عام

عبراتٌ في وداع الفذ

مقالة رثائية في الفقيد الشيخ العبودي

  • درع بن عبد الله الدرع

في الثاني من شهر ذي الحجة توفي شيخنا الشيخ العلامة: محمد بن ناصر العبودي رحمه الله وغفر له، وكان قد انقطع عن الناس في آخر حياته، وأُدخل المستشفى قبل وفاته بشهرين تقريبًا.

صُلي عليه من الغد في جامع الجوهرة البابطين بعد صلاة الظهر بمدينة الرياض.

دخلتُ مغسلة الأموات ووجدته قد غُسّل آنفًا، فسُمح بالدخول لمن يريد السلام، ولما رأيته مسجى تأملتُ وتألمت على فقده، ثم كشف أحد أبنائه عن وجهه فقبّلت جبينه ودعوتُ له.

الله أكبر! بعد عمر مديد، وحياة حافلة، وتطواف في أرجاء العالَم، وكتاباتٍ تفصيلية، تنتهي رحلته، التي لن يكتب حرفًا واحدًا عنها، ولن يحدث الناس بها.. وهذا مصير كل حيّ!

سمعتُ أحد محبيه يقول بزفرة قلب بعد أن رآه وقبّله: يا أبا ناصر طبتَ حيًّا وميتًا.

حضر للصلاة عليه جمع غفير من الناس، ومن أوائل من حضر مبكرًا الشيخ د. عبد العزيز بن محمد السدحان.

حضر هذا الجمع وقد علا الكلّ التأثّر والتألّم لفقده، وصبّروا أبناء الفقيد، وقد حدثني أحد أبنائه في كلامٍ فحواه: (أن مما خفّف عليهم وطأة المصيبة هذا التأثر العجيب من المجتمع على فقده في وسائل التواصل)؛ لأن هذه المصيبة ليست حصرًا على آل عبودي، فهو عالم فذٌّ كرّس جهده ووقته في الدعوة والتأليف، في صبرٍ ومصابرة يعزّ نظيرهما!

دُفن في مقبرة شمال الرّياض، في وقتٍ شديد الحرّارة جدًّا، ولما رأيتُ القوم يحثون التراب على قبره قلتُ في نفسي: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على فقيد العلم والأدب!

أَهكَذا البَدرُ تُخفي نورَهُ الحُفرُ!

ولكن هذه سنة الله في خلقه، فله وحده البقاء.

أمّا المكلوم وصاحبه الوفي وابنه من غير صلبه: محمد بن عبد الله المشوح، فقد رأيته في مواضع متماسكًا حامدًا لله راضيًا بما قدّر، وقد أنزله في قبره ولحّده، وبعد الدفن جعل يدعو له كثيرًا، ولما استدار بوجهه وانصرف نحو المعزّين لم يتمالك نفسه فبكى وأبكى، وحاول أن … فلم تطعه عينه!

وليسَ الذي يجري مِن العينِ ماؤُها
‏وَلَكِنَّهَا نَفسٌ تَذُوبُ وَتَقطُرُ

و(إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب) وإن كان للفقيد فضل على طلبة العلم ومحبي القراءة، فإن للمشوح فضلًا عليه لا يُنكر في جمع كتبه وطباعتها.

مناقب الفقيد

ثم إنّ من أجلّ صفاتِ الفقيد: علو همته، ودأبه في العلم، وقوة ذاكرته، وحسن خلقه.

ذكريات مع الفقيد

– ومن الذكريات التي لا تُمحى مع الشيخ: أنه في عام (١٤٣٢) كنت أكتب سيرة شيخنا محمد السليمان العليط، فاتصلتُ على الشيخ العبودي وأخبرته ففرح واستبشر، فهو قريبه، ومدير المعهد العلمي إبّان دراسة شيخنا العليط فيه، فقال: اكتب ما تريد من الأسئلة وأرسلها ففعلتُ، ثم مكثت فترة فأرسل أوراقًا تعتبر إضافة قيّمة في الترجمة، وبعد أربع سنواتٍ تقريبًا رأيته في بريدة وعرّفته بنفسي فقال: أنت الذي كتبت إليّ؟ قلت: نعم، قال: ماذا عن الكتاب؟ فقلت: انتهيتُ منه، فرغب أن يطلع عليه فواعدته بذلك، ثم سافر بعد ذلك ولما قدم مرة إلى بريدة ذهبت إليه وأعطيته الكتاب وكان ذلك بعد صلاة العشاء، فأخبرني فيما بعد: أنه قرأه تلك الليلة! وأثنى ودعا وأمرني بطباعته فورًا، وقال: سأكتب له مقدمةً، وبعد سنة تقريبًا اتصلتُ عليه معزيًا في وفاة صديقه الشيخ: محمّد بن عثمان البشر فسألني مباشرة عن الكتاب ولامني في التأخير في طباعته! وقال فيما فحواه: (كثير من الناس انصرف للدنيا وهذا الشيخ زاهد فيها، وإنني سأشارك في طباعته وتوزيعه احتسابًا)، فلك أن تتعجب من هذه الذاكرة، وهذه الروح الجميلة، وهذا الاحترام الرائع مع شخص في سن أحفاده!

– وجالسته مرةً في مزرعته في بريدة فرأيتُ من محبته للتاريخ وكتابة السير ما يُدهش، وكأني أراه الآن وهو يشير إلى التمر السكري: ويقول: كُل سكري .. فإنه من هذه النخلات التي ترى!
وتحدّث في تلك الجلسة عن بعض ذكرياته مع الشيخ فهد العبيد رحمه الله، وممّا قال: إنّني ذهبت وإيّاه مشيًا على الأقدام إلى الشيخ عبد العزيز العودة السعوي في المريدسية ثم تحدّث عما دار بينهم في تلك الجلسة، وماذا قدم السعوي لهم من طعام، كأنه يراه اللحظة! مع إن السعوي قد توفي عام ١٣٦٨ تقريبًا! ثم حثني على كتابة سيرتهما وأيضًا سيرة الشيخ صالح البراهيم الرسيني.

وختامًا: ودّع الناس شيخنا العبودي، وأُنزل في آخر رحلة له في الدنيا، وهو أحوج إلى الدعاء والصدقة من حاجته إلى المديح والثناء، فرحمة الله عليك يا أبا ناصر، وبوّأك درجات عالية في الجنات.

فو اللهِ لاَ أنساكَ ما ذرَّ شارقٌ
وَمَا حَنَّ طَيْرٌ بِالأَرَاكِ مُهَيْنِمَا

ونقول كما قال الشيخ ابن عثيمين في تأبينه للشيخ ابن باز بعد أن دعا له وذكر فضله وسابقته: “نسأل الله أن يرحمه، وأن لا يكِله إلى عمله”.

يَعِزّ عَلَيّ حِينَ أُدِيرُ عَينِي
أُفتِّش في مَكانِك لا أَرَاكا

مضى الشيخ العبودي.. وبقي الأثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى