فكر وثقافة

فهم التاريخ

  • خوسه أنطونيو مارينا
  • ترجمة: زياد الأتاسي

على الرغم من أن التجربة هي مصدر من مصادر المعرفة، إلا أن التجربة -بحد ذاتها- لا تنتج معرفة. إذ لو فعلت ذلك، لكنا -نحن الذين تجاوزنا الثمانين من أعمارنا- حكماء؛ وهو أمر لا يحدث كما هو واضح. إن التعلم من التجربة مَهمة شديدة التعقيد، حيث يحتاج منهجًا، والشيء نفسه يحدث مع التجربة التاريخية. فمن أجل وضع هذا المنهج كرست كتبي الأخيرة، وموقعاً الكترونياً يمكنكم الاطلاع عليه.[1]

لا نستطيع أن نفهم الحاضر بدون أن نعرف أصله وفصله، بمعنى آخر: دون أن نعرف جينيالوجيته. في كتابهما “لماذا تفشل الأمم” يتحدث دارون أسيموجلو  Daron Acemoglu و جيمس روبنسون James A. Robinson عن مدينة نوغالس Nogales، التي ينتمي جزء منها إلى ولاية أريزونا (الولايات المتحدة الأمريكية) والجزء الآخر إلى ولاية سونورا (المكسيك). إن الفرق في مستوى الحياة بينهما لافت؛ ويتساءل الكاتبان “كيف يمكن أن تكون بقعتان -هما في جوهرهما المدينة نفسها- على هذا القدر من الاختلاف؟”. فهاتان البقعتان تشتركان في المناخ، والموقع الجغرافي، والأسلاف، لكنهما لا تتقاسمان التاريخ، وهو وحده ما يسمح بفهم الفوارق بينهما.

لقد فرغتُ من قراءة كتاب رائع لمارجريت ماكميلان Margret MacMilan بعنوان “باريس 1919: ستة أشهر غيرت العالم” والذي يتحدث عن مؤتمر السلام الذي وُضِعَ فيه تصميم عالَم ما بعد الحرب العالمية الأولى. لقد أعيد رسم الحدود الأوروبية وتحديد التعويضات المفروضة على ألمانيا، الأمر الذي يفسِّر الاستياء الذي حمل النازيين إلى السلطة. وفيه أطلق ويلسون فكرة “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، التي كان لها أيما تأثير في التاريخ اللاحق. وبدون معرفة تحولات هذا الحق وغوامضه وتطبيقاته لا نستطيع فهم الواقع الراهن في إسبانيا؛ والمشكلة الكتالونية مثال على ذلك. لكننا أيضاً لا نستطيع فهمه ما لم نعرف تاريخ هذه البقعة بذاتها، فلا تاريخ كتالونيا يُعْرَف في بقية إسبانيا، ولا تاريخ إسبانيا يُعْرَف في كتالونيا.

استخدمت الأمم التاريخ من أجل تعزيز التماسك والكبرياء القوميين؛ لكن الفيلسوف التنويري إيمانويل كانط كان قد أشار إلى أن ما كنا نحتاجه هو “تاريخ عالمي من وجهة نظر كوسموبوليتية”، ولا سيما في اللحظة التي ما زالت أطروحة صمويل هنتنغتون المسماة بـ”صدام الحضارات” رائجة. لقد واجهت جميع المجتمعات المشكلات نفسها -البقاء، تنظيم التعايش، إرضاء إرادة السلطة، التقدم، وضع أنظمة الاعتقادات، إعطاء معنى للحياة- وقامت بحلها كل على طريقته؛ والـ”ثقافة culture” هي مجموعَ الحلول التي ابتكرها مجتمع ما لهذه المشكلات. ومن ثم فالبحث في هذه المشكلات نفسها يسمح لنا بفهمها ومقارنة الحلول؛ إذ إن التقوقع على الثقافة الخاصة يحول دون الفهم؛ ومعرفة الفوارق الثقافية لا تعني الاستسلام للنسبوية، بل العكس: التقييم والاستعداد لتبني أفضل ما عند الآخر؛ والقديس بولس قال ذلك من قبل.

يتطلب فهم التاريخ موقفاً متواضعاً، لأنه يُظْهِرُ المحدوديةَ المؤسفة للإبداعات الإنسانية. لا أشير هنا إلى جانبها الزمني، بقدر ما أشير إلى محدودية رؤانا وعقلانيتنا وقدرتنا على توقع عواقب أفعالنا. ولهذا، كان لحركات المراجعة التاريخية النزر اليسير من الأهمية والتأثير؛ فالتاريخ كان فيه ما فيه، وينبغي فهمه في السياق الذي حدث فيه؛ والديكتاتوريات وحدها هي التي تتطلع إلى إلغاء جزء من الذاكرة؛ في حين أنه ينبغي الحفاظ التاريخ بحلوه ومره، بقصد أن نفهمه كله. فتاريخ الرِّق مثلاً، يلطخ بالعار جزأً من تاريخ أمم كثيرة؛ في إسبانيا، ظل الرق شرعيًا في كوبا[2] حتى 13 شباط/فبراير عام 1880. يجب ألا ننسى ذلك، لأنه يذكِّرنا بالسهولة التي تحول بها العادة بيننا وبين رؤية الظلم.

نُشِرَتْ الترجمة الإسبانية لكتاب ويليام دالريمبل: “الأناركي” عن التاريخ الفريد لشركة الهند الشرقية،[3] التي سُمِحَ لها بشن الحروب، وحكمت شبه القارة الهندية، وكان تحت تصرفها في عام 1803 جيش من مائتي ألف رجل. تاريخ الامبراطورية الانكليزية مليء بصفحات غير مشرفة، على غرار كل الامبراطويات. ولا ينبغي التنصل من هذا التاريخ، بل يجب الحفاظ عليه حياً، وإن سبَّب الألم، من أجل أن نتذكر أنه لم يصنعه رجال أشرار، بل بَشَرٌ خاضعون لاعتقادات وأهواء قد تكون غير إنسانية، كما يمكن أن نكون نحن كذلك خاضعين لـ “أخطاء لا تقهر”، بلغة القانون، رغم أنها تبدو الآن واضحة.

إن التطور الثقافي لنوعنا البشري لم يجرِ في تقدم خطي وفق خطة مصممة منذ البداية؛ إنه يشبه خروجاً حرجًا من مآزق دائمة، الأمر الذي يعطيه مظهراً مهلهلاً عندما يُنْظَرُ إليه من بُعْد. فرانسوا جاكوب François Jacob، الحائز على جائزة نوبل في الطب، قارَنَ التطور بعمل هواة؛ “لا يعمل التطور بكفاءة المهندس، إنه يشبه أكثر ما يشبه رجلاً متعدد الصنائع، يستخدم ما في متناول يده”. أما غاري ماركوس Gary Marcus فيقدِّمُ، متحدثاً عن تطور دماغنا، مثال المحطة الكهربائية التي كان عليها أن توسّع وتعدِّل وتحدِّث منشآتها بدون التوقف عن العمل؛ ليس لها تصميم ديكارتي، وتمزج تقنيات شتى، بعضها قديم، وأخرى حديثة جداً. هكذا يعمل دماغنا، محافظاً على بنى عتيقة وبنى حديثة، وهكذا يعمل التاريخ أيضاً.[4] تظهر من حين إلى آخر حركات ترغب في إعادة بناء المجتمع من الصفر، كالثورة الفرنسية والثورات الشيوعية، التي أرادت خلق “إنسان جديد”، وانتهت إلى الإرهاب.

لماذا لا يعد هذا مقالاً وإنما نداء استغاثة؟ لأنه يجري وضع مناهج دراسية وفقاً للقانون الجديد للتعليم (في إسبانيا). لا أعلم كيف يقومون بذلك لكن يبدو لي أن من العاجل وضع منهاج قوي، كان ليعجبني تسميته “علم تطور الثقافات”، يدمج التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفني والديني والعلمي والفلسفي باعتباره تاريخاً متشابكاً لضعفنا وعظمتنا. وسيعزز أيضاً تواضعاً واعياً وإعجاباً مستنيراً. وكما قال الحكيم العجوز فيلهلم دلتاي  Wilhelm Delthey، إننا لن نستطيع فهم طبيعتنا إلا بمعرفة أنوار تاريخنا وظلماته.


[1] –  elpanoptico.es

[2] – باعتبارها مستعمرة إسبانية.

[3] – عرض كتاب: “الأناركية: الصعود المتواصل لشركة الهند الشرقية”

[4] – يربط الكاتب هنا نظرية التطور الدارويني بنظرية التقدم/التطور في حقول التاريخ والأنثروبولوجيا، والتي تقول إن التاريخ يسير في اتجاه خطي نحو الأمام. من الناحية العلمية: يرفض العديد من العلماء توسيع نموذج التطور الدارويني في حقول التاريخ والثقافة. ومن ناحية أخرى: تخلى كثير من الأنثروبولوجيين وعلماء الثقافات عن التطورية الكلاسيكية في تفسير التنوع والاختلاف بين الثقافات، نظرًا للانتقادات التي وجهت ضدها، وارتباطها بالنشأة الاستعمارية للعلوم الاجتماعية؛ وأصبحت نظريات مثل الانتشارية والبنائية الوظيفية، معروفة لدى الأنثروبولوجيين. والكاتب هنا يطرح نوعًا من التطورية يعرف بـ “التطورية المتعددة” multilinear evolutionism وهو تعديل أدخل على التطورية الكلاسيكية، لكنه يواجه نفس المشكلات تقريبا؛ للمزيد انظر: قصة الأنثروبولوجيا، حسين فهيم، من إصدارات عالم المعرفة. (المراجع)

المصدر
abc

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى