الشخص الوحيد الذي ابتكر استكشافاً مستداماً لما يحدث عندما تقوم بتطبيق الديناميكا الحيوية على السياسة الاجتماعية هو إسحاق عظيموف -أفكر في تعميمه “التاريخ النفسي ” في سلسلة رواياته Foundation (1942-1993) -ربما يجب أن نطلب من الروائيين المشاركة في هذه التجربة أيضاً، ربما تنبأ تورتشين في عام 2010 بفوضى سياسية تحل عام 2020، لكن أوكتافيا باتلر هو الذي تنبأ، في The Parable of Talents (1998)، بصعود رئيس أمريكي يشرف على تفكك العقد الاجتماعي، وكل ذلك باسم ” جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.”

يجب موازنة النماذج الرياضية الكمية القائمة على البيانات للتجربة البشرية التي تهدف إلى الانفصال والموضوعية، والقدرة على تطوير الفرضيات واختبارها من خلال الجهود النوعية، والخيالية، والواقعية لخلق وإسقاط مستقبل معاصر يمكّن جماهيرهم من أن يتصلوا عاطفياً بآمال ومخاوف ما قد يأتي كلاهما، في نهاية المطاف يفعلان الشيء نفسه بشكل لا لبس فيه: استخدام التاريخ والخبرة التاريخية لتوقع المستقبل العالمي حتى نتمكن -إذا أردنا ذلك -من تجنب انهيار الحضارة، ومع ذلك، يبقى سؤال “من نحن” مفتوحاً دائما.


  • مؤرخ للعلم في قسم علم الاجتماع في جامعة يورك، ومحررة في المجلة البريطانية لتاريخ العلم.
المصدر
aeon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى