- ميشيل بيرو
- ترجمة: جميلة السواح
ما العلاقات التي تجمع النسوية بتاريخ المرأة والعكس؟
من المناسب أن نستحضر في المقام الأول ثنائية المعنى في كلمة “تاريخ”، والذي ميزه الإنجليز بنحو أفضل منا (نحن الفرنسيين): الحدث (story)، وما نسرده عنه (history) وهذا المعنى الأخير هوما يُحتفظ به هنا: السرد؛ أي نتاجَ اختيارٍ و نظرٍ مستنير إلى حد كبير بالحاض. لطالما كانت النساء جزءًا من الحدث، لكن لم يكنّ بالضرورة جزءا من سرده.
هل نوجد خارج السرد، أو الأسرة أو الجماعة؟ وما الوجود الافتراضي الذي لم يُسرد قط أو المنسي تمامًا؟ من هنا، لعبت النسوية دورًا حاسمًا؛ أحدثت للمرأة وجودا في السرد التاريخي، أحدث لها وجودا في التاريخ.
النسوية أو الصمت المكسور
يلف صمت عميق الوجودَ الاجتماعي للمرأة، وليس ذلك سهوا بقدر ما هو نمط تصوري للسرد التاريخي الذي يرتبط ابتداء بالحروب والمماليك والحكومات والوقائع؛ أي بالفضاء العام الذي يكون فيه الرجال فاعلين مرئيين، وهو المادةُ السردية للمؤرخين الأوائل؛ اليونان أواللاتين (هيرودوت Hérodote، ثوسيديدس Thucydide، تاسيتوس Tacite، إلخ.) والمفتاحُ لمفهوم “الرجال العظماء” (راجع De viris illustribus Romae) الذي أورثته العصور القديمة لجمهوريتنا، وكانت مقبرةُ العظماء وريثَه والشاهد عليه: ” أمة ممتنة للرجال العظماء “.
ساد هذا المفهوم العام للتاريخ فترة طويلة غير عابئ كثيرا بسؤال الخصوصية أو المعيش اليومي أو النساء، وهو ما يذكرنا بملاحظة الشاب ليفي ستراوس، وهو يلج قرية هندية مهجورة زمنَ المطاردة: “لم يبق أحد عدا النساء والأطفال”.
التاريخ الأكاديمي للقرن التاسع عشر (جوزيت F. Guizot، ميشليه J.Michelet وسينوبوس C. Seignobos؛ الأستاذُ الكبير للمذهب الوضعي positivisme في جامعة السوربون) هو تاريخٌ عام في المقام الأول، وتعارضُ مدرسة الحوليات (مارك بلوخ Marc Bloch ولوسيان فيبر Lucien Febvre…) هذا البناء السياسي المحض وتستبدله بتساؤلات جديدة أكثر انفتاحًا على الثقافة، وابتكارًا في منظوراتها ولغتها؛ يدرس مارك بلوخ الشخصيات الأصلية لتاريخ الريف الفرنسي. بينما يخصص لوسيان فيفر كتابًا لرابليه Rabelais وآخر لمارجريت دي نافار Marguerite de Navarre، ومع ذلك، فإن هذه المدرسة التي يهيمن عليها ماهو اقتصادي واجتماعي (لابروس Labrousse، بروديل Braudel)، لا تهتم كثيرا بالعلاقات بين الجنسين والجنسانية؛ أي بالتساؤلات التي باختصار لا تطرح.
طالما تحدثنا وبطرق شتى عن النساء؛ إما في الشعر الذي يحتفي بهن، أو في الخطاب المعياري الذي يعيد صياغة مفهوم المرأة؛ ماهيتَه وما يجب أن تكونه. أو في العروض بشتى أنواعها وفي الفن؛ خاصة الذي يسلط الضوء على جسد المرأة وجمالها وشعرها وعريها على وجه الحصر، وبنحو يصير معه الحديث عن معرض (Orsay، 2013) لرجال عراة يثير الدهشة. تطغى الصور الأنثوية على المشهد؛ وتغزو رموزها البيئة الحضرية.
تعبُر نساء حقيقيات المسرح؛ نساء “استثنائيات”، قديسات، يصلحن نماذج للفضيلة، ملكات لا يُنسين وبطلات مثل جان دارك العذراء والمحاربة في نفس الوقت، والمحظيات والنساء الشجاعات اللواتي يفتنُ حسنهن الخيال؛ ومؤرخات قديمات، رسمن ولفترة طويلة صورا لنساء مثاليات ومرموقات.
أظهرت نيكول بلغرين[1] دور هؤلاء المؤرخات الأوائل واللاتي غالبا ما ارتبط وجودهن بالكنيسة، وعَمِلن وفق مقتضيات عصرهن وبرغبة كبيرة في كسر الصمت. من خلالهن، شَقَّـت نساء فُرادى طريقهن في صمتِ العالم الناطق.
لكن ظهور النساء في السرد التاريخي مرتبط بالنسوية، إذ أبدت النسويات تظهر اهتماما حقيقيا في الحفاظ على آثارهن إدراكا منهن للدور الذي لعبنه فيما يسمى بـ”الموجة الأولى” (في تسعينيات القرن الماضي). حين توفيت ماري لويز بوغليه، مخلفةً أرشيفا لكل ما أنتجته النسويات، من كتب وتقاير لمؤتمرات ومنشورات وغيره. أراد زوجها إيداع هذه الملفات في مكان عام، رحبت بإداع تلك الملفات المكتبةُ التي تحمل اسم معاصرتها مارجريت دوراند -صاحبة جريدة La Fronde، التي تأسست في ثلاثينيات القرن الماضي (بدار البلدية، الدائرة الخامسة، باريس)، والتي لا تزال إلى الآن المكتبةَ النسوية الوحيدة في فرنسا- وقامت بحفظها طيلةَ الحرب العالمية الثانية. تَم نقْل المجموعة إلى المكتبة التاريخية لمدينة باريس (bhvp) عقب الحربين وبقيت دون تصنيف الى أن قام (Maïté Albistur) عام 1975 بتصنيفها وإتاحتها لمن يرغب في الرجوع إليها، ومنذ ذلك الحين وهاته الملفات تُطَعِّمُ وتُغْني عددا من الأطروحات حول النسوية.
من جهة التدوين بدت الأمور أكثر ترددا ما بين الحربين الأولى والثانية، واهتم مؤرخو الاشتراكية بنساء الثورة أمثال فلورا تريستان flora Tristan، جول بويش Jules Puech و مارغريت ثيبرت Marguerite Thibert وخصصوا لهن أولى أطروحاتهم.
كان من الطبيعي بعد التحرر أن نتوقع استطلاعًا أكثر حيوية للإسهام الأنثوي؛ فكتبت إديث توماس -الشخصية الرائعة، والمقاومة الفذة- السير الذاتية لـبولين رولاند ولويز ميشيل ونساءِ عام 1848 واللاتي أسبغت عليهن صفاتُها الميثاقية البارزة أثرا نسبيا. ( الميثاقية نسبة إلى الحركة العمالية الإنجليزية التي وضعت ميثاق الشعب).
و في عام 1949 افتتحت سيمون دي بوفوار كتابها الجنس الآخر[2] بقسم أول بعنوان “التاريخ”، وهو عبارة عن تجميع لبحوث متفرقة تم انتقاؤها من ملفات المكتبة الوطنية. وكانت النتيجة مخيبة جدا للآمال.
لا، بالتأكيد لم يكن للمرأة تاريخ، لكن السبب أنهن أيضا لم يكتبنه فـ “كل تاريخ النساء صنعه الرجال […] لم تنازعهم النساء أبدًا هذه الإمبراطورية”. وكان الأجدر بهن الخروجُ عن انبطاحهن وسلبيتهن إلى الوجود، وهو ما فعلته حركة تحرير المرأة في السبعينيات؛ كان لهذه الحركة، بالطبع، انشغالات أخرى عدا كتابة التاريخ، ومع ذلك كانت لمساءلته آثار لا يمكن إنكارها.
بعيدا عن إلحاحيتها الراهنة، أثارث هذه الحركة تساؤلات جديدة، بحثًا عن الهوية الفردية والجماعية: “من نحن؟ من أين أتينا؟ و إلى أين نذهب؟”. عبرَتْ هذه الأسئلة كلَّ العلومِ الإنسانية، وخاصة التحليلَ النفسي والتاريخ. واشتعلت من هنا رغبة وفضول قاد الباحثات إلى مكتبة مارغريت دورانت مكتشفاتٍ الجرائد، والعارضات ومناضلات الماضي، وحريصاتٍ بكل شرعية ووضوح على استمرار احتجاجاتهن أطول فترة ممكنة.
تعطي بعض التواريخ فكرةً عن المسار الذي سُلك خاصة من قبل المؤرخات:
- سنة 1973، في جيسيو، بباريس (التي تعرف اليوم ب Denis- Diderot) انعقدت الجلسة الدراسية الأولى عن المرأة، بعنوان: “هل للنساء تاريخ؟” وهو ما يترجم كل الظنون حوله. لقيت الجلسة – من غير ما مواردَ ولا ارشادات موضِحة وبالكاد تحمل إشكالية- نجاحا حثنا على المضي قدما. وفي السنوات التالية، قوضت الجلساتُ الدراسية والندوات والخبراء ما كان رائجا آنذاك في الساحة وبدأت بتكوين “حقل” لها.
- سنة 1984 انعقاد مؤتمر سانت ماكسيمين: بعنوان “هل التأريخ للنساء أمر ممكن ؟” لم نعد نشك في أن للنساء تاريخا، ولكن كيف نكتبه؟ يعطي المجلد المنشور فكرة عن المشاكل التي كنا نسائل أنفسنا حولها[3]
- بين عامي 1991-1992: ظهور خمسة مجلدات عن “تاريخ النساء في الغرب من العصور القديمة إلى اليوم”[4]. وجعلَ تطورُ البحث صياغةَ أول تركيبةٍ وانتشارَها أمرا ممكنا، وتلَقى بتكليف من الناشر الإيطالي لاتيرزا Laterza هذا المشروعُ الجماعي والدولي ترحيبا حارا من الجمهور أكثر من الجامعة التي يرافقها دائما والتي ظلت مترددة برغم وجود جورج دوبي.
أتذكر حماستي على دراجة ثلاثية العجلات تحملني من بيت بلون Plon، سعيدة جدّا بإيصال هذا السرد إلى المكتبات، التي شعرت بالتضامن معها. تُرجم هذا العمل اليوم إلى عشر لغات ومع أنه قد عفا عليه الزمن في جوانب كثيرة إلا أنه لا يزال يشكل مرجعًا رمزيًا.
ساهمت مجموعة من العوامل – العلمية والاجتماعية والسياسية – في ظهور تاريخ النساء، ففي الأعوام 1970-1980 تراجع التاريخ ” الاقتصادي والاجتماعي” بتراجع الماركسية التي حملته، وأصبح “التاريخ الجديد” متحدا مع التخصصات الأخرى (الأنثروبولوجيا والديموغرافيا التاريخية والأدب، إلخ)، ومهتما أكثر بالظواهر الثقافية، ويعيد الاعتبار للأحداث والسياسة، ويفكك التمثلات واللغة، ويقوم على مُضاعفة المواضيع (الأطفال والجنون والجسد…) في “دُوَارُ الوَفْرَة” « vertige des foisonnements » لآلان كوربين (Alain Corbin) وأحيانا محملا بضريبة “تاريخٍ مُشَظّى”.
كان هذا المناخ مناسبا لحمل النساء محملَ الجد، نساءٌ يتزايد عددهن في الجامعة، سواء بين المعلمين أو بين الطلاب، مشَكِّلاتٍ جمهورا واعدا ومهتمًا ومتحمسًا. في هذا السياق، كانت الحركة النسائية عاملا سياسيا حاسما، و دعت للتساؤل حولَ “النظام الأبوي” (سيسمى لاحقا “الهيمنة الذكورية”) في حاضرنا أو في ما سُرِد بالماضي.
تاريخ المرأة: التطور[5]
تطورت قضايا هذا التاريخ ومشْكلاته، فقد كانت النيةُ الأساسية التذكيرَ والكشفَ عما كان مخبئا منذ بداية العالم، من عصورِ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا؛ أين كانت النساء وماذا كن يفعلن؟. وهذا يفترض قراءةً مختلفة للنصوص، والبحثَ عن مصادر جديدة (الأدب الشخصي، والموضوعات) والدعوة إلى “التاريخ الشفوي”،في الفترات الأخيرة، والاهتمام بالحياة اليومية، والسِير الذاتية، والحياة “العادية”. وقبل كل هذا إلقاءَ نظرةٍ جديدة.
نرى اليوم، على جدران الكهوف المَجدَليّة (Magdalénien) آثارًا لأيادي نساء وأطفال لم نكن نميزها في الماضي، بل إن بعض مؤرّخي عصور ما قبل التاريخ أنكروا احتمال وجودها.
بعيدًا عن مدى مرئيتها، يتعلق الأمر بفهم حالة المرأة، وخضوعها، ومواقفها، وموقعها في التمثلات، وأنظمة السلطة. مع تطور في التصورات، انطلقنا من “المرأة الضحية” -ضحية الأسرة، القانون، الحرب، السلطة بكل أنواعها- للوصول إلى “المرأة الناشطة والراغبة” موضوعًا للتاريخ.
استكشفنا الحياة اليومية للنساء، من الفرن إلى المطحنة والمغسلة، وطرائقها من قول وفعل نسجا على منوال “الثقافة”، وتمّ تدقيق النظر في دخولهنّ إلى المجال العام، من خلال التعليم، وحركة المرور، والتواصل الاجتماعي، والدنيوية، وخاصة العمل الذي أثبت، بفضل علماء الاجتماع، أنه مجال بحث ديناميكي مميز.[6]
انتابنا القلق حول دور المرأة كقوة جماعية، ففي النظام القديم قُدنَ أعمالَ شغبٍ من أجل قوت العيش، وهذا الدور العائلي المشروع في نظر J.Michelet أدخلهن في الثورة خلال أيام 5 و 6 أكتوبر 1789. كان نصيبهن أقل بكثير في الإضرابات إذ تريد الصناعة لنفسها أن تكون في المقام الأول رجولية (حتى لو لم تكن كذلك) والمصنع مخالف للأنوثة. ومن هنا تأتي الصعوبات التي تعترض المرأة في حصولها على عمل بأجر.
أدت النسوية، باعتبارها شكلا رئيسيا من أشكال العمل الجماعي والمطالِبة بالمساواة لظهور العديد من الدراسات[7]. حددنا أولا أن تسلسلها الزمني. وظهورها – مفهوما و كيانا – مرتبطٌ بالديمقراطية وثوراتِ القرن التاسع عشر و”تصدعاتِ” أنظمةِ السلطة. نشأت النسوية في “موجات” متتالية بتنوع كبير، إذ لا توجد أو نادرا ما وجدت وحدة نسوية، لكن توجد تعددية نسوية، ففيما يتعلق بالبغاء اليوم أو بالإجهاض والهوية والمساواة (على الأقل خلال فترة ما بين الحربين)، تَبرز اختلافات عميقة.
ما هي الأسس الاجتماعية للنسوية؟
رأى البعض، ولا سيما الماركسيون، في النسوية تعبيرا عن المرأة البرجوازية التي تناضل من أجل ترقيتها. وكان هذا مؤخرا موقف بيير بوردو أيضا الذي يٌعَرّف النسويةَ بكونها شكلا نقابيا، دون أن يُسائِل ” الهيمنة الذكورية” (والذي كان أيضا عنوانا لعمل مدو).
هل كان الدور الفعلي للنسوية -موضع النقاش- عاملا حاسما في تغير العلاقات بين الجنسين؟ أم أن “حضارة الأخلاق” (نوربرت إلياس) تفاعلت وحدها كما يعتقد جيل ليبوفيتسكي، من منظور توكيفيلي للغاية؟ وكيف يقاس تأثير حركة اجتماعية أو جنسية؟.
لقد طرحت النسوية وتاريخ النساء بشكل عام أسئلة جديدة بشأن العلاقات بين الجنسين واختلافهما وبنيات القرابة وأشكال الأسرة ودور النساء في التاريخ، لم تخل هذه الأسئلة من نقاشات سأثير أهمها هنا:
بعض النقاشات
سؤال النظام الأموميّ
نوقش سؤال الأمومة بشكل خاص في القرن التاسع عشر؛ الذي مزقته أفكار التقدم والتطور. حين افترض علماء الأنثروبولوجيا أمثال، مورجان LH Morgan و باخوفين J. Bachofen نظامًا أموميًا بدائيًا ومجتمعًا سعيدًا، كأنه عصر ذهبي، اختل بظهور المِلكية الخاصة، المرتبطة بالمنافسة الذكورية (الصيد، الحرب) وتأسيس الدولة.
بالنسبة إلى فريدريك إنجلز، الذي يوافق هذه الآراء، فقد كانت الرأسمالية مسؤولة بشكل أساسي عن هذا الانحراف (راجع أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، 1884). تبنى هذه الفرضية مؤخرًا المحللون النفسيون المعاصرون، ولا سيما إرنست بورنمان، قريبُ كلٍ من دبليو رايش وج. روهيم، هذا الأخير الذي تعهد بإعادة النظر في عصور ما قبل التاريخ فيما يتعلق بهذا المعنى.
يَقْسم هذا السؤال النساء: فتتبناه عدد معين من النسويات، وخاصة الأمريكيات. بينما تعارضه الأغلبية، خاصة في فرنسا، حيث شرعت مؤرخات العصور القديمة في تفكيك الأساطير و النظام الأمومي أو الأمازوني[8].
مسألة العنف
كـ”ضحايا” للهيمنة الذكورية، تعاني النساء من جميع أنواع العنف؛ والذي يَبعثُ سِجلُه التاريخي -بقدر ما هو تاريخٌ للأحداث الجارية- على العجب. فقد كن مستهدفات بالعنف المنزلي (النساء يُضربن أحيانًا حتى الموت)، و فريسة لعصابات من الشباب الذين أرادوا في العصور الوسطى بهذا الضرب تأكيد فحولتهم.
منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، يعتبر الاغتصاب النتيجة “الطبيعية” تقريبًا للحروب،[9] والأمثلةُ الحديثة (الصراع في يوغوسلافيا السابقة، مصر) تُظهرُ عودةَ مثل هذه الممارسات.
في حالة التوتر، يستعيد جسد المرأة كل قوته الرمزية للأرض المحتلة. ينبعث النصر من خلال إحكام الغازي قبضته عليهن.
يرسم الكتاب الأسود عن حالة المرأة[10]، لكريستين أوكرنت وساندرين ترينر، صورة قاتمة للعنف الذي تعاني منه النساء في عالم اليوم، فمنذ ولادتهن تغري قيمتهن الاجتماعية المتدنية بمحوهن، وينتشر وأد الإناث في الهند والصين.
إن عجزا كهذا الذي يسببه مثل هذا الانشار الواسع دفعنا للحديث عن “الإبادة الجماعية للفتيات الصغيرات”. تم إجراء تحليلات العنف هاته من قبل النساء وعدد من الرجال أيضا، فكأنما فزعوا من آثام الجنس الأقوى.
ومن الأمثلة النموذجية في هذا الصدد، كتاب فابريك فيرجيلي Fabrice Virgili “فحولة فرنسا” ( La France virile) عن النساء المنفصلات في التحرير[11]. في هذا الكرنفال القبيح[12]، ينتقم الجمهور من جبنه، أثناء الاحتلال، على جثت النساء وتكفير الضحايا. ومع ذلك، منذ بعض الوقت، أثارت هذه الأطروحة الواضحة ردود فعل من الرجال الذين شعروا بأنهم عوملوا بشكل غير عادل.
يعتزم كريستوف ريجينا، الذي يدعي أنه إليزابيث بادينتر[13]، تبديدَ أحد “التابوهات الاجتماعية”، وهو اللا عنف ضد المرأة[14]: “أصبح النقاش حول المساواة بين الجنسين أكثر من أي وقت مضى من صميم الأحدات اليومية. وحسب رأيي، فإن أي مطالبة بالمساواة يجب أن تكون مساواة شاملة”. وهي وجهة نظر تتشاركها، بنحو آخر عددٌ من النساء اللواتي يشعرن من حيث وجودهن بالإقصاء. افتتحت سيسيل دوفين وأرليت فارج التفكير في الأمر منذ بضع سنوات[15].
يستأنف جينيفيف بروفوست وكارولين كاردي مؤخراً الملف[16]. إن إنكار قدرة المرأة على العنف هو حصرها في أنوثة طبيعية في الأم والمرأة الخاضعة واللطيفة.. إلخ. فالنساء قادرات على ممارسة العنف الأسري (راجع وأد الأطفال) والعنف السياسي، كما يَظهر في حالة شارلوت كورداي؛ التي تم فك رموزها بواسطة غيوم مازو[17]. النساء لسن بالضرورة في الجانب “الصالح” من السلام والوداعة التي تستوعبها التقاليد، ومع ذلك فقد نوقشت هذه الأدلة بقوة حول دور المرأة في النازية.
بالنسبة لجيزيلا بوك[18]، فالنساء اللائي تلاعبت بهن النازية كن أول الضحايا. ولم يشاركن في نظام يمثل نموذجا للسيطرة الذكورية، خاصة على أجسادهن وخصوبتهن. تعارض كلوديا كونز هذه الفرضية بالقول: كانت العديد من النساء الألمانيات، موطن الرايخ الثالث (le IIIe Reich)[19] وشاركن في نظام يضمن لهن الحماية والمزايا المادية والرمزية وهي أطروحة دعمتها أيضًا مؤرخة النازية العظيمة؛ التي اختفت مؤخرًا، ريتا تالمان[20]
مسألة الرضا
إلى أي مدى توافق النساء على نظام الهيمنة الأبوي وعلى تقسيم العمل بناء عليه، الأمومة مقابل الحماية؟ إلى أي مدى توافق النساء على هذا الموقف الابتزازي؟ وكما قالت عالمة الأنثروبولوجيا نيكول كلود ماتيو[21] “القبول لا يعني الرضى”.
لقد كان نقاشًا كبيرًا خلال أعوام 1980-1990،؛ فبالنسبة للبعض، تتكيفُ النساء مع دورهن، ويجدن فيه التبرير لوجودهن بل ويجدنه ممتعا. متعةُ أن تكون امرأة وتحكم منزلًا، كالنساء البرجوازيات في الشمال التي وصفتهن بوني سميث[22].
يقدم البحث الإثنولوجي حول “ثقافة” المرأة، رؤية إيجابية ومحفزة للغاية حول أدوارها الاجتماعية وعملها وأيامها. عقب تحقيق Yvonne Verdier، في جامعة Minot بـ Burgundy حول طرق القول و الفعل؛ الغسالة والخياطة والطباخة[23]. نحن مهتمون بالمغسلة، ومواطن كلام المرأة والهيمنة عليها، وبنمط العلاقة بين الأمهات والبنات. في ظل التكرار الرتيب، تمتلك المرأة قدرة على العرقلة والإيصال، مما يشكل قوة حقيقية.
بالمناسبة، أليس لديهن القوة الحقيقية؟ يعتقد البعض ذلك، الذين يقارنون الوجود المضلل والزائل للسياسة بالوجود الطويل الأمد للبنى و الهياكل، ويخشون القوة “الخفية” التي تملكها النساء.
الأمومة
هل الأمومة شرف المرأة؟ أهي أساس هويتهن وفقا لنسويات “الاختلاف[24]“؟ أم هي فخ كما اعتقدت سيمون دي بوفوار؟ أهي حقيقة تحتاج إلى تنظيم؟ أم رغبةُ المرأة في أن تكون قادرة على التصالح مع خياراتها الأخرى؟ كما تؤكد إيفون كنيبيلر، مؤرخة الأمومة، (التي جعلت من الأمومة مركز أبحاثها ونضالها[25])، ماذا تعني الرغبة في طفل؟ هل حب الأمومة شيء طبيعي؟ أليس “حبًا مزيدا”، نتاجَ التاريخ، كما حاججت إليزابيث بادينتر، في أحد أقوى كتبها[26]؟ماذا يعني النموذج الفرنسي الحالي للنساء والذي يجمع بين معدلات النشاط ومعدلات الخصوبة الاستثنائية (الأعلى في أوروبا)؟ هل هو مكسب قائم على المساواة و مرتبط بتقسيم أفضل للمهام؟ أم أنه خداع ناتج جزئيا عن تأثير علوم “النفس” ونظريتها حول الارتباط بالأم؟ يندد فرانسوا دي سينجلي باستمرار “بخطر” التجريم الأنثوي في “مصيبة” المرأة المتزوجة إزاء الطفل[27].
الملاطفة واللباقة
بنفس القدر الذي تؤدي فيه الملاطفة والمجاملة إلى تفعيل العلاقات بين الجنسين، فإنها تقود إلى تأويلات متناقضة وغالبا عاطفية. بالنسبة لجورج دوبي، ليس الحب الناعم اللطيف إلا خدعة من فروسية، وتعبيرٌ عن “رجل العصور الوسطى” المستبد جنسياً. وهو ما عارضته المؤرخة ريجين بيرنو والروائية جين بورين؛ والتي كانت روايتها La Chambre des Dames الأكثر مبيعًا[28] قد أزعجت المؤرخ بشدة. تدافع هاتان المؤلفتان عن فكرة مجتمع مسيحي تكون فيه النساء ملكات تحت سلطة مريم العذراء. ونشب حول هذا نقاش حقيقي عن حضارة العصور الوسطى ودور المسيحية.
أثارت اللطافة جدلاً مماثلاً، وإن كان يخلو من البعد الديني. وهو بالنسبة لكلود حبيب ومنى عوزوف، تعبير عن “نسوية على الطريقة الفرنسية” تتميز بعلاقات سلمية بين الجنسين، تتشكل في صالونات “الأنوار”، وبيوت تشاركية أكثرَ مساواة، حيث الحوار هو الوسيلة و الرمز. رؤية تناقضت بخصوصها النسويات الأمريكيات، وخاصة جوان سكوت، التي استنكرت فخ “الإغواء[29]“، وسعت جاهدة لتفكيك أيديولوجية التنوير والطبيعة و روسو، إلخ.
تم تجاوز هذه النقاشات التاريخية من خلال النقاشات الجارية حول دور واختلاف الجنسين، وأهمية الوضع السياسي، ومكانة المرأة كفاعل في التاريخ. يتم تسليط الضوء على تنوع أنظمة التأويل، وإظهار أنه لا وحدة “لمجموعة” النساء. هناك العديد من النسويات -ومن الضروري التذكير بقسوة النقاشات التي عارضت في الأعوام 1975-1980 نسويات “الاختلاف” حول (Antoinette Fouque) Psyképo، إلى “الكونيين” المخلصين لسيمون دي بوفوار- ونشوب نزاعات حول النوع.
من تاريخ المرأة إلى تاريخ النوع/الجندر
لا تولد المرأة امرأة.. بل تصير كذلك! بهاته الجملة الشهيرة، التي تفتح واحدا من فصول كتاب الجنس الثاني، تجعل سيمون دي بوفوار “من” النوع الاخر، الذي لم تسمه، صنفا ثقافيا وتاريخا؛ جردت الجنسين من اختلافاتهما وفتحت الباب لتفكيكها. ويمكن اعتبارها بحق “أم الجندر”. ومن هنا نجاحها الباهر في الولايات المتحدة، حيث أعقبت دراسات النوع الاجتماعي <الجندر> في الثمانينيات دراسات المرأة التي أسستها ناتالى زيمون داڤيس مع أقرانها في سبعينياث القرن الماضي
يعد مقال جون سكوت، “النوع الإجتماعي: تصنيف مساعد للبحث التاريخي ” (1986) مرجعا[30]، لكن من غير إجماع عليه، كما يُظهر ذلك كتاب “المرأة بين التصنيف البيولوجي و التصنيف الاجتماعي” لصاحبته سيلفيان أجاسنكي[31].
تاريخ هذا النوع له عيوبه (النسيان النسبي للنساء الموجودات) والعديدُ من المزايا المسهمة في إدراج الرجال ضمن صنف مجنس. تم توضيح جدوائية هذا النهج بشكل خاص من خلال تاريخ الرجولة، تحت إشراف آلان كوربين[32] التي تأخذ بعين الاعتبار تاريخ الشذوذ الجنسي والذي شهد منذ العصور القديمة وإلى يومنا ارتفاعا ملحوظًا[33] في الولايات المتحدة أكثر منه في فرنسا.
أقل عمقا في الوصف وأكثر نقدا يثير هذا النهج جدوائية العديد من الضوابط، ويغذي العديد من الخلافات، بما فيها تلك المتعلقة بصلاحيته.
تعتبر نظريات Queer، التي تعد جوديث بتلر واحدة من مهندسيها، أن الجندر يوشك أن يكون في بعض الفئات الجامدة انغلاقا و إلا فازدواجا، وتدعو إلى اختراق كل الحدود لصالح مفاهيم أكثر مرونة: حرية جزئية في اختيار جنسهم.
الاستنتاج
يحتمل أن يكون تاريخ النساء مرحلة ليس إلا، وأن تكون فضائله في طور الاندثار؛ وليدَ النسوية في وقته، صار أداة وعـيٍ هوياتي (النحن والأنا) و بحثٍ وتفكير. ورافق تحكمُ النساء بأجسادهن الوعيَ بدورهن في التاريخ و سمح بنقد أنظمة الهيمنة في الفكر والسلطة والخيال.
مقاربة كهاته لا تخلو من المخاطر: قصة نضالية من سِيَرِ القديسين، عن تحول بين الجنسين في الاتجاه الآخر، قصة ثيولوجية. هذا هو أحد أسباب (وليس السبب الوحيد) القلق والشك التي يواجهها تاريخ النساء في الحقل الأكاديمي أو بين أبعد الرجال عنه. لطالما رفضت المؤرخات هذا النوع من الخطاب والممارسة. و زعمن جدية المنهج، ومكتسبات المقاربة التاريخية. وأخضعن أبحاثهن للنقاش.
لا يخدم تاريخ المرأة النسوية، تريد المرأة أن تكون حرة ومستقلة. يميل كل من النسوية وتاريخ المرأة إلى الاستقلال الذاتي رغم ما يجمعهما من روابط أكيدة، حظيت النسوية بأحقية هائلة في طرح أسئلة جديدة، وتوجيه نظرنا إلى الماضي، هذا النظر الذي أسس، في نهاية المطاف، لكتابة التاريخ.
[1] N. Pellegrin, Histoire d’historiennes, Presses universitaires de Saint-Étienne, 2006
[2] S. de Beauvoir, Le deuxième sexe, Paris, Gallimard, 1949.
[3] M. Perrot (sous la direction de), Une histoire des femmes est-elle possible ?, Paris, Rivages, 1984.
[4] G. Duby et M. Perrot (sous la direction de), Histoire des femmes en Occident, 5 volumes, Paris, Plon, 1991-1992 ; en poche, Perrin, 2001 ; les volumes ont été dirigés par Pauline Schmitt (i, Antiquité), Christiane Klapisch (ii, Moyen Âge), Arlette Farge et Natalie Z. Davis (iii, Temps modernes), Geneviève Fraisse et Michelle Perrot (iv, xixe siècle) ; Françoise Thébaud (v, xxe siècle).
[5] Sur cette historiographie, voir F. Thébaud, Écrire l’histoire des femmes et du genre,Paris, ens éditions, 2007.
[6] M. Maruani (sous la direction de), Travail et genre dans le monde. L’état des savoirs,Paris, La Découverte, 2013..
[7] Sur le xxe siècle, cf. F. Rochefort et coll. (sous la direction de), Le siècle des féminismes (xxe siècle), Paris, L’Atelier, 2004.
[8] S. Georgoudi, « Le matriarcat », dans Histoire des femmes en Occident, op. cit., t. 1, 1991.
[9] J. Cubero, La femme et le soldat, Paris, Imago, 2012.
[10] C. Ockrent, S. Treiner, Le livre noir de la condition des femmes, Paris, xo éditions, 2006.
[11] F. Virgili, La France virile. Des femmes tondues à la Libération, Paris, Payot, 2000.
[12] A. Brossat, Les tondues: un carnaval moche, Manya, 1982.
[13] É. Badinter, Fausse route, Paris, Odile Jacob, 2003 – livre qui avait suscité beaucoup de débats.
[14] C. Regina, La violence des femmes. Histoire d’un tabou social, Paris, Max Milo, 2013.
[15] C. Dauphin et A. Farge (sous la direction de), De la violence et des femmes, Paris, Pocket, 1999.
[16] G. Pruvost et C. Cardi, Penser la violence des femmes, Paris, La Découverte, 2012.
[17] G. Mazeau, Charlotte Corday en 30 questions, La Crèche, Geste Éditions, 2006.
[18] G. Bock, « Le nazisme. Politiques sexuées et vie des femmes en Allemagne », dans Histoire des femmes en Occident, t. 5, op. cit.
[19] C. Koonz, Les mères-patrie du IIIe Reich, Paris, Lieu commun, 1989 (américain, 1986).
[20] R. Thalmann, Être femme sous le IIIe Reich, Paris, Laffont, 1982 ; L. Kandel (sous la direction de), Féminismes et nazisme, Paris 7-Cedref, 1997.
[21] N.-C. Mathieu, De l’arraisonnement des femmes, Paris, ehess, 1985.
[22] B. Smith, Les bourgeoises du Nord, Paris, Perrin, 1989.
[23] Y. Verdier, Façons de dire, façons de faire. La laveuse, la couturière, la cuisinière, Paris, Gallimard, 1979. À ce sujet, voir l’article des Annales: C. Dauphin et coll., « Culture et pouvoir des femmes. Essai d’historiographie », mars-avril 1986.
[24] En France, Luce Irigaray, en Italie Luisa Muraro ont insisté sur cette pierre angulaire de la maternité.
[25] Y. Knibiehler, « Maternité et féminisme », entretien avec M. Cacouault-Bitaud et M. Paoletti, Travail, genre et sociétés, n° 30, 2013 ; parmi les ouvrages de l’auteure, cf. La révolution maternelle depuis 1945. Femmes, maternité, citoyenneté, Paris, Perrin, 1997.
[26] É. Badinter, L’amour en plus, Paris, Flammarion, 1980.
[27] F. de Singly, « L’enfant comme obstacle à l’égalité professionnelle », dans M. Maruani, op.cit, p. 80-89 ; dernière mise au point après nombre d’ouvrages sur la question.
[28] J. Bourin, La Chambre des Dames, Paris, La Table ronde, 1979.
[29] J. Scott, « La séduction: une théorie française » (2011), dans De l’utilité du genre,Paris, Fayard, 2012.
[30] Paru en 1986 dans The American Historical Review, traduit en français en 1988, l’article est repris dans une version nouvelle dans J. Scott, De l’utilité du genre, op.cit.
[31] S. Agacinski, Femme entre sexe et genre, Paris, Le Seuil, 2012.
[32] A. Corbin, G. Vigarello et J.-J. Courtine, Histoire de la virilité, Paris, Le Seuil, 2011
[33] Travaux de Florence Tamagne, Louis-George Tin, etc.