- حوار مع توبي أورد*
- ترجمة: سارة الشهري
- تحرير: آسية رياض الشمري
“لدينا القدرة على تدمير أنفسنا، لكننا لا نملك الحكمة الكافية للتأكد من ذلك”
كنت في الآونة الأخيرة أطرح على نفسي أسئلة حول مستقبل البشرية، ولا أقصد السنوات الخمس القادمة أو المائة عام القادمة فقط ولكن حول كل شيء يمكن للبشرية تحقيقه في المستقبل.
يبلغ عمر الجنس البشري وفقًا لأفضل تخميناتنا الحالية 200,000 سنة تقريبًا (وربما تكون أكثر قليلاً)، وقد نضطر إلى إلحاق بعض أسلافنا الآخرين من البشر والتفكير في البشرية على نطاق أوسع إلى حد ما. يمكننا أن نعيش أكثر بمئات الآلاف من السنين إذا أدينا دورنا بحكمة، فليس هناك ما يمنع نوعنا من أن يستمر لملايين السنين، إذ تعيش الأنواع النموذجية حوالي مليون سنة. إن سنواتنا الـــ(200,000) تضعنا الآن في سن المراهقة، أي أننا كبار بما يكفي على أن نوقع أنفسنا في مشكلة، في حين أننا لسنا حكماء بما يكفي للتعامل مع هذه المشكلة.
إن مليون سنة ليست الحد الأعلى للمدة التي يمكن أن نعيشها، فسرطان حدوة الحصان -مثلًا- يعيش منذ 450 مليون سنة حتى الآن، لذا يجب أن تظل الأرض صالحة للحياة والسكنى لتلك المدة على الأقل، ويمكن لمستقبلنا أن يمتد لملايين القرون من الآن إذا تمكنا من البقاء على قيد الحياة كسرطان حدوة الحصان، مما يعني ملايين القرون من التقدم البشري والإنجازات البشرية والازدهار البشري. وإذا استطعنا أن نتعلم خلال ذلك الوقت كيفية الوصول إلى أماكن أبعد في الكون لنصل إلى الكواكب حول النجوم الأخرى فقد يكون لدينا وقتًا أطول، فيمكننا الوصول إلى كل نجم في المجرة تقريبًا إذا قطعنا مسافة سبع سنوات ضوئية في كل قفزة نقوم بها وذلك من خلال الانتشار المستمر من كل موقع جديد، هناك بالفعل خطط جارية لإرسال مركبات فضائية إلى هذه المسافات، فإذا استطعنا القيام بذلك فإن المجرة بأكملها ستُفتح لنا.
ستظل بعض هذه النجوم تحترق لتريليونات السنين من الآن، لذا سنتمكن من البقاء على قيد الحياة ليس لمئات الملايين من السنين فحسب بل لتريليونات السنين إذا أدينا دورنا بحكمة، وسنتمكن من استكشاف مليارات العوالم، يا لها من إمكانات هائلة! فهذا أقصى حد لما قد نكون قادرين على تحقيقه خلال تلك الفترة كيفما فكرنا في الإنجاز، سواء فكرنا في الأمر على أنه رفاهية في كل حياة نعيشها، أو على أنها أعظم معرفة وجدناها، أو أعظم الأعمال الفنية التي ابتكرناها، و يجب أن تكون المجتمعات التي ننشئها في المستقبل هي الأكثر عدلاً لأن مستقبلنا قد يكون أعظم بكثير من ماضينا وأطول بكثير من حاضرنا العابر.
نحن لا نأخذ هذا الأمر على محمل الجد في كثير من الأحيان، ونفكر في مدى صغر الشريحة البشرية التي نراها في الوقت الحالي، ومدى ثبات الشؤون السياسية، فالدّور الذي يلعبونه في تشكيل مستقبل البشرية بأكمله هو الأهم، إلا أن هذا المستقبل كله في خطر.
لقد بقينا على قيد الحياة لمئتي ألف سنة حتى الآن(2000 قرن)، كان هناك الكثير من المخاطر في الماضي أشهرها الكويكبات التي ضربت الأرض قبل 65 مليون سنة تقريبًا وقضت على الديناصورات، وهذه أحد أنواع المخاطر التي تعرضنا لها طوال الوقت، وهناك أيضًا المذنبات، والبراكين الضخمة كثوران بركان توبا، ومخاطر الأوبئة الطبيعية، كل هذه الأمور وجدت منذ 2000 قرن، أما الخبر السَّار هو أن الخلفية الطبيعية لهذه المخاطر آمنة إلى حد ما، إذ تكون الآثار طفيفة في معظم الحالات، فمن غير المرجح أن نبقى على قيد الحياة لمدة 2000 قرن لو لم تكن كذلك ، وهذا هو الشيء الذي يسمح للأنواع بالعيش لمليون سنة في المتوسط.
لا يعد الجنس البشري من الأنواع النموذجية،[1] ما يقلقني هي أن تتسبب تقنيتنا في جلب المخاطر لنا، فإذا نظرنا إلى تاريخ البشرية في الألفي قرن تلك فسنرى التراكم التدريجي للمعرفة والقوة منذ البداية، وإذا عدتَ بذاكرتك إلى البشر القدامى فستجد أنهم لم يكونوا رائعين مقارنة بالأنواع الأخرى من حولهم، إذ لا يعد الفرد البشري رائعًا في السافانا مقارنة بالفهد أو الأسد أو الغزال، ولكن ما يميزنا عنهم هو قدرتنا على العمل معًا، والتعاون مع البشر الآخرين لتطوير أنفسنا، إذ كان العمل الجماعي والقدرة على العمل مع أولئك الذين ينتمون إلى نفس العشيرة هو الأمر الذي جعلنا نتوسع في العمل الجماعي ليشمل عشرات البشر غير المنتمين للقبيلة نفسها، قدرتنا على التعاون عبر الزمن وعبر الأجيال هو الأكثر أهمية، فمن خلال ابتكار الابتكارات الصغيرة ونقلها إلى أبنائنا تمكنّا من دفع عجلة الحياة وضمان استمرارها، إذ تعمل أجيال من الناس معًا عبر الزمن متمكنين من بناء تلك الابتكارات والتقنيات والنفوذ ببطء.
عندما ننظر إلى تاريخنا ونركز فقط على الكتابات الأولى في كثير من الأحيان، كما نفكر في الأسماء الأولى التي تم تدوينها والأساطير الأولى والتواريخ الأولى، فنحن – بذلك- نقيد أنفسنا عند التفكير بالأشياء العظيمة التي قامت بها البشرية بآخر خمسة آلاف سنة، إلا أن البشرية قامت بالكثير من الأشياء العظيمة في المائة وخمسة وتسعين ألف سنة الأخرى، فكان لدينا أوائل المستكشفين الذين دخلوا إلى كل منطقة جديدة في العالم، وخرج آخرون من أفريقيا ووجدوا حيوانات ونباتات جديدة في كل منطقة، وحددوا كيف تتناسب الأنظمة البيئية معًا، وسمّوا كل تلك الأشياء، كما حددوا أي النباتات يمكن استخدامها في الأدوية التقليدية، والحيوانات التي يجب تجنبها وكيفية مطاردتها والتهرب منها، كما كان هناك أوائل البشر الذين وطأت أقدامهم أستراليا بعالمها الجديد والغريب والذي يعيش عليه مخلوقات مختلفة قد فُقدت منذ ملايين السنين. هناك أشياء مذهلة قمنا بها ولكن الأكثر إثارة للدهشة هو تراكم الابتكار.
لقد وجد ما يقارب المائة مليار إنسان منذ خلق البشرية، ويعيش منهم الآن سبعة مليار شخص، لقد جمعت تلك المائة مليار روح الابتكارات والمعلومات والقوى المتراكمة حول العالم الطبيعي وكيفية التأثيرعليه، وقد مرت هذه القوة المتصاعدة بتحولات كبيرة وبدأت في زيادة معدل التقدم ابتداءً بالثورة الزراعية عندما تم تطوير الزراعة مما أدى إلى صنع مستوطنات كبيرة دائمة، وبدلاً من عمل عشرات آلاف الأشخاص معًا عبر الأجيال فقد تمكن ملايين الأشخاص في الوقت ذاته عبر العالم من العمل معًا، كان هذا أحد التسارعات الكبيرة التي حدثت للبشرية، و آخر تلك التسارعات كانت الثورة العلمية عندما طوّرنا القدرة على فهم العالم من حولنا لنتحرر من المعتقدات ونختبرها بالشكل الصحيح ونتجاهل التفسيرات السيئة منها، يمكننا استخدام بعض هذه المعلومات التي حصلنا عليها لتسريع معرفتنا بالعالم من حولنا وتشكيله بما يتناسب مع الغايات البشرية.
لقد تسارعت الثورة الصناعية مرة أخرى عندما تمكنا من الوصول إلى جزء صغير من ضوء الشمس الذي يسطع على الأرض على مدى ملايين السنين، فقد استخدمنا ذلك مع ابتكاراتنا لقيادة العصر الحديث نحو النمو المستدام، وقد تضاعف عمرنا خلال تلك الحقبة الصناعية في جميع أنحاء العالم، إذ تعيش البلدان الأكثر فقراً الآن لفترة أطول من البلدان الأغنى آنذاك، لقد قادنا هذا التسارع الهائل للتقدم والقوة إلى انتقال جديد ربما يكون أكثر أهمية من أي انتقال حدث من قبل في العالم.
في عام 1945 قمنا بتطوير أسلحة نووية، إذ وصلت القوة المتزايدة للبشرية في ذلك الوقت إلى مستوى عرضنا به أنفسنا للخطر، ليس على صعيد الفرد البشري فقط وإنما على صعيد البشرية كافة، كما عرضنا كل ما قمنا ببنائه على مدى مئات المليارات من السنين لخطر الضياع، فكل إنجازاتنا عبر هذه الدهور قد تذهب أدراج الرياح.
لسنا على يقين تام مما إذا كانت الحرب النووية يمكن أن تدمرنا، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يصبح فيها الأمر معقولًا ومنطقيًا، وقد استمر التقدم التكنولوجي وتسارع منذ ذلك الحين فرأينا كمية هائلة من انبعاثات الكربون مما أدى إلى أزمة الاحتباس الحراري العالمي الحالية، وهو أمر آخر قد يتسبب في إنهاء حياة البشرية، لسنا على يقين تام ولكن قد نتمكن من النجاة حتى في أسوأ حالات الاحتباس الحراري ، إلا أننا وصلنا إلى مرحلة يكون فيها احتمال هلاكنا وارد.
لقد دخلنا مع هذه التغييرات إلى مرحلة جديدة أُطلق عليها اسم “الهاوية” ، لأنني أفكر أحيانًا في تاريخ البشرية الطويل كرحلة عبر البرية، إذ يتخللها أوقات عصيبة في بعض الأحيان ولحظات من التقدم المفاجئ ووجهات نظر طائشة، لقد مررنا منذ عام 1945 عبر ممر في الجبال وشققنا طريقنا عبر حافة ضيقة إلى منحدر ينتهي بنا على حافة الهاوية العميقة، نستطيع خلال هذه الرحلة رؤية أراضٍ أكثر خصوبةً وجمالًا قد نكون قادرين على الوصول إليها لكننا الآن معرضون للمخاطر، لا نعرف بالضبط حجم هذه المخاطر و لايمكننا تقديرها بدقة لأننا لم نختبر ذلك من قبل، فهي ليست تجربة يمكننا إجراءها لآلاف المرات، قد نخسر فيها مئات الأراضي من أجل تحديد هذه الاحتمالات، إنها حالة يجب أن ندرك فيها التهديد دون الوصول إلى تلك الأرقام الدقيقة، و يبدو أن هذا هو الوقت الأكثر خطورة حتى الآن، و ستكون هذه لحظة محورية في رحلتنا.
إذا تمكنا من النجاة فقد ينظر أحفادنا إلى هذا الوقت على أنه وقت ذو أهمية فريدة، وسيرون أن الثورة الصناعية كانت مهمة ولكنها ليست بأهمية الهاوية، لأنها اللحظة التي أصبح فيها المستقبل بأكمله عرضة للخطر، ولو أننا لم نحقق هذه الثورة الصناعية في ذلك الوقت فقد نتمكن من اكتشاف هذا الوقود الأحفوري في وقت لاحق، فالعديد من الاكتشافات ماهي إلا مسألة “متى نكتشف؟” لا ” لو نكتشف”، تمامًا كالخيط الفاصل بين احتمال ازدهارنا أو القضاء علينا للأبد، فهذه اللحظة مختلفة، وإذا كانت الفرص عالية كما أعتقد أن تكون فلا يمكننا البقاء على قيد الحياة لعدة قرون بوجود مخاطر كهذه.
علينا العمل على خفض مستويات هذه المخاطر، ومواجهة هذه التقنيات التي تشكّل بعض التهديدات وإدارتها بنجاح، علينا أن نلتزم بضبط أنفسنا في المستقبل لإبقاء الخطر في أقل مستوياته، فيجب أن نبقيه منخفضًا كما وصل إلينا، فهذه إحدى طرق الخلاص من الهاوية. والطريقة الأخرى -بالطبع- هي أن نترك هذه المخاطر تبقى عند مستوياتها الحالية أو أعلى مطلقين لها العنان لتستمر في التفاقم، جاعلين نجاتنا كضربة حظ. لقد واجهت البشرية في القرن الماضي خطورة إنهاء قصتها في العصر النووي بنسبة 1 % ، ولكن الخطر أكبر في هذا القرن تمامًا كلعبة حظ مميتة.
يمكننا أن نرتقي إلى مستوى هذا التحدي وننهيه، ولا أعتقد أن هذا أمر لا مفر منه بأي شكل من الأشكال ، لذلك أنا لا أحاول أن أروي قصة أخلاقية أو خرافة حول الغطرسة الإنسانية وكيف أن محاولاتنا الجادة للوصول إلى الشمس أدت إلى سقوطنا المحتوم، لا أعتقد أن هذا صحيح على الإطلاق، إذ يجب علينا أن نصل إلى الشمس، فالتقنية ضرورية لتحقيق غايات البشرية، وهي ضرورية لتحقيق كل القصص التي تحدثت عنها عن بقاء البشرية المحتمل إذا استطعنا فقط الوصول إلى النجوم، إذ لن نستطيع فعل ذلك بدون تقنية، ولن نستطيع بدون تقنية أو التقدم التكنولوجي تحقيق ولو 1 ٪ مما نحن قادرون على تحقيقه، إلا أن التقنية هي من خلقت هذه المخاطر، لذا فهي قصة أكثر تعقيدًا من مجرد كون التقنية جيدة أو سيئة، هي بالطبع ضرورية إلا أننا نحتاج إلى أن نكون أكثر حذراً في التعامل معها.
غالبًا ما تحدد جداولنا الزمنية هذه الأيام من خلال دورة الأخبار والتي تمتد لأسبوعين، أو من خلال الدورات الانتخابية التي تمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، فإذا نظرنا في هذا التناظر بينها وبين حياة إنسانية واحدة فسنجد أن دورة الانتخابات التي تستغرق أربع أعوام ستكون مثل الساعات الأربع التالية في حياتنا، و نحن في وضع يفكر فيه أصحاب البصيرة بثلاث دورات انتخابية مقبلة أي ما يعادل نصف يوم. تخاطر البشرية بالمستقبل بأكمله تمامًا كالمراهق الذي يخاطر بكامل حياته عندما يفكر فقط في الساعات القليلة القادمة غير مدرك لحماقاته التي قد توقعه في المخاطر. يمكننا أن نفكر في كل هذه الفضائل والرذائل ليس على المستوى الفردي فقط ولكن على مستوى الإنسانية، أو الفضائل والرذائل الحضارية كما أطلق عليها. تحتاج البشرية هذه المرة كما يعتقد الفلكي الأمريكي كارل ساجان أن تكون أكثر حصافة وصبرًا وحكمة لتتمكن من النجاة، كما يعتقد ساجان أن البشرية أصبحت أقوى بشكل أسرع مما أصبحت حكيمة، فقد تطورت قوتنا بشكل هائل ولكن حكمتنا نمت بشكل متعثر هذا إذا كانت قد نمت حقًا.
لدينا القدرة على تدمير أنفسنا دون أن ندرك ذلك؛ وذلك هو السبب في جعل وضعنا غير قابل للاستدامة. كنت أفكر في مدى ازدهار مستقبلنا، وكيف أن العلم لا يعرف حدودًا للمعرفة وما يمكننا تحقيقه، و في مدة بقاء البشرية، و أجزاء الكون التي يمكننا اكتشافها واستكشافها، كما كنت أفكر في ارتفاع جودة حياتنا أو الإنجازات التي يمكن أن نحققها، ما هي الأشياء التي يمكن لجيلنا أو جيل أبنائنا القيام بها لحماية بذرة البشرية هذه حتى نتمكن من تطوير أنفسنا و نصبح أعظم مما نحن عليه، و لحماية حاضرنا وبالتالي حماية مستقبلنا؟
بدأ الناس في طرح الأسئلة حول بقاء البشرية ومواجهة احتمال الهلاك منذ عام 1900، فقد ألقى الروائي والكاتب البريطاني هيربرت جورج ويلز محاضرة رائعة حول الطرق التي قد تفشل بها البشرية، كما كان هناك المزيد من الأفكار حول هذا الموضوع على مدى الأربعين عامًا التالية ، ثم وصل الأمر إلى ذروته مع تطوير الأسلحة النووية، فقام عدد كبير من علماء الذرة الذين طوروا هذه الأسلحة بتأسيس نشرة علماء الذرة، و بدأوا يتساءلون ما إذا كانوا اخترعوا شيئًا قد يُنهي قصة الإنسان، وقد كتب الفيلسوف البريطاني وعالم الفيزياء السويسري الأمريكي أينشتاين الكثير حول هذه الاحتمالات، فقد كان هذان الشخصان لمدة عشرين عامًا على رأس الأشخاص الذين يتساءلون فيما إذا كانت البشرية تقترب من نهايتها، وماذا يعني ذلك، وماذا يجب أن نفعل حيال ذلك، و اقترحوا إنشاء حكومة عالمية لنتمكن من تجاوز هذا الأمر.
أُثير هذا الأمر مجددًا في الثمانينيات عندما كتب المؤلف الأمريكي جوناثان شيل كتابًا رائعًا بعنوان “مصير الأرض”، وقد تأثر في تلك المرحلة بنظرية آنذاك تزعم أن الأسلحة النووية قد تدمر طبقة الأوزون، و كان الناس في وقت سابق يعتقدون أن هبوط الغبار المشع على الأرض وقتله للبشر من خلال الإشعاع قد يؤدي إلى نهاية البشرية، كما كان يُعتقد في أوائل الثمانينيات أن تآكل الأوزون قد يتسبب في قتل البشر، واستحالة استمرار الحياة بسبب الأشعة فوق البنفسجية، لقد كتب كتابًا مثيرًا للغاية وتوصل إلى الكثير من الأفكار الرئيسة حول هذا الموضوع، فقد كان أول شخص -على حد علمي- يميز إن خسارة الجميع أسوأ كثيراً من خسارة كل شخص تقريبًا؛ لأنه هذا التدمير ليس لحاضرنا فحسب بل تدمير لمستقبلنا أيضًا.
لقد قام بعمل رائع عندما جمع في كتابه بين الفلسفة التحليلية وتقديم الملاحظات والرؤى والمفارقات الدقيقة، وهو الأمر المحبب لي عند الحديث عن الحرب النووية، لقد فعل ذلك جنبًا إلى جنب مع شكل من أشكال الفلسفة القارية عن طريق الكتابة بشكل مثير وجذاب محاولًا التعامل مع الأمور التي على المحك بطريقة فنية أكثر لإثارة مشاعر القراء استفزازهم وإجبارهم على مواجهة ما كانت تموله أموالهم المدفوعة في الضرائب، فهي تهدد بتدمير المدنيين في الاتحاد السوفييتي المعارض، بل وربما تدمير مستقبل البشرية بالكامل في نهاية المطاف.
وفي عام 1983 قام كارل ساجان ببعض الأعمال الشيقة مع بعض زملائه، حيث نظروا في إمكانية حدوث شتاء نووي، وقد نشأ هذا من بعض النماذج المناخية التي كانوا يقومون بها للكواكب الأخرى عندما كان عليهم ابتكار نماذج مناخية كوكبية كاملة أبسط بكثير من النماذج التي لدينا اليوم لتغير المناخ، وقد لاحظ أن هناك احتمالًا بأن السخام الناجم عن احتراق المباني من حرب نووية قد يرتفع ليس فقط إلى المرتفعات العالية للغلاف الجوي حيث يمكن أن تتشكل الغيوم وتهطل مرة أخرى مما يؤدي إلى هطول أمطار سوداء حيث يسقط السخام، بل قد يرتفع عاليًا حتى يصل إلى طبقة الستراتوسفير فوق السحاب، ولا توجد آلية سهلة لجعله يسقط من الغلاف الجوي عند حدوث ذلك، فقد يبقى فيه هذا السخام لعقد من الزمن يحجب فيه أشعة الشمس و يكسوا الأرض الظلام ويغمرها الصقيع.
لاحظ ساجان أن حدوث ذلك سيتسبب في حدوث نوع من الشتاء في جميع أنحاء العالم، ويقلل درجات الحرارة بدرجة كبيرة في وسط القارات، فقد يكون بالمتوسط أكثر برودة بخمس درجات من برودة العالم، فستكون ولاية أيوا -مثلًا- أكثر برودة بعشرات الدرجات، وتقل البرودة في المناطق الساحلية، ويمكن أن يؤدي هذا إلى الصقيع المبكر بما في ذلك الصقيع الصيفي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقلل بشكل كبير من موسم نمو الحبوب والمحاصيل الأساسية، فلا يكون هناك فترة كافية بين موجات الصقيع للحصول على محصول، وقد يؤدي هذا إلى مجاعة جماعية وربما انهيار حضارات إقليمياً أو عالمياً، وربما حتى انقراض البشرية.
كتب ساجان هذه المقالة المدوية في مجلة الشؤون الخارجية في محاولة للتفاعل مع الفلسفة والسياسة التي تتساءل عن الاكتشاف الجديد الذي يزعم أن الأسلحة النووية قد تدمر البشرية بالنسبة للسياسة النووية؟ ماذا يعني ذلك للبشرية؟ ماذا يعني أن تكون مواطنًا في إحدى الدول التي تطور وتنشر هذه الأسلحة؟ هناك مزيج مثير للأشخاص المهتمين بهذا من مختلف التخصصات فقد كان بيرتراند راسل فيلسوفًا، وكان ألبرت أينشتاين عالم فيزياء، وكان كارل ساجان عالم فلك، بينما كان جوناثان شيل صحفيًا وخبيرًا بيئيًا وفيلسوفًا لامعًا .
في العام التالي(1984)، صدر كتاب رائع آخر وهو كتاب “العقول والأشخاص” Reasons and Persons للفيلسوف البريطاني أكسفورد ديريك بارفيت، ويعدّ أحد أفضل كتب الفلسفة في هذا القرن ويحظى بشعبية كبيرة، أدرج فكرة أن المستقبل بأكمله قد يكون في خطر قرب نهاية كتابه الذي يعد أحد أهم أعماله، ورسمها بوضوح قائلًا: لنتخيل ثلاث نتائج محققة: 1- السلام، 2- حرب نووية تقتل 99% من البشر، 3- حرب نووية تقتل البشر بنسبة 100%. ويرى بارفيت أن من الواضح أن السلام أفضل من الحرب النووية التي تقتل 99٪ من البشر، والتي تعد بدورها أفضل من الحرب النووية التي تقتلهم بنسبة 100٪ ، ثم عاد وتساءل: أي الفرقين أكبر؟ الفرق بين السلام و قتل 99٪ من البشر أو بين قتل 99٪ و قتل 100٪ من البشر؟ وأشار – كما تبين صحته لاحقًا – إلى أن أغلب الناس سيقولون أن الفرق الأول بين السلام وموت 99٪ من البشر أكبر من الفرق الثاني، فعدد الوفيات في هذا النطاق أكثر من النطاق أدناه، لكن بارفيت و بشكل مستقل عن ساجان وشيل لاحظ أن الفرق بين 99٪ و 100٪ كان أكبر ، لأن هذا الدمار الإضافي قد يدمر مستقبلنا بأكمله، و المستقبل أكبر من الحاضر، وقد كانت هذه بدايات تاريخ هذه الأفكار.
كتب فيلسوف آخر جون ليزلي كتابًا رائعًا في عام 1996 بعنوان”نهاية العالم”يعد أول اكتشاف حقيقي اشتمل على الطرق التي يمكن أن يضيع بها مستقبلنا بسبب خطر الانقراض وليس بسبب الحرب النووية فحسب، كما لخّص الكثير من العلوم. في الواقع، كان على الكثير من الفلاسفة الذين اضطروا للتعامل مع هذه المسألة أن يتعاملوا مع الكثير من العلوم ،كما اضطر الكثير من العلماء للتعامل مع الكثير من الفلسفة.
قام نيك بوستروم -زميلي الذي يعمل في معهد مستقبل الإنسانية في أكسفورد-في عام 2002 بتوسيع هذه الفكرة من خطر الانقراض إلى الخطر الوجودي، فقد لاحظ وجود قواسم مشتركة بين أنواع أخرى من الكوارث و الانقراض، فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك انهيار مستمر للحضارات في جميع أنحاء العالم -وهو أمر لا يمكننا التعافي منه أبدًا- فإن الانقراض سيقلل من نطاق المستقبل المحتمل للبشرية إلى مستقبل واحد فقط، فيصبح العالم محرومًا من الحياة البشرية، وستنعدم الأنشطة البشرية في المستقبل، كما أن انهيار الحضارات العالمي هذا من شأنه أن يتسبب في تفشي الفقر، إذ سيعيش آلاف السكان الحاليين مع فرص عيش قليلة جدًا.
ستكون هذه الأمور غير قابلة للنقض في هذه الحالة، ويمكن تخيل حالات أخرى فيمكننا تخيل عالم مقيد بدلاً من عالم مدمّر، ويعتقد أورويل أنه إذا كان من الممكن لحكم استبدادي عالمي أو ربما نظام شمولي هدفه الأساسي هو إدامة نفسه فربما لن يتمكن من الاستمرار في ذلك لقرون من الزمان مع التقنية في زمن أورويل، وما كان الأمر ليبقى على هذا الحد، بل إنه سيدوم لفترة طويلة كفاية لتطوير تقنيات جديدة للمراقبة من شأنها أن تسمح له بترسيخ نفسه أكثر. ويمكننا أن نتخيل بداية مثل هذا النظام قريبًا وقد يستمر لعشرين عامًا، وهي فترة قد تكون طويلة بما يكفي لفرض الرقابة على كل غرفة في كل منزل، ويكون استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة هذه الأشياء وإبلاغ السلطات البشرية عن أي سلوك مشبوه عندئذٍ كافٍ بالنسبة لها للبقاء لفترة أطول تصل إلى مئة عام، وبعد ذلك سيتم تطوير المزيد من التقنيات التي قد تمهد الطريق إلى المستقبل.
إنني آمل ألا يكون الأمر كذلك، إلا أنه مثال آخر حيث ستكون اللحظة التي يترسخ فيها مثل هذا النظام الشمولي لحظة محورية للإنسانية؛ لأنها اللحظة التي قد تنهار فيها إمكاناتنا من هذا النطاق الواسع والنابض بالحياة من العقود المستقبلية المحتملة إلى هذا النطاق الضيق جدًا من النتائج المريعة.
تشترك كل هذه الأشياء في التسبب في فقدان المستقبل وتدمير إمكاناتنا، وهذه خسارة فادحة، فالبشرية تجيد التعلم من التجربة والخطأ، نحن نتعلم من ارتكاب بعض الأخطاء ووقوع الكوارث كما نتعلم من الأوقات الصعبة، ونبني بذلك عالمًا أفضل وأكثر استقرارًا وديمومة، غير أن القاسم المشترك بين المخاطر الوجودية سواء كانت انقراضًا أو انهيارًا دائمًا أو انهيار الإنسانية وفسادها: هو عدم قدرتك على التعلم منها، فإنها إن حدثت مرة واحدة فسينتهي كل شيء، وهذا يعني أنه يتعين علينا استخدام البصيرة والتخطيط المستقبلي.
علينا أن نكون أكثر حذرًا، فلا يمكننا الانتظار حتى تصبح الأمور ذات صدى عاطفي فجميعنا لابد أن يتذكر الكارثة، وهنا يجب أن نفكر في الأمر قبل وقوعه وهو الأمر الأصعب. لدينا جميعًا هذا الأمر المشترك وبالتالي هناك حزمة مشتركة من السيناريوهات التي نحتاج إلى تقنيات جديدة للتعامل معها، لقد أطلق نيك عليها المخاطر الوجودية وهي محور رئيسي في عملي. إنه محق في قوله إن المخاطر الوجودية هي التهديد الأهم لإمكانات البشرية عبر المستقبل بعيد المدى، فقد تحدث في قرننا و يكون لها هذه التأثيرات الدائمة طوال الوقت.
لا يُسمح لنا غالبًا بالكشف عن أمور مثل هذه في الأوساط الأكاديمية، ولا يريد الناس منّا نشر هذه الأشياء، وهي ليست مهمتنا، ولكننا نحاول توفير مساحة صغيرة لها. أعمل في معهد مستقبل الإنسانية في أكسفورد، وفيه نحاول إنشاء مساحة صغيرة لاستكشاف أفكار مثلها، وإيجاد طريقة لجمع الأشخاص الذين يهتمون بالعلوم معًا لفهم العلم الفلسفة والأخلاق.
يتساءل الكثير من الناس عما يفعله فلاسفة الأخلاق. إذا نظرت إلى ما يفعله معظم الناس في الفلسفة الأخلاقية فستجد أنهم يحاولون إيجاد نظرية تشرح ما يجب علينا فعله، إذ ينظرون في كثير من الحالات إلى السلوك البشري وخاصة الممارسات البشرية السيئة مثل السرقة أو القتل أو الكذب على سبيل المثال، كما ينظرون أيضًا إلى الجوانب الإيجابية في البشرية كالصدقة أو التعاطف، ثم ينظرون إلى هذه الممارسات أو المشاعر ويحاولون فهمها والتفكير فيها لمحاولة معرفة كيفية عيش حياة أفضل، ولماذا يجب علينا حتى أن نحاول أن نعيش حياة أفضل.
هناك أيضًا مجال للميتاأخلاق meta-ethics حيث يتساءلون عما يجب علينا فعله، ويتساءلون أيضًا ما إذا كان هناك إجابة لهذا السؤال، فإذا كان علينا ألا نقتل أحداً فماذا يعني ألا نقتل أحداً؟ كيف يمكننا تحقيق ذلك؟ لا تُطرح الأسئلة الصعبة والمعقدة كثيرًا، ومن تلك الأسئلة: ما هي أهم المشاكل في العالم؟ لماذا هي من أهم المشاكل؟ هل نحن في خضم كارثة أخلاقية؟ فقد كان المواطنون في خضم كارثة أخلاقية عند التفكير في أوقات الاستعباد عندما كانوا جزءًا من مؤسسة ظالمة جعلتهم يعانون معاناة هائلة.
هل نقوم بشيء مماثل الآن؟ قد يوافق البعض على ذلك، وأحد الأمثلة التي قد يقترحها الناس هو التدمير البيئي، وهو الأمر الذي لم يلاحظه أحد تقريبًا حتى أُثير هذا الأمر فجأة في الستينيات.
لقد انتقل الاهتمام بالبيئة من شيء لم يكن يُعد جزءًا من الأدب أو الأخلاق بالنسبة لمعظم الناس إلى مقياس حقيقي للحكم على الشخص، و غالبًا ما يحكم الناس عليك بكونك شخصًا جيدًا أم لا بمجرد معرفة ما إذا كنت تقوم بإعادة التدوير ويرونه كاختبار حقيقي لشخصية المرء، وبالمثل، لم يعتبر الرفق بالحيوان وخاصة في الغرب جزءًا أساسيًا من الأخلاق حتى أواخر القرن العشرين عندما حدث تغيير كبير في ذلك، كما قد يحكم الكثير من الناس على الآخر ويعدونه شخصًا جيدًا بمجرد كونه نباتيًا ويرون هذا الأمر كنوع من الاختبارات الحقيقية الحاسمة لمعرفة ما إذا كان الشخص جيدًا أم لا.
تُظهر هذه الأفكار المثيرة للاهتمام أن هناك أسئلة مهمة مطروحة هنا، قد نرتكب الأخطاء، وربما هناك أشياء ستكون جيدة للغاية لو فعلناها ولكننا لم نفعل لأننا لا نراها، ستكون الكثير من المناهج مُضللة، و لكني أتمنى أن يسأل المزيد من الناس هذا النوع من الأسئلة المهمة.
قمت مع زميلي ويليام ماكاسكيل بتطوير إحدى المدارس الفكرية المرتبطة بذلك، وهي فكرة طويلة المدى، إذ تفكر في مستقبل البشرية على المدى الطويل، والماضي البعيد أيضًا. تحاول هذه المدرسة جعل الناس يفكرون فيما وراء الحاضر، فعندما يفكر الناس في الفعل الأخلاقي سواء أكان صحيحًا أم خاطئًا فإنهم يفكرون في العواقب أو الدوافع الكامنة وراء الفعل الموجود حاليًا أو في المستقبل القريب جدًا، وما إذا كان سيؤذي الأشخاص الآخرين الموجودين حاليًا، إلا أن الكثير من أفعالنا تؤثر على مستقبل البشرية على المدى الطويل، ، فقد تكون الآثار طويلة المدى لأعمالنا ذات أهمية كبرى لأنها تؤثر آثار دائمة على هذا المستقبل البعيد ، وربما تكون أكثر أهمية من أعمالنا المؤثرة على المستقبل القريب.
كنا نستكشف هذا الشيء، وكانت الأفكار حول المخاطر الوجودية جزءًا أساسي من ذلك، قد يساعد على عيش حياة جيدة أو على الأقل العيش بأفضل طريقة ممكنة المستقبل على المدى الطويل.
لقد حاولت كثيرًا معالجة بعض الأسئلة المهمة التي تواجه البشرية، وحاولت تقديم مساهمات بدلاً من محاولة معالجة شيء يمثل جزءًا صغيرًا من الحياة، فبحثت في الفقر العالمي والصحة العالمية في محاولة لمعرفة كيف يتناسب ذلك مع حياتنا، وما يجب على الناس في البلدان الغنية فعله حيال ذلك، و من الأشياء التي لاحظتها أول مرة أن بعض طرق المساعدة كانت أفضل بكثير من غيرها، فعندما تسأل الناس عما يجب أن نفعله فغالبًا ما تكون إجاباتهم هي تقديم الأموال للجمعيات الخيرية التي تعمل على مساعدة الناس في البلدان الفقيرة، وهذا صحيح، و لكن ما لا يلاحظونه هو أن بعض طرق عمل الخير في البلدان الفقيرة أكثر فاعلية من غيرها، وقد لوحظت تلك الملاحظة مما أدى إلى خلق شكوك حول المساعدات، إذ أن نتائج الكثير من المساعدات كانت أقل بكثير مما نعتقد، ربما قد هُدرت. هناك آثار سلبية في بعض الحالات لكن هذا ليس سببًا وجيهًا لعدم التبرع للجمعيات الخيرية، بل قد يعد سببًا وجيهًا للتبرع للأشخاص المناسبين ذو التأثيرات الإيجابية.
عندما نظرت إلى بعض الأدلة على هذا وحللتها رياضيًا ( أمرٌ غير شائعٍ في مجال علم الأخلاق) فقد لاحظت أنه عند النظر إلى التدخلات الصحية، وطرق مساعدة الناس في جميع أنحاء العالم، فإن بعضها كان أكثر فاعلية من الطرق الأخرى بعشرات أو حتى مئات أو حتى آلاف المرات، و قد كانت هذه بيانات مشروع أولويات السيطرة على الأمراض، و تشير بياناتهم إلى أنه من السهل العثور على أشياء أكثر أهمية بعشر أو مائة مرة للقيام بها. في الواقع ، أظهر أحد أجزاء التحليل أنه إذا قمت بإجراء أي تدخلين صحيين بشكل عشوائي وقمت بتمويلهما بنفس المبلغ فإن أحدهما سيحقق نتائج بمتوسط أفضل من الآخر مائة مرة.
يمكنك أن تنظر لكون أحدهما أفضل من الآخر بإيجابية، أو يمكنك أن ترى ذلك بشكل سلبي إذ ستهدر 99٪ من أموالك في حالة واحدة على الأقل مقارنةً باستخدام أموالك بشكل فعال. لقد أدهشني هذا باعتباره جانبًا بالغ الأهمية في هذا السؤال، فلا يتعلق الأمر فقط بالعطاء أكثر بل بالعطاء بشكل أكثر فعالية إذ أن نتائجها مضاعفة، و يمكن للكثير من الناس التبرع أكثر بعشر مرات لمساعدة المحتاجين وجعلها أكثر فعالية بمائة مرة، أي ما يزيد من تأثيرهم بمقدار ألف مرة. لقد حاولت أن أضع الأفكار موضع التنفيذ في حياتي الخاصة وأن أكتشف كيف سأقوم ذلك، فوجدت جمعيات خيرية تعمل في بعض هذه التدخلات و تبين أنها الأكثر فعالية، لذا بدأت في التبرع بأموالي، و سمعت أن أشخاصًا آخرين أرادوا الانضمام إلي لذلك قمت بتأسيس منظمة خيرية للقيام بذلك، إذ يتعهد الأشخاص في هذه المنظمة بتقديم 10٪ على الأقل من دخلهم لمساعدة الآخرين بقدر ما يستطيعون.
لقد تطورت هذه المدرسة كذلك، وانضم إليّ في هذا المشروع زميلي ويليام ماكاسكيل وأسسنا مع آخرين فلسفة أوسع تسمى”الإيثار الفعال”، إذ يقوم الأشخاص هناك بمحاولة استخدام أموالهم لفعل أكبر قدر ممكن من الخير، ويحاولون أيضًا تكريس حياتهم المهنية لفعل الخير قدر المستطاع، لكن رد فعلهم غير جيد عندما يكتشفون على سبيل المثال أن 1000 دولار يمكن أن تنقذ حياة واحدة فقط، فهم يفكرون ماذا ستفعل 10000 دولار؟ إنقاذ عشرة أرواح؟ كم عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها طوال حياتي إذا أخذت هذا الأمر بجدية؟ إذا أُجريت هذه الحسابات وأخذ الشخص العادي في البلد الغني الأمر على محمل الجد وعاش على مبلغ متواضع للغاية فقد يكون قادرًا على إنقاذ حوالي ألف شخص خلال مسيرته المهنية، وهو ما يعادل تقريبًا عدد الأشخاص الذين أنقذهم رجل الأعمال الألماني أوسكار شيندلر.
عندما نفكر في تاريخ الأخلاق والمشاكل الأخلاقية، نجد مجالًا للأعمال البطولية في خضم المآسي، كما هو الحال مع شيندلر، حيث يمكن لشخص أن يتحمل المخاطر من أجل إنقاذ آلاف الأرواح. كان ذلك العمل جانبًا مضيئًا في ذلك الوقت المظلم. يمكننا فعل ذلك في حياتنا، و يتعين علينا في معظم الحالات تقديم تضحيات كبيرة من أجل إنقاذ آلاف الأرواح خلال حياتنا المهنية، فهو أمر يمكن القيام به، وربما تكون التضحية أقل من تلك التي واجهها أوسكار شيندلر، فهناك مئات الملايين من الأشخاص في وضع يسمح لهم باتخاذ هذا الاختيار. لقد تمكنا من طرح كل هذه الاحتمالات الجديدة لكيفية التفكير في الحياة الأخلاقية،
وتهميش الأسئلة القديمة حول كيفية تجنب التصرف الخاطئ كالكذب والغش والسرقة و القتل عندما حاولنا التفكير في هذه الفعالية وأخذ هذه الأرقام على محمل الجد ، و لا يعني ذلك أن الناس سيفعلون أيًا من هذه الأشياء في إيثار فعال ولكن أقلها هو عدم القيام بهذه الأنواع من السلوكيات.
يجب أن نفكر بشكل أكبر في كيفية جعل العالم مكانًا أفضل بكثير بدلًا من كيفية تجنب تلك الأفعال الخاطئة ، كيف يمكننا مساعدة الآخرين قدر الإمكان؟ فكيف نستعين بالعقل والأدلة لفعل ذلك؟ كيف يمكننا استخدام أفضل العلوم والرياضيات لمحاولة إحداث فرق؟ لقد وجدت هذا الأمر مهملاً للغاية وذلك لأنه يتضمن التفكير في الأخلاق والرياضيات والعلوم معًا ، فأنت بحاجة من أجل طرح هذه الأسئلة المهمة والإجابة عليها إلى نهج متعدد التخصصات تمامًا، و ربما لهذا السبب لا يحدث ذلك كثيرًا.
بدأت دراستي في العلوم لا في الفلسفة، فكنت أدرس علوم الكمبيوتر، وكنت مهتمًا بشكل خاص بنظرية منطق الحساب والذكاء الاصطناعي، كما كنت مهتمًا بمسألة “العقول الأخرى”[2]، كنت مهتمًا أيضًا بالسياسة، فقد جعلتني المناقشات السياسية أتساءل عن الأساسيات. لقد لاحظت وجود الكثير من الأشياء في موضع نزاع، وكان بعضها حقائق بينما كانت الأخرى أنواعا من القيم، حيث يتفق الناس أحيانًا على نتائج السياسة و لكنهم يختلفون حول ما إذا كانت فكرة جيدة أم لا. لقد أوصلني هذا إلى الأخلاق، وهو ما فعلته جنبًا إلى جنب مع عملي، لقد توصلت إلى المزيد والمزيد من الاستنتاجات في الفلسفة مع استمرار عملي، فقد وجدت أنه باستطاعتي طرح الكثير من الأسئلة التي كنت مهتمًا بها حول طبيعة العقول وطبيعة المنطق والحساب في الفلسفة أيضًا، فانتهى بي الأمر بالقيام بالأمرين معًا، هناك العديد من الأشخاص الذين ألهموني في الفلسفة وجعلوني أدرك أن هناك شيئًا يمكنني القيام به.
كان هناك الكثير من الفلسفة التي اعتقدت أنها لم تكن ملهمة للغاية، وكنت قلقًا من أن الأمر كله كان مجرد لعبة. ربما كانت بعض الأسئلة مثيرة للاهتمام، وكان من الرائع محاولة معرفة ما إذا كان بإمكانك دحض المشكك الذي يعتقد أنه لا يوجد عالم خارجي، ماذا يمكنك أن تقول لهم؟ ولكن سنستمر في افتراض وجود عالم خارجي بغض النظر عما إذا كان بإمكاننا الإجابة عن هذا السؤال أم لا، ولم يكن من الواضح أن هناك الكثير على المحك. كان بيتر سينغر فيلسوفًا أستراليًا آخر أظهر لي أنه يمكنني اللجوء إلى الأسئلة الأخلاقية الرئيسة حول العالم من حولنا، وإحراز تقدم كبير في هذه الأسئلة سواء من حيث الأفكار أو من حيث نقلها إلى العالم من حولنا.
كانت مساهماته الرئيسة في كتاب (تحرير الحيوان) وعمله في أخلاقيات الحيوان مما أطلق له العنان، كما ساهمت الورقة الرئيسة من كتابه بعنوان “المجاعة والثراء والأخلاق” في ذلك، فكانت واحدة من أولى الأوراق التي نشرها والتي تمحورت حول أخلاقيات الفقر العالمي وما يمكننا القيام به لمساعدة الآخرين الأقل حظًا، والشيء الوحيد الذي شدّني هو أنه لم يكن لديه الحجج الرائعة حول ما يجب أن نفعله فقط، أو كيف يمكن أن يكون التبرع التزامًا أخلاقيًا على أنفسنا، بل وضع لنفسه معايير جودة عالية، وأخذ هذه الأفكار على محمل الجد، فكان يعرف حياته سواء من حيث الحيوانات أو من حيث الفقر العالمي والتبرع بأمواله.أظهرت لي هذه الجدية الأخلاقية والاستعداد لتتبع الأفكار ثم تبنيها في الحياة الخاصة مدى حقيقة هذا الأمر.
لقد ألهمني أيضًا كتاب (العقول والأشخاص) لديريك بارفيت الذي قرأته عندما كنت أدرس في أستراليا، فعلى الرغم من أن ديريك لم يقم بأي مسائل حسابية -إذ لم يكن يفهم المعادلات- وخاصةً تلك التي تتضمن علامة السيجما الكبيرة، إلا أنه كان دقيقًا وواضحًا في الطريقة التي وضع فيها فلسفته لدرجة أنني لم أصدقه عندما أخبرني ذلك.
كان ديريك يدرس الرياضيات ولم يستخدم الرموز، ولكنه كان واضحًا جدًا ومنطقيًا فقد كان لديه عقلًا رياضيًا مذهلًا. لقد ألهمني هذا الإيجاز والوضوح ولفت انتباهي للفلسفة، فقد كنت محظوظًا لجعله يشرف على رسالتي عندما أتيت إلى أكسفورد، كما ألهمني أيضًا مشرفي الآخر جون بروم الذي اعتاد أن يكون خبيرًا اقتصاديًا ثم تحول إلى دراسة الأخلاق ، وانتهى به الأمر في منصب كرسي وايت للفلسفة الأخلاقية في أكسفورد وهو أرقى منصب في الأخلاق هناك على الرغم من كونه خبيرًا اقتصاديًا، فقد أثبت إمكانية استخدام الكثير من الأدوات الرياضية في علم الاقتصاد لإثبات نقاط مركزية في الأخلاق، كما أدرك أن خبراء الاقتصاد بارعون للغاية فيما يتعلق بالأمور المبنية على مجموعة أساسية من الافتراضات أو مجموعة من البديهيات.
كان لدى الخبراء الاقتصاديين الأساليب التي لم يكتشفها الفلاسفة بعد، فقد أظهروا كيف يمكن الاستفادة من بعض مبادئ (نظرية الخيار الاجتماعي) المتعلقة بالتصويت وتطبيقها على الأخلاق، كما يمكن الاستفادة من بديهيات (نظرية المنفعة المتوقعة) لفون نيومان في الاقتصاد والتي تقوم على أخذ تفضيلات الناس بعين الاعتبار، هل هم يفضلون آيس كريم الشوكولاتة أو آيس كريم الفانيليا؟ فيمكنك تحويل هذه الأنواع من التفضيلات الترتيبية إلى بنية أساسية، و يمكنك أن تبدأ بتوضيح أن الفرق بين آيس كريم الشوكولاتة والفانيلا يختلف عشر مرات عن الفرق بين الفانيلا والكراميل.
أظهر جون بروم كيفية الاستفادة من الأدوات الرياضية في علم الاقتصاد وتطبيقها على الأخلاق، ليس فقط على بنية التفضيلات البشرية بل على بنية الخير أيضًا، فيمكنك أن تبدأ بفكرة أساسية حول أشياء تكون أفضل من أشياء أخرى، و فرص نتائج أفضل من غيرها، ومن ذلك يمكنك إنشاء بنية أساسية رقمية للخير. لقد حقق جون بروم تقدمًا كبيرًا في هذه الأفكار موضحًا أن أخذ نوع من نظرية المنفعة المتوقعة على الفرص سيؤثر على كيفية توزيع الفوائد بين مختلف الأشخاص وذلك بناءً على عمل الآخرين. كهارساني، هناك مجموعات رائعة من الأشخاص الذين أخذوا هذه الأفكار على محمل الجد ورأوها من وجهات نظر مختلفة.
لقد ألهمني أيضًا كارل ساجان، فقد أظهرت لي أعماله وكتاباته أن بإمكان أي شخص أن يكون عالماً وأن يكتب كتبًا جميلة لعامة الجمهور، ولكن عند النظر إلى الجمل وما وراء ذلك العلم من فلسفات رياضية فسترى أن الجمل دقيقة تمامًا، كما أنها طريقة شعرية لوصف الواقع ولكنها لا تزال وصفًا للواقع. لا تُعنى هذه الطريقة بترويج العلم بل بإيجاد علم جديد يبلور الجوانب الأساسية ويقدمها بوضوح وبشكل جميل. لقد كان هذا مصدر إلهام لي في محاولتي الكتابة بهذه الطريقة.
ما أنا متحمس له في الوقت الحالي، هو التفكير في هذا المستقبل طويل الأمد للبشرية والتفكير في المؤسسات كمؤسساتنا الديمقراطية، فلا يحصل معظم الأشخاص المتأثرين بقرارات حكومتنا على حق التصويت، لقد كان لدينا تطور تدريجي في إعطاء امتياز لكل شخص فوق الثامنة عشرة من النساء والرجال من جميع الأجناس، ومع ذلك ، فإن معظم الأشخاص المتأثرين بأفعالنا هم أشخاص في الأجيال القادمة، أشخاص لم يوجدوا بعد ولكنهم سيستفيدون أو يعانون من آثار هذه الخيارات. وعندما تفكر فيما يبرر الديمقراطية ستجد أن موافقة المحكومين هي التي تفعل ذلك، و لكن كيف نتعامل مع ذلك؟ هل هناك طرق يمكننا من خلالها اتخاذ خطوات لإعطاء صوت لشعوب المستقبل؟ إذا استطعنا فعل ذلك سنساعد في حلّ بعض التحديات المتعلقة بأخذ المستقبل على محمل الجد من خلال منحه نوعًا من القوة السياسية، سواء كانت تلك القوة قوة ناعمة كتلك التي تمت تجربتها في ويلز إذ كان لديهم مفوض لأجيال المستقبل والذي يمكنه طرح هذه الأسئلة على الحكومة والمطالبة بإجابات لها، أو كانت قوة خشنة، أو ربما إنشاء غرفة سياسية تمثل الأجيال القادمة وتراجع التشريعات التي تصب في مصلحة تلك الأجيال، ولكن كيف نصمم مثل هذا الشيء؟ وكيف نتأكد من عدم وقوعها في قبضة المصالح السياسية الحالية أو مصالح الشركات؟ هل هذا الأمر مستحيل؟ هل هناك طرق للقيام بذلك؟ ماذا عن المستوى الدولي؟ كيف نضمن مستقبلنا؟
كيف يمكننا الآن بعد أن أدركنا هشاشة عصرنا الحالي تحفيز المؤسسات لتقليل المخاطر وإبقائها منخفضة إلى الأبد؟ هل يمكننا كتابة دستور للإنسانية من خلال مؤسسات دولية جديدة، أو إجراء تغييرات على المؤسسات الحالية من شأنها أن تضمن بقائنا بعيدًا عن حافة الهاوية وتترك لنا الخيار لنقرر في المستقبل أي مستقبل نريد تحقيقه، هل يمكن لأناس هذا القرن أن يكتبوا دستورًا للإنسانية حرفيًا أو مجازيًا وأن يكون آباء وأمهات المستقبل هم المؤسسين لهذا الدستور لنتأكد من أننا نضعه على المسار الصحيح نحو تحقيق هذه الإمكانات الهائلة على المدى البعيد؟ هذا ما يثير اهتمامي في الوقت الحالي.
- توبي أورد فيلسوف أخلاقي بجامعة أكسفورد وباحث في معهد مستقبل الإنسانية، يركز عمله على الأسئلة الكبرى التي تواجه البشرية وكاتب (الهاوية: الخطر الوجودي ومستقبل الإنسانية).
[1] – هذه وجهة نظر الكاتب المبنية على فرضية التطور، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع.
[2] -مشكلة العقول الأخرى هي مشكلة فلسفية تقليدية ذكرت على أنها تحدي معرفي والتي أثارته الشكوكية: بالنظر إلى أنني لا يمكن إلا أن ألاحظ سلوك الآخرين، كيف يمكنني أن أعرف أن الآخرين لديهم عقول؟ وهي عقيدة مركزية للفكرة الفلسفية المعروفة باسم الأنا. الفكرة بأنه من المعروف أن أي شخص لديه عقل واحد موجود. وتؤكد وحدة الأنا أنه بغض النظر عن سلوك الشخص الراقي، فإن السلوك في حد ذاته لا يضمن وجود العقلية. -الإشراف.