- بكي لتل BECKY LITTLE
- ترجمة: سعيد بن عبد العزيز الغامدي
- تحرير: سهام سايح
- مراجعة: مصطفى هندي
عندما حَطّ حُجّاج[1] سفينة ماي فلاور (زهرة أيار) في بليمُث Plymouth في أوائل القرن السابع عشر كانت رائحتهم لا تطاق، حسب ما نقل السكان المحليون. وعلى عكس قبائل الوامبانواغ Wampanoag من الهنود الحمر، فإنّ هؤلاء الأورُبيين لم يكونوا يغتسلون بانتظام. حتى أن ناجيًا من عشيرة الباتوكسِت Patuxet اسمه تِسْكوانتَم (أو “اسْكوانْتو”) حاول إقناعهم بأن يغتسلوا وفشل، وذلك حسب ما ورد في سيرته المنشورة عام 1965م.
يقول بيتر وارد أستاذ التاريخ السابق في جامعة كولُمبيا البريطانية ومؤلف الكتاب الجديد “البدنُ النظيف: تاريخ حديث“:
“الاغتسال – كما نعرفه جميعا- كان نادرًا جدًّا جدًّا (بين الأورُبّيّين الغربيين) حتى أواخر القرن الثامن عشر”.
وهذا ينطبق على جميع الطبقات الاجتماعية. يُقال أنّ لويس الرابع عشر ملك فرنسا في القرن السابع عشر لم يغتسل إلّا ثلاث مرات في حياته كلها، ويقول وارد: إن الأغنياء والفقراء على حد سواء كانوا يغسلون وجوههم وأيديهم ربّما يوميًّا أو أسبوعيًّا، لكن لا أحد تقريبًا في أوروبا الغربية كان يغسل كامل جسده أبدًا.
الحُجّاج الانفصاليون والبيوريتان [المتطهِّرين] الذين تبعوهم ربّما كانوا يعتقدون أنّ غمس أجسادهم كلها في الماء= غير صحِّي، وأن خلع ملابسهم كلّها لأجل ذلك كان خلاعة.
يقول وارد: “إنّ التفكير بالنظافة لم يكن له علاقة بالماء تقريبًا حتى القرن السابع عشر في أي مكان في العالم الغربي”.
ورغم أن الحمّامات العامة كانت موجودة في المستعمرات، فإنّها في ذهن العامة لم تكن للاغتسال، بل كان يُعتَقد أنّها نوعٌ من الرعاية الطبيّة، أو مكانٌ يسترخي فيه الأثرياء. في سبعينيّات القرن السابع عشر اغتسل حاكم مستعمرة فرجينيا الملكي ليتبرّد في يوم قائظ، ومرات اغتسال لويس الرابع عشر التي لا تتجاوز أصابع اليد= كانت بإشارة الطبيب ليعالج تشنّجاته.
يقول وارد: “إنّ النظافة بالحدِّ الذي يفهمه الناس في القرن السابع عشر لها علاقة بما نسمّيه الآن الملابس الداخلية أكثر من أي شيء آخر”.
أبقى المستعمرون أنفسهم “نظيفين” بتغيير ملابسهم البيضاء التي تحت ملابسهم فقط، وكلّما كانت أنظف وأنصع كان الشخص نظيفًا كما يعتقدون.
يقول: “كان يُعتَقد أنّ الملابس الداخلية البيضاء هي ما كان حقًّا يُبقي البدن نظيفًا… لأنّه كان يُظَنّ أن الملابس الداخلية ذاتها هي العامل الذي ينظف البدن؛ فتمتص شوائب الجسد والأقذار والعرق وهكذا”.
كانت هذه البياضات ظاهرة قليلاً حول الياقة، حتّى يتسنّى للآخرين رؤية كم كان الشخص الذي يرتديها نظيفًا. تقول كاثلين إم. براون أستاذة التاريخ في جامعة بنسلفانيا في كتابها “أبدان قذرة: النظافة في أيام أمريكا الأولى“: “إنّ إبراز رجل إكليروس بيوريتاني المميز ملابسه البيضاء حول ياقته كانت تجعله ليس رجل دين فحسب، بل أيضًا رجلاً نبيلاً”.
وتضيف: “في زمن لم يكن الاغتسال المستمر معروفًا، لم يكن أي رجل نبيل يرتدي “البياضات” حتى العنق ليرفض تغييرها باستمرار، لأنّ الياقة إن ارتداها لعدة أيام ستظهر أوساخ جسمه للناس”.
كان البيوريتانيون أيضًا يعتقدون أنّ إبقاء غطاءات سُرُرهم البيضاء نظيفة هو السبيل لإبقاء أبدانهم نظيفة. وكان من المعروف أنّ النوم من غير أن يخلعوا حُلَلَهم أمرًا غيرَ صحي وفاسد. وفي رسالة من عام 1639م يتّهم مستعمر من ولاية “مَين” خادمته بـ “القذارة” لأنّها “تنام بملابسها وجواربها”، وبذا توسّخ بياضات سريرها.
كان للأمريكيين الأصليين الذين واجههم المستعمرون أولويات مختلفة في مسائل الصحة. فمعظم الأمريكيين الأصليين مثل قبائل الوامبانواغ كانوا يغتسلون علانية في الأنهار والجداول، واعتقدوا أيضًا أنّه من النجاسة والقذارة أن يحمل الأورُبّيّون مخاطهم في مناديلهم.
كما أنّ معظم السكان الأصليين كانت أسنانهم في مظهر أفضل بكثير من الأورُبّيّين، فكانوا ينظّفون أفواههم باستخدام العديد من الطرائق، منها تفريش أسنانهم بمساويك من أفرع الأشجار، أو مضغ أعشاب منعشة كالنعناع لتنقية أنفاسهم، وكانوا يفركون الفحم على أسنانهم لتبييضها. أما معظم الأورُبّيّين الذين قدموا فعلى العكس، ربّما ما كانوا يفرشون أسنانهم مطلقًا، وكانوا يتّبعون حمية سيئة بشكل عام لصحة أفواههم.
إنّ افتقار المستعمرين للطهارة كان أكثر من مجرد “إزعاج مُنتن” بالنسبة للأمريكيين الأصليّين الذين احتكّوا بهم، لأنّهم جلبوا معهم أخطارًا أكبر، فالمستعمرون الذين لم يكونوا يغتسلون نقلوا الجراثيم التي لم يَخبُرها السكان الأصليّون من قبل، فلم تكن لديهم مناعة.
يقدّر المؤرخون أنّ أوباء الأورُبّيّين حصدت أكثر من 90% من السكان الأصليين في ساحل ما كان يُعرف حينها بـ “نيو إنجلاند” قبل سنة 1620م، السنة التي وصل فيها الحُجّاج الأوائل. وعلى مَرّ العقود القليلة التالية ستحصد أوباء الأورُبّيّين ملايين أكثر.
[1] في القرن السادس عشر كانت هناك مشاكل كبيرة في إنجلترا بين الأرثوذكس المتشدّدين وباقي الطوائف، فأراد المتشدّدون أن يغيِّروا قانون الدولة لمنع كل ما يخالف الدين، وكان هدفهم إبعاد الكاثوليك عن الحكومة. وكانوا أيضًا ضد الملك، أولا لأنّه لم يكن أرثوذكسيا وثانيا لأنّهم اعتبروا كل المؤمنين المسيحيين متساوين أمام الله. وخسروا في نهاية الحرب الأهلية الإنجليزية، فقرّر البعض أن يطبق قانونهم الديني في بلاد بعيدة، فذهبوا إلى أمريكا (العالم الجديد) وأول من ذهب كانوا من طائفة “الحجّاج” (Pilgrims)، ووصلوا إلى ولاية ماساتشوستس عام 1620 وبنوا قرية “بليمُث”، ولم تكفهم المأكولات التي أخذوها معهم، فساعدهم الهنود الأمريكيون (وخاصة رجل يدعى “سكوانتو”)، فعاشوا، وفي الخريف وجدوا حصادهم كبيرا، فأقاموا عيدا مع الهنود الأمريكين ليشكروا الله على الحصاد، وكان هذا أصل العيد الأمريكي عيد الشكر (Thanksgiving) -المراجع-