ماذا يعني غياب الإله عن الكون للفلاسفة وماهي مآلات هذا الغياب؟ وماذا تعني أي فلسفة عن الكون والوجود إذا غاب الإيمان بوجود الله؟ وعلى أي قاعدة يؤسس الفيلسوف نظرته للحياة إذا لم يرتكز على قوة فوق بشرية؟ ولماذا يتبع الناس من الأساس هذه الفلسفة إذا كانت لا ترتكز على وجود الله؟ وما الذي يمنع من أن يقوم كل إنسان ويوجد فلسفته الخاصة ويضع قواعد جديدة لتنظيم حياته؟ هذه هي الأسئلة المركزية لهذه المقالة.
بعدما انهارت سلطة الكنيسة عن الروح والعقل في الحضارة الغربية الحديثة، أُعيد إحياء الفكر اليوناني القديم وظهر فلاسفة جُدد يُعلون من سلطان العقل ويضعون فلسفات جديدة للكون والوجود وتنظيم حياة الناس السياسية والاجتماعية والأخلاقية وخصوصاً في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر من أمثال ديكارت وتوماس هوبز وجون لوك وهيوم وروسو وكانط وهيجل وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم. وهؤلاء حاولوا تأسيس قواعد جديدة للعمران الإنساني حتى يؤسسوا لاجتماع جديد ونظرة جديدة لحياة العقل والروح للإنسان وذلك كما نادت وبشرت به عصور النهضة والأنوار والحداثة.
في هذا العصر الذي نعيشه والذي يُسيّره ويقوده الفلاسفة ويُبعَد فيه الوحي عن حياة الناس وينتشر فيه الإلحاد بناء على هذا التوجه، نود أن ننظر إلى طبيعة حضور أو غياب الله بالنسبة للفيلسوف ومن ثم على فلسفته.
فكل فيلسوف إذا كان يريد للناس أن يتبعوه حقاً لابد أن ينطلق من منطلق أنه يتحدث باسم الله عليهم، أو بأن يدعي بشكل صريح أو مضمر بأنه يمثل هو نفسه إرادة الله في هذا الكون، بمعنى أن الألوهية تنطلق منه حتى يتبعه الناس لكونه هو القوة الخارقة التي تجعل الناس تنظر له بنوع من الفوقية والتفوق والتميز عن باقي الخلق، ولهذا مثلاً كان نيتشه يقول “لِمَ أنا قدر” ويتحدث عن عبقريته بكثرة. ومنه نعرف لماذا يُعامَل الفلاسفة عند أتباعهم كالأنبياء الموحى إليهم وذلك لأنهم إذا عاملوهم كبشر عاديين فسيبرز السؤال الخطير والمركزي بشكل عاجل ومخيف: لماذا أتبع هذا البشر في نظرته للحياة والوجود والكون؟ هل عامل التفوق العقلي والقدرة التنظيرية والتماسك الفلسفي تعطيه الأحقية بأن يتبعه الناس؟ وإذا فرضنا أن أعطيناه هذه الأحقية، ما الذي يمنع أن يدعي كل انسان بأنه متفوق عقلياً ويضع نظريات لتسيير حياته على مشتهاه؟ وما المانع أن تتعارض الفلسفات المختلفة وماهو الحَكَم بينها لتبنِّيها لتسيير حياة الناس بها إذا لم يكن لها أساس ماورائي يعطيها الشرعية؟ كل هذا يُعطي انطباعًا بأن الفيلسوف لابد أن ينطلق من فكرة أن الله موجود سواء بشكل صريح أو مضمر أو في أبعد تقدير وبشكل متطرف أن تكون نظرته لنفسه بأنه هو من يجسد الإله.
يُنكر معظم الفلاسفة النبوات وتعاليم الوحي أو يرونها غير مهمة أو ملزمة لهم لأنهم يرونها تتعارض مع هدف وجودهم في الحياة وهو وضع منهج يُسيِّر حياة الناس في مختلف شؤون حياتهم ويبين لهم الأسئلة الكبرى من وجودهم من حيث لماذا خلقت ومن أين أتيت وإلى أين المصير وماهي الغاية من الخلق وكيف أعيش وأنظم حياتي، وذلك لأن الأنبياء مع اعترافهم للبشر ولأتباعهم بانهم بشر مثلهم في طبيعتهم الإنسانية إلا أنهم ينسبون لأنفسهم إمكانات وميزات خاصة وذلك بتلقيهم الوحي والتأييد المباشر من الله في المنهج الذي يريدون تبليغه وتنظيم حياة الناس عليه. فالأنبياء والكثير من الفلاسفة كلاهما ينطلق، إما بشكل صريح كالأنبياء أو بشكل مضمر وذلك بإنكار النبوة، بأن الشرعية المباشرة له من الله حتى يدعو الناس إلى منهجه ومن هنا التعارض الدائم والمستمر بينهما كما يبينها علماء الأديان، ولكن الذي يهمنا هنا هو أهمية وجود إله لكل منهما.
ويأتي السؤال الآن، ماذا لو أن الفيلسوف كان ملحداً حقيقةً في اعتقاده وتفكيره علماً بأن الفلسفة هي ادعاء العقلانية والتماسك المنطقي في الرؤية للحياة والبحث عن الحقيقة فهل يصح أن يُسمى فيلسوفاً أصلاً؟ إذا نقبنا وحفرنا في جذور التفكير الإلحادي ومآلاته الموصلة في حياة الإنسان ولوازمه من ناحية منطقية سنرى أنه يقتضي ويؤول إلى سقوط كل الأفكار والنظريات والمناهج والفلسفات وذلك بسبب أن الإيقان بوجود الله يعني أن هناك أساس تقوم عليه الفلسفات المختلفة، فإذا انتفى الإله تهاوت كل فلسفة للوجود ونظرة له والتي تتبعها كل النظريات في كافة الحقول الأخرى من طبيعية وإنسانية. فكيف نحكم على الوجود ابتداء ونفكر فيه إذا كان ما من سند لهذا الوجود؟ وإذا انتفى هذا السند تهاوت كل نظرية وفلسفة.
فإذا غاب الإله عن الكون فماهي المرجعية النهائية للناس التي يتحاكمون إليها كمرجع نهائي في حال التحليل العميق للمرتكزات والأسس؟ ما الذي يمنع من تشتت الناس وتذريهم إلى أفراد وجماعات مختلفة ومتحاربة كل يقوم على فكره وما هداه إليه عقله؟ أي ما الذي يمنع من سقوطنا في وحل “العبثية” التي هي مآل النسبية في نظرياتنا الفلسفية والإجتماعية والسياسية والأخلاقية أي الإنسانية مجملاً وكافة أمور تنظيم حياة الناس ونظرتهم للوجود والهدف من حياتهم وخلقهم؟ خصوصاً إذا كانت لديهم خبرة سابقة بأن فلسفات البشر قابلة للتهافت وذلك مثل انتقالهم من نظريات فيلسوف إلى آخر بعد فشلها وإثبات عدم تطابقها مع الواقع كما حدث مع سقوط وانهيار وعود الحداثة والتنوير وحدوث الحروب العالمية والمجازر البشعة وانتقالهم الدائم إلى مرتكزات جديدة علها توفر لهم الملجأ والمنجى وتعطيهم هدفًا أسمى وامتلاء روحيًا وتسيِّر جوانب حياتهم المختلفة؟
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ما الذي يختلف فيه النبي عن الفيلسوف حيث إن هناك اختلافًا جوهريًا بينهما، ولكن الذي يُهمنا هو أن الجميع لابد أن يتأسس على رؤية أنه يستند على قوة خارجية فوق بشرية سواء صرح بها كما في حالة النبي أو لم يصرح بها كما في حال الفيلسوف حتى يُعطي الشرعية له ولأتباعه أن يتبعوه. والذي يهمنا هنا هو إثبات وجود الله من هذه المنطلقات الفكرية، فإذا أثبتنا وجود الله من الناحية الفلسفية كان إثبات النبوة باعتقادنا أكثر يسراً وأكثر قوة وتماسكاً وأقوى على دحض شبه المنكرين للنبوات والرسالات.
أما بالنسبة لمن يتبنى منهج اللاأدرية أو اللادينية فهم أكثر اتساقاً مع تنظيرهم الفلسفي ممن ينكر وجود الله صراحة، فمن ألحد فغايته الأخيرة إذا اتسق مع تفكيره والتزم بلوازمه أن يُقدم على الانتحار ويتخلص من الوجود الذي لا تفسير له ولا أساس ولا مبرر له في حال نفي الله عنه.
والإلحاد وإنكار الإله هو في جوهره منافٍ للوجود ونقيضه. وكما قال علي عزت بيغوفيتش “بأن هناك ملحدون على أخلاق ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي” فأنا أقول بأن هناك ملحدون موجودون ولكن ليس هناك إلحاد يتسق مع الوجود، فالإلحاد يقوم على نفي الإله وإذا انتفى الإله انتفى الوجود فلا قاعدة يرتكز عليها الوجود بعد ذلك، وإذا انتفى الوجود برز الانتحار للتخلص منه، فمن هنا نستطيع أن نقول بأن الإلحاد والانتحار قرينان متلازمان. والانتحار اللازم من الإلحاد هو رغبة في الذهاب إلى العدم أي إلى ما قبل الوجود، فهو يعتقد أن الترتيب في كيفية ظهور الوجود هي عدم ثم وجود ثم عدم، غير أن ما بعد الوجود ليس كما قبله، فهو انتقال إلى حساب وعقاب ووجود آخر في مكان آخر.