الدين

إحياء سنة الأوقاف: التصورات الأخلاقية والأسباب البنيوية للفقر

  • د. زارا خان
  • ترجمة: وفاء الحربي
  • تحرير: بيان الربيعان

ملخص المقال

كتبت هذا المقال بناءً على الأبحاث الأخيرة حول تصنيف الأوقاف الخيرية الإسلامية إلى مراحل متباينة من التطور المؤسسي والتاريخي، وكذلك الهدف من هذا المقال هو تصور كيفية عمل الأوقاف في الوقت الحالي. طرأت تغييرات على صورة مؤسسة الأوقاف خلال التاريخ الإسلامي وتلك التغيرات جاءت تبعًا للأسس المجتمعية والتغيرات في الظروف التاريخية، لكنها في الوقت ذاته ظلت محافظة على مضمونها الروحي الجوهري.

وهذا يقودنا لسؤال ماهي بعض الأسباب الجذرية للفقر في العالم اليوم، وكيف يمكن لإحياء سنة الوقف أن يحد ويعالج هذه الأسباب؟

المقدمة

يستند هذا المقال حول الرؤى التي عثرت عليها في كتاب الدكتور خليل عبد الرشيد بعنوان «تمويل الأعمال الخيرية على الصعيد المجتمعي»: الذي تحدث فيه عن ارتفاع وانخفاض تكاليف مؤسسات الأوقاف الخيرية الإسلامية(1) وكيفية إحياء هذا التراث الحضاري الإسلامي اليوم.

نشأت هذه المؤسسات منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي مترسخة في الطابع الديني للإسلام الذي يحث على العطاء. حينما يتشارك المرء أمواله ليس فقط من أجل أداء الفرض الديني (الزكاة) بل ليصل إلى نقطة عميقة من تطهير النفس وصلاح القلب؛ فالكلمة الطيبة، ومساعدة الآخرين في عبور الطريق، وإماطة الأذى عن الطريق، وإظهار المودة بين الزوجين، وإطعام المساكين، وذكر الله، كلها أعمال تعد في الإسلام بمثابة الصدقة.

كما هو وعد الله سبحانه وتعالى المرء حينما ينفق من ماله، أن ذلك سيبعث في روحه البركة، لذلك أخذ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بكل جدية. بدأ الصحابة -بعد مشورة وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم- هذه الممارسات التي عرفها العلماء فيما بعد باسم الأوقاف الخيرية، والتي كانت بدايتها مع أبو طلحة وزوجته رضي الله عنهما، اللذين تبرعا بمحاصيل تمور أكثر من ٦٠٠ نخلة لإطعام فقراء المدينة. نظرة العالم الدينية حول أصل الأوقاف الخيرية الإسلامية (من حيث أسبابها الوجودية) يثير في المرء الرغبة في طلب رضا الله تعالى من خلال الإحسان إلى عباده، وتطهير النفس داخليًا من الجشع وغيرها من الرذائل.

خدمت الأوقاف تاريخيًا التعليم والصحة وغيرها من الاحتياجات الاجتماعية، ويتركز هذا المقال تحديدًا حول مواضع تخفيف الأسباب البنيوية للفقر. هناك مثالان: الأول معاناة المزارعين العمالية في ضوء خط الإنتاج الزراعي العالمي.

والمثال الآخر: هو الفجوة في الثروة النابعة من التصنيفات العرقية في الولايات المتحدة، والأبعاد التاريخية والاجتماعية لهذه الفجوة.

أقترح تمويل بعض الحلول المؤسسية للفقر الناجم عن تلك الأسباب من خلال الأوقاف الخيرية، وبهذه الطريقة يمكن للمسلمين إحياء سنة الأوقاف الخيرية لمعالجة الاحتياجات المعينة ليومنا هذا. حتى وإن كانت الأسباب البنيوية للفقر حدثت بسبب شبكة معقدة من الرأسمالية العالمية، إلا أنه يمكن للمؤسسات المحلية أن يكون لها آثار تحولية ذات تأثيرات بعيدة المدى.

الخلفية التاريخية

أظهرت الدراسات العلمية الأخيرة أن تاريخ مؤسسة الأوقاف الخيرية يمكن فهمه بصورة مجدية من خلال خمس مراحل(2) وهي: أولًا: مرحلة التأسيس، ثم: مرحلة ما بعد التأسيس، يليها: مرحلة النضوج، ثم بعد ذلك: المرحلة الانتقالية، وأخيرًا: فترات التدهور. ويبين أصل هذه المؤسسة كيف أنها أصبحت محورًا للحضارة الإسلامية ونمت بتنوع كبير في الخدمات التي تقدمها، كذلك يظهر كيف أن استعمار أراضي المسلمين بالإضافة إلى مشاريع ما بعد التأميم الاستعماري، أدت إلى طمس هذه المؤسسات.

طرحت الأوقاف في أوجها (استراتيجية التزام موثوقة لمنح أصحاب العقارات الضمان الاقتصادي في مقابل الخدمات الاجتماعية) وبالتالي كانت هذه الاستراتيجية متكاملة لتوفير السلع العامة من خلال الصناديق الائتمانية المحلية.(3)

 ينبغي أن تحقق الأوقاف الخيرية المتطلبات التالية:

1- يحجز الشخص المتبرع أو المعيل التالي على الأصل، ويخصص العائدات للأعمال الخيرية.

2- إزالة الصفة السلعية عن التبرعات بشكل محدد وقانوني (بمعنى ألا تكون للبيع).

3- أن تكون هذه المؤسسات هدفها الوحيد خيري، وتسمية المجموعة المستفيدة من تبرعاتها بوضوح.

كان أول شكل للأوقاف الخيرية في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي مزرعة من ٦٠٠ نخلة ذهب محصولها لإطعام فقراء المدينة. خلال فترة الحملات الصليبية كانت الأوقاف تعالج الدمار الذي سببه الحرب، مثل:إطعام وإيواء وتطبيب الفقراء والجرحى والمهجَّرين.(4) أنشأت زوجة سليمان العظيم مجمع حسكي الخيري في القدس، في القرن السادس عشر، والذي خدم ٢٦ قرية، الذي شمل متاجر وسوق البزار المسقوف، ومصنعين للصابون، وأحد عشر من مطاحن الدقيق، وحمامين (في لبنان وفلسطين). لمئات من السنين كان الدخل الناتج عن هذه الأعمال يصرف في صيانة المساجد، وفي مطبخ كبير للفقراء والفنادق الصغيرة، التي يقصدها المسافرون والحجاج.(5) وفي حلب، في القرن الثامن عشر، أنشأ الحاج موسى أميري أوقافًا خيرية شملت عشرة بيوت، وسبعة وستين متجرًا، وأربعة نزل للمسافرين، ومخزنين، وعدد من مصانع الدهانات، وكذلك الحمامات، وثلاثة مخابز، وثمانية من البساتين، وثلاث حدائق وأرضًا زراعية.(6)

إن الأوقاف هي نموذج للمساءلة الأخلاقية والأعراف الاجتماعية، التي يستثمر فيها أصحاب الممتلكات والأصول ماليًا وروحيًا من أجل رفع مستوى معيشة الأشخاص الأقل حظًا. مرت الأوقاف بمنعطف ضعف وهو ما سمّاه عبد الرشيد: فترة تدهور المؤسسة (في منتصف القرن التاسع عشر خلال الحرب العالمية الأولى؛ لاسيما بعد تطبيع القرض الفوري بالفائدة). وفي الحقيقة كان هذا التدهور سببًا في الضلوع المباشر للقوات الاستعمارية. عمومًا فشلت دول الاستعمار الأوروبية في فهم نظام الأوقاف، وتعطلت ممارسة الأوقاف بسبب إعادة هيكلة الاقتصاد التي لم يمكنهم معرفتها،على سبيل المثال في زنجبار جرت العادة في أن الأوقاف تساعد في تعزيز أوصار الترابط بين العائلات الغنية الراعية،وعملائها الأقل ثراءً. العوائل المحلية الراقية التي حظيت بثقة العامة في الحفاظ على المساجد (وهي مبجلة اجتماعيًا لقيامها بهذا العمل) وما تقدمه لعملائها والأشخاص المستعبدين الذين لا يملكون أي شيء.

على النقيض من ذلك، فإن المعايير الاقتصادية البريطانية المتعلقة بالرعاية الاجتماعية والنظام تتضمن أنماط مختلفة من الحقوق والمسؤوليات وتوزيع السلطة السياسية والموارد الاقتصادية. أصرت حكومة الاستعمار البريطانية على أن تكون الثروة مورد تجاري خاص (على عكس الصندوق الخيري الممنوح من القطاع العام) بينما تصبح صيانة المسجد حكومية. أصبح المستفيدون من الأوقاف سابقًا ( طبقة عاملة معتمدة تمامًا على العمل بالأجرة).(7)

إن السلطة الاستعمارية – في مهمتها لتقنين وإصلاح الاجتهادات والمشاركات المحلية – غالبًا ما تضعف وصاية النساء لصالح وصاية الرجل على وجه الخصوص (متولي الوقف). بينما كانت بؤرة الاستعمار بمنأى عن العواصم مثل تنجانيقا (التي أصبحت فيما بعد تنزانيا) شهدت طول عمر نسبي للأوقاف والوصاية النسائية، وشهدت مراكز الحكم الاستعماري تاريخًا من الانقطاع والتهجير للمؤسسة التقليدية.(8)

كانت إحدى الأسباب الأخرى التي أدت إلى تدهور الأوقاف هي أنها أصبحت مؤمّمة، وبمرور الوقت أفلست ولم يعد لديها أي تمويل تشغيلي. كانت الحكومات المسلمة ما بعد الاستعمار غير قادرة على تلبية احتياجات الخدمات الاجتماعية بنفس المستوى الذي كانت تعالجه الأوقاف، مما أدى إلى زيادة تفشي الفقر والإهمال العام. في نهاية القرن الثامن عشر تقدير (مجموع دخل حوالي ٢٠ ألف من الأوقاف العثمانية عمليًا يساوي ثلث مجموع دخل الدولة العثمانية، ويشمل ذلك العوائد من الضرائب الزراعية في دول البلقان، وتركيا، والعالم العربي. سواء من الناحية الجغرافية حينما نحتسب الأراضي العثمانية، أما من الناحية المالية فإن إجمالي النسبة المئوية للدخل تمثل مقدار هائل.(9)

وبالنظر للأرقام في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين لتركيا ومصر وإيران والجزائر وتونس واليونان نرى أن نسبة كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، أو التربة المزروعة أو إجمالي مساحة الأراضي، كانت بمثابة الوقف. (انظر الجدول)(10)

البلدالسنةنسبة الأوقاف %
تركيا1923٧٥٪ كل الأراضي الصالحة للزراعة
مصر1920١٢.٥٪ جميع التربة المزروعة
إيران1920١٤.٢٩٪ جميع التربة المزروعة
الجزائر1850٥٠٪ من الأراضي الزراعية
تونس1883٣٣٪ من الأراضي الزراعية
اليونان (انفصلت عن الدولة العثمانية)1829٣٠٪ من إجمالي مساحة الأراضي
(التي صادرتها الحكومة الجديدة)

الأعمال الخيرية الإسلامية اليوم(11)

في القرن الواحد والعشرين وجدنا أنه ليس هنالك منظور واحد عالميًا للاقتصاد الإسلامي تستخدمه الدول المسلمة. وضعت المبادئ الإسلامية المتعلقة بالثروات، والممتلكات والعمل وما إلى ذلك في سياق محدد ومعتمد بطرق مختلفة، بالنظر إلى الظروف المادية المحددة والتاريخ الثقافي لمختلف الأماكن. تشكلت الرقابة السياسية وأطر العمل المؤسسي والخيارات السياسية لتطبيق القانون المالي الإسلامي اليوم بدون الحاجة للانزعاج من المراسيم النصية المقدسة.(12)

وبالتالي يدار التوجيه والتنظيم لمتطلبات الصدقة والزكاة في الإسلام بعدة طرق مختلفة. استنادًا على العوامل الرئيسية من الموارد الطبيعية والتركيبة السكانية، والتاريخ الاقتصادي والسياسي توصلت الدول المسلمة إلى بنية تحتية وطنية مميزة لتوزيع ضريبة الثراء.(13) ضخامة الأعمال الخيرية في الدولة الإسلامية غير واضحة، لكن بحسب تقرير صدر عام ٢٠٠٤ من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فإن الرقم للتبرعات الخيرية سينخفض ما بين ٢٥٠ مليار دولار إلى ١ تريليون دولار سنويًا. (14)

كانت التبرعات في أمريكا الشمالية غالبًا متمثلة في جهود إغاثة وحوالات مالية ترسل للوطن. لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ شهدت تبرعاتنا تحولًا نحو القضايا المحلية، وذلك من خلال توجيه دقيق لأموالنا فيما يزعمون أنه حرب على الإرهاب.(15) وشهدنا كذلك النمو لمجالات جديدة غير ربحية، مثل صندوق بيلازر، والصندوق الإسلامي الأمريكي. تقرير ٢٠١٩ المشترك الصادر من معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم ومعهد ليك للإيمان والعطاء، والذي عنون بالتالي «الأعمال الخيرية للمسلمين الأمريكيين: وهو ملف مقارن يعتمد على البيانات» يسلط الضوء على التوجهات المحددة للتبرعات الخيرية في هذا العصر.(16) أفاد قرابة ٨٩٪ من المستجيبين بأنهم تبرعوا لمعابدهم. وسبب آخر هام هو إغاثة الخارج (٥٤٪). والقضية التي عليها المسلمون أكثر من نظائرنا في الديانات الأخرى هي حماية الحقوق المدنية لأعضاء المجتمع (٤٨٪). وعلاوة على ذلك (من بين المسائل التي يواجهها المسلمون خارج مجتمعهم الديني، الفقر المحلي الذي يشكل أهم قضية خيرية (٨١٪) يليه الإغاثة الخارجية (٥٨٪) والقضايا التعليمية (٥٤٪). (17)

الذي لم يظهر حتى الآن هي الجهود المبذولة لحصر التبرعات على مستوى وطني على الأسس التي تتبعها مثلًا منظمة يونايتد واي، أو جيش الخلاص، أو الجمعيات الخيرية الكاثوليكية، أو الاتحاد اليهودي. ويمكن القول إن علماءنا الإسلاميين المدربين كلاسيكيًا سيتعاونون مع الاقتصاديين السياسيين وعلماء الاجتماع، وكذلك المؤرخين لدينا للمحيط الأمريكي، ويتعين عليهم تحديد ما إذا كانت المركزية هي الهدف المنشود وإن كان كذلك، كيف ولماذا؟

ونحن على دراية بأن تاريخ حضارتنا الإسلامية قدم لنا مؤسسة تبرعات خيرية قوية، وهي الأوقاف. وكذلك نعرف أنه في القرن التاسع عشر والعشرين بدافع من المصالح السياسية والاقتصادية فككت القوى الوطنية في مرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار الأوقاف نظاميًا ومنهجيًا، واجتثتها من تاريخ الحضارة الإسلامية بشكل وكأنها لم تكن جزءً منها بتاتًا. وبتطلع للمستقبل، من الممكن أن أسأل: كيف يمكننا أن نحيي الأوقاف اليوم بطريقة تكون ملائمة لبنية الفقر في مجتمعنا، وتكون متصلة بالدافع الأخلاقي عن التبرع في الإسلام؟ وسوف أقدم مثالين ملموسين للحاجة الملحة، واقتراح حول جعلهم مراكز لإنشاء أوقاف متطورة حديثة لهذا العصر.

حالتان تسببان ضغط على بنيوية الفقر في العالم اليوم

إنه من الضروري فهم الفقر على أنه مجموعة من التجارب المترابطة ومتعددة الأبعاد.(18) وأفضل طريقة لفهم الفقر هي من خلال العلاقات الإنسانية وتقويتها والمؤسسات الاجتماعية التي تنظم هذه العلاقات. وهنا حيث تكون مؤسسة الأوقاف مفيدة طالما هي تعرف مجموعة محددة من العلاقات المنظمة اجتماعيًا.(19) وعالميًا في بدايات القرن الواحد والعشرون يعيش أكثر من ثلث من تعداد السكان العالم تحت خط الفقر (أي ثلاثة مليار من إجمالي ٧.٨ مليار شخص) ويتقاضون أقل من ٢ دولار في اليوم. يعاني مليارين شخص حول العالم من نقص المعادن، ومليار شخص لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب، و٨٤٠ مليون شخص معرضين للجوع ونقص التغذية. يقود الفقر وانعدام الأمن الغذائي إلى حوادث مثل: الجفاف، والحرب، وسوء الأحوال الجوية، والمجاعة. ومن المفارقات العجيبة ثلاث أرباع من يعانون من سوء التغذية في العالم هم أشخاص يعيشون في مناطق ريفية وهم المنتجون والبائعون للأكل الذي جميعنا نأكله. (20)

في أوطاننا يعكس الفقر إحدى صور العنصرية. حيث إنه يبلغ متوسط ثروة العوائل البيض حوالي ٦٥٦٠٠٠ دولار، والعوائل اللاتينية حوالي ٩٨٠٠٠ دولارًا، بينما يبلغ متوسط ثروة العوائل السود فقط ٨٥٠٠٠ دولار. وعلى هذا المنوال فإن متوسط ثروة العوائل السود واللاتينية مجتمعة لا تساوي حتى نصف متوسط ثروة العوائل البيض. وما يفاقم هذه الحقيقة القاسية هو (يستغرق الأمر ما يعادل ٢٢٨ سنة حتى تستطيع العوائل السود تحقيق نفس مقدار الثروة التي تحققها العوائل البيض اليوم).(21) يتيح متوسط الثروة صورة أكثر وضوحًا للعوائل التقليدية عن معدل الثروة، حيث إنه يمنع أصحاب الدخل الأعلى (قليلة العدد) من الميل عن المستوى المتوسط، لكن حتى لو كان هناك عوائل متوسطة الثروة، أو أعلى من المتوسط، فلا تزال العوائل البيض أكثر ثراءً من العوائل السود واللاتينية. معدل ثروة البيض أكثر بـ ٣ إلى ٤ مرات من ثروة السود واللاتينيين والأقليات الأخرى، بينما متوسط الثروة للبيض أكثر بـ ٥ إلى ٧ مرات من متوسط ثروة الأقليات. (22)

لكن ما الأسباب الجوهرية للفقر اليوم في المثالين الذين قدمناهما؟

هذا السؤال يمكن معالجته على الأقل بثلاث طرق وهي:

  1. الاحتياج الروحي
  2. الاستغلال الهيكلي
  3. المعايير الثقافية (مثل الاستهلاك أو التبذير).

والتركيز سيكون على العلاقة بين الحاجة الروحية والاستغلال الهيكلي. وهنا أقترح مسارين يمكن للمسلمين من خلالهما إحياء الوقف ومعالجة الأسباب البنيوية للفقر التي عرفناها مسبقًا.

إحياء سنة الأوقاف والتخفيف من معاناة عمال المزارع

يمكن لمشروع الزراعة المستدامة إيجاد حل لمعالجة معاناة العمال المزارعين العالمية. وكانت هذه نظرية بيل موليسون للزراعة المستدامة التي تتمثل في مشروع واعي ومحافظ على النظم البيئية للمنتجات الزراعية، وذلك لما تتمتع به طبيعة هذه النظم البيئية من تنوع وتوازن ومرونة. وينطوي عليه كذلك الاندماج المتناسق للمناطق الريفية وتوفير الناس لطعامهم ومسكنهم وطاقتهم وغيرها من الاحتياجات المادية وغير المادية بطريقة مستدامة.(23) هناك عدد من الحملات الناجحة لإصلاح النظام البيئي حول العالم حيث وضعت مبادئ الزراعة المستدامة من أجل إنتاج محاصيل زراعية متنوعة ومحسنة بيئيًا. ومثال لهذا نجحت حملة كنتور لاينز، في قرية تاتين في غواتيمالا من مقاومة الدمار الذي تخلفه إزالة الغابات القائمة على القطع والحرق والزراعة الأحادية للذرة، لإنتاج حراجة زراعية متنوعة ومملوكة محليًا.

وعلى نحو مماثل قاد حملة فيا أورغينيكا في سان دي أليندي في المكسيك جهود إقليمية في تعليم وتشكيل تدخل وتجديد في انتاج الطعام لمواجهة التصحر الذي تعاني منه المكسيك. كانت حملة بارادايس في مقاطعة بوت الواقعة في كاليفورنيا سببًا مباشرًا لحرائق الغابات لعام ٢٠١٨ التي دمرت أكثر من ١١٠،٠٠٠ فدان من الغابات. ونجحت هذه الحملات في حشد سكان المجتمع المحلي والمدارس للانضمام إلى مشروع الإصلاح. وهناك أمثلة أخرى لحملات ناجحة مثل أوثاي في تايلاند، وحبيبة في سيناء بمصر، وفيرسولي في أجات بفرنسا، جميعها أمثلة حية على تطبيق مبادئ الزراعة المستدامة ضمن مشاريعٍ إصلاحية تعود منفعتها على الأرض والاستدامة الاقتصادية المحلية. (24)

إحدى الفرضيات الآتية من مشروع الزراعة المستدامة هي: أن الأنظمة البيئية المحلية قادرة على توفير الاحتياجات للكائنات الحية، والذي يكون مؤلف منهم ومعتمد عليهم. لكن هذا بعيد جدًا عن كيفية عمل الأنظمة الزراعية العالمية في الوقت الحاضر.

إن العملية التي تجلب لنا الطعام من المزارع إلى البيوت تسير على النحو التالي: تطهير الحياة البرية أحيائيًا، تحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى مزارع زراعة الكفاف التي تختص في زراعة مساحات محددة لعدد قليل من المحاصيل الزراعية أو الحيوانية، وتختار هذه المساحات بناءً على مقاومتها للأمراض ومبيدات الحشرات السامة. كانت دول ما بعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية، وجزر الكاريبي، وأفريقيا أسندت محاصيلها الزراعية بناء على الرؤية الأوربية التي تعتمد على سلسلة إمدادات واحدة عالمية (وهي ما نطلق عليه مصطلح اقتصاد الزراعة النقدية أو مختلف جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية). هذه الدول التي تعيش من خلال اقتصاد الزراعة النقدية أكثر عرضة للدمار والمجاعات، لأنها معرضة لتقلبات العرض والطلب العالمي، بالإضافة إلى مواسم الحصاد السيئة. تصبح الأنواع التي تختار بصورة حصرية -أي الانواع المفضلة من الثروة الحيوانية- ضعيفة المناعة بمرور الزمن بسبب أنه لم يعد هناك أي تهجين طبيعي الذي يحافظ على قوة الموارد الوراثية. وهذه الثروة الحيوانية عرضه للأوبئة، ما قد يؤدي إلى القضاء على إمدادات الملايين، ولهذا السبب يفرط المزارعون في الرعاية الطبية لحيواناتهم الداجنة، وكل هذا يدخل إلي أجسادنا، بل وحتى إلى أجساد الرضع من خلال حليب الأم.

يتحمل نظام إنتاج الطعام العالمي تكاليف كسب الرزق والمعيشة، وكذلك التكاليف الفسيولوجية والبيئية. وعلى الصعيد العالمي يتقاضى عمال المزارع أجورًا ضئيلة مقابل كل ساعة عمل في إنتاج إمدادات الأغذية للعالم. ومثال على هذا في مجموعات معينة من المزارعين في المكسيك يكسبون حوالي أكثر بمرتين أو ثلاث من الحد الأدنى للأجور، حيث يجنون ٩ دولار في اليوم.(25)

كذلك المزارعون الأمريكيون لا يتقاضون أجورًا أفضل من نظائرهم في بقية العالم، كما أنهم في تناقص مطرد. تعمل منظومة الأعمال التجارية الزراعية العالمية في الوقت الحالي على إجبار الأغلبية الساحقة من المزارعين في شتى أنحاء العالم على الوصول إلى مرحلة فقر وجوع شديدين، ما يجعلهم على شفا حفرة من الموت.(26) كما أفادت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها أن معدل الانتحار بين جموع المزارعين أكثر منه في أي مهنة أخرى. (27)

بالإضافة إلى ارتفاع معدل الانتحار بين مزارعي الألبان الأمريكيين فإن معدل انتحار المزارعين عالميًا أخذ يزداد بدرجة كبيرة. نشر معهد الصحة العامة في فرنسا أبحاث في عام ٢٠١٦ والتي أوضحت التالي (أقدم ٩٨٥ مزارع على الانتحار بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١١- ما يدل على أن معدل الانتحار بين المزارعين أعلى بنسبة ٢٢٪ عن معدل الانتحار بين عامة الشعب).(28) في الهند حيث يعمل ٤٩٪ من السكان في إنتاج الأطعمة الزراعية، أقدم أكثر من ٢٩٠٠٠٠ مزارع على الانتحار منذ ١٩٩٥ وحتى عام ٢٠١٤.(29) حتى أن أستراليا تعاني من هذه الظاهرة بالرغم من قضية نموذج العولمة وسلة الخبز العالمية. وجدت الدراسات في كوينزلاند (المزارعون عرضة أكثر بمرتين من عامة السكان على قتل أنفسهم). وفي المناطق النائية من الولاية، ارتفع معدل الانتحار للمزارعين بنحو خمس مرات أكثر من معدل انتحار غير المزارعين.(30) أدت السياسة العنصرية للأعمال التجارية الزراعية إلى صحراء الطعام في المراكز الحضرية، حيث تكون الأطعمة الصحية والطازجة بكل بساطة غير متوفرة لسكان المدن من الطبقة العاملة.(31)

يتبع هذا المسار الموحش المنطق الأوسع للتراكم الرأسمالي والاحتكار الذي يحكم التجارة الدولية؛ فقد انخفضت تكاليف النقل (بفضل الحرب ضد البلدان الغنية بالنفط، يليها ما يسميه ديفيد هارفي بالتراكم من خلال نزع الملكية)(32)، وحُرِّرت التجارة الزراعية، وهو ما يعني الانفتاح بقوة على “أسواق حرة عالمية”؛ لكن الواقع هو أن مجموعة واحدة من المبادلات هي التي تتمتع بحماية كاملة من القوة العسكرية للدولة وآليات تنظيم السوق، وأما سائر المجموعات الأخرى من المبادلات ليس لديها أي ضمان أو رأي في شروط التبادل التجاري على الإطلاق.

وعلى سبيل المثال فور انهيار الإدارات الاستعمارية السياسية، كانت قوى الاستعمار تقرض المال (بشروط) لذات الدول التي استعمرتها. بالرجوع إلى العائدات المالية التي تمتعت بها القوى الاستعمارية في مخرجهم الشريف نحو رفاهية استعمارية(33) يذكر هنا العالم السياسي كروفورد يونغ ( كان جوهر السياسة الاستعمارية هو غرس بذر فساد هشة للنظام الدستوري داخل الجذع القوي للاستبداد الاستعماري). وهذا هو السبب خلف أن كثير من الأدبيات تفضل مصطلح الاستعمار الحديث على ما بعد الاستعمار، لأن المصطلح الأول يعني مجرد التغيير في شكل الاستغلال والسلب، بينما المصطلح الآخر يعني نهاية الاستعمار. تشبه كثيرًا برامج التكيف الهيكلي سيئة السمعة التي تطلب قروض من صندوق النقد الدولي، فالقروض من القوى الاستعمارية سابقة تخلق حالات ديون لا يمكن تسديدها: حالات مالية جزائية وانتقامية يسميها البعض برأسمالية انتقامية.(34) ولا تتضمن«السوق الحرة» عقودًا تتسم بالمساواة إنما عقود استعبادية. (35)

بينما يعتقد البعض أن التكنولوجيا الحديثة والمحسنة والعولمة هي أشياء مفيدة بالضرورة، إلا أنه على أرض الواقع هذه الأدوات تعود فائدتها للأثرياء على حساب الفقراء. إمداد المزارع بالآلات والمحركات مكلف جدًا ولا يمكن تحقيقه على نطاق عالمي، كذلك يتسبب في انتشار البطالة ما يجعل الأشخاص غير قادرين على إعالة أنفسهم وعوائلهم ومجتمعاتهم وأممهم.(36) يتنافس الفلاحون أصحاب المزارع غير المجهزة بالكامل مع سلع أجنبية، مثل: الموز والخس والجزر واللحوم والحليب التي تأتي من ١٠٪ من مزارع صناعية ناجحة ومجهزة بالآلات، أقل ما يجعلها قادرة على تحمل عرض منتجاتها بأرخص الأسعار، ما أدى إلى سقوط المزارعين واحدًا تلو الآخر.

نذكر أنه خلال فترة النضوج للأوقاف في التاريخ الإسلامي تغيرت الخدمات التي تقدمها الأوقاف بحسب تغير احتياجات المجتمع. واليوم أصبحت احتياجاتنا مرتبطة بشدة مع نظام الاقتصاد العالمي. إن نظام الرأسمالية هو قوة تمص دماء العمال المزارعين بطريقة وصفها الصحفي ثوم هارتمان بالكلمة الألغونكوية: (ويتيكو) وتعني كلمة (ويتيكو) مرض عدم الاهتمام بالآخرين، والتي استخدمها هارتمان ليصف طريقتنا الحديثة في إثارة الحروب وأسلوب الحياة الاستهلاكية الذي نعيشه.(37) ولإضافة طابع واقعي على الموضوع يكون السؤال كالتالي: كيف يمكن للإسلام حث المسلمين على مواجهة وعرقلة الدمار الذي خلفته الرأسمالية العالمية؟ وتحديدًا، كيف يمكننا إحياء الوقف لمعالجة الدمار المميت الذي ألحقته الرأسمالية بالعمال المزارعين في العالم؟

إن الاستثمار في تصميم الزراعة المستدامة قد يخلق عددًا من الحلول العملية لأزمة الزراعة العالمية. ويتضمن بيان الأخلاقيات للزراعة المستدامة الأحكام التالية:

  • عدم الإخلال بالغابات الطبيعية
  • إصلاح فعال للأنظمة المهدرة
  • تقليل استخدام الأراضي للزراعة ضمن النظم الصناعية
  • إنشاء محميات لأنواع النباتات والحيوانات المهددة بالانقراض
  • إنشاء نظمنا غير المجتاحة والتي ترتكز على هذه المبادئ الأخلاقية

تقوم أنظمة الزراعة المحلية على المبادئ التالية: توطين إنتاج الأطعمة والعمل الزراعي، مقاومة سيطرة الشركات الكبرى على إمدادات الأطعمة والاستثمار في المجتمعات التي تتسم بقدر عالي من المسؤولية تجاه معيشتنا وتغذيتنا، إعادة الأراضي الزراعية إلى طبيعتها البرية ليساعد في زيادة التنوع البيئي، عمل نظام بيئي صحي وتربة مرنة، قطع سلسلة الإمداد العالمية التي نجحت في إفقار معظم العمال المزارعين في العالم. قدم نجاح حملات الإصلاح للنظام البيئي (المذكورة أعلاه) والحدائق المجتمعية صغيرة الحجم وكذلك المشاريع التعاونية للأطعمة المحلية، أدلة تثبت إمكانية العمل خارج نطاق سلسلة الإمدادات العالمية. كما أنها توفر مواضع فعالة لربط البنية التحتية للأوقاف المحلية، الأوقاف التي تطرح البركة في الأرزاق بينما تعالج مشكلة تاريخية حقيقية. كما أقر موليسون وآخرين بأن المشكلة ليست في الافتقار للبدائل الإبداعية لنظام الإنتاج الزراعي الحالي، إنما المشكلة في الافتقار لنظام سياسي يضع هذه البدائل قيد التنفيذ.(38)

إحياء الأوقاف وتقليص فجوة التمييز العنصري في الثراء

من الأمثلة الأخرى على الفقر الهيكلي في عالمنا، والذي اقترحت أنه قد يكون مجالًا لإحياء الأوقاف اليوم هو: التمييز العنصري في الثراء في الولايات المتحدة. على مدى ثلاثة عقود زادت التباينات العنصرية في الثراء. بعد التصحيح لوضع التضخم وجدنا أن بين عامي ١٩٨٣ و٢٠١٦ زاد متوسط ثروة العوائل البيض من ١١٠٠٠٠ دولار إلى ١٤٧٠٠٠ دولار، أما العوائل السود انخفض متوسط ثروتهم إلى النصف من ٧٠٠٠ دولار إلى ٣٥٠٠ دولار، بينما العوائل اللاتينية زادت ثروتهم قليلًا من ٤٠٠٠ دولار إلى٦٥٠٠ دولار.(39)

صنعت هذه الفجوة في الثروات فجوات أخرى وزادت منها، من بينها الفجوة في التحصيل الدراسي وذلك من خلال الفروقات بين مستويات التحصيل التعليمي للمجموعتين، ويشمل ذلك أداء الاختبارات المعيارية خلال المجوعة، أيضًا هناك الفجوة في الحراك الاقتصادي والتي تتمثل في الفجوة في معايير المعيشة والتباين في الرعاية الصحية.

إن المنظمة الإسلامية لمكافحة العنصرية (ARC) هي مثال جيد على عمل المسلمين من خلال البحث والدراسة والمشاركات المجتمعية لمكافحة العنصرية المؤسسية. هناك أيضًا منظمة أخرى تعمل على إصلاح وتجديد الإيمان والتعليم والوحدة والعائلة والمشاركة الوطنية والتمكين الاقتصادي، وهي منظمة إصلاح لوس أنجلوس الواقعة في جنوب لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا. يمكن أن تعمل آلية الأوقاف تحديدًا في استهداف الفجوة العنصرية في الثراء من خلال تمويل المراكز الاجتماعية والمعاهد الفنية والمراكز الفكرية ووسائل الإعلام ومعاهد الدعوة من أجل تضييق هذه الفجوة. وعلاوة على هذا يمكن للمسلمين إيجاد توصيات فعلية لإنشاء أوقاف محددة الأهداف في منظمة الائتلاف الوطني لإعادة الاستثمار في المجتمع، وهو معهد للدراسات السياسية وانعدام المساواة الواقع في جامعة ولاية أوهايو. أصدرت نطاق المستوى الأعلى Org)) تقريرًا مشتركًا، عنوانه:«عشرة حلول لتقليص الفجوة العنصرية في الثراء» قدم التقرير توصيات سياسية عامة بمستوى فيدرالي، وبعض من هذه التوصيات يمكن أن تكون مخطط لإنشاء برامج أوقاف خاصة. على سبيل المثال لما سبق، يمكننا إنشاء سندات للأطفال وهي حسابات مدارة توضع منذ ولادة الطفل بحسب المستوى المادي لعائلة الطفل، كل سنة فيما بعد يضاف المال إلى هذا الحساب مرة بعد مرة بما يتناسب عكسيًا مع مستوى فقر الطفل، حينما يبلغ الطفل سن البلوغ يمكنه استخدام هذه السندات المالية في التعليم أو شراء منزل أو حتى إنشاء مشروع تجاري. ونحن نأمل في البدء بمعالجة الأضرار الناجمة عن الميزات الوراثية المبنية على تمييز عرقي ظالم، الذي ساهم في تقليل تطور الفرص لعوائل السود واللاتينيين. وأظهرت الدراسات الأخيرة التي أجراها مركز الفقر والسياسة الاجتماعية في جامعة كولومبيا أن: السندات المالية للطفل يمكنها تقليل الفجوة العنصرية في الثراء بحوالي عشر مرات.(40)

يمكن لضمان فرص العمل أن تكون موضعًا آخر للوقف. أظهرت الدراسات أن زيادة مشاركات القوى العاملة ليست كافيه لانتشال العوائل من الفقر، معظم أسر الطبقة العاملة والتي أطلق عليهم مكتب إحصاءات العمل اسم (العاملين الفقراء) وهم الذين يعملون في وظائف متعددة بشكل متزامن طيلة حياتهم، ومع ذلك لا يمكنهم توفير ثروة لأبنائهم، لهذا نحن بحاجة فرص عمل جيدة تدفع أجور معيشية جيدة لكل هؤلاء القادرين على العمل، تأخذ ضمان فرص العمل نوعًا محددًا حسب المستوى الفيدرالي، بينما في القطاع الخاص تكون بمستوى الأوقاف، يمكن للمسلمين إنشاء بنوك للتوظيف – وهي لائحة الوظائف الضرورية – ويوظفون من خلالها العمالة السود واللاتينيين من ذوي الدخل المحدود وظائف تكون بالحد الأدنى للأجور وهو ما يقدر بحوالي ٢٤٦٠٠ دولار سنويًا لدوام كامل مع مجموعة من المزايا الموحدة. بعد التكيف مع التضخم الاقتصادي لم تستطع الأجور ذات الحد الأدنى المواكبة، بل فشلت وسقطت منذ عام ١٩٦٨.(41)

وبالنسبة للعديد من الأمريكيين يكاد يكون مستحيلًا العيش بالحد للأجور اليوم، لذلك فإن تأسيس ضمانات لفرص العمل يمكنه أن يكون بداية لمعالجة هذه المشكلة.

موضع من مواضع الوقف المحتملة هو الإسكان الميسور التكلفة.

بالكاد يستطيع الفرد أن يجد أماكن للسكن في الولايات المتحدة حيث يمكن للعامل بالحد الأدنى للأجور الفيدرالية الذي يكسب (٧.٢٥) دولار للساعة يمكنه تحمل إيجار شقة بغرفتي نوم. لهذا السبب وضعت عددًا من الولايات حدًا للأجور بمعدل أعلى من الحد الأدنى للأجور الفيدرالية من أجل تحسين تحقيق المتطلبات المعيشة. ويمكن للمسلمين التبرع بثقة من خلال أمثال الصندوق الائتماني للإسكان الذي اقترحت إنشاءه سناتور اليزابيث وارن، وهذه الثقة ستوفر بيوتًا للأسر ذوي الدخل المحدود، وتساعد في دفع العربون لأولئك الذين يشترون بيتًا للمرة الأول. وأيضًا ستساعد هذه الثقة العوائل التي تواجه تهديد بخسارة منازلهم بسبب تجديد الأحياء القديمة، وقد كذلك تكون موضع مناصرة لتغيير حوافز الضريبة الحالية التي يحصل عليها الأغنياء ذوي الامتيازات، ممن يمتلكون منازلًا أكثر من المستأجرين ومن يشترون بيوتًا للمرة الأولى.

العيادات الطبية المجانية يمكنها أن تكون موضعًا للوقف التي تساعد في تقليل الفجوة العنصرية في الثراء. ويمكننا القول بأن المجتمع الأمريكي المسلم محظوظ بكثرة الأطباء منهم. لو تبرع الأثرياء وأصحاب الأملاك من المسلمين بإنشاء عيادات وتوظيف أطباء فيها في أحياء مناطق ذوي الدخل المحدود، ولو أعطى كل دكتور مسلم من وقته يوم أسبوعًا أو شهرًا للمعاينة والمعالجة المجانية، سيكون لهذا تأثير كبير على السلامة والصحة العامة واستقرار الاقتصاد للمجتمعات المحلية ذات الدخل المحدود من المسلمين وغير المسلمين. يقع عشرات الأمريكيين في براثن الفقر كل سنة بسبب فواتير المستشفيات؛ لذلك يمكن للوقف من خلال إنشاءه عيادات مجانية أن يحد من هذه الظاهرة. من برامج الوقف المقترحة وسهلة التنفيذ هو قروض بدون فوائد وصرف الشيكات بدون رسوم، قد يساعد ذلك في تصحيح التوزيع العنصري للامتيازات الموروثة في الولايات المتحدة.

الخاتمة

قال الرسول صلى عليه وسلم: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ويعني أن: اليد التي تعطي خير من اليد التي تأخذه، واستنادًا على هذا الحديث اقترح عبيدالله إيفانز: (ينبغي على المجتمعات الأفريقية الأمريكية المسلمة وحلفاؤها عمل دورات تعاونية لوضع تفاصيل آليات العمل من أجل أن تكون هذه المجتمعات بمثابة اليد العليا وتنعم بالأجر العظيم المذكور في الحديث).(42) وعلاوة على إحياء الوقف ليكون بمثابة ألية محورية لتوحيد الأسس الروحية للمجتمع المسلم من خلال العطاء والتبرعات بما يتوافق مع الضروريات الحقيقية للرعاية الاجتماعية، إن مثل هذه التدابير يمكن أن تكون إحياءً للسنة المهجورة، إن الشراكات الاقتصادية بين المجتمعات الأمريكية المسلمة من خلال تمويل الأوقاف يمكن أن يشابه إحياء نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى فوارق بين صحابته في موارد الحياة الأساسية والاستقرار، ومع تنوعنا العرقي في المجتمع المسلم في الولايات المتحدة لابد أننا نفتقد هذا النوع من العلاقات، ماذا سيحدث للفجوة العنصرية في الثراء في أمريكا لو أن كل عائلة مهاجرة ارتبطت مع أسرة محلية من بين الأمريكيين الأفارقة والأمريكيين اللاتينيين ومجتمعات الأمريكيين الأصليين، ومع زيادة في الحقوق والاهتمامات المتبادلة؟ ثم إن الأوقاف ليست مقتصرة على إفادة المسلمين فقط، لذا من البديهي أن تساعد مواضع الأوقاف المقترحة أيضًا في تكريم وتقدم هؤلاء الأشخاص من غير المسلمين الذين ينتمون لأعراق مختلفة في الولايات المتحدة.

هناك عدد لا حصر له من النقاط المتداخلة التي يمكن للمسلمين أن يحددوا بها الأسباب الهيكلية للفقر وتطوير مؤسسات الأوقاف من أجل معالجة هذه الأسباب، ومثالًا لذلك محميات الحيوانات التي توفرت من خلال تبرعات الأوقاف في تاريخ الإسلام، كيف يعالج إحياء الأوقاف اليوم الكوارث البيئية بما فيها استنفاذ مصادر المياه العذبة وانقراض الكائنات؟ ستكون الإمكانيات لا نهاية لها في حال طبقنا، ما يسميه جون بول ليدراك بالتصورات الأخلاقية (وهي الهبة الفريدة لجنسنا البشري لكننا لم نفهمها ونعبأ بها إلا في حالات نادرة، وهذا وحده يمكنه توجيهنا نحو أفق إنساني أكثر وبتأثير إيجابي على المصلحة الأساسية للمجتمع البشري).(43) لهذا يجدر بنا الإسراع في توضيح معوقات الزمن والتخلي عن حضارة الثراء للأوقاف، وخلال ذلك نطبق تصوراتنا الأخلاقية لحل الأسباب الهيكلية المحددة للفقر في عالمنا اليوم، وفي نهاية الأمر إن الحل هو في الموروث الإسلامي مؤسسة الأوقاف.

هذا والله أعلم.


  • د. زارا خان: حاصلة على الدكتوراة من جامعة المدينة في نيويورك، وهي باحثة في العلوم السياسية والعدالة الاجتماعية.

الهوامش

  1. انظر مقالة خليل عبد الرشيد “مويل الأعمال الخيرية في المجتمع” الارتفاع والانخفاض في تكاليف مؤسسات الأوقاف الخيرية الإسلامية” يقين، ٩ يناير ٢٠٢٠. https://yaqeeninstitute.org/khalil-abdurrashid/financing-kindness-as-a-society-the-rise-fall-of-islamic-philanthropic-institutions-waqfs/
  2. عبد الرشيد
  3. تيمور كوران ” الخدمات العامة المقدمة بموجب الشريعة الإسلامية: أصل وتأثير القيود المفروضة على نظام الأوقاف” مراجع القانون والمجتمع ٣٥، رقم ٤، (٢٠٠١) ١٨-٨٤١
  4. عبد الرشيد
  5. كوران “تقديم الخدمات العامة” ٨٤٩.
  6. كوران، ٨٥٠.
  7. نوربرت أوبيروير “الجمعيات الخيرية الجيدة جداً: تتحول نشاطاتها الخيرية إلى اوقاف خلال الاستعمار في زنجبار” النظام القانون الإسلامي والمجتمع ١٥، رقم ٣ (٢٠٠٨) ٧٠-٣١٥
  8. تشاو جونسن كيلي ” أوقاف آشا بنت عوض: الصمود الإسلامي في مكينداني تنجانيقا بالرغم من الاستعمار” المجلة العالمية للدراسات التاريخية الأفريقية ٤٧، رقم ١، (٢٠١٤) ٢٠-١.
  9. وران “تقديم الخدمات العامة” ٨٤٩.
  10. جمعت من مصادر مختلفة في القرآن.
  11. أنا ممتن لألطاف حسين من جامعة هوارد ومعهد يقين للبحوث الإسلامية لمساهمتها في فهمي للأعمال الخيرية الإسلامية اليوم.
  12. رودتي ويلسون، الإسلام والسياسة الاقتصادية: مقدمة (ادنبره: مطبعة جامعة ادنبره ٢٠١٥)
  13. ويلسون.
  14. جوني بي والترمان وشيرين هنتر” فكرة الأعمال في المنهج الإسلامي” (واشنطن العاصمة: مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ٢٠٠٤).
  15. بارنت إلف. بارون، “كان لتوجيهات وزارة المالية تأثير ضئيل على مجمل الأعمال الخيرية الدولية في الولايات المتحدة، لكن تأثيرهم الأكبر كان على الجمعيات الخيرية الإسلامية مراجعpace law ٢٥، رقم ٢ (٢٠٠٥): ٢٠- ٣٠٧.
  16. فائقة محمود، الأعمال الخيرية الإسلامية الأمريكية: الملف المقارن استناداً للبيانات، معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم يوليو ٢٠١٩.
  17. محمود، ٨.
  18. بول سبيكر، فقر الأمم: المنظور المترابط (بريستول: مطبعة جامعة بريستول، ٢٠٢٠).
  19. فرانسيس فوكس بايفن؛ السياسات المرتبطة بالفقر. فكتوريا لوسون سارة إلوود (أثينا – مطبعة جامعة جورجيا، ٢٠١٨) التاسع.
  20. مارسيل هازوير ولورنس رودارت، تاريخ العالم الزراعي؛ من العصر الحجري الحديث إلى الأزمة الحالية العابرة. جيمس ميمرز (نيويورك، مطبعة المراجع الدورية الشهرية، ٢٠٠٦)
  21. ديدريك أشانتي محمد وتشاك كولينز، ” الفجوة العنصرية في الثراء في أمريكا ليست شيء صادم” كلمات أخرى ١٥ أغسطس ٢٠١٦. https://otherwords.org/americas-racial-wealth-divide-is-nothing-short-of-shocking/
  22. بريندان أوفلاهوتي، العنصرية في الاقتصاديات في الولايات المتحدة (كامبردج: مطبعة جامعة هارفارد ٢٠١٥) ٤٠٢-٣٩٩
  23. بيل موليسون، الزراعة المستدامة، دليل المصمم (تيالجوم، نيو ساوث ويلز، منشورات تاجراي ١٩٨٨). نيو ساوث ويلز.
  24. انظر https://ecosystemrestorationcamps.org/
  25. انظر أغوستين إكوبار لاتابي وفيليب مارتن وعمر ستابريديس، ” العمل الزراعي ومجال انتاج الصادرات في المكسيك”. مركز ولسون الدولي للعلماء ٢٠١٩. https://www.wilsoncenter.org/publication/farm-labor-and-mexicos-export-produce-industry
  26. مازوير ورودارت؛ تاريخ العالم الزراعي، ١٥-١٠.
  27. توفيا سميث “مع انخفاض سعر الحليب هناك مخاوف حول زيادة الانتحار بين مزارعين الألبان.” كل الأمور تؤخذ بعين الاعتبار، الراديو الوطني العام، ٢٧ فبراير ٢٠١٨. https://www.npr.org/2018/02/27/586586267/as-milk-prices-decline-worries-about-dairy-farmer-suicides-rise
  28. باميلا روجيري، “ادعاءات حول تفشي الانتحار بين المزارعين الفرنسيين” نيويورك تايمز ٢٠ أغسطس ٢٠١٧، https://www.nytimes.com/2017/08/20/world/europe/france-farm-suicide.html
  29. إلين باري، ” في الهند حينما يقدم المزارعون على الانتحار يتورط الأهالي بالديون” نيويورك تايمز ٢٢ فبراير ٢٠١٤، https://www.nytimes.com/2014/02/23/world/asia/after-farmers-commit-suicide-debts-fall-on-families-in-india.html
  30. جاكلين وليامز” انتعاش الاقتصاد والمقابل مأساة” نيويورك تايمز، ٢٠ مايو ٢٠١٨،https://www.nytimes.com/2018/05/20/world/australia/rural-suicides-farmers-globalization.html
  31. انظر ايلين بيفيك، يبني حياة: يحصد المراهق البستاني الطعام والصحة والبهجة (نيويورك: مطبعة جامعة نيويورك، ٢٠١٦) ٣٧-٢٢٥؛ آماندا ويلان ونيل ريجلي ودانييل وارم وإليزابيث كانينجس “الحياة هي اشتهاء الطعام” الدراسات الحضرية ٣٩، رقم ١١، (أكتوبر ٢٠٢٠) ٢١٠-٢٠٨٣
  32. ديفيد هارفي، “الإمبريالية الجديدة: التكدس عن طريق التجريد” السجل الاشتراكي، ٢٠٠٤، ٦٣-٨٧.
  33. كروفورد يونغ، الدولة الأفريقية المستعمرة من خلال منور مقارن (نيوهافن، كونيتيكت: مطبعة جامعة ييل، ١٩٩٤) ٢٠١٧
  34. ماكس هيفن، انتصار الرأسمالية: أشباح الإمبراطورية وتسوية الديون غير مستحقة الدفع (لندن: مطبعة بلوتو، ٢٠٢٠) ٥١- ٤٨.
  35. على سبيل المثال، اندرو روس “السيد ريقاي دي جي، اجتماع صندوق النقد الدولي” في ريل لوف: السعي إلى تحقيق العدالة الثقافية (نيويورك، مطبعة جامعة نيويورك، ١٩٩٨)، ٦٩-٣٥؛ الحياة والديون، أخرجها ستيفاني بلاك وكتبها جامايكا كينكيد، ٢٠٠١.
  36. مازيور ورودارت، تاريخ العالم الزراعي،١٥.
  37. توم هارتمان “الاحتفال بيوم كولومبس” أعد التفكير مرة أخرى Common Dreams، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٤، https://www.commondreams.org/views04/1011-27.htm
  38. يقول موليسون: “الاختلاف الحقيقي بين النظام البيئي المصمم، والنظام الطبيعي هو أن الغالبية العظمى من الأنواع (والكتلة الحيوية) في البيئة المزروعة مخصصة لاستخدام البشر أو ماشيتهم. نحن مجرد جزء صغير من مجموع الأنواع البدائية أو الطبيعية، ولا يتوفر لنا بشكل مباشر سوى جزء صغير من محاصيلها…هذا هدف صالح لتصميم المستوطنات، لكننا نحتاج أيضًا إلى أخلاقيات تتمحور حول الطبيعة للحفاظ على الحياة البرية. ومع ذلك، لا يمكننا أن نفعل الكثير من أجل الطبيعة إذا لم نحكم جشعنا، وإذا لم نوفر احتياجاتنا من مستوطناتنا الحالية. إذا تمكنا من تحقيق هذا الهدف، فيمكننا الانسحاب من الكثير من المناظر الطبيعية الزراعية، والسماح للأنظمة الطبيعية بالازدهار”. Mollison, Permaculture, 7.
  39. تشاك كولينز وداريك هاميلتون وديريك أشانتي محمد وجوش هوكسي ” عشرة حلول للتقليل من الفجوة العنصرية في اثراء” معهد دراسات السياسات العامة ابريل ٢٠١٩، https://ips-dc.org/report-racial-wealth-divide-solutions/
  40. كولينز وهاميلتون وأشانتي محمد وهوكسي.
  41. كولينز وهاميلتون وأشانتي محمد وهوكسي.
  42. عبيد الله ايفانز “اليد التي تعطي خير من اليد التي تأخذ: الإسلام عند الأمريكان السود، البشرى ببركة الرزق عند أداء زكاة المال” ندوة الأعمال الخيرية الإسلامية والمجتمع المدني، مدرسة عائلة ليلي للأعمال الخيرية، جامعة انديانا، ٤-٥ نوفمبر ٢٠١٩.
  43. جون بول ليدراك، التصورات الأخلاقية: فن وروح صناعة السلام (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠٠٥) ٢٣، إنني ممتن بشكل خاص لسكوت سي ألكسندر من الاتحاد اللاهوتي الكاثوليكي، الذي علق، في معرض تأمله لمسودة سابقة لهذه الورقة المقدمة في ندوة العمل الخيري الإسلامي والمجتمع المدني، على أن الاقتراحات الحالية لتنشيط الوقف هي عمل ما يسميه ليدراخ بالخيال الأخلاقي.
المصدر
yaqeeninstitute

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى