فكر وثقافة

الهواتف الذكيّة تُقلِّل من قيمة التعلُّم

لم تعد قيمة معرفة الحقائق كما كانت، مما أدَّى إلى انخفاض قيمة التعليم

  •  ريتشارد إي سيتوفيك
  • ترجمة: عمر بن عبد الرحمن العايد

يُحذِّر “جو كليمنت” و”مات ميلز” -مُعلّمان قضيا ٣٠ عامًا في زوايا الفصول- من أن الطلاب هذه الأيام صاروا أغبى من الطلاب قبل ٥ أو ١٠ سنين فقط. إن المواطنين الرقميّين -أو ما نستطيع أن نسميه المُتعلّمين الرقميّين- ضعفاءَ بشكلٍ محبِط في التفكير النقدي، و في حل المشكلات التي تستدعي معرفة سابقة، وحتى في قدرتهم على التركيز والاستمرار في الانتباه لمدة كافية. ناهيك عن ضعفهم في المهارات الاجتماعية والتعاطف.

كما أن تدنّي نتائج الاختبارات الأمريكية إذا ما قورنت بالمعايير الدولية يدعم هذه الصورة أيضًا، لكنه ليس ذنب الطلاب، بل الأدلة تشير إلى شاشاتهم وجوالاتهم الذكيّة إذا ما أردنا البحث عن جذور المشكلة.

بدأ الانحدار مع الاختبارات القياسية، والتي أُقرَّت خلالها المفوضية الفيدرالية شعار “لن نترك الأطفال خلفنا” (NCLB). على الرغم من أن هذا القانون كان عام ٢٠٠١، حيث خرج قبل صدور الهواتف الذكيّة، إلا أنه وضع الأرضية ومهّد الطريق لتدنّي مستوى التعليم بشكل ثابت. حيث تُجرى اختبارات دوريّة في مواد أساسيّة حتى يتم قياس ما تعلّمه الطلاب، ومن يفشل من الطلاب يعيد الدورة، والمدرسة أيضًا، قد تخسر اعتمادها إذا لم تحقّق معدلًا عاليًا في نجاح طلابها.

فقد المعلمون -بشكل مفهوم- حيويتهم بسبب هذه السياسة الجديدة، فقياس ما تعلّمه شخصٌ عملية صعبة ومعقدة، فهي تعتمد على ظروف كثيرة، ويتطلب التقييم الدقيق معرفةً عميقةً بكل طالب. أمّا الإختبارات غيرالموجَّهة لشخص بعينه، ذات النطاق الواسع، فهي اختبارات تستطيع فقط أن تمسّ -وبشكل سطحيّ- قدرات ذلك الشخص.

وبسبب الحاجة الى إجراء عدد هائل من الاختبارات في وقت وجيز وبتكلفة معقولة، لجأنا إلى أسئلة الاختيار من متعدد، والتي تكون مباشِرةً وقائمةً على الحقائق. هذا النوع من الأسئلة سهلة الكتابة، وبإمكانها تقييم الطالب بشكل سريع، في حين أن المقالات والأجوبة القصيرة المكتوبة والتنسيقات الأخرى -التي قد تُشعل الإدراك العالي- يمكن أن تكون محرِجةً ومُربِكة، وتحتاج إلى وقت طويل لتقييمها، والمعلّمون ذوو الخبرة لديهم مناهج واسعة تحت تصرفهم، ولكن لأنّهم مضطرون إلى التدريس من أجل الاختبار فقط، فقد حلّ هذا محل الاهتمام بتنمية التفكير النقديّ والإبداعي.

تزامنت هذه الأحداث مع التطور الهائل في محركات البحث وانتشار الجوالات الذكيّة، وفجأة أصبح بوسع أيّ شخص أن يصل إلى سيلٍ لا نهائيٍّ من الحقائق، أما المعرفة الحقيقية فأصبحت رخيصة، والتعليم أصبح قليل القيمة أيضًا.

شكّلت هذه التقنية عادات جيل الألفيّة، فتجده يقول: لماذا يجب عليَّ أن أحفظ هذا وأنا بإمكاني أن أبحث عنه فقط؟ فقد خلطوا بين قدرتهم على البحث وبين المعرفة الحقيقية، ومن المثير للسخرية أن تجد التقنية خلقت نمطًا من “الذكاء الاصطناعي” لدى الطلاب، حيث تجدهم يستعينون بمصادر خارجية في بحثهم عن المعلومة، بما يشبه الأقراص الصلبة الخارجية ولكنهم يخزّنون القليلَ من المعرفة -إن وُجِدَت- في ذاكرة أدمغتهم!

الأهم من ذلك هو التغيُّر في كيفية تفكير الطلاب هذه الأيام، فلو لاحظت لرأيت أنه خلال كامل مسيرتهم التعليمية كل ما يتعرضون له هو أسئلة مبنيّة على الحقائق، والتي بإمكان بحث سريع من خلال “جوجل” الإجابة عنها، فبالنسبة لهم، أن تصبح مثل “جوجل” فأنت قد بلغت ذروة الأداء الأكاديمي. حتى الطلاب المميزين منهم يفكرون بطريقة “بحث جوجل”، فعندما تسألهم أسئلة تبدأ بـ “لماذا” فما ستحصل عليه هو إجابة عن سؤال يبدأ بـ”ماذا”، أو “من هو”، أو حتى “متى”، وهو نفس النوع من التفاصيل التي ستحصل عليها عندما تبحث في محرك البحث.

أسئلة “لماذا” أو تلك التي تتطلب آراءهم أو تحليلهم النقديّ تجعلهم في حَيْرةٍ من أمرهم، لكن لا يزال معظم المعلمين يعتقدون أن التفكير النقديّ والخيال الواعي بالذات -بدلًا من الحفظ عن ظهر قلب- يجب أن يكونا في صميم التعلُّم.

يقدم المناصرون للتقنية ألعابًا جديدة برّاقة، لكنّهم يُسيئون فهم كيفية التعلم؛ أو ربَّما -بشكل ساخر- لا يهتمون.

يجب على الطلاب أولاً أن يستوعبوا القاعدة المعرفية، ثم بالاعتماد على هذه المعرفة الأساسيّة يُقِيْمون روابطَ مع المعلومات الجديدة، وهكذا، حتى يستوعبوا الحقائق التي تزوّدهم بها سلسلة الأحداث، فإذا استطاعوا أن يربطوا بين النقاط -المعلومات الجديدة بالمعرفة السابقة لديهم- فسيحتفظون بالمادة الجديدة هذه، ويتمكنون من وضعها في سياقها المناسب، وتقدير قيمتها حتى يصلوا في النهاية إلى فهم معناها. لكن إذا اعتقدوا أن بإمكانهم أن يبحثوا عنها دائمًا فستمُر هذه النقاط وكأنها أوراق مبعثرة في سيلٍ جارٍ، بدلًا من أن يؤلِّفوا منها منزلًا رائعًا في أدمغتهم، ومن ثَمَّ يُهدر الطلابُ قدراتهم باعتمادهم على الأجهزة لاستدعاء الوقائع على حساب المعرفة.

التعليم يعني “الاستنباط”، وهذا ما كان يقوم به المعلّمون العِظام على مرِّ العصور مع المبتدئين، لكن المعلمين الآن هبطت مرتبتهم، وأصبحوا مجرد ناشري حقائق، وهكذا اشترت الشركات ذات الحوافز الماليّة الضخمة الآباءَ وصُنّاع السياسات على أملِ أنَّ الطلاب سيتعلّمون بكفاءةٍ أعلى وبكلفةٍ أقلّ، وذلك من خلال تقنياتهم البرمجية “التعليمية”. يُشَكّلون الحقائق من خلال ألعاب أو عروضٍ تقديمية، والتي تَعِد -دون دليلٍ- أنها ستكون أفضلَ من أيّ درسٍ يقدّمه شخصٌ حيّ.

وبعدُ، فهذه الأجهزة الذكيّة لا تُعلّم الطلابَ كيف يفكّرون بشكلٍ نقديّ، إنها فقط تعلّمهم كيف يكونون أغبى!

اقرأ ايضاً: في نقد الأفكار وفحص المعلومات الجديدة

المصدر
psychologytoday

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى