الدين

نظام الإسناد: الرابط المتّصل بالنبي صلى الله عليه وسلم

  • تأليف : منتصر زمان
  • ترجمة : عبد الجليل السحيمي
  • تحرير : روضة بنت عمر

توقف قليلاً للحظة واسأل نفسك: ما هي أعظم إنجازات الحضارة الإسلامية؟ في الوهلة الأولى، ربما يتبادر إلى ذهنك عدد من الأشياء، تتراوح من الرياضيات إلى الطب إلى الهندسة المعمارية- وربما حتى القهوة. ولكن للأسف، فإننا نميل إلى التغاضي عن واحد من أعظم إنجازات الحضارة الاسلامية إن لم يكن أعظمها وهو نظام الإسناد. وهو أن الشخص، حتى يومنا هذا، يمكنه أن ينسب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم متابعته مع قائمة من المراجع التي تتصل إلى المصدر على التوالي وهو ما وصفه العلماء في وقت مبكر مثل أبي بكر الثقفي (ت 309 هـ)، بأنه إنجاز حصري للحضارة الإسلامية.

وتشير كلمة سند إلى سلسلة الرواة الموصلة إلى نص الحديث، بينما يشير مصطلح ” إسناد “إلى ذكر رواة السلسلة. ومع ذلك، فإن غالبية العلماء يستخدمون كلا المصطلحين بشكل متبادل. فعلى سبيل المثال، يروي البخاري (ت 256 هـ)، عن “مكي بن ​​إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد الله عن سَلَمة: قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”. ففي هذا المثال تشكّل الأسماء المؤدية إلى النص سند الحديث.

بدأ استخدام الإسناد بالتزامن مع نقل أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. فالصحابة مثل أبي سلَمَة المخزومي (المتوفى 3 هـ)، وجعفر بن أبي طالب (المتوفى 8 هـ)، الذين توفوا أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم رووا أحاديثا نقلاً عن النبي كمصدر لها. وعلاوة على ذلك، فالصحابة الذين كانوا ينشغلون بمسؤولياتهم اليومية يتناوبون باستمرار لحضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعندما يقوم الصحابي الحاضر برواية أحاديث ذلك اليوم إلى الصحابي الغائب، فإنه من الواضح أنه يستهلّ كلماته بعبارة “قال النبي صلى الله عليه وسلم” كذا وكذا. إن قصر السلسلة، أي الرواية مباشرة عن النبي، يجعل هذا الاستعمال البدائي للإسناد غير ملحوظ. وخلال هذا الوقت، لم يكن مطلوبًا من الرواة الكشف عن مصادرهم. وهذا هو السبب في أننا نجد صحابةً مثل أنس بن مالك، الذي عاش خلال فترة المدينة، يروي أحداثَا من الفترة المكية دون الإشارة إلى مصادرها. ولم تكن هذه مشكلة لأنه حتى فكرة الكذب على النبي كانت غير متصوَّرة لدى الصحابة.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة وجيزة، قام الصحابة باتّخاذ الحذر حيال الأحاديث، إذ قاد أبو بكر المبادرة. فعندما روى المغيرة بن شويح حديثًا عن حصة الجَدّة في الميراث، طلب أبو بكر الدليل على ذلك، والذي قدمه محمد بن مسلمة كما ينبغي. كما طلب عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري تأكيده عندما روى الحديث عن طلب الإذن ثلاث مرات عند دخول منزل شخص آخر؛ وفي هذه الحادثة، شَهد أبو سعيد الخدري له بذلك.

ويمثل اغتيال عثمان بن عفان (رضي الله عنه) في عام 35 هـ، الذي تم وصفه لاحقًا بأنه (فتنة)، تحولًا كبيرًا في مجرى التاريخ الإسلامي. وحتى حدوث هذا الحدث المأساوي كان هناك استقرار كبير في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وبعد ذلك بدأ الناس- مدفوعين بالعطش لتعزيز وجهات نظرهم السياسية والدينية- باختلاق الأحاديث مما دفع العلماء إلى توخي المزيد من الحذر. وفي رواية هذه المرحلة الحساسة، يشرح ابن سيرين (ت 110 هـ) قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سمّوا لنا رجالكم…) ومن المفهوم من كلمات ابن سيرين أن ممارسة الاستشهاد بمصدر الفرد، أو الإسناد، لم تكن موجودة قبل الفتنة، ولكن لم يكن ذلك متطلبًا، فقد كان ذلك وفقًا لتقدير الرواة.

وخلال القرن الأول الهجري، طُوِّر نظام الإسناد بالكامل وشكل جزءًا لا يتجزأ من انتقال الأحاديث. وقبل أن يكون الحديث مدعومًا من قبل الإسناد، لم يكن له أي وزن في نظر علماء الحديث. وفي هذا الصدد، قال عبد الله بن المبارك (توفي 181 هـ)” الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء” وقال سفيان الثوري (ت 161 هـ)،” الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟” وكان لتركيز العلماء في ميدان الحديث آثار متتالية على تخصصات أخرى، مثل التفسير والفقه والتاريخ والشعر. فابن جرير الطبري (ت 310 هـ)، على سبيل المثال، عند استشهاده برأي حول تفسير آية، فإنه يربطها بسلسلة رواة تعود إلى المصدر. إن مدى تغلغل هذا التثبّت حتى على أكثر المواضيع الدنيوية أمر لا يمكن تصديقه في بعض الأحيان. ومن الأمثلة على ذلك كتاب عن مجموعة من القصص عن الحب بعنوان “مصارع العشّاق” إذ يشير المؤلف، أبو محمد السراج (ت 500 هـ)، بشق الأنفس إلى سلاسل طويلة من أسانيد الرواة.

وقد تم طرح جدال حول استخدام الإسناد قبل مجيء الإسلام، في محاولة لإنكار فكرة أنه إنجاز إسلامي حصري. وتحقيقًا لهذه الغاية، فقد أورِدتْ بعض الأمثلة من الشعر الجاهلي، والكتاب المقدس اليهودي والأدب الهندوسي. وهذه الأمثلة، مع ذلك، ليست موضوعية؛ فهناك تناقض صارخ بين طريقة استخدام الإسناد في هذه الأمثلة وكيف استخدمه المسلمون. ويفسر أحد علماء الأندلس في القرن الخامس وهو ابن حزم (المتوفى عام 458 هـ)، المقصود من تفرد المسلمين بالإسناد. ومن ستة أشكال من الرواية، قال، ثلاثة اختص بها المسلمون. ويستحق النموذج الثالث اهتمامًا خاصًا وهو ” نقل الثقة عن الثقة، حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، مع الاتصال، يخبر كل واحدٍ منهم باسمِ الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان “.

وبعبارة أكثر بساطة، ربما لم يكن المسلمون أول من استخدم الإسناد في حد ذاته- وفقا للأقوال الجدلية السابقة- ولكنهم كانوا بالتأكيد أول من أعطاه قيمة من خلال توفير سلاسل غير منقطعة وتوثيق مفصّل للروايات، بواسطة العلم المعروف بعلم الجرح والتعديل (الاعتماد والنقد). وبعد كل شيء، فما فائدة قائمة الرواة عندما لا يعرف عنهم شيء يحفظ أسماءهم؟ إن الحضارة الإسلامية لا تضاهى حقًا في توثيقها لمعلومات سيرة رواة الحديث. ولم يستطِع “Aloys Sprenger” الأكاديمي الغربي الشهير والناقد للإسلام، (تـ عام 1893 م) إلا أن يعترف بهذا الإنجاز غير المسبوق إذ قال:

” إن تألّق أدب المحمديين هو في السيرة الأدبية. ولا توجد أمة، كما لم يكن هناك أي أمة من قبل، سجلت خلال 12 قرناً حياة كل رجل وسيرته مثلما فعل المسلمون. وإذا تم جمع سجلات السيرة الذاتية للمسلمين، فمن المحتمل أن يكون لدينا حسابات عن حياة نصف مليون من الشخصيات البارزة، وسيتبين أنه لا توجد عشر سنوات من تاريخهم، ولا يوجد أي مكان مهم يخلو من ممثّل له.”

وقبل الختام، سيكون من المفيد معالجة قضيتين أساسيتين. أولاً، مع تطور علم الحديث، تم التعرّف على الحديث بالإسناد وليس بنصه (المتن). وكان توسّع الإسناد نتيجة طبيعية للرواية: فعند افتراض أن صحابياً واحدًا أعطى حديثًا لخمسة طلاب قاموا بدورهم بنفس الشيء، إلى آخره، فإن عدد الطرق سيزداد بشكل كبير. فمن خلال عملية الرواية، تضاعف عدد الأسانيد دون زيادة في عدد النصوص. وبالتالي، عندما قال عبد الرحمن بن مهدي، “عندي ثلاثة عشر حديثًا عن المغيرة بن شعبة عن النبي في المسح على الخفين”، كان يشير إلى نص واحد رُوِي عبر ثلاثة عشر طريقا مختلفة. وسيسمح لنا وضع هذه المنهجيّة في الاعتبار بفهم ما يعنيه العلماء عندما وصفوا العدد المذهل من الأحاديث التي حفظوها، مثل حفظ البخاري لمائة ألف حديث صحيح أو تصنيف أحمد بن حنبل لمسنده من بين سبعمائة ألف حديث. وعلاوة على ذلك، وبصرف النظر عن الأحاديث النبوية، المدرجة في هذه الأعداد الكبيرة، فإن هناك عددا كبيرا أيضا من آثار الصحابة والخلفاء.

ثانياً، إن مجرد الاستشهاد بسلسلة رواية خبر ما، سواء كان حديثًا أو غير ذلك، لا يتطلب صحته. وهذا هو الحال في كتب مثل كتاب ابن جرير الطبري ” تاريخ الأمم والملوك “- المصدر الرئيسي للمؤرخين اللاحقين- حيث يجمع المؤلف جميع الآثار المتاحة على النحو المنقول إليه ثم يودع مسؤولية تحليل الأسانيد  إلى القارئ. ولكن في الوقت نفسه، يجب أن نتذكر أن نظام الإسناد، كما كان أنور شاه الكشميري (تـ عام 1933 م) دائما يذكر طلابه، تم تأسيسه رسميًا لمنع إدراج مواد غير إسلامية، وليس لإزالة التعاليم الإسلامية القائمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى