فكر وثقافة

لمَاذا لاتعرف ما تعرفه؟

تُظهر إحدى أكبر التجارب العلمية في العالم سبب حاجة الجميع إلى إعادة تعريف معنى معرفة شيء ما.

  • ماثيو هوستن
  • ترجمة: لمى سامي

في يوليو، أراني أستاذ الفيزياء جوزيف جيامي في جامعة ولاية لويزيانا ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا إحدى التجارب العلمية الأكثر تعقيدًا في العالم. قام بها عبر تطبيق زوم على الأيباد. أراني غرفة التحكم لمرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري حيث يُعرف بـ ليغو (LIGO)، وهو تعاون فيزيائي كبير يقع في ولايتيّ لويزيانا و واشنطن. في عام 2015 مرصد ليغو كان أول مشروع يكشف الموجات الثقالية بشكل مباشر والتي تتكون بسبب تصادم ثقبان أسودان يبعدان 1.3 مليار سنة ضوئية.

حوالي ثلاثون مراقبًا ضخمًا يعرضون عدة جوانب لحالة مرصد ليغو. النظام يراقب عشرات الآلاف من قنوات البيانات حاليا، وشاشات الفيديو تصور الضوء يتشتت عن الأقمار الصناعية، وتسجل جداول البيانات اهتزازات الجهاز، سواءً بسبب الزلازل أو حركة الأشخاص.

كنت أزور هذه العملية المعقدة التي يعمل عليها مئات المتخصصين في المجال العلمي في محاولة لإجابة سؤال بسيط، ألا وهو “مالذي يعنيه أن نعرف أي شيء؟ كيف يمكننا فهم العالم في حين أن جزء كبير من معرفتنا تعتمد على أدلة وحجج قدّمها أشخاصٌ ما؟

هذا السؤال مهم ولا يقتصر على العلماء فقط. العديد من المجالات بدأت تصبح معقدة أكثر، وصرنا بحاجة إلى معلومات أكثر وآراء مختصة أكثر من ذي قبل. ولكن في نفس الوقت زيادة الاستقطاب السياسي والمعلومات المغلوطة يجعلان من الصعب علينا أن تحدد مالذي يجب أن نعرفه ومن يجب أن نثق به. فكيفية تقييمنا وتقسيمنا لمعرفتنا مرتبطان بالتقدم الطبي والخطابات السياسية والممارسات الإدارية وسير حياتنا اليومية.

نحن نبالغ بشدة حيال قدرة الأشخاص على تجميع المعرفة، ونقلل من دور المجتمع في كسب هذه المعرفة. فلربما أنت تعرف أن وقود الديزل غير مناسب لمحرك الغاز، وأن النباتات تقوم بعملية البنات الضوئي، ولكن هل تستطيع أن تعرّف وقود الغاز أو تشرح عملية البناء الضوئي؟ فأثناء بحثي لهذه المقالة، توصلت إلى أن المعرفة تعتمد على الثقة والعلاقات تمامًا كما تعتمد على الكتب والملاحظات.

قبل خمس وثلاثين سنة، نشر الفيلسوف جون هاردويغ بحثًا عمّا يسمى بالمعرفة الاتكالية وهي اعتمادنا على معرفة الآخرين. وهي معروفة في الأوساط الأكاديمية دون بقية الأوساط، وتكمن أهميتها في زيادة تعقيد المجتمع والمعرفة.

إحدى التعاريف المنتشرة للمعرفة هي الاعتقاد الصادق المبرر، فهي حقائق مدعمة بالبيانات والمنطق. كأفراد نادرًا ما نملك الوقت أو المهارات لكي نبرر معتقداتنا الخاصة. فمالذي نعنيه حقًا حينما نقول إننا نعرف شيئا ما؟ بهذا جون هاردوينغ بدأ نزاعًا، فإما أننا نعرف جزءا كبيرا من معرفتنا بشكل كلي، أو أن الناس يعرفون أشياء لا يفهمونها. وجون هاردوينغ اختار الخيار الثاني.

 

قد يبدو هذا كمقدمة لسؤال فلسفي. فأيًا كان ما تعنيه المعرفة، من الواضح أننا نعتمد على أشخاص آخرين للحصول عليها. قال العالم المعرفي في جامعة براون والمؤلف المشارك لكتاب وهم المعرفة ستيفن سلومان “إن كان السؤال من يملك المعرفة؟ فلا شيء سيعتمد عليه. وأنا حقيقة لا أهتم. لكن إن كان السؤال كيف نبرر ادعاءنا أننا نعرف الأشياء؟ ومن يجدر بنا أن نثق به؟ فحينها سيكون الأمر مهمًا. كمثال على ما سيحصل حينما يتم إساءة استخدام المعرفة الاتكالية، حينما حصل سحب لورقتين علميتين حول فايروس كوفيد-19 في مجلتيّ لانسيت (Lancet) ونيو إنجلاند (New England) الطبيتين؛ حيث وثِق الباحثون تعاونًا مضللًا بينهما. وزيادة المعلومات المغلوطة حول بعض القضايا كاللقاحات وتغير الأجواء وفايروس كوفيد19 هو هجوم مباشر على المعرفة الاتكالية التي بدونها لا لن يستطيع كلٌ من العلم والمجتمع العمل معًا”

لكي نفهم المعرفة الاتكالية بشكل أكبر، بحثت في قضية ضخمة ألا وهي مرصد ليغو. أريد أن أفهم كيف يعرف الفيزيائيون العاملون هناك عن ثقبين أسودين يبعدان عدة مجرات عنا، و ما الذي يعنيه لنا أن نعرف أي شيء.

كما ذكر جيامي فقصة مرصد ليغو بدأت مع آلبرت اينشتاين الذي ادعى نظريته قبل قرن، ألا وهي أن الجاذبية هي التواء للزمكان، والكتل المتحركة ترسل موجات بسرعة الضوء. ولكن كشف موجات كتلك ظل أملًا ضعيفًا لعقود لأن تلك الموجات صغيرة جدًا لتقاس

مرصد ليغو يستخدم الليزر لقياس التداخل. بناءً على تصميم قام بنشره الفيزيائي في معهد ماساتشوستس للتقنية راينر ويسز في عام 1972. جهاز قياس التداخل من الأعلى قد يتم تمثيله كزاوية قائمة كما في حرف L من اللغة الإنجليزية، حيث يمتلك ذراعين بزاويتين قائمتين، الليزر يدخل مباشرة للزاوية في المنتصف وينقسم لقسمين حيث ينعكس ضد مرآة في نهاية كل ذراع، ثم يجتمع مرة أخرى بطريقةٍ تجعل أكبر وأصغر موجات الضوء تلغي بعضها البعض.

 

المعرفة الاتكالية: قضية مرصد ليغو

مرصد ليغو صمم تبعًا لتصميم نشر من قبل العالم الفيزيائي في معهد ماساتشوستس للتقنية راينر ويسز في عام 1972.  الليزر يدخل مباشرة للزاوية في منتصف ذراعيّ جهاز قياس التداخل، وينقسم لقسمين حيث ينعكس ضد مرآة في نهاية كل ذراع، ويبلغ طول كل ذراع 4 كيلومتر. وحينما يجتمعان مرة أخرى أكبر وأصغر موجات الضوء تلغي بعضها البعض. تزعم النظرية أن وجود موجات الجاذبية سيجعل هذه الموجات غير متزامنة.

علم راينر ويسز أن مرور موجات الجاذبية سيمدد المساحة باتجاه إحدى الأذرع بينما يقلصها في اتجاه الذراع الآخر؛ والمسافة التي يجب أن تقطعها أشعة الليزر ستتغير، وبالتالي ستفشل الموجات بإلغاء بعضها البعض. وستظهر نمط موجات واضح على مستشعر الضوء. وبعد عقود من البناء وإنفاق أكثر من مليار دولار، تم رصد الموجات الثقالية عشرات المرات منذ عام 2015.

 

من الصعب فهم مدى حساسية الجهاز نفسه. فكل ذراع يبلغ طوله أربعة كيلومترات، وبمساحةٍ كتلك المرصد يستطيع أن يكشف بروتونات بقطرٍ يبلغ جزء من عشرة آلاف. قال لي جيامي “سيبدو هذا أكثر جنونًا كلما عرفت أكثر حيال الفيزياء والهندسة”. فذاك أصغر من اهتزاز عشوائي في جزئيات المرآة؛ لذا تُستخدم بعض الحيل لتقليل الضوضاء. الضوء يقطع النفق عبر الفراغ، والليزر قوي لذا أشعته تحتوي على الكثير من الفوتونات مما يجعلهم يمرون بدون أي ضوضاء. المرايات معلقة عبر خيوط زجاجية كي تعيق أية اهتزازات، وكل تعليقة مرآة مركبة على أداة تقوم بتهدئة الاهتزازات باستخدام اشارات صادرة من مستشعرات الزلازل ومستشعرات الحركة. تمامًا كما تعمل السماعات عازلة الصوت. النظام أيضًا يحسب التداخل الذي تم قياسه في المجالات المغناطيسية، والطقس، والشبكات الكهربائية وحتى الأشعة الكونية.

 

بكاشف واحد فقط، لسنا متأكدين بأن أي إشارة تصدر هي من الفضاء. وإذا كان هناك كاشفان يتلقيان نفس الإشارة في نفس الوقت تقريبًا، سنكون جازمين حيال مصدر هذه الإشارة. نحن أيضًا يمكننا أن نحدد مصدر تلك الإشارة في السماء. ولهذا السبب هناك محطتين لمرصد ليغو، واحدة في ولاية لويزيانا وأخرى في ولاية واشطن. كما أن بقية مراصد الموجات الثقالية تعمل بتلك الطريقة. مثل مرصد فيرجو في إيطاليا، وجيو 600 في ألمانيا، ومرصد آخر يتم بناؤه في اليابان.

فكما تتخيل مرصد ليغو يتطلب فريق كبير بمهارات مختلفة، فتقسيم العمل في العلم أصبح مهمًا تمامًا كما هو الحال في بقية الصناعات. هناك 1786 كتابًا حول التجارب الفيزيائية غطى كلٌ منها علم الفلك والجيولوجيا وعلم الحيوان والطب وعلم النبات. القارئ يمكن أن يصبح مطلعًا على ما يعرفه البشر في جميع تلك المجالات. الآن كل مجال صار له مجالات فرعية، ولم يعد ثمة وجود للخبراء الموسوعيين.

اقرأ ايضًا: هل يجعلنا جوجل أغبياء؟

إتقان أي شيء خارج مجال ضيق يتطلب أن يشارك العلماء مهاراتهم. صار التعاون تقنية جديدة مثلما ساهم الإنترنت في جعل التواصل أسهل. منذ 1990 إلى 2010 متوسط الناشرين المساعدين في البحوث إزداد من 3.2 إلى 5.6. ففي عام 2015، نشر بوزون هيغز بحثًا حول الكتلة، و شارك بها أكثر من خمسة آلاف ناشر. فحتى الباحثين المنفردين لا يعملون لوحدهم، إنما يقومون بذكر ما اقتبسوه من بحوث الآخرين بدون أن يقرأوها بأكملها. فسلومان يقول “نحن نثق أن مقدمة البحث هي مختصر لما في البحث بأكمله”

البحث العلمي الذي نشر أول اكتشاف لموجات الجاذبية من قبل مرصد ليغو نشر في عام 2016، وكان هناك أكثر من ألف باحث. هل حقًا جميعهم يفهمون جميع ما ذكر بشكلٍ تفصيلي؟ يقول العالم الفيزيائي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمدير التنفيذي لمرصد ليغو ديفيد ريتز “أعتقد ان كثيرًا من الناس تعمقوا به على مستوًى عالٍ جدًا، وإلا فكيف علمنا أن هذا الكاشف المعقد الذي يحوي على مئات ألوف المكونات والإلكترونيات وقنوات البيانات أنه يعمل كما يجب وأنه يقيس ما نعتقد أنه يقيسه؟ مئات الأشخاص يجدر بهم أن يتحملوا هذه المسؤولية ويقلقوا حيالها”

سألت ريتز إن كان واجه أي مشكلة في شرح جزءٍ ما من البحث العلمي الذي نشر عام 2016، فأجاب “هناك بعض الأجزاء من البحث لا أشعر أني أعرف كافة تفاصيلها، مثل الحسابات لمقارنة التنبؤات النظرية والثقوب السوداء والكتل والسرعة”

جيامي خمّن أن أقل من نصف الباحثين المساعدين للورقة العلمية لم يطأوا المرصد، لأن دورهم في البحث لا يتطلب هذا. يقول جيامي “لإثبات ما رُصد، سيحتاج الفرد أن يفهم الفيزياء وعلم الفلك وعلم الإلكترونيات والهندسة الميكانيكية. فهل هناك شخص يعرف كل هذه الأشياء؟ كاد يحصل تسريبًا في أنبوب الأشعة بسبب التآكل الميكروبي والذي يندرج تحت الأحياء، من الصعب على عقل شخص واحد أن يُلم بكل هذا”

ظاهرة واحدة بالتحديد تؤكد على ترابط الفريق ببعضه البعض. مرصد ليغو لم يكشف عن أية موجات ثقالية في أول ثمان سنوات من افتتاحه، وتم إغلاقه من عام 2010 إلى 2015 للصيانة والتعديل. وبعد يومين من إعادة فتحه رصد إشارة. قال عنها العالم الفيزيائي في جامعة سيراكيوز بيتر سولسون “كان شيئًا جميلًا جدا لدرجة إما أن يكون هبة رائعة أو شيئًا مريبًا”، كان بيتر سولسون قائد تعاون ليغو العلمي، وهو فريق عالمي مكون من علماء يستخدمون مرصد ليغو و جيو600 للبحوث. أيستطيع أحدهم أن يصدر إشارة وهمية؟ بعد عدة تحقيقات توصلوا إلى أنه لا يمكن لأحدهم أن يفهم النظام بأكمله على أكمل وجه ليستطيع فعل شيء هكذا. إن اختراق النظام سيتطلب جيش صغير العازمين على إفساد الأمور؛  و واصل سولسون “وجود فريق كهذا صار محط سخرية. ففي الأخير كانت حجة اجتماعية” لذا، أجمع الجميع أن تلك الإشارة كانت حقيقية وأن ثقبين أسودان تصادما.

نحن عادة نبالغ بقدرتنا على شرح الأشياء. وهذا ما يسمى وهم العمق التوضيحي. في إحدى الدراسات، طلبوا من الناس أن يقيموا فهمهم للأجهزة والظواهر الطبيعية كسحّاب الملابس وقوس المطر، ثم قاموا بشرحها لهم وطلبوا منهم أن يقيموا أنفسهم مرة أخرى، تقييمهم لأنفسهم أنخفض بعدما أدركوا مدى عدم معرفتهم بها. (لتقوم بشيءٍ ممتع، أطلب من شخصٍ ما أن يرسم دراجة، غالبًا رسمته لن تكون مثل الدراجة)

سألت ريتز إن وقع ضحيةً لوهمٍ ما. وذكر أن مرصد ليغو يعتمد على الآلاف من الحساسات ومئات الإشارات الصادرة بشكلٍ مستمر ليحسب الضوضاء المحيطة. هو ظنّ أنه يفهم هذا المبدأ حتى حضّر له كي يشرحه في جلسةٍ عن نظرية التحكم الديناميكي.

يمكننا أن نشرح الوهم كما شرحه العالم المعرفي سلومان كفهم معدٍ. ففي إحدى البحوث التي توصل إليها، سأل الناس عن الظواهر الطبيعية المختلقة مثل الصخور المضيئة. بعضهم قيل لهم أن العلماء يفهمون هذه الظاهرة فهمًا تامًا، والبعض الآخر قيل لهم أنها لاتزال غامضة، وآخرون قيل لهم أنها مفهومة ولكن بحسب تصنيفات. حينما قام الأشخاص بتقييم فهمهم بنفسهم، المجموعة الأولى قيموا أنفسهم أعلى من البقية، كما لو أنهم كانو قادرين على فهم ما طُلب منهم.

الناس بالعادة تبحث عن موضوعٍ ما حينما يعتقدون أن شريكهم ليس خبيرًا به. فهم يطبقون مبدأ فرق تسد[1] بصمتٍ. فكلٌ منهما يتصرف كذاكرة خارجية للآخر.

معاملة معرفة الآخرين كخاصتك ليس بالتفاهة التي تبدو. في عام 1987، كتب الأخصائي النفسي دانيل وينجر حول جانبٍ من الإدراك سماه الذاكرة المؤقتة، والتي تعني أننا نعرف الأشياء ونعرف الأشخاص الذين يعرفون أشياء أخرى. في إحدى دراساته، اختبرت مجموعات ثنائية بمدى تذكرهم بعدة معلومات مثل “الحاسب الآلي كايبرو الجيل الثاني هو حاسب شخصي”. توصل إلى أن الناس تميل بطبعها للبحث عن معلوماتٍ أكثر حول الموضوع الذي يعتقدون أن شريكهم لا يملك معرفة كافية به. ويطبقون مبدأ فرق تسد بصمتٍ ويتصرف كلٌ منهما كذاكرة خارجية للآخر.

اقرأ ايضًا: الهواتف الذكيّة تُقلِّل من قيمة التعلُّم

باحثون آخرون يدرسون الذاكرة المؤقتة طلبوا من مجموعات ثلاثية أن يقوموا بتركيب مذياعًا. بعضهم تم تدريبهم كمجموعة لإكمال المهمة، والبقية تم تدريبهم بشكلٍ فردي، أولئك الذين تم تدريبهم معًا امتلكوا ذاكرة مؤقتة أكبر، وذاك يتضمن تخصيصًا أكبر وتنسيقا وثقة فيما بينهم؛ كنتيجة أدى إلى أخطاء أقل من النصف أثناء تركيب المذياع.

الأشخاص في تلك المجموعات التي تدربت بشكل جماعي ربما لا يعرفون كيف يركبون مذياعًا وأيضًا أولئك الذين تدربوا بشكلٍ فردي، ولكن كمجموعة -وهو الوضع الطبيعي لأداء البشر- معرفتهم الاتكالية ظهرت بنجاح.

ستتعلم العديد من الدروس حينما ترى معرفتك منوطة بالآخرين. ربما أبسط شيء هو أدراكك أنك تفهم أقل مما تعتقده، لذا دائمًا أسأل حتى لو كانت أسئلة سخيفة.

علمك بأن معرفتك اتكالية قد يجعل نقاشاتك مثرية أكثر. في بحث علمي نشر عام 2013، درس سلومان دور وهم العمق التوضيحي على الاستقطاب السياسي. طلب من الأمريكان تقييم فهمهم ودعمهم لسياسات الرعاية الصحية، والضرائب وقضايا أخرى منتشرة. بعدها قام بشرح تلك السياسات لهم، وكلما قللت تلك الشروحات حسهم بالفهم، صاروا أقل تطرفًا حيال الأمر. فأنت بالتأكيد لن تكون قادرًا أن تقف بثبات أن كانت الأرض تهتز من تحتك. قال سلومان ” لا أحد يفهم قانون الرعاية الصحية الأمريكية -الذي يعرف بأوباما كير Obamacare- حتى أوباما نفسه، فهو طويل جدًا ومعقد. هم فقط يلخصونه ببضعة جمل لا تمثل 99% منه”

مثال آخر يأتي من بحث هاردوينغ حول المعرفة الاتكالية. حسبما يبدو فإن فكرته أن المنطق يتطلب أن يفكر المرء بنفسه، فحسبما كتب “المثالية الخيالية هي ما يبدو لا منطقيا، إذا تبعنا تلك المثالية فغالبًا نحن سنتمسك بمعتقداتنا الأولية والغير واعية والتي توصلنا إليها بنفسنا. فبدلًا من أن تفكر بنفسك جرّب أن تثق بالخبراء أكثر مما تثق بهم الآن”

سألت سلومان كخبير إن كانت تلك فكرة جيدة، وأجاب “أجل، كمثال فلوريدا، أأملك شيء أكثر لأضيفه؟” -حالات كوفيد 19 في فلوريدا ارتفعت بشكل كبيرٍ حينما تجاهل الناس نصائح الخبراء في إتباع الإرشادات الاحترازية- لقول الحقيقة يتطلب المنطق بدون شك أن توازن بين أن تتبع النصائح وأن تفكر بنفسك. إن لم تتعب نفسك في أن تكون مطلعًا بشكلٍ بسيط في أمرٍ ما، أنت ستكون ضحيةً لكل شيءٍ

لتتأكد من صحة معلومةٍ ما، ابحث إن أكدها الخبراء. العالمة الفيزيائية في ولاية لويزيانا والرئيسة السابقة لتعاون مرصد ليغو العلمي غابربيلا غونزاليس تحدثت عن نفسها كمريضة سكر “من المستحيل أن أثق بمعلوماتٍ من تجربة إكلينيكية وأحلل وضعي تبعًا لها” ذكرت أنها تبحث عمّا يُجمع عليه الأطباء في القصص الإخبارية بما يتعلق بالعلاجات المحتملة.

أيضًا من الممكن أن تجد خبيرًا ما يستعرض ما يدعيه خبير آخر. في مجال العلم تدعى هذه العملية بمراجعة الأقران. ففي حياتنا اليومية، قد تتحدث عن السيارات أو الطبخ أو أيًا كان مع عمك الذي يعرف هذه الأمور. ففي داخل مرصد ليغو، اللجان تراجع كل مرحلة من تجربةٍ ما. قد يسألون خبراء مستقلين أن يراجعوا رمزًا كتبه الآخرون، أو يسألون سؤالا استقصائيا وحسب. الباحثون يحللون البيانات المجتمعة باستخدام خوارزميات متعددة، كل منها كتب من قبل أشخاص مختلفين. ويختبرون أيضًا الأجزاء المكونة للجهاز والبرمجيات باستمرار.

إن الطريقة التي يرد بها الناس على الأسئلة المتعلقة بثقتهم بخبراتهم هي شيء نراه كل يومٍ ونستطيع مراجعته. الفيلسوف في جامعة روتجيرز آلفين قولدمان أشار إلى الاستعلاء الجدلي، واقترح في بحثٍ نشره في عام 2001 بعنوان (الخبراء: أيهم يجب أن نثق به؟) يقول البحث أنه في نقاش بين خبيرين، فالذي يقدم مقارنات بسرعة وسلاسة ولديه ردود جاهزة، يمكن أن يُعتبر هو الشخص الذي يفهم القضية. ولكنه أشار إلى ضعف هذا القول. (امتلاك جميع الأجوبة هو شيء سلبي أحيانًا، يقول سلومان “أعتقد أن القول المهم هو هل هم حقًا يعبرون عن التواضع الكاف؟ هل حقًا يعترفون بما لا يعرفونه؟”.

بحث آلفين جولدمان عرض أربعة أقوالٍ أخرى إن كان رأي خبيرٍ ما شيءٌ منطقي. أوراق الاعتماد أو السمعة، أدلة على الأخطاء أو تضارب المصالح وتتبع السجلات كلها تم الموافقة عليها من قبل خبراء آخرون. هو أقر بالمشاكل المرتبطة بالأربعة أقوال ولكنه اقترح أن تتبع السجلات كان أكثرهم فائدة. قال سلومان ” إن بدت هذه كإعلانات مشخصنة بدلًا من أنها قائمة على الأدلة، فهذا ليس سيئًا. يبدو لي أن تقييم مصداقية أحدهم أسهل بكثير من الاستحواذ على كل معرفته التي يمتلكها”. أما بالنسبة لأوراق الاعتماد الرسمية علق سلومان “بإمكانك أن تصفني بالنخبوية، ولكني أعتقد أن امتلاك شهادة من مكان جيد يؤخذ كنقطة”

عدة أمثلة ستذكر لترى أن معرفتك الخاصة معتمدة على معرفة الآخرين. فأبسط مثال أنك بلا شك تفهم أي موضوع أقل مما تعتقد.

في الأخير، المعرفة هي الدلائل والثقة. العالم الاجتماعي في جامعة كارديف هاري كولينز، والذي كتب حول مجتمع الموجات الثقالية لعقود، أكد كيف أن التفاعل وجهًا لوجه يشكل ما نريد أن نصدق بحقيقته. وقد ذكر أن عالمًا روسيًا زار مدينة غلاسكو ليعمل مع فريقٍ لم يستطِع التوصل لما توصل إليه مره أخرى، بالرغم من أنه لم ينجح أيضًا حينما أتى ولكنهم لم يشكوا بنتائجه بسبب الطريقة التي عمل بها في معمله. يقول كولينز “هو لم يتوقف إطلاقًا ليتناول الغداء، هو كان يتناول ساندويتشًا فقط في حين أنه يستطيع أن يستمتع بكاري غلاسكو اللذيذ منذ أن قطع هذا الطريق الطويل من روسيا “. هم ظنوا أن لا أحد سيكون مهووسا كفاية لكي يزوّر نتائج ما توصل لها، لذا ظلوا يعيدون التجارب حتى توصلوا إلى نتائج مماثلة لخاصته.

المعرفة الاتكالية تشير إلى أهمية مشاركة عملك. فقبل جهاز مقياس الداخل، حينما بنى الفيزيائيون كاشف الموجات الثقالية باستخدام قوالب الألمنيوم الهزّازة، هم حافظوا على معلوماتهم الخام وشاركوا قائمة الكاشفات التي ظنوا أنهم صنعوها. في الأخير بدأوا يثقون ببعضهم البعض وأصبحوا يعملون معًا. علق جيامي على ما كان سيحدث إن عمل فيزيائيو مرصد ليغو والمراصد الأخرى بذات الطريقة القديمة حيث قال “كنا لنكشف عن اكتشاف القرن”. عام 2017 حدث اصطدام نجم نيوتروني، على عكس تصادم الثقب الأسود عام 2015، تمت دراسته بأشعة الراديو وأشعة جاما والأشعة السينية والتلسكوبات البصرية. هذا كان ممكنًا لأن مرصد ليغو وفيرجو شاركوا معلوماتهم مما جعلهم يحددون مكان وقوع الاصطدام بسرعة. ويكمل جيامي “بدون هذا التعاون، لم نكن لنعرف موقع زوجين من النجوم النيوترونية في السماء بدقة كافية لنوجه له التسلكوبات”

بالتأكيد، المعرفة الاتكالية لديها سلبيات أيضًا باعتبار تكلفة التحويلات بين المنظمات. وإن غادر عضوًا أساسيًا مشروعك، فتخسر قدراتٍ ومعرفة لن تستطيع أن تعوضها بنفسك.

كما تغير التعاون العلمي، صار لدينا جوائز علمية. يقول ويسز “جائزة نوبل هي مفارقة تاريخية من قديم الزمان، حيث كان كلٌ يعمل بمفرده أو بمجموعات صغيرة”، وفاز ويسز بجائزة نوبل للفيزياء في عام 2017 مع كيب ثرون باري باريش على عملهم في الموجات الثقالية. وقال ويسز حيال تلقيه الجائزة “أشعر بالإحراج لتلقيّ الجائزة وأني استطعت فقط قول أني ممثلٌ لنا جميعًا”

في نهاية جولتنا في مكتب جيامي، أشار إلى لوحة على الجدار وقال “إنها تذكار لحقبة جديدة من العلم، حيث إن المجموعات الكبيرة تستطيع أن تفوز معًا”  ففي عام 2016 تم تقديم جائزة الفيزياء الأساسية لتعاون مرصد ليغو العلمي. وتم تقديم مليون دولار لويسز، وثرون، و مؤسس آخر يدعى رونالد دريفر. ومليونيّ دولار تم تقسيمها بالتساوي على آلاف الأشخاص.

هذه الجوائز تتابع تقدم العلم. الباحثون يعتمدون على بعضهم البعض لملء الفراغات في العلم، ولكن التخصصات و التعاونات نمت بشكل كبير مما دمج الاتصالات العالمية بين أكبر الخبراء. مئات الأشخاص شاركوا بتعاون مرصد ليغو العلمي، وكثيرٌ منهم لم يلتقوا ببعضهم البعض. هم يستخدمون الأدوات والمعلومات التي شارك بها آلاف من الأشخاص والذين بدورهم استخدموا الأدوات والمعلومات التي شارك بها ملايين الأشخاص من قبلهم. فمثل هذا التنظيم لا يحدث بشكل عرضي، فهو يتطلب تقنية متطورة ونظام اجتماعي وعمل جماعي. الثقة تؤكد الأدلة وبدورها تؤكد الثقة ويستمر المنوال. وعلى ذلك قس بقية المجتمع. إن قللنا من نظام تعزيزنا الذاتي للثقة والأدلة، فقدنا معرفة أي شيء والقيام به ستتلاشى.

ولربما هناك حدود حتى فلسفيًا، فدرس: أنت تعرف أقل مما تعتقد وأيضًا أكثر مما تعتقد. المعرفة لا يمكن أن نقسمها لطبقات بين الناس. ربما أنت لا تستطيع أن تعرف البناء الضوئي ولكنك جزء لا يتجزأ من النظام البيئي فأنت لا تستطيع فقط أن تعرفه ولكنك تختبره في أدنى المستويات وتستنسخه لتستفيد منه. فأخيرًا، ما الذي تعرفه؟ أنت تعرف ما نعرفه.

اقرأ ايضًا: الإنترنت و وهم المعرفة


[1] -مصطلح سياسي عسكري اقتصادي يعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة. -المترجمة

المصدر
technologyreview

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى