فكر وثقافة

نحتاج سرديّة جديدة عن أصلنا: التاريخ الكبير

  • نشر: edge
  • حوار مع ديفيد كريستيان*
  • ترجمة: مريم بنت مسفر القرني
  • تحرير: أسامة خالد العمرات

أنا مؤرخ روسي، وأحبُّ تدريس التاريخ الروسي. لقد قمت بتدريسه خلال الحرب الباردة عندما كان ذا أهميّةٍ استثنائية؛ لقد كان تدريس التاريخ الروسي في أستراليا -حيث كنت أعيش- أشبه بالحديث عن الجانب المظلم، لقد شعرت أنّ طُلّابي بحاجةٍ إلى معرفة ذلك العالم.

أنا لست روسيًّا، لكنّني كنت أدرس التاريخ الروسي، وفي النهاية أدركت أنّني كنت أوجّه رسالة لا شعوريّة مفادها أنّ البشر منقسمون بالأساس إلى قبائل وشعوب متنافسة. بعد أن عشت أزمة الصواريخ الكوبية -أتذكرها بوضوح، فقد كنت تلميذًا في إنجلترا حيث كانت هذه النَّزعَة القَبَلِيَّة تهدد بتفجيرنا جميعًا، كانت تلك تجربة حيّة للغاية بالنسبة لي- اعتقدت أنّ استمرار المؤرخين في توجيه هذه الرسالة من خلال تدريسهم -رسالة أنّنا منقسمون- ليس بالأمر الجيد.

بعد سنوات، عُدت إلى مُخطط هربرت جورج ويلز للتاريخ، في البداية، كان ما كتبه في نهاية الحرب العالمية الأولى يقول نفس الشيء تمامًا، وهو أنّنا بحاجة إلى تاريخ جديد للبشريّة، لأنّه طالما أنّنا نتناول التاريخ كقصة بين قبائل متنافسة، فإنّ كل أهوال الحرب العالمية الأولى سوف تتكرر. لقد عثرت على نفس الفكرة: نحتاج إلى تاريخ جديد للإنسانية. لم يكن هناك تاريخ عالميّ في أستراليا في ذلك الوقت، لذلك لم تكن هناك نماذج قد كنت أعلم بها، كان عليّ أن أفكّر في ذلك بنفسي.

كنت أقرأ العلم دائمًا، لأنني كنت مهووسًا بالعلوم. أحببت كتابة العلماء الجيّدين للقُرّاء الأذكياء. اعتقدت أنّنا بحاجة إلى تاريخ جديد للبشريّة، وتساءلت كيف سيبدو هذا التاريخ؟ أدركت على الفور أنّه على هذا التاريخ أن يأخذ العصر الحجري القديم على مَحمل الجد. زمنيًّا، معظم تاريخ البشريّة يتركّز في العصر الحجري، وقد كان العصر الحجريّ حاضرًا في أستراليا حتى وقتٍ قريبٍ جدًا. ثم بدأتُ أفكّر أنّه كان على هذه السّردِيّة الجديدة التّحدُّثُ عن التطور البشري، فعليك أن تتخطّى حدود نظام التاريخ، وتتحدّث عن كيفيّة تطوّر البشر. ثم فكّرت، ووجدتّ نفسي الآن في علم الأحياء. للقيام بذلك بجدية، يجب أن أتحدّث عن كيفيّة تطوّرك من البكتيريا إلى الكائنات متعددة الخلايا. بعبارة أخرى، لا بد لي من استيعاب تاريخ الحياة بأكملها على الأرض؛ ومن ثم يجب أن أتّحدث عن أصول الحياة، مما يعني التّحدّث عن كيفيّة تشكّل الكوكب والدخول في الجيولوجيا. ثم فكّرت، إنّه للقيام بذلك بجديّة أيضًا، يجب أن أُلقي نظرة على علم الفلك. بدأ هذا يبدو مُرعبًا حتى أدركت أنّ هناك نقطة انطلاق هي: الانفجار العظيم.

في الحالة العلميّة الرّاهنة، هذه قصة لها بداية، وبالطّبع يحاول علماء الكونيّات النظر إلى ما وراء تلك البداية. في الوقت الحالي، لا توجد بيانات مؤكدة تأخذك إلى ما قبل الانفجار العظيم. إذن، هذه نقطة البداية: هل يمكنك تدريس تاريخ يبدأ بأصل الكون؟ ستكون هذه هي الطريقة لإعطاء الشعور بالإنسانية كنوع واحد يواجه مشاكل مشتركة في العالم الحديث؛ وهكذا بدأتُ تدريس هذا التاريخ الأوسع في عام 1989 في جامعة ماكواري في سيدني، وكان الأمر مُمتعًا للغاية.

دعوت الزُّملاء من جميع الأقسام المختلفة، لكن لم يكن لدى أيٍّ منا فكرة عن كيفية تجميع الأجزاء الصغيرة معًا. سيتحدث عالم الفلك ببراعة عن الانفجار العظيم، وسيتحدّث شخص آخر عن أصول النجوم، وتَشَكُّلِ الأرض، وما إلى ذلك. ولكن بسبب ثقافة التخصّصات، جَلَب كل محاضر المصطلحات ومجموعة المشكلات العلميّة والتقنيات الخاصة بتخصصه، وبالنّسبة للطّلاب، كان هذا صعبًا حقًا.

على مَرِّ السّنين، ألقيت المزيد والمزيد من المحاضرات بنفسي، حتى امتلأ جدول أعمالي عن آخره. وتدريجيًّا، بدأت قصةٌ أكبر تتشكل أمامي. أنا لست الشخص الوحيد الذي فعل هذا؛ كان إريك تشيسون في بوسطن، وإسحاق أسيموف يفعلان أشياء مماثلة. لقد سُلِّط التركيز على سرديّة واضحة، وأدركتُ أن هذا المشروع لم يكن مجنونًا كما يعتقد البعض. ثم أدركتُ في النهاية أنّ ما كنّا ندرسه حقًا كان قصة أصل حديثة. بالطبع، كنا نفعل أيضًا ما تحدّث عنه سي بي سنو. ففي وقت مبكّر جدًا، أدركت أنّه سيتعيّن عليّ مساعدة طلابي على عبور الفاصل بين الثقافتين: من العلوم الطبيعية إلى العلوم الإنسانية. لكن ماذا يحدث عند هذا الحد الفاصل؟

لعدة سنوات، ألقيتُ محاضرات حول فلسفة العلم، في محاولة لمساعدة الطلاب على فهم سبب قوة ادعاءات العلم اليوم، ولماذا يجب أن تؤخذ على محمل الجد، ولكن أيضًا، لتنبيهِهِم على سبب عدم كونها مطلقة. يمتلك معظم الطلاب نظرية معرفيّة بسيطة تقوم على افتراضين: إمّا أن يكون العلم صحيحًا -ومن ثَمَّ فإنّ كل شيء قبل العلم خاطئ- أو أنّ هذه “العلوم” جميعها ما هي إلا قصص. كنت بحاجة لمناورة طلابي واجترارهم إلى موقعٍ مركزيّ أكثر تعقيدًا وغير مستقر حيث يكون العلم قويًا، ولكنه ليس مطلقًا. لم تكن السّرديات التي قدّمها الماضي عن الأصل خاطئة تمامًا. ربما كانت تلك هي أفضل المتاح بالنظر إلى المعرفة المتوفرة في ذلك الوقت. أقوم أثناء تدريسي بتضمين أشياء مثل القصص الشعبية في أستراليا؛ فقد كانت أحدث العلوم في زمنها، لكنّها ليست أحدث ما توصّل إليه العلم في الوقت الحالي. وإذا كنت تعيش الآن، فعليك أن تأخذ ما يقوله العلم على محمل الجد؛ لقد كانت مناورة الطلاب في هذا الموقف مُهمة.

لقد أدركت الكثير من الأشياء؛ أحدُها أنّ الطلاب أحبوا هذا. على الرغم من أنّنا في السنوات الأولى لم نكن نعرف ما الذي كنا نفعله، وكانوا على علم بأنّنا لم نكن نعرف ما الذي نفعله، فقد أحبوه بسبب الأسئلة التي طرحناها. شاب لامِع يذهب إلى المدرسة وهو مليء بالأسئلة، وأسئلتهم تدور حول معنى الحياة: ما هذا الكون الذي أنا جزء منه؟ ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ يذهبون إلى المدرسة وأول خيبة أمل كبيرة، والتي عانيناها جميعًا ولكنّنا دفنّاها بعمق في اللاوعي لدينا، هي أنّ المدرسين يقولون لك بشكل أو بآخر “امسك لسانك عن معنى الحياة؛ عليك بالانسجام مع ثوراتك الفرنسيّة، أو تاريخك الأمريكي، أو تاريخك الروسي” أو أيًّا كان.

ما نتعلمه هو أنّ المدرسة لا تقدم شيئًا ذا علاقة بالمعنى؛ إنّها تقدّم سلسلة كاملة من التقنيات أو أجزاء متفرّقة من المعنى. لا يحاول أحدٌ في أيّ وقت أن يساعدك في تجميعها معًا. ثم تذهب إلى الجامعة وتعتقد أنّه على الأقل سيكون هناك فلاسفة. ثم يحدث نفس الشيء. كلنا تعوّدنا على هذا، نحن جميعًا محاصرون في ثقافة التّخصص هذه، وهي ثقافة متأصّلة بعمق في التعليم والبحث، لقد ارتبطَت بها هوية الناس. فأنت تعرف نفسك كمتخصص في هذا المجال أو في آخر. أحبَّ الطلاب هذه الدورة بسبب الأسئلة التي كنا نطرحها. وهذه الأسئلة كانت: ما هو مكانك في الكون؟ ما هو الكون الذي أنت جزء منه؟ هل أنت جزء كبير منه؟ هل أنت في المركز؟ أم في الهامش؟ هل هناك شيء مميز في البشر؟

تدريجيًا، وعلى مرّ السنين، توصلتُ إلى الاعتقاد بأنّ العلم الحديث يحتوي على إجابات غنية لكثير من هذه الأسئلة. يمكننا أن نقول للطلاب: “هذه أسئلة رائعة. لن نتمكن من إعطائك إجابات كاملة أو جاهزة، ولكن يمكننا أن نأخذك بعيدًا. يمكن أن يأخذك العلم الحديث في جولة طويلة جدًا بينما تتابع هذه الأسئلة”. هذا ما نحاول القيام به في دورات “التاريخ الكبير”.

أحد الأشياء التي سألناها لأنفسنا -عندما كنا نحاول تجميع هذه القصة وبناء سرديّة متماسكة تربط ما قدّمَته العلوم الطبيعيّة والعلوم الإنسانية -ما نوع القصة التي ستظهر في النهاية؟ في الماضي، على سبيل المثال في التقليد المسيحي- أو في الواقع، في جميع التقاليد الثقافية لديك قصص موحدة. لكن لا يبدو أنّ لدينا واحدة في العالم الحديث. أتحدث هنا عن العلوم الطبيعية. يشعر العديد من العلماء بالقلق الشديد من أنّ الاهتمام بالمعنى أو السّرد أو الغاية أو الهدف، سيؤدّي بطريقة ما إلى تشويه عمليّة رسم الخرائط التي يشارك فيها العلماء. على المستوى المنهجي: هذا صحيح. فيجب ألا تدع تصوراتك المسبقة تشوّه ما تفعله. لكن على المستوى الأنطولوجي: لا أعتقد أنّ هذا صحيح.

في العلم الحديث -وأنا أُدرج العلوم الإنسانية هنا، أي العلم بالمعنى الألماني للعلم، أي البحث الصارم عبر جميع المجالات؛ أقول في العلم الحديث اعتدنا على فكرة أنّ العلم لا يقدّم معنى بالطريقة التي قدّمتها الأديان المؤسسيّة في الماضي. إنّني أفكر بشكل متزايد في أنّ هذه الفكرة القائلة بأنّ الحداثة تضعنا في عالم بلا معنى -وقد ظلّ الفلاسفة يطرقون على هذا لمدة قرن ونصف- قد تكون خاطئة تمامًا. ربما نعيش في موقع بناء فكري حيث يتم إنشاء قصة جديدة. إنّها أقوى بكثير من القصص السّابقة لأنها أول قصة عالمية؛ إنّها ليست متجذّرة في ثقافة معيّنة أو مجتمع معين، وهذه السّردية حول “الأصل” تنطبق على البشر في بكين وكذلك في بوينس آيرس.

إنّها قصة أصل عالمية، وهي تلخّص معلومات أكثر بكثير من أي سرديّة مبكّرة، وتقدّم أشياءً على مقياس واسع جدًا جدًا. إنّها مليئة بالمعنى. نحن الآن في مرحلة تراكم المعلومات، والأفكار الجيّدة والصّارمة، وهي مرحلة غنيّة جدًا بحيث يمكننا استنباط تلك القصة منها. كان ويلسون يجادل في هذا الأمر لفترة طويلة؛ إنّه نفس المشروع.

اتضح، كما نقولها على الأقل، أنّ هناك قصة متماسكة. قد تكون هناك طرق مختلفة للقيام بذلك، لكنّ الطريقة التي نقوم بها هي قصة عن زيادة التعقيد، وهي قصة وثيقة الصلة بالبشر. كان الكون المبكر، على سبيل المثال، بعد نصف مليون سنة من الانفجار العظيم، بسيطًا جدًا. لديك غيوم من الهيدروجين والهيليوم، وليس لديك أي عناصر أخرى عدا كميات قليلة من الليثيوم والبريليوم. وهي متجانسة جدًا، وبنفس الكثافة تقريبًا، ودرجة الحرارة نفسها في كل مكان تقريبًا. تدريجيًا، تظهر أشياء أكثر تعقيدًا على مدار 13.8 مليار سنة، لكنّها تظهر فقط حيث تكون الظروف مناسبة تمامًا. هذه هي القصة التي نحكيها.

تمُرُّ هذه السّردية عبر ثمانِ عتبات من التعقيد المتزايد. الأول: الانفجار العظيم نفسه وخلق الكون. والثاني: خلق النجوم. وبمجرد أن يكون لديك نجوم؛ يكون للكون بالفعل تنوع أكبر بكثير. النجوم لها هيكل، والمجرات لها هيكل. لديك الآن تدرجات غنية من الطاقة والكثافة والجاذبية، لذلك لديك تدفقات من الطاقة يمكنها الآن بناء أشياء أكثر تعقيدًا.

تمنحك النجوم التي تقترب من الخفوت العتبة التالية، وهي إنشاء كون به جميع عناصر الجدول الدوري، لذا فهو الآن أكثر ثراءً كيميائيًا. يمكنك الآن صنع مواد جديدة. يمكنك صنع مواد الكواكب والأقمار والكويكبات. على بعض الكواكب، وخاصة الكواكب الصخرية، تحصل على تنوع كيميائي مذهل. والسبب هو أن معظم الهيدروجين والهيليوم من النظام الشمسي الداخلي كان مدفوعًا بالرياح الشمسية. في الكواكب الداخلية لديك بيئة غنية كيميائيًا بشكل ملحوظ، وهذه هي البيئة التي ولدت في نهاية الحياة على هذا الكوكب، ومن ثم تتزايد الاحتمالات بأن الكون يزحف نحو الحياة.

الحياة هي العتبة الخامسة، أما الكواكب فهي العتبة الرابعة. إنّ أحد الأشياء الرائعة في هذه القصة هو أنّه عندما تقوم بتوسيع العدسة، فأنا مقتنع بشكل متزايد بأنّ كل هذه الأسئلة الكبيرة جدًا التي نطرحها والتي تبدو مستحيلة عند رؤيتها من داخل الصوامع التخصصية؛ تبدأ في أن تبدو قابلة للإجابة من مقياس أوسع يضمها جميعًا. اسمحوا لي أن أقدم مثالين، الأول هو الحياة نفسها.

لدي شعور أنّه من الممكن في هذه القصة تقديم تعريف بسيط إلى حد ما، ولكنه مقبول لما يجعل الحياة بمستوى من التعقيد يختلف مثلاً عن تعقيد الجزيئات الكيميائية البسيطة أو النجوم أو المجرات. في الحياة، تظهر كيانات معقّدة في بيئات غير مستقرة للغاية. تخلق النجوم بيئاتها الخاصة حتى يتمكنوا من العمل ميكانيكيًّا. إذا كانت لديك أشياء معقدة في بيئات غير مستقرة للغاية، فيجب أن تكون قادرة على إدارة تدفقات الطاقة للحفاظ على تعقيدها. وإذا كانت البيئات تتغير باستمرار، فإنّها تحتاج إلى آلية لاكتشاف التغييرات. هذه هي النقطة التي تدخل فيها المعلومات إلى القصة.

ما كان مجرد اختلافات في الكون، أصبح فجأة معلومات، لأنّ شيئًا ما يستجيب بطريقة معقّدة لتلك الاختلافات. شيء من هذا القبيل يدخل القصة لأنّ الكائنات الحيّة لم تعد تتخذ الخيارات ميكانيكيًا؛ بل صاروا يتّخذون الخيارات بطريقة أكثر تعقيدًا. لا يمكنك دائمًا ضمان أنهم سيتخذون نفس الاختيار. هذا هو المكان الذي يبدأ فيه الانتقاء الطبيعي عمله. حيث لديك ملايين الكائنات الحية التي تتخذ خيارات مختلفة، ويسمح الانتقاء الطبيعي بالحفاظ على الخيارات الصحيحة بنسب معينة. ومن ثم يصبح اتخاذ القرارات الصحيحة مهمًّا.

هذا يعني، بمعنًى ما، أنّ هذا الغاية قد دلفت إلى القصة في هذه المرحلة. ربما يمكنك تعريف الحياة داخل القصة على أنّها كيانات معقدة تظهر في بيئات غير مستقرة للغاية. هذا تعقيد معقّد! فللبقاء على قيد الحياة في تلك البيئات، تحتاج إلى قدرات لا تحتاجها النجوم. يجب أن تكون قادرًا على اكتشاف المعلومات، وأنت بحاجة إلى بعض الآليات لممارسة ما يمكننا تسميته بـ “الاختيار”. هذا هو السبب في كونِ الكائنات الحية معقدة للغاية، وتعكس ظاهريًا أن لها غاية.

إذا انتقلتَ إلى البشر (العتبة الخامسة لزيادة التعقيد لدينا)، يمكنك طرح السؤال، والطلاب يؤرقهم هذا السؤال: ما الذي يجعل البشر مختلفين؟ إنه سؤال كافَحَتْ نحوه الإنسانيّة لقرون. مرة أخرى، لديّ حدس أنّه في هذه القصة الواسعة للغاية، هناك إجابة واضحة إلى حدٍّ ما على ذلك. إذا كانت جميع الكائنات الحية تستخدم معلومات عن بيئاتها للتحكم في تدفقات الطاقة التي تحتاجها وإدارتها للبقاء على قيد الحياة -يسميها علماء الأحياء الأيض- أو للتكيف باستمرارٍ، والتوازن- فإننا نعلم أنّ معظم الكائنات الحية لديها ذخيرة محدودة. عندما يظهر نوع جديد؛ فإن أعداده ستزداد حتى يستخدم الطاقة التي تسمح له ذخيرة الأيض الخاصة به بملئها.

ومع ذلك، انظر إلى الرسوم البيانيّة للنّمو السُّكّانيّ البشريّ وستجد شيئًا مختلفًا تمامًا يحدث. هنا، لديك نوع يظهر على الأرجح في أراضي السّافانا في شرق إفريقيا، لكنّه لا يبقى هناك. خلال العصر الحجري القديم -ربما أكثر من 200,000 سنة- يمكنك مشاهدة الفصائل المختلفة من هذا النوع الجديد، وبالتأكيد منذ السنوات السّتين ألفًا الماضية، تنتشر ببطء في منافذ جديدة، مثل المنافذ الساحلية في جنوب إفريقيا، وكهف بلومبوس. ثم في نهاية المطاف الأراضي الصحراوية، وأراضي الغابات، ثم عبر جليد سيبريا وصلوا إلى استراليا. قبل 10,000 عام، انتشر جنسنا البشري حول العالم.

هذا سلوك جديد تمامًا، هذا نوع يكتسب المزيد والمزيد من المعلومات. هذا هو مفتاح ما يجعلنا مختلفين. يمكنك أن تسأل ما الذي يسمح لنا بأن لا نكون محبوسين ضمن ذخيرة أيضيّة محدودة، ولكن لمواصلة توسيع تلك الذخيرة قد تكون هناك إجابة بسيطة للغاية. ينبغي للمرء أن يتوقع إجابة بسيطة لأنّ هذا يحدث في طرفة عين على المقاييس الزمنية لعلم الحفريات، يحدث بسرعة كبيرة لدرجة أن الحُجج التي تقول: حسنًا، البشر مختلفون بسبب كذا وكذا لا تنجح. يجب أن يكون هناك شيء واحد، هو بمثابة المفتاح لتميّز البشر، وأظنّ أنّ هذا المفتاح سيكون لسانيًّا.

الشمبانزي -كما نعلم- لديهم لغة. نحن نعلم أنّهم يستطيعون إيصال الأفكار. كما نعلم أن أمهات الشمبانزي يمكن أن يعلِّمْن صغارهنّ استخدام العصي لاستخراج النّمل الأبيض من التلال. ونعلم أيضًا المعلومات التي لا يبدو أنّها تتراكم جيلًا بعد جيل في الأنواع الأخرى. وإذا حدث، فسنرى دليلًا على ذلك؛ سنرى نوعًا كان يوسّع مكانته تدريجيًّا، لكنّ الشمبانزي ليس كذلك. لقد تجاوز البشر عتبة لُغويّة. يبدو الأمر كما لو أنّ لغة البشر أصبحت فجأة أكثر فاعلية. لقد تجاوزت العتبة التي تتراكم بعدها المعلومات بشكل أسرع من فقدانها. هذا يعني شيئًا عميقًا، هذا يعني أنّنا النّوع الأوّل منذ 4 مليارات سنة الذي تتراكم لديه المعلومات عبر الأجيال من خلال الآلية الثقافية، وليس من خلال الآلية الجينية. الآلية الثقافية -بطبيعة الحال- هي أسرع من الآلية الجينية.

هُنا، لديك نوع يمكن أن تتراكم فيه المعلومات عبر الأجيال بطريقة أسرع، وهذا هو الأساس لشرح كل ما يجعلنا مختلفين. إذا أضفت المزيد من المعلومات عن كائن حيٍّ يمنحك مزيدًا من التحكم في الموارد وتدفقات الطاقة، فإنّ ما تفعله هو مشاهدة الأنواع التي تزداد سيطرتها على الطاقة المتدفقة عبر المحيط الحيوي، وتزداد بمعدل أُسِّيٍّ. بينما تتراكم المعلومات، فإنّ بعض هذه المعلومات يسرع عملية تراكم المعلومات. الطباعة مثال واضح، أو الإنترنت. وهذا كل شيء في الأساس.

إذا وجدت مثل هذه الأنواع على كواكب أخرى، يمكنك ضمان شيء واحد: هو بقاؤها لبضعة مئات الآلاف من السنين، وسيكون هناك شيء مثل الأنثروبوسين. سوف تُهيمن هذه الأنواع على تدفقات الطاقة على كوكبها. هذا هو المكان الذي نحن فيه الآن. نحن ندير هذه التدفقات الهائلة للطاقة. نحن نستفيد منها. وهذا يجعلنا أثرياء بشكل مذهل؛ إنّها تعطينا حاجزًا ضد الاحتياجات الخام التي تعد شيئًا جديدًا تمامًا، ولكنها على نطاق واسع لدرجة أنّها بدأت في تعطيل دورات الغلاف الحيوي القديمة، ودورة الكربون، ودورة النيتروجين؛ إنّهم يعطّلون التنوع البيولوجي. وهذا هو التحدي للمستقبل. هل يمكننا الحفاظ على الأشياء الجيّدة، والأشياء التي تجعل الحياة جيّدة لنا نتيجة لتحكمنا المتزايد في الطاقة، دون تقويض شروط التوازن التي تسمح لنا نحن البشر ببناء هذه الحضارة المعقّدة؟

لا أريد أن أبالغ في الادّعاءات؛ فأنا مؤرخ ولست عالمًا. أنا لا أتعلّم الرياضيات بالطريقة التي يجب أن أكون عليها إذا كنت عالماً. الحدس الذي أقدّمه هو أنّ مجرد توسيع العدسة بهذه الطريقة لن يضعف أفكارك، بل سيركّزها بما يجعلها أكثر حِدّة.

منذ حوالي عام، شاهدت إخراجًا رائعًا لمسرحيّة “في انتظار جودو” لصمويل بيكيت في سيدني. تعرّفت عليها لأوّل مرّة في المدرسة، ولم تكن منطقيّة بالنّسبة لي على الإطلاق. وأخيرًا كان هذا الإخراج منطقيًّا جدًّا بالنّسبة لي. أدركت أنّ الناس أكثر حساسيّةً للدراما ممّا أدركتُه منذ سنوات، إنّها تتحدّث عن عالم بلا معنى، وأنّ الناس في هذا العالم ينتظرون المعنى؛ هذا أحد معاني جودو. وبالطبع، لم يحضر جودو أبدًا حتى الآن.

الشيء المؤثر الذي ظهر في هذا العرض هو أنّه: في عالم بارد وكئيب من الانفصال واليأس بلا معنًى وبلا هدف، لم يتبقَّ سوى شيءٍ واحدٍ وهو صداقة يائسةٌ بين أُناس مختلفين تمامًا. هذا كل ما تبقّى لك. وقد سيطرتْ تلك الصّورة الحداثيّة على التفكير لمدّة قرن ونصف. إنّه مرتبط بطريقة ما بالتخصص، الذي كان استراتيجية العلماء في العديد من التخصصات للتعامل مع التسونامي الهائل للمعلومات التي بدأتْ تتدفّق علينا منذ أواخر القرن التاسع عشر.

إنّنا ننفصل؛ في حين أنّ هناك الكثير من المعلومات. وعندما لا يمكننا التعامل مع كل شيء، ننفصل. يلتقط ماثيو أرنولد في فيلم Dover Beach بشكل جميلٍ الإحساسَ الرَّهيب بفقدان المعنى الذي صاحَبَ مأْسَسَة التّخصص:

“بحر الإيمان… لقد كان ذات مرة ممتدًّا على الشّاطئ الكامل والمستدير للأرض؛ يطوّقها كحزامٍ لامعٍ ساطعٍ من حوافها؛ لكنّني الآن لا أسمع إلا زئير الأرض الكئيب، وأضحَتْ رياح الليل خانقةً تخطف الأنفاس، لقد أصحبتْ حوافُّ الأرض الشّاسعة كئيبة تبعث الضّجر”.

أعتقد، بشكل متزايد، أنّ هذه الفكرة خاطئة، حيث يوجد في العِلم الحديث قصةٌ أكبر من تلك الخاصّة بالأديان المؤسّسيّة. صحيح إنّها تتعلق بكونٍ بدون غائيّة، وبدون خالق واعٍ. ولكن -كما يشرح دانييل دينيت بشكل جميل في كتابه “فكرة داروين الخطرة”- إنّه عالَم يمكن أن يخلق أشياءَ معقدةً ومثيرةً للاهتمام بشكل استثنائي… هذه هي القصة.

يصف دينيت هذا بشكل جميل، ولكن يمكنك أن تجد أفكارًا مماثلة إذا نظرت في الكتابات المبكّرة للبوذيّة، أو في الفلسفة اليونانية -فكرة الكون الذي لم يتشكل من قِبل الآلهة، ولكن في تمظهرات الأشياء- لست بحاجة إلى سائق، لست بحاجة إلى مُنشئ. إنّ إثارة هذه القصة؛ هو أحد الأشياء التي نحاول القيام بها في التاريخ الكبير.

أنا مقتنع بشكل متزايد، بأنّ العديد من المشكلات التي بدت ذات يوم مستعصية على الحل ستبدأ في الظهور بشكل أكثر قابليّة للإدارة إذا تعاملتَ معها من منطلق تخصصات متعددة. أودُّ أن أعتقد أنّ هذا يتضمّن كل التحديات التي سنواجهها في الخمسين أو المئة عام القادمة. تحدّيات تغيّر المناخ، وتراجع التنوع البيولوجي، وحقيقة أنّ هناك انقراضًا جماعيًّا يحدث في الوقت الحالي، وهذا بسبب حقيقة أنّنا نحن البشر نستهلك الكثير من موارد المحيط الحيوي، لدرجة أنّ الأنواع الأخرى أصبحت فقيرة. لقد أفقرناهم ودفعنا الكثير منهم إلى الانقراض.

آمل أن تتضح هذه التحدّيات أيضًا إذا تمكّنّا من مساعدة المزيد من الطلاب والباحثين على التراجع قليلاً عن التخصصات. أفكّر في هذا أحيانًا على أنّه منظر من قمّة الجبل. إذا كان التعليم والبحث يدوران حول التعرُّف على مناظر طبيعيّة معيّنة هنا وهناك -المناظر الطّبيعيّة للجينات، وعلم الوراثة، والمناظر الطّبيعيّة للأدب الفرنسي- فحينئذٍ تحتاج في وقت ما إلى التراجع والنّظر إلى كل شيء من قمّة الجبل حيث ترى كيف ترتبط كلها ببعضها البعض.

أحد الأسباب التي تجعل لهذا النّهج للتاريخ الكبير، وهذه المحاولة لوضع كل شيء معًا -والتي أَطلق عليها ويلسون “توافق الأدلّة”- أهميّةٌ كبيرة، يرجع جزئيًا إلى التخصص، ولجميع إنجازات العلوم في قرن ونصف. وهذا جزء من السّبب الذي يجعل الكثير من الناس يكافحون لأخذ العلم على محمل الجد، أحد الأشياء التي يمكن أن يفعلها “التاريخ الكبير” هو مساعدتنا على رؤية أنّ هناك قصّة متماسكة وراء العلم الحديث، هو ما يمكّنُنَا من فهم العلم بشكل أعمق. أستخدم مرحلة “العلم الحديث” بهذا المعنى الواسع: بحث علمي معاصر صارم في جميع المجالات. من بين طلابي، ومن الطلاب الذين يتعلمون التاريخ الكبير من خلال مشروع التاريخ الكبير في المدارس -هناك الآن عدة مئات من المدارس تدرس التاريخ الكبير من خلال مشروع التاريخ الكبير، وباستخدام مواد موقع الويب المتاحة- هناك العديد من الطلاب الذين يشعرون بالقلق من العلم، إنهم خائفون من العلم، لا يريدون التعامل معه، ولكن بمجرد أن يروا أنّ هناك ضمن فهمنا الحديث للكون والأرض والكوكب والبيولوجيا هناك قصّة متماسكة مليئة بالمعنى؛ سيقودهم ذلك إلى العلم.

هذا الإحساس بأنّ العلماء يدرسون الكون فقط، ولا يعملون في مجال المعنى، كان ضارًّا إلى حدٍّ ما. نعم، كمبدأ منهجي، أنت ترسم خرائط، وتصف العالم؛ ويجب ألا تدع تحيُّزاتِك وآراءك ومعتقداتك تقف في طريق ما تراه. هذا صحيح تمامًا كمبدأ منهجيّ. لكن إذا فرضتَ ذلك على العلم كَكُل، فإنّك تخلق صورة في أذهان العديد من غير العلماء عن العلم كمجال، حيث تتعلّم الكثير من الحيل القويّة والماهرة، والتي يصعب تعلُّم الكثير منها. لكنّها بلا معنى!

إذا استنتجنا ما أُسمِّيه “القصة” -وأدرك أنّ العديد من العلماء قد يكونون قلقين بعض الشيء من الحديث عن القصة، أو قصة الأصل- ولكن إذا استنتجنا أنّ هذا سرد ذو مغزى يبين معنى مكاننا في الكون وطبيعة الكون، ستجد أنّ ذلك سيقوض الكثير من المقاومة المعاصرة للعلم. قد يوقف استخدام كلمات مثل “العَلْمَويّة” كتهمة. وبقدر ما أستطيع أن أرى، فإن كلمة “العلمويّة” وصمٌ ازدرائيٌّ للعِلم. إنّها الكلمة التي تستخدمها إذا كنت بطريقة ما لا تحب العِلم، أو تقاوم العلم، أو تخشى العلم، لكنّك لست متأكّدًا من السبب.

إذا كنت محقًا في أنّ هناك قصّة غنيّة هنا في العلوم، فإنّ فكرة أنّ العلم أيضًا يروي قصة، وهي قصة لديها الكثير لتخبرنا عن مكاننا في المكان والزمان، لا ينبغي أن تكون مقلقة. بهذا المعنى، العِلم مثل كل التقاليد الفلسفية. إنّه عمليّة رسم خرائط تخبرك بمكانك في المكان والزمان. وهي العمليّة الموجودة في جميع سرديّات الأصل القويّة وذات المغزى، لأنّها تخبرك من أنت وأين أنت. من خلال القيام بذلك، يخبرك عن الاحتمالات المتاحة لنا، هناك تحدٍّ تعليميّ للعلم لتقديم نفسه على أنّه يبحث عن المعنى، وتقديم نفسه على أنّه معنيٌّ بمجال الغاية والمعنى مثل أي تقليد فلسفي عظيم آخر، بالإضافة إلى أنّه أكثر قوة لأنّه يجمع الكثير من المعلومات، وهي عالمية.

قمت بالتّدريس في سان دييغو لسنوات عديدة، وقمت بتدريس التاريخ الكبير. كان لديّ الكثير من الطلاب الذين كانوا مبدعين. كانت لديهم الشّجاعة ليقولوا لي إنّهم كافحوا مع كل هذا. من الأشياء التي وجدتها أنّ العديد منهم يكافحون بطريقة تثير الإعجاب. إنّهم يبحثون عن قصة كبيرة. لا يجدونها في العلم لأنّنا لا نعلمها بهذه الطريقة. في النهاية، يذهبون إلى كنائسهم لأنّهم يجدون قصة كبيرة هناك. أدركت أنّ القليل منهم غير مرتاحين لهذا الأمر، لأنّهم أدركوا أنّ هناك عدم توافق بين القصّة الكبيرة التي حصلوا عليها من كنائسهم، والعلم الذي خلق iPhone الذي يحملونه في جيوبهم. إنّهم غير مرتاحين بعض الشيء حيال ذلك. السبب في ذهابهم إلى تلك القصة، على الرغم من عدم الراحة، هو بالتحديد لأنّ العلم لا يقدّم نفسه على أنّه يحتوي على قصة بديلة. لهذا السبب أودُّ أن أعتقد أنّ التاريخ الكبير يمكن أن يقود العديد من الطلاب إلى رؤية العلم على أنّه ليس مجرد معرفة قوية، ولكن كمعرفة ذات مغزى، كمعرفة تخبرك عن هويتك وما أنت عليه.

لقد طرحت فكرة أنّ ما أسميه التعلّم الجماعي قد يكوِّن ما يجعلنا مختلفين: بعبارة أخرى، قدرة البشر على مشاركة المعلومات بمثل هذه الدّقة وبهذا الحجم الذي تزيد فيه المعلومات على المستوى الثقافي من جيل إلى جيل. هذه عتبة أساسيّة. هذا ما يميّزنا؛ وهو ما يشرح سبب تنوع المجتمعات، لأنّ كل مجتمع يجمع المعلومات بطرق مختلفة قليلاً. إنّه يفسر لماذا عندما تلتقي المجتمعات تكون أوجه التآزر فيها قوية للغاية. إنّه مصدر التكنولوجيا. إنّه مصدر العلم. إنّه مصدر الحضارة. إنّه ما يجعل كل شيءٍ بشريًّا.

إذا كان هذا صحيحًا، فلشرح ما يجعلنا مختلفين؛ نحتاج إلى التمييز بين مشكلتين. الأولى هي كيف عبر أسلافنا تلك العتبة اللغوية. هذه مشكلة تقنية معقدة بشكل شيطانيّ، وتنطوي على مجموعة واسعة من الأدلة، بعضها عصبي، وبعضها أثري، وبعضها أنثروبولوجي. المشكلة الثانية أكثر قابلية للإدارة: تحديد العتبة نفسها، أي ما الذي تغيّر، وجعلنا نعبر هذه العتبة بكل بساطة. يمكننا أيضًا البحث عن الدليل على تجاوز العتبة. إلى حد ما، أودُّ أن أُنَحِّي مشكلة كيف ولماذا تغير ذلك. يجب أن يكون شيئًا بسيطًا، لأنّه على المقاييس الزّمنية للحفريّات يكون التغيير سريعًا جدًا. قد تكون فكرة تشومسكي عن تغيير عصبيّ طفيف أعطانا قواعد اللغة على المسار الصحيح. هل ذلك صحيح حرفيًّا أم لا؟ لا نعرف.

إذا وضعنا جانبًا مشكلةَ كيفيّة حصولنا على اللغة البشرية -المغايرة للغة الشمبانزي- فإنّ ما تبقى لدينا هو تحديد طبيعة العتبة. إنّه أمر دقيق للغاية، لكنّه ليس صعبًا. إذا كنت تعتقد أنّ اللغات تتواصل بمستوى معين من الكفاءة، فإنّ نظرية المعلومات تأتي في هذا الصدد. هناك مادة غنية في نظرية المعلومات، ولن أتظاهر بفهمها بالتفصيل. النقطة المُهمّة هي أنّه يمكنك قياس كفاءة أنظمة المعلومات. يتم نقل الكثير من المعلومات بدرجة معينة من الدقة أم لا.

يمكنك تخيل مقياسٍ تَتَدَفَّقُ فيه المعلومات في المستويات الأدنى. إنّها مثل لعبة الهاتف، إذا قلت لشخص ما، “واحد، ستة، Z، رأس المال، Y، W، العب”، فإنّ هذه المعلومات ستموت قريبًا. إذا قلت، “أنا في نيويورك” وقمت بنقلها، فإنّ هذه المعلومات ستحمل وتستمر. يبدو الأمر كما لو أنّ الشمبانزي يعيش في عالم قد تكون فيه المعلومات قادرة على البقاء على قيد الحياة في عملية تبادل واحدة أو اثنتين، لكنّها لا تستطيع الوصول إلى أبعد من ذلك بكثير. لقد تجاوزنا عتبةً قد تكون صغيرة جدًا من الناحية العصبية، وبعدها لدينا ما أطلق عليه تريناس ديكون “اللغة الرمزية”، وهي لغة يتم فيها ضغط الكلمات بشكل لا يُصدّق، وحُزَمٍ تحتوي على الكثير من المعلومات.

أستطيع أن أقول أربعة مقاطع لفظية “قط رمادي” وفجأة ستظهر صورة في دماغ شخص ما عن شيء لم يكن موجودًا. تتيح لنا اللغة الرمزية التحدّث عن أشياء غير موجودة هنا. إنّه يزيد بشكل كبير من نطاق ما يمكننا توصيله، فبمجرد عبور ذلك؛ أنت في منطقة جديدة. قد تكون في مثل هذه المنطقة الجديدة التي ستمنع فيها الأنواع الأخرى التي تقترب من تجاوز هذه العتبة، والتي قد تكون مصير بعض أنواع أشباه البشر الأخرى في 500,000 سنة الماضية.

باختصار، يمكننا تحديد الطبيعة العامّة للعتبة التي تجعل البشر مختلفين. يمكننا أن نقول ما يجعلنا مختلفين: إنّها لغة فعّالة للغاية بحيث تتراكم المعلومات عبر الأجيال، والمعلومات الثّقافية بدلاً من المعلومات الجينية. لا نعرف بعد بالضبط كيف حدث ذلك، ولكن ربما يمكننا أن نقطع شوطًا طويلًا، ونترك ذلك كصندوق أسود نأمل أن يَحُلَّه اللغويون أو علماء الأعصاب في العقد أو العقدين المقبلين، ثم ننتقل إلى المشروع التالي، الذي يبحث عن دليلٍ على أنّ الأنواع عبرت هذا الخط.

يجب أن يظهر الدليل في مكان ما بين 250 و50,000 سنة مضت. يجب أن نبحث عن أدلّة على الأنواع التي يتوسع مكانتها. قبل 50,000 سنة، أصبحت هذه الأدلّة قويّة جدًّا في إفريقيا. ربما بمقدار 100,000 وربما حتى قبل 200,000 سنة. يجب أن تبحث عن دليل على النشاط الرمزي. عندما تجد صخورًا قريبة على هيئة أشباه البشر تبدو وكأنها نُحِتَت أو اُستُخدِمت، فهناك تلميحٌ إلى أنّه قد يكون لديك نوع يفكر بشكل رمزي، لأنّه لا يمكن أن تكون قد رسمت نفسها. هذه المشكلة برُمَّتها حول أصول اللغة، نحتاج إلى تفريغها قليلًا، والتمييز بين المشكلة الصعبة المتمثّلة في كيفيّة حصولنا على لغة أكثر كفاءة، ودراسة عواقب الحصول على لغة أكثر كفاءة، والتي يمكننا التحدث عنها.

ما هي الهياكل المؤسسية التي يوجد ضمنها التاريخ الكبير؟ إنّه مشروع جديد للغاية. يحاول المشروع اختراق بعض الحواجز التي أوجدتها ما أعتَقد أنّه ثقافة التخصص، سواء في البحث أو في التعليم. بدأتُ بتدريسها في الجامعة. لسنوات اعتقدت أنّني أقوم بتدريس دورة جامعية صغيرة. لكنّ عددًا قليلاً من الجامعات الأخرى اهتمت بها واستحوذت عليها. يتم تدريسها الآن بأشكال مختلفة في عدد من الجامعات. اختارتها جامعة أمستردام، وقد قاموا بتدريس دورات التاريخ الكبير لسنوات، على غرار الدورة التدريبية التي كنت أدرسها. الميثوديّة الجنوبية في دالاس، بشكل مستقل تمامًا؛ بدأ جون ميرز تدريس مقرر دراسي هناك. كان إريك تشيسون يعلّم نسخة خاصة بعلم الفلك في بوسطن. أعتقد أنّ هناك على الأرجح 30 أو 40 جامعة، معظمها في أمريكا الشمالية، تدرّس التاريخ الكبير بشكل ما. يوجد الآن كتاب مدرسيّ على مستوى الكلية، وأنا المؤلف الرئيسي له. هذا يستهدف طلاب الجامعات.

في النهاية، أرغب في إنشاء سلسلة من المؤتمرات البحثية حول التاريخ الكبير. سيكون جدول أعمالهم هو أخذ أفكار مثل المعلومات أو التعقيد، ما يفعله معهد سانتا في. أو السؤال: ما الذي يجعل البشر مختلفين؟ أسئلة تدور في العديد من التخصصات وتجمع خبراء من تخصصات مختلفة. هذا هو المستوى الجامعي. في جامعة ماكوير، أنشأنا معهدًا للتاريخ الكبير سينظّم مثل هذه المؤتمرات، بالإضافة إلى دعم تدريس التاريخ الكبير في المدارس الثانوية.

منذ عام 2010، يدعم بيل جيتس إنشاء موقع مجاني على الإنترنت حول التاريخ الكبير للمدارس الثانوية، هذا هو مشروع التاريخ الكبير، إنّه مفتوح للجميع، يمكن لأيّ شخص الذهاب، فهناك نسخة عامّة، وهي دورة مدّتها عشر ساعات في التاريخ الكبير يمكنك الاستماع إليها. ونسخة أخرى هي دورة التاريخ الكبير للمدارس الثانوية لديها أيضًا موارد غنية جدًا. الآن، بعد أربع سنوات من بدء بناء ذلك، هناك أكثر من 100 مدرسة في أستراليا تدرّس هذا. يوجد أكثر من 400 مدرسة في الولايات المتحدة. وهناك العديد من المدارس الأخرى التي تستخدم بعضًا من موادّنا، ولكنّها لا تدرّس التاريخ الكبير بشكل رسمي. هذا على مستوى المدرسة.

لقد درّست التاريخ الكبير في كوريا لمدة خمس سنوات. كنت أقوم بتدريس دورات صيفية هناك. هناك مدرسة أو اثنتان تدرّس التاريخ الكبير في كوريا، وتوجد مدارس في هولندا أيضًا، تستخدم معظم هذه المدارس المواد التي تم تجميعها معًا لمشروع التاريخ الكبير. كان لديّ الكثير لأفعله بالبنية الأساسية لذلك، وليس بكل التفاصيل. هناك مواد تأتي على شكل فيديو، وهناك موادّ مطبوعة، وهناك رسومات، وما إلى ذلك.

بقدر ما يمكننا أن نرى، فإن مشروع التاريخ الكبير يحقّق أداءً جيدًا في المدارس. لكنّنا مررنا بمدارس فردية، وليس من خلال البيروقراطية التعليمية، لسبب بسيط للغاية وهو أنّك إذا مررت بالبيروقراطية التعليمية؛ فأنت تشارك على الفور في مفاوضات معقّدة حول كيفية ملاءمتك للمناهج والمناهج الحالية. إذا ذهبت إلى المدارس الفردية التي ترغب في تجربة منهج جديد؛ يمكنك تجربته وتحسينه، يمكنك الحصول على ردود الأفعال. في الوقت الحالي، نحن على مستوى المدارس الفرديّة، نود أن نرى هذه الدّورات تذهب إلى المدارس في البلدان غير النّاطقة باللغة الإنجليزية. نحن نتحدّث بالفعل إلى المدارس في هونغ كونغ، والتي قد توفّر طريقة لإنتاج نسخة الماندرين في النهاية.

لقد اتصل بي العديد من معلمي المدارس الابتدائية الذين قالوا إنّنا نود أن نرى نسخة المدرسة الابتدائية من هذا، لا أرى أيّ سبب على الإطلاق لعدم إمكانية سرد القصّة الأساسيّة على مستوى المدرسة الابتدائية، سيؤدي ذلك إلى إعداد الطلاب لمستوى أكثر تعقيدًا في وقت لاحق. ثم مستوى أكثر تعقيدًا، ربما، في الجامعة. واحدة من المشاكل الأخرى مع التعليم في الوقت الحالي هي أنّ لدينا فكرة أنّ الطالب يقوم بدورة في هذا، ثم ينتقلون، ثم يقومون بدورة في ذلك وينتقلون. في حين أنّ التعليم الجيد يجب أن يأخذ شكل دوّامة: تواجه مجموعة من الأفكار، مجموعة معقدة من الأفكار، كطالب في المدرسة الابتدائية، كطفل ثم كمراهق، ثم كشخص بالغ. وفي كل مرة تعمّق. في الماضي، هكذا تعلّم الناس قصصهم الأصلية.

ماذا يأتي بعد التاريخ الكبير؟ لست متأكّدًا. هذه منطقة غنيّة جدًّا. لدي هذا الحدس، كما أقول باستمرار، إنّ مشاكل البحث الكبيرة تظهر الآن. كان ويلسون يقول هذا لفترة طويلة. إنّها مهمة تقع في منطقة مشتركة بين التخصصات لسبب بسيط، وهو أنّ مثل هذا البحث الثّري قد تم إجراؤه ضمن الأُطر التخصصيّة. مع بدء المزيد والمزيد من الناس في أخذ فكرة ونظرة عامة عن كلّ المعارف الحديثة على محمل الجد، سيتولد تآزرٌ فكريٌّ مذهلٌ أقرب إلى التآزر الذي أخرج نظرية الانفجار العظيم في علم الكونيات، والذي كان أول تعاون علمي عظيم في التاريخ العلميّ الحديث، ألا وهو الجمع بين علم الماكروسكوبي جدًا والميكروسكوبي. اعتقدَ العديدُ من العلماء أنّ ذلك كان غير ممكن تمامًا. عندما اجتمعوا، اجتمعوا على قوّة الانفجار العظيم الفكري، لدى التاريخ الكبير القدرة على توليد الكثير من الانفجارات الكبيرة الصغيرة حول أسئلةٍ مثل: ما الذي يجعل البشر مختلفين.


  • ديفيد كريستيان: أستاذ التاريخ بجامعة ماكواري في سيدني. وهو مؤلف كتاب: خرائط الوقت: مقدمة للتاريخ الكبير.
المصدر
edge

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى