- كريس دالي*
- ترجمة: مريم علاء خيري
- تحرير: بلال الخصاونة
على مدى العصور، فإن الفلاسفة يبدو أنهم استنفدوا جلَّ جهودهم في التساؤلات والسِّجالات، فلماذا تستعصي المشكلات الفلسفيّة على الحل؟
إن الفلسفة قد بدت في وضع ميؤوسٍ منه، فإن تاريخها في الغرب قد بلغ 2500 عامًا، مع لائحة قديمة تنضح بالمشكلات. أسئلة تدور حول الوجود، وماذا نعلم نحن عنه: ألدينا إرادة حُرّة؟ هل ثَمّة عالمٌ خارجيّ؟ هل هناك إله؟ وهكذا دواليك. وأسئلة أخرى عن التحليلات والتعريفات كسؤال: متى تكون الجملة صحيحة؟ متى يكون الفعل عدلًا؟ ما هي السببيّة؟ من هو الإنسان؟ وهذا غيضٌ من فيضٍ؛ ولكل فكرة مجردة؛ هناك فيلسوف ما قد تساءل عن ماهيّتها.
وبالرغم من هذه الوفرة من الأسئلة، والقرون التي مضت في محاولة التعامل معها؛ لم ينجح الفلاسفة في الوصول إلى أيّ إجابات. لقد بذلوا ما استطاعوا ولكن لم يكن أيًا مما قدّموه من إجابات عن تلك الأسئلة قد أغناهم وكفاهم. ولم يتوانَ فلاسفة آخرون في انتقاء الثغرات في محاولاتهم للإجابة وكشف عيوبها أو الافتراضات التي لم تثبُت صحتها. ثم تُسَدّ تلك الثغرات في محاولات الإجابة، وتوضع على طاولة النقاش ثانية. ثم لا تلبث تلك الترقيعات أن تُخرق مرة أخرى وتُبين عن الثغرات السالفة، وتَظهر ثغرات جديدة. تلوح الفلسفة كبحر من الجدالات لا ساحل له، وأسئلتها مستعصية على الحل فيما يبدو.
هاهنا جوهرة صغيرة من القرن السابع عشر[1]، وتعرف بمسألة مولينو، تخليدًا للعالِم والسياسي الإيرلندي ويليام مولينو (1656-1698) الذي طرح سؤالًا قد حير الفلاسفة منذ ذلك الحين.
تخيل معي شخصا أعمى منذ ولادته، قد أُتيح له اكتشاف مكعبٍ وكرة بحاسّة اللمس، وقد تعلم ذلك الشّخص تعريف وتسمية كليهما فقط باللمس. الآن، إذا أصبح هذا الشخص مبصرًا، فهل سيكون قادرًا على معرفة أي منهما المكعب وأي منهما الكرة فقط من خلال الرؤية البصرية؟
إليك تجربة فكرية شبيهة، تسمى: حُجّة المعرفة، بعد قراءة الكتب المناسبة؛ افترض أنك تتعلم كل شيء عن كيمياء الأمونيا. وبمزيد من القراءة؛ فباستطاعتك أن تتعلم كل شيء عن كيفية عمل جهاز الشّم، وكيفية تفاعله مع مركب الأمونيا بالأخصّ، وأي تغيّراتٍ مميزة تلك التي تَحدُث في الغشاء المخاطي وفي أعصاب الشّم.
هل يمكنك – بعد كل تلك المعلومات المستقاة من الكتب المدرسية – معرفة رائحة الأمونيا تمام المعرفة؟ أم أن هناك شيئًا ما يتعلق برائحة الأمونيا؛ تلك التجربة النوعيّة للرّائحة الحادّة النفاذّة، التي لم تكن لتعرفها من خلال معرفتك السابقة بمنأىً عن تلك التجربة؟
إنّ مثل هذه التجارب الفكريّة، تستحدث جدالات تترى. ليس فقط لأن لكل معضلة من تلك جوانبَ شتى تتمثلها، بل لأن لكل وجهة نظر منها قضية قوية تُثار لها وتقطع بها، على الرغم من تعارض بعض وجهات النظر مع بعضها. دعنا نأخذ تجربة فكريّة أخرى، حيث يبدو أن معرفة رائحة الأمونيا تمام المعرفة لم تكن المعلومة التي تُمَكِّن من معرفتها قراءةُ الكتب، أَثَمّة – بعد ذلك – حقائق عن التجربة الإنسانية التي لا يتسع لها العلم التجريبي ولا بإمكان الكتب أن تُقرِّرها؟ هل هناك شيء “ما ورائي” ليس بإمكان العلم وصفه؟ فإن كان كذلك، فإنه يلزم من ذلك أنّ البشر ليسوا أنظمة ماديّة خاوية، وتلك ملحوظة استثنائيّة، خلافًا عما تخبرنا به العلوم الطبيعيّة التجريبيّة عن العالم.
هل أرشدتنا تلك التجربة الفكرية عن حقيقة الإنسان أم أنها -فعليًا- أضلتنا السبيل؟ تَظلُّ تلك الدّعوى قائمة عليها، وعلى كل مشكلة فلسفية أخرى.
تتجلى براعة الفلسفة في إثارة المشكلات، وفي استعصائها على بناء إجماع. لكن التقدم ليس منوطًا بالإجماع حصرًا، فإن من الفلاسفة من نجح في إيجاد بعض الحلول لمشكلة ما، من غير أن يبلغ حلّه الآفاق، أو يلقى قبولا عالميًا. ولكن تحقُّقُ وقوع هذا الإجماع من عدمه؛ قد يكون دليلًا على مقدار تقدم مجالٍ ما.
قد بات الفارق جليًا بين العلم التّجريبيّ والفلسفة، على الرغم من تأخّر ظهور العلم التجريبيّ. بل إن الفلاسفة لم يتّفقوا على ما أنجزوه، فضلًا عن الجدال والنّقاش الذي لا يَرحم. في الناحية الأخرى، فإن العلم التجريبي قد حاز قصب السبق وذاع صيت إجماعاته. حيث تخضع كثير من المشكلات العلميّة للتجربة واختبار الفرضيّة، بينما يتهاوى صرح الفلسفة. ربما أحدث ذاك التناقض مع العلم التجريبي؛ تعقيبين، مفادهما: أن كليهما يُشكِّك في صورة العلم المطمئنّة والتي ترى أنه معنيٌّ ببناء المعرفة لبِنةً لبِنةً بالتّراكم.
في كتاب منطق الكشف العلمي (1959)، أكّد كارل بوبر أنّ في العلم التجريبيّ متَّسَعًا للتخطئة والدّحض عن طريق التجربة والملاحظة. وأكمل بوبر، أنّ ذلك يُظهر جليًا أن النظريات التجريبيّة المطروحة قابلة فقط للتخطئة بالاختبار، ولكن لا دخل له بإثبات مدى صحة كل نظرية. ربما بالإمكان أن نُوسِّع دائرة بوبر في العلوم لتشمل الفلسفة، وربما بإمكاننا أن ننظر إلى الفلسفة متبعة لطريقة الحدوس والتخمينات الجريئة نفسها، على الرغم من استحالة تأكديها، أو دحضها بالأدلة.
تقول نظرية بوبر أن للملاحظة دورٌ سلبيٌّ فقط، إنها مَعنيّة فقط بإثبات زيف النظرية المطروحة، وذلك يفضي إلى أن دليلَ أي نظرية علمية لا يتعلق بالملاحظة. دعنا نضع جانبًا إن كان بوبر قد أحسن وصف الطريقة العلمية أم لا، ونعتبر امتداد هذه الطريقة في الفلسفة. لا تتبنأ الفلسفة بما نلاحظه في معظم الأحيان، لذا فلا يمكن دحض النظريات بدعوى أنها تقدم تنبؤات خاطئة عن ما نلاحظه.
عندما أسس جورج بيركلي لمثاليته عام 1710، والتي تقوم على أن الأشياء المادية ما هي إلا صورة للأفكار في أذهاننا أو في ذهن الإله، لم يكن بيركلي يتنبأ بملاحظات معيّنة قد نتنبأ نحن بنقيضها، أو هناك من تنبأ بعكس ملاحظاته من الفلاسفة. ببساطة بالنسبة لبيركلي، أيٌّ مما نلاحظه، هو مجرد أفكارٍ في ذهننا. فلتلاحظ ما تشاء، فلن تخالف بيركلي. لذا فإن علينا تعيين ما نتوقع أن نلاحظه إذا كنا سنُوسّع دائرة تفسير بوبر لتشمل الفلسفة، وحينها تبدأ المشاكل.
تُقدِّم أي نظريّة فلسفية مثيرة للاهتمام ادعاءات غير واضحة، وإلا فلن يكون هناك ما يدعو لطرحها. ثم تحتاج تلك الادعاءات إلى من يُحاجِج عنها، ولهذا، فإن بضاعة الفيلسوف هي المحاجّة. ومن هُنا، وبافتقار المحاجّة إلى مقدِّمات منطقيَّة، تلك التي نستقي منها الخُلاصة. فإن المقدِّمات تُسَوّغ لنا إيماننا بتلك النتيجة.
وهذا يجعلنا نطرح سؤالين؛ من أين تُستمد المقدّمات المنطقية للمحاجّة الفلسفيّة؟ ولم علينا أن نقبل تلك المقدّمات؟
تستهوي كثيرًا الفلاسفةَ الإجابةُ على السّؤال الأوّل، بقولهم أنهم يَستقون مقدّماتهم المنطقية من “حدسهم”، أي بما كانوا يميلون للتفكير فيه بعد إحطاتهم بمشكلة فلسفيّة. بعد علمك بمسألة مولينو، وسنفترض أنه قد باغتك علمك أن ليس بوسع الإنسان تعريف كلّ شيء، فهذا هو الحدس. وإن انتابك أنّ ارتكاب الأشخاص للأخطاء هو شيء غير منطقيّ/لاعقلانيّ؛ فذلك حدسٌ آخر. ولدى الفلاسفة الكثير من الحدس الخاصّ، باعتبارهم أشخاصا متشبثين برأيهم. ونواجه صعوبة، متمثلة في تناقضات حدس الفلاسفة المختلفين، ولذا فليس كل حدس صحيحًا. وصعوبة أخرى، تكمن في ابتعاد حدس غير الفلاسفة من الثقافات غير الغربية بشكل واضح عن الحدس المشترك للفلاسفة الغربيين؛ إن كان ثَمّة مشترك بين الغربيين من الأساس.
وأخيرًا، فماذا بعد مشاركة كل منّا حدسه؟
ما لم نعلم ما هي مصادر حدسنا، فلن نكون على دراية علامَ نستند في احتجاجنا بذلك الحدس. فلعلنا كلنا على خطأ؛ كما أن حدس الفلاسفة يبدو ضعيفًا إذا ما قورن بملاحظات العلماء.
وقد قلت مسبقًا أنه قُدّم حلاّن للتعارض بين الطريقة الفلسفيّة والطريقة السلبيّة للعلم التجريبيّ. ويستند ذلك الحل الثاني لعملٍ مغايرٍ تمامًا يُقدّمه الفيلسوف العلميّ توماس كون، في كتابه بِنية الثورة العلميّة (1962)، رفض كون الصورة النّمطية للعلم التجريبيّ كونَه يحظى بتاريخ تقدّميٍّ تراتبيّ؛ حيث تُحسِّن المشاركات المتتالية للعلماء -جيلا بعد جيل- بعضها بعضا بسلاسة، أي أن العلم هو مؤسسة مبنية بلبِناتٍ متراصّة.
يعتقد (كون) أنّ تلك النظرة قد تم قبولها بسذاجة على يد كتبة التاريخ المنتصرين، ليَخدِموا بها مصالحهم الذاتيّة، حيث المنتصرون هم العلماء في أي برنامج بحثيّ مهيمن. واستعاض (كون) عن تلك النظرة بالدّفاع عن رواية تاريخيّة تشهد بعدم إمكان المقارنة بين الأفكار في البرامج البحثية المتعارضة على جانبي الثورة العلميّة. وأضاف (كون) أنّه ليست هناك عُملة موحّدة للأفكار، فسواء كان الحديث بين أرسطو وجاليليو، أو بين إسحاق نيوتن وألبرت أينشتاين.. فإننا هنا أمام أشخاص من عوالم مختلفة، يتحدثون عن أشياء مختلفة؛ الأمر بمثابة حوار خُرسٍ.
ولهذا، فحينما نحرز تقدمًا علميًا، فإنه يُوَجّه لنطاق برنامجٍ بحثيٍّ ما. يولد البرنامج، ويصبح مهيمنًا في مجاله لِأَجَل، ثم لا يلبث أن يندثر.
تبدو آراء كون مثيرة للقلق والجدل. وإنه لكافٍ أن تُقدَم ردود محدَّدة حين يُقابَل العلم التجريبي بالفلسفة. وبمرور العقود، فقد حدثت تغيرات كثيرة للتفسيرات العلميّة. ولا شكّ أن الكثير سيتغيّر في المستقبل، حينما تبلغ التّخمينات العلميّة مبلغها، ويبلغ بحثها ذروة سنامه. مع كون الكثير من التّفسيرات العلميّة لم يتغيّر. لقد حُلّت الكثير من المشكلات العلميّة، وبات المجتمع العلمي واثقًا من حلوله، وقد تخضع- كاحتمال ضعيف – تلك الحلول إلى مراجعة أو إقصاء. أريدك أن تشاهد معي تلك الثّلة من القوانين التجريبيّة، مثل قانون التّربيع العكسيّ الذي يَحكُم الصّوت والضّوء[2]، قانون كولوم للمجال المغناطيسي والكهربي[3]، قانون كل من أوم وأمبير وفاراداي في الكهرباء. كل تلك القوانين الفيزيائية ثابت ومُطّرد؛ هل بالإمكان أن ننعت أي شيء في الفلسفة بهذا؟ في الحقيقة:لا. إنهم لم يستقروا بعد على قوانين المنطق.
طالما وصلنا إلى هنا، واستطعنا أن نُلمَّ ببعض قوانين اللّعبة في صرح الفلسفة، يمكننا الرجوع إلى مَهمّة التشخيص: أين الخطأ؟ ولماذا تستعصي المشكلات الفلسفيّة على الحلّ؟
سأطرح خمس إجابات، إلا أنّ آخرها ستكون إجابتي.
أُولى الإجابات ترفض الاتجاه المتشائم.
تقول الأخبار السّارة إن بعض المشكلات الفلسفيّة قد حُلّت. يدّعي نعوم تشومسكي -على سبيل المثال- أن مشكلة العقل والجسد قد حُلت منذ قرون بعيدة. عندما طرح رينيه ديكارت تلك المشكلة، افترض أن “الجسد” هو تلك المادة التي تمتد في الفضاء، وأضاف أن الأجساد قد تؤثر أو تتأثر بأشياء أخرى عن طريق الاتصال فقط. وعلى النقيض، فإن “العقل” هو تلك المادة الواعية ولكنها ليست ممتدة في الفضاء. وحيث لا سبيل للاتصال بين العقول والأجسام فعليًا، فإنهما لا يتفاعلان. ثم تظهر المشكلة في كيفية تفاعل العقل مع الجسد. فقد أجاز نيوتن – باعتبار قوة الجاذبية – للأشياء أن تتأثر ببعضها من دون اتصال. وتنتهي مشكلة العقل والجسد لأن ليس ثمة إجابة مميزة لجانب من الجوانب، فلا شيء يمكن إطلاق لفظ الجسد عليه.
إن كان هذا نجاحًا، فلن يكون مثالًا على حلٍّ لمشكلة فلسفيّة فحسب، بل سيكون حلًا مستقىً من حقل العلم التجريبيّ.
ولكنني مازلت غير مقتنع، فما فعله نيوتن -في نظري- هو إظهار عَوَر تعريف ديكارت لماهيّة الجسد، وبعبارة أوضح أقول إن نظرية ديكارت عن الجسد خاطئة، لا يوجد ذلك الجسد كما عرّفه ديكارت، ولكن هذا لا ينفي الإقرار بوجود جسد. فقد كانت هناك نظريات خاطئة عن النجوم والبشر، وهذا لا ينفي وجود النجوم والبشر. يَخلُص بنا ذلك إلى أنّ النجوم والبشر مختلفون عن الصورة التي ترسمها النظريات الخاطئة لهم. وأن هناك شيئًا يطلق عليه جسد، ذلك المادي، الذي ترمز إليه بعض الأشياء مثل الكواكب أو رؤوسنا.
تبقى مشكلة ديكارت قائمة حول العقل بخصائصه المميِّزة له، وكيفية ربطه بالجسد على تباين الخصائص بينهما. وبقاء مثل تلك المشكلة يزيد الحقيقة الشائعة جلاء؛ وهي أن وجود حل واضح للمشكلة الفلسفية ليس من السهولة بمكان.
ويأتي هنا التشخيص الثاني، وهو تشخيص رافض، يقول إن المشكلات الفلسفية ليست حقيقية. فقد سلَّط عجزُ الفلسفة عن إجابة أسئلتها الخاصةِ الضوءَ على مدى ابتذالها وزيفها. حيث يفتعل الفلاسفة حفنة من المشكلات المصطنعة كأنها لعبة مكعبات، ثم يقومون عبثا بمناقشتها فيما بينهم.
وبالنسبة لي؛ فإن ذلك التشخيص هو المبتذل السّطحي. فإنّه لم يتعرّض لتفسير استعصاء المشكلات الفلسفيّة على الحلّ، هذه واحدة. لئن كانت تلك المشكلات ألعابًا بسيطة – حيث تقوم على التورية أو على صور أخرى من التلاعب بالكلمات- فلم تكن لتستلزم كل ذلك الوقت أو المجهود المبذولَين للفراغ منها والتحول عنها؛ بل كانت لتنجزَ على عجل كما يُفرَغ من ألغاز الكلمات المتقطاعة بيُسرٍ في الصباح. وهذه الثانية. والحقيقة أن المشكلات الفلسفية لا تمتُّ لهذا بصلة، فإنها تنبذ الإجابات السّهلة الرّخيصة. ومن ناحية أخرى، أنَّ ذاك التّشخيص الرافض سطحي لا عقلانيّ، ويتبدّى خطؤه خاصَّة حينما يتعلق الأمر بالمشكلات الفلسفيّة التي لها مساس ببعض الأشياء عظيمة الأهمية بالنسبة لنا. تلك القضايا التي تدور حول الكيفيّة التي نحيا بها حياتنا، ونحيا بها مع الآخرين، قضايا الأخلاق والسّياسة.
إن حياتنا – بجانب أمور أخرى – منظمة وَفق قواعدَ أخلاقيّة، تصف المحظورات (ما يعد إساءة أخلاقية) وما هو مسموح به أخلاقيا. وعليه، فما هو القانون الأخلاقيّ؟ من أين تُستَقى تلك الأخلاق؟ أَمِن مشاعرنا؟ أم من بواعثنا؟ أم من شيء آخر؟
ولدنيا المزيد من الأسئلة مثل: لماذا يجب على أي شخص أن يكون على خُلُق؟ ماذا سيجني من وراء ذلك؟ أعار أفلاطون انتباهه لتلك الأسئلة. فمن وجهة نظره، فإن الآثم هو من ارتكب خطأً “معرفيًا” لأنه لم يفكر مليّا. يعتقد أفلاطون أن إداركَنا بوضوح لحقيقة الأخلاق الحسنة، وعِلمَنا بكُنهها؛ يوجب علينا طواعيةً اتّقاء الذنْب؛ فإنّ معرفة الحَسن تقتضي حُبّه.
في حين أنّ فلاسفة آخرين قد خالفوه الرأي، ولم يروا سبيلًا موصلة بين الأسباب العقلية والأخلاق.
واعتقد ديفيد هيوم أن المشاعر وحدها – بلا أسباب عقلية – هي ما تضبط بوصلتنا في الحياة.
وقد صرح هيوم -بصورة استفزازيّة- في أطروحته: مبحث في الطبيعة البشرية (1739) أنّ العقل يقضي بأن تهتم بحك جِلدك أكثر مما تهتمّ بمصير البشريّة.
وعلينا استخلاص شيءٍ من السِّجال بين أفلاطون وهيوم، وهو أنه لا دخل له بألعاب المكعبات؛ حيث لا عِبرة بالعواقب؛ حيث إنه لمن الصعب أن نفكر في مشكلة ذات عاقبة أبعد من الكيفية التي نحيا بها حياتنا.
ونبذ ذلك السجال باعتباره تلاعبًا فارغًا بالأفلاظ بمثابة مراوغة وتهرب من مشكلة فكرية صعبة. فهو إضافة على ذلك، ليس مثالًا بمعزل. تثير المناقشات حول حقيقة المسؤوليّة الأخلاقيّة، أو مُسوِّغ العقوبات، خُلق الإحسان للحيوان، قضايا فكرية وأخلاقية مؤرِّقة مُلِّحة.
ثَمّة تشخيصٌ ثالث، يُصرِّح بأن المشكلات الفلسفيّة تفوق صعوبتها صعوبة مشاكلَ العلم التجريبيّ، لذا لم يحلها أحدٌ للآن.
ويبدو هذا احتجاجًا بأسباب واهية، أن نلقيَ اللّوم على صعوبة المشكلات، في تفسير افتقار كلٍّ من تلك المشكلات إلى حلّ. فكُلّما ازدادت صعوبة المشكلة، كلما استعصت على الحلّ. ولا أدري بأي مقياس تُقيَّم كل مشكلة فلسفية أنها أصعب من أخرى علمية.[4]
يبدأ التّشخيص الرّابع من حيثُ انتهى الثّالث. ووفقًا له، فإن المشكلات الفلسفية حقيقة، ولكن من الاستهانة البالغة نعتها بالصّعوبة، فالمشكلة هي ما لم ترقَ قدرتنا المعرفيّة على حلِّه، الوصلات العصبية في أدمغتنا تؤهلنا لنكون جيدين في بعض الأشياء – كتعلم لغة جديدة، أو تقدير مكان وقوع الإرسال في مباراة التِنِس- على حساب أشياء أخرى. وحلُّ المشكلات الفلسفيّة هو ضمن تلك الأشياء الأخرى. نحن فقط لسنا مؤهلين لنكون فلاسفة خُلّصًا.
وهذه فكرة مثيرة للاهتمام. فالذي يستغلق معرفيًا على البشر يبدو قضيّة تجريبيّة مفتوحة؛ لكن هذا التشخيص محرجٌ بزعمنا أنّ حلّ المشكلات الفلسفيّة مستغلقٌ معرفيًا بالنسبة لنا، بينما نجيز أنّ كلّ شيءٍ معرفيّ آخر نفعله متعلق بالفلسفة من فهم للمشكلات، وتقديم الافتراضات، ثم نقد تلك النّظريات أو تنقيحها، هو مفتوح بالنسبة لنا. فهذا يبدو انفصاما مطردًا أنيقًا مثيرًا للغرابة.
التشخيص الخامس، والذي أظنه أكثر تفصيلًا وأقرب تفسيرًا، لا يخصُّ عاملًا واحدًا لبيان عجز الفلسفة عن التقدّم، وإنما يُرجع ذلك إلى اجتماع أسباب متعددة. وفي إطار الحدس -كما رأينا – فالجدل القائم ليس حول استنباط الفلاسفة للنّظريات فقط، وإنما حول الطّرائق وأجناس الحقائق التي يلتمسونها في دعم نظريّاتهم. وأيضًا، فإن المشكلات الفلسفيّة ذات طبيعة متشابكة: فالحلول المقترحة لمشكلة ما؛ تستلزم افتراضات تثير الجدل حول مشكلات حيّة أخرى. مثال ذلك، أنّ ثَمّة تساؤلًا عن ماهية الأخلاق، وعن متطلبات الحكم على الأفعال والأشخاص بالحسن أو السوء. ولكن تلك المشكلة (التساؤل) ليست منفصلة (لا يمكن دراستها استقلالًا)، فثَمّة مشكلة مصاحبة لها، تتعلق بالسبب في قَبول بعض الآراء الأخلاقيّة على حساب سائر الأخلاق. ومشكلةٌ أخرى – كما نرى – حول العلّة في اهتمام أيّ شخص بقضيّة الأخلاق.
إذن فالمشكلات كعشّ الزنابير: فمشكلة تعريفية (ما هي الأخلاق؟) ومشكلة معرفية/ابستمولوجية (كيفية معرفة ماهية الأخلاق)، وأخرى عن الدافع (لماذا نعبأ بالأخلاق).
وتنشئ حلول تلك المشكلات افتراضاتٍ حول الواقع وحول عقولنا، والتي بدورها ستُولّد مشكلات تخصّها، ومن ثَم تتشعب القضايا.
اقرأ ايضًا: الفلسفة: تاريخ من الإخفاق
فإن كان هذا تشخيصًا لمعيقات التّقدم، فكيف هي المعالجة إذن؟ كيف يمكننا تحسين الفلسفة؟ من نافلة القول أن علينا بذل الوُسع، ولكن ذلك لا يضمن لنا أن نتّخذ قويم الطّرق ونبذ سقيمها. ربما تقدُّم الذّكاء الصناعيّ يمكن أن يَمدّ يد العَون، وكما يُقال، فإن التنبؤات عسيرة وبخاصة عن المستقبل. وذلك سيتطلب برمجيّاتٍ تنفذ أنماطًا منطقية. وتثير صعوبة إضفاء الطابع الصّوري على بعض تلك الأنماط، صعوبات في البرمجة. فضلا عن ذلك، فإن تحديد البرهان أو الحجة أو نمط التفكير العقلي الذي سيقع عليه الاختيار لتمثيله برمجيًا، يستلزم أن يكون ثمة مرجّحات محدّدة تبيّن سبب اختياره دون غيره، وذلك من شأنه أن يعيد المبرمجين البشريين إلى تحمل المسؤولية المعرفيّة مرة أخرى.
وفي نقطة تلاقٍ، فإن زيادة توظيف الطّرق الصّورية قد عزّز الدّقة والإحكام في الفلسفة.
وعلى سبيل المثال، فإن نظرية الألعاب[5] واتخاذ القرار قد شحذتا مهارة التفكير في مساحات الفلسفة الأخلاقية المتعلقة بالعقلانية وإبرام العقود.
قد لا تَفصل معطياتُ العلوم في المشكلات الفلسفية، ولكنها مستودع خِصبٌ يمكن الاستعانة به. أَرفدَ علم النفس التجريبي (والذي يتضمن جراحة الساد[6] على سبيل المثال) تفكيرًا نظريًا حول مسألة مولينو. قد يفيد الفلاسفة أيضا تبني ممارسات العلماء التجريبيين في عملهم الجماعي في المجموعات البحثيّة. فإنّ السلوك الفرديّ والصّبغة المعارضة للفلاسفة قد يحدثان خلافات داخليّة، ذات طرازٍ نألفه.
معنا إذن شيء يمكن إضافته لمخزون مشكلاتنا الفلسفية، وهو سؤال عن السبب في أن الفلسفة صعبة، وعن كيفية الحصول على نتائج موثوقة يمكننا أن نعوّل عليها. وبتدبّر ذلك، فإنه يمنحنا جميعًا دافعًا إضافيًا لتشكيل رؤانا الفلسفية مبدئيًا ومؤقتًا. ويمكنني أنا أن أُضيف – مبدئيًا – أن تكوين الآراء والرؤى حول أي شيء؛ ليس بمنحىً سيّء.
اقرأ ايضًا: لماذا يحتاج العلم إلى الفلسفة؟
- كريس دالي، أستاذ الفلسفة بجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة
[1] في الأصل (الثامن عشر) وهو خطأ. (المترجمة)
[2] قانون التربيع العكسي يصف انخفاض شدة طاقة الموجة مع المسافة: فإذا تضاعفت مسافة رصد الطاقة عن المصدر فإن شدة الطاقة تهبط للربع وهكذا….(المحرر)
[3] لعله سبق قلم! فقانون كولوم لا يصف المجال المغناطيسي! إذ هو يصف المجال الكهربي لشحنة ساكنة -أصالة- والمجال المغناطيسي يتولد من شحنة متحركة ويصفه قانون امبير وغيره. (المحرر)
[4] هذا التشخيص لم ينسبه المؤلف إلى أحد، وعلى الأرجح كان هنري برجسون هو الذي طرحه. (المحرر)
[5] نظرية من علم الرياضيات، تعتمد التحليل الرياضي في حالات تضارب المصالح للوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة واتخاذ قرار ما في ظرف محدد لأجل الحصول على النتائج المرغوبة، تطبيقاتها اقتصادية بالدرجة الأولى واجتماعية. (المحرر)
[6] الساد هو إعتام عدسة العين نتيجة التقدم بالسن غالبا حيث تتليف العدسة الداخلية ولا يمكن تصحيح البصر بالنظارة أو الجراحة الليزرية للقرنية، فتستبدل العدسة الطبيعية بأخرى صناعية لاستعادة البصر. (المحرر)