الدين

لماذا نُحبّ الله؟

  • حمزة أندرياس تزورتزس
  • ترجمة: محمد فاضل بلمومن
  • تحرير: وجدان منصور

“ومهما كان القلم مسرعًا في الكتابة، فإنه قد وصل إلى العشق وتحطم وصار بددًا”.[1]

نعم صدق الرومي، عندما يُوضع القلم على الورق ويكتب عن الحب؛ فإنه يتحطم. محاولة وصفِ الحب تكاد تكون مستحيلة. الحب حقًا قوة أو شعور قوي وفريد ولا يُقاوم ولا يوصف الحب. تعوزنا الكلمات عندما نُحاول التعبير عن حُبّنا وكأنه قد اختفى، ويصبح كل ما نقوله من تعبيرات وأحاسيس لا يمكنها أن تعكس بشكل كامل ما يعتمل في أعماق قُلوبنا. قد يُفسَّر هذا سبب ربط الحب بالأفعال وليس بالكلمات فقط؛ فنحن نحتضن بعضنا البعض، ونشتري هدايا لأحبائنا، ونرسل باقات الزهور إلى شركاء حياتنا، أو نخُرج لتناول عشاءٍ رُومانسي؛ فالحب ليس مجرد شعور داخلي. إنه طريقة عيش، ومنهج للسلوك. وصف عالم النفس إريك فروم الحب بأنه “فعل وليس انفعال سلبي”. [2]

إذا أحببت نفسك؛ فأنت تحب الله

هناك أنواعٌ عديدة من الحب ومن بينها حب الذات، يحدث هذا النوع بسبب الرغبة في إطالة وجودنا، والشعور بالمتعة وتجنّب الألم، وكذلك الحاجة إلى تلبية احتياجاتنا ودوافعنا البشرية. لدينا جميعًا هذا الحب الطبيعي لأنفسنا، لأننا نريد أن نكون سعداء ومكتفين. قرر إريك فروم أن حب الذات ليس شكلاً من أشكال الغطرسة أو الأنانية، بل إن حب الذات يتعلق بالرعاية وتحمل المسؤولية واحترامنا لأنفسنا، حب الذات يزيدنا حبًا لغيرنا وكما اعتادوا أن يقولوا “ارتدِ قناع الأوكجسين أولاً ثم ساعد الآخرين”

هذا النوع من الحب ضروري لكي نحب الآخرين. إذا كنا لا نستطيع أن نحب أنفسنا، فكيف يمكننا إذن أن نحب الآخرين؟ لا يوجد شيء أقرب إلينا من أنفسنا؛ إذا كنا لا نستطيع رعاية أنفسنا واحترامها وتقديرها، فكيف يمكننا إذن أن نهتمّ بالآخرين ونحترمهم؟ حب أنفسنا هو شكل من أشكال “التعاطف مع الذات”، فنحن نتواصل مع مشاعرنا وأفكارنا وتطلّعاتنا. وإذا لم نتمكن من التواصل مع أنفسنا، فكيف يمكننا إذن أن نتعاطف ونتواصل مع الآخرين؟ يُردّد إريك فروم هذه الفكرة بقوله “إنّ الحُب يعني ضمنيًا أن احترام نزاهة الفرد وتفرده، وحب المرء وفهمه لذاته= لا يمكن فصله عن الاحترام والحب والتفاهم تجاه الآخر”.[3]

على الرغم من أننا قد نُضحّي بأنفسنا ونؤذيها بسبب محبّتنا للآخرين، إلا أن هذه التّضحيات تسعى دائماً لتحصيل قدرٍ أكبر من السعادة. فكّرعلى سبيل المثال؛ عندما يذهب شخص ما بدون طعام لإطعام الآخرين. قد يكون هذا الشخص شعر بألم الجوع، ومع ذلك، فقد حقق أيضًا سعادة عامة أكبر لأن ألم رؤية الآخرين من دون طعام كان أكبر من الانزعاج الناجم عن نقص الطعام، وهذا مايسمى بالمنهج الإسلامي (الإيثار)هذه التضحيات، على الرغم من إمكانية اعتبارها سلبية، إلا أنها في النهاية فُعلت من أجل سعادة أكبر. من وجهة نظر إسلامية أعمق: فإنك إن ذهبت تطمئنّ على الآخرين وأنت لا تملك شيئاً بالأصل؛ فإنّ هذا هو الطريق الذي يُؤدّي إلى السعادة المطلقة .البركات والمكافآت الإلهية المرتبطة بالتضحية من أجل إخواننا البشر= هي النعيم الأبدي النهائي.. هي الجنة. بهذه الطريقة، تُفهم هذه التضحيات على أنها استثمارات روحية وليست خسارة. بإختصار، يمكن أن يشمل حب الذات التضحية وتحمّل المصاعب لأجل الآخرين، لأن ذلك سيؤدي إلى مزيدٍ من السعادة والرضا.

إذا كانت محبة الإنسان لنفسه ضروريةً، فيجب أن يدفعه ذلك إلى محبة خالقه. لماذا؟ لأن الله هو أصل كل محبة، كما أنه خلق الأسباب والوسائل الجسدية ليُحقق كل إنسان السعادة والسرور ويتجنّب الألم. لقد منحنا الله -بحُرية- أن نعيش كل لحظة ثمينة من وجودنا، ومع ذلك فإننا لا نكتسب هذه اللحظات أو نمتلكها. يشرح عالم اللاهوت العظيم الغزالي بجدارة أنه إذا أحببنا أنفسنا فعلينا أن نحب الله:

” فإذن إن كان حب الإنسان لنفسه ضروريًا فحبه لمن به قوامه أولًا ودوامه ثانيًا في أصله وصفاته وظاهره وباطنه وجواهره وأعراضه أيضًا ضروري إن عرف ذلك، كذلك ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته”.[4]

حب الله هو الأنقى

الله هُو الودود، ولا حب يسمُو على حبّه. هذا من شأنه أن يجعل أي شخص يرغب بحبّه سبحانه، ومحبّته هي جزء أساسي من العبادة. تخيّل لو أخبرتك أنّ شخصًا يُعتبر أكثر شخصٍ ودود على الإطلاق، وأنه لا يوجد حب آخر يمكن أن يضاهي محبّته، ألا يغرس ذلك فيك رغبةً قويةً في التعرف على هذا الشخص، وفي النهاية أن تُحبّه أيضاً؟ محبة الله هي أنقى أشكال الحب وأشدّها. لذلك أي شخص عاقل يرغب في أن يحبّ الله سبحانه. بالنظر إلى أن الكلمة الإنجليزية للحب تتضمّن مجموعة من المعاني؛ فأفضل طريقة لتوضيح المفهوم الإسلامي لمحبة الله هو النظر في المصطلحات القرآنية الفعلية المستخدمة لوصف الحب الإلهي: رحمته الخاصة ومحبّته الخاصة. من خلال فهم هذه المصطلحات وكيفية ارتباطها بالطبيعة الإلهية، ستتعلم قلوبنا أن تحب الله سبحانه وتعالى.

الرّحمة

يُقال أن المرادفَ الآخر لكلمة حُب هي الرحمة؛ ومن أسماء الله الرحمن الرحيم، الكلمة العربية المستخدمة هي الرحمن. هذه الترجمة الإنجليزية لا تمثل بشكل كامل العُمق والقوة التي تحملها هذه الكلمة. لاسم الرحمن ثلاث دلالات رئيسية: الأول أن رحمة الله هي الرحمةٌ التي لا تضاهيها رحمة؛ والثاني أن رحمته صفة خاصة به. والثالث أنه لا يمنعها شيء فالمعنى الحرفي والمعنوي أن رحمة الله تشمل كل شيء لذلك الله يحب للبشر الهداية. ويقول الله في كتابه الكريم:

“ورحمتي وسعت كل شيء”  [الأعراف 156]

“الرحمن علّم القرآن” [الرحمن 1]

في الآية السابقة يقول الله تعالى أنه الرحمن الرحيم، أي “رب الرحمة”، وأنه علّم القرآن. هذا مؤشرٌ لغويٌّ لإبراز أنّ القرآن نزل تعبيراً عن رحمة الله. بعبارةٍ أخرى، القرآن هو بمثابة رسالة حب كبيرة للإنسانية. تمامًا مثل الحب الحقيقي، فإن من يحب يريد الخير للحبيب، ويُحذّره من المزالق والعَقبات، ويوضّح له طريق السعادة. القرآن ليس مختلفًا: إنه يدعو الإنسانية، كما أنه يُنذر ويُبشّر.

الرّحمة الخاصة

الاسم المتّصل بالرحمن هو الرحيم. يشترك هذا الاسم في نفس الجذر مثل الاسم السابق، والذي يأتي من الكلمة العربية التي تعني الرّحم. ومع ذلك، فإن الاختلاف في المعنى كبير. الرحيم من يرحم رحمةً خاصة لمن يريد أن يدخلها. من يختار قبول هداية الله فقد قبل رحمته الخاصة. وهذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين تتجلى في الجنة.

الحُب الخاص

وفقا للقرآن فإن الله هو الودود؛ يشير هذا الاسم إلى حب خاص يأتي من كلمة “وُدّ”، وتعني التعبير عن الحب من خلال فعل العطاء: “وهو الغفور الودود”. [البروج 14]

تتجاوز محبة الله كل أنواع الحب المختلفة. حبه أعظم من كل أشكال الحب الدُّنيوية. على سبيل المثال، حُب الأم، على الرغم من نكرانها لذاتها، فإنّ الحب يقوم على حاجتها الداخلية إلى حب طفلها. يُكمّلها، ومن خلال تضحياتها تشعر بالرضا والاكتفاء. الله قائم بذاته وكامل؛ غني عن كل شيء. ومن ثم فمحبة الله لا تقوم على الحاجة أو العوز. لذلك فهي أنقى أشكال الحب، لأنه لا يربح شيئًا على الإطلاق من محبّتنا.

في ضوء هذا ، كيف لا نحب من هو محُب أكثر من أي شيء نتخيّله؟ قال النبي محمد ﷺ: “الله أرحم بعباده من الأم بأولادها”.[5]

إذا كان الله هو الأكثر محبة، وكانت محبته أعظم من أعظم محبةٍ دنيويةٍ عِشناها، فيجب أن يغرس فينا حبًا أعمق لله. بشكلٍ ملحوظ، فهذا يجعلنا نريد أن نحبه بأن نكون أحد خَدَمِه. قال الغزالي باقتدار: “كل ذي بصيرة يعلم أنه لا محبةً حقيقيةً إلا لله، ولا أحد يستحق المحبة إلا هو”. [6]

من منظورٍ روحي، محبة الله هي أعظم نعمة يمكن لأي شخص أن يُحققها على الإطلاق، فهي مصدر هدوء داخلي وسكينة ونعيمٍ أبدي في الآخرة. إن عدم محبة الله ليست فقط شكلاً من أشكال الجحود؛ بل شكلٌ من أعظم أشكال الكراهية. إن عدم محبة من هو مصدر الحب ومن هو ربّ الحب هو رفض لما يجعل الحب يحدث ويملأ قلوبنا.

الله لا يفرض علينا محبّته الخاصة، على الرغم من أنه -برحمته سبحانه – يمنحنا المحبّة في كل لحظةٍ من حياتنا، لنعتنق محبة الله بالكامل ونستقبل حُبّه الخاص، يجب على المرء أن يدخل في علاقة معه. يبدو الأمر كما لو أن محبة الله تنتظر منا أن نعتنقها. ومع ذلك، فقد أغلقنا الباب وأسدلنا الستائر. لقد أغلق الباب من ينكر الله. إذا فرض الله محبته الخاصة علينا، فسوف تفقد المحبة كل معانيها. لذلك منحنا الخيار: أن نتّبع الطريق الصحيح وننال بذلك محبةَ الله الخاصة ورحمته، أو نرفض هدايته ونواجه العواقب الروحية.

إن ّأكثر الكائنات محبة يُحبك، لكن لكي تحتضن هذا الحب الخاص، ولكي يكون ذا معنى، عليك أن تختار أن تُحبّه وتتّبع الطريق الذي يُؤدي إلى حبه. هذا الطريق هو الطريق النبوي:

“قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [آل عمران 31]

والسؤال المهم الذي يلي ذلك هو: أعرف لماذا يجب أن أحب الله ، لكن كيف أحبه؟ آمل أن أعالج هذا في مقال آخر. لكن في الختام ، أترككم مع كلمات ابن القيم:

“لا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة، وكمال المحبة تابع لكمال المحبوب في نفسه، والله -سبحانه وبحمده- له الكمال المطلق التام في كل وجه، الذي لا يعتريه توهمُ نقص أصلًا، ومن هذا شأنه فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فطرها وعقولها سليمة، وإذا كانت أحب الأشياء إليها فلا محالة أن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه، وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب استفرغ الوسع واستخلص القلب للمعبود الحق”.[7]


[1] Masnavi I: 109-116

[2] Fromm, E. (1956). The Art of Loving. New York: Harper & Row, p. 22.

[3] Ibid, pp. 58-59.

[4] Al-Ghazali. (2011) Al-Ghazali on Love, Longing, Intimacy & Contentment. Translated with an introduction and notes by Eric Ormsby. Cambridge: The Islamic Texts Society, p. 25.

[5] Narrated by Abu Dawud.

[6] Al-Ghazali. (2011) Al-Ghazali on Love, Longing, Intimacy & Contentment, p. 23.

[7] Miftaah Daar al-Sa‘aadah, 2/88-90.

المصدر
hamzatzortzis

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى