فكر وثقافة

الموتوكوست: حرق الأموات!

“الموتوكوست” هي كلمة جديدة من نحتي، مكونة من كلمتي: “الموتو”، “كوست”؛ بمعنى: حرق الأموات، وقد اضطررت لهذا النحت من أجل نقل “إبداع” جديد للحضارة الغربية المعاصرة، وهذا النحت هو على وزن كلمة “الهولوكوست”، وهي كلمة يونانية مركبة، تعني  الكل (هولو) محروق (كوست). وقد حدثت تلك المحرقة المشهورة (الهولوكوست) على أيد النازية كما هو معروف، ولكنها  كما يثبت عبدالوهاب المسيري رحمه الله في الموسوعة- لم تحدث ضد اليهود وحدهم كما في الدعاية الرائجة، وإنما كانت المحرقة لليهود والسلاف والغجر والقعدة والمعوقين الجنود الألمان المصابين وعتاة المدمنين ولكل من يأكل دون أن ينتج، أو ما يُسمى بـ “الأفواه غير المنتجه” Useless Eaters. يهمني التأكيد على فكرة جوهرية تختص بها الهولوكوست، وهي: حرق الأحياء، وهو بخلاف المعنى الذي أحدثته عبر نحت الموتوكوست، فهي تعني: حرق الأموات، كما سيتضح بعد قليل.

وقد توصل المسيري (=أبو النماذج التفسيرية كما أسميه) في نموذجه التفسيري المدهش إلى أن الهولوكوست تجسد ما يُسميه بـ “اللحظة النماذجية” للنموذج الحضاري الغربي المادي (=لحظة تجسد النموذج واقعياً بأعلى صورة)، الذي هو قائم على فكرة “الترشيد”  Rationalization ،  أي الضبط الإجرائي التام لكل مجال بشكل مستقل ومحكم، بما يؤدي إلى تحقيق النتائج بأقل كلفة ووقت ممكنين؛ في ضوء المرجعية “الكامنة” لا “المتجاوزة”، فالمرجعية النهائية لهذا النموذج الحضاري الغربي هو “العقل الأداتي” نفسه، فهو لا يحتكم إلى أي إطار ديني أو أخلاقي يتجاوز الإنسان، بل يتأطر في حدود العقل الأداتي أو الإجرائي، الساعي لتعظيم المنافع المادية وفق قوانين صارمة و”سببية صلبة”، مما يجعل حرق هولاء يمثل “الحل النهائي” لمعضلة عدم الكفاءة ونقص الفعالية بترك هولاء الذين يكلفون الدولة الكثير دون إنتاج يُذكر، وتوصيف “الحل النهائي” هو تسمية النازيين للمحرقة، وهي تسمية “علمية” “محايدة”، وهنا نتذكر ما يُنقل عن هتلر أنه كان يقول: “يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعةُ لا تَعرف الرحمةَ أو الشفقة”، وهذا ما يجعلنا نستدعي فكرة مواطنه ماكس فيبر الذي يرى فيها أن الترشيد هو في حقيقته تحويل المجتمع إلى “حالة المصنع”، وكان يتوقع أن يجري تصعيد لهذه الحالة إلى أن يصل المجتمع إلى “القفص الحديدي”. ويُقال بأن إحصائيات عديدة أصدرتها المؤسسات الحكومية المرشَّدة تبين مدى عقلانية هذا القرار “الشجاع”، ومن ذلك توفير ملايين العبوات من المربى مثلاً، وهكذا لبقية الأطعمة والأدوات التي يستخدمها غير المنتجين (للمزيد انظر: المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، مج2، ص 34-50).

ما سبق هو توصيف وتذكير بـ الهولوكوست وبعض دلالاتها وأحداثها، فماذا عن الموتوكوست؟! لا تمثل الموتوكوست ظاهرة جديدة بل هي تنويع جديد أو لنقل امتداد للحظة نماذجية لهذا النموذج الغربي المادي، فلئن كانت الهولوكوست هي حرق الأحياء من أجل الترشيد، فإن الموتوكوست هي حرق الأموات من أجل الترشيد أيضا. لقد صكَّتْ أسماعنا أخبار بشعة طارت بها الأخبار الغربية، وهي تفيد أن دولاً أوربية عديدة بدأت بالتفكير جدياً باستخدام حرق الجثث من أجل التدفئة، بعد غلاء أسعار الطاقة عقب قطع الروس لإمدادت الغاز عن أوربا بعد أزمة أوكرانيا، حيث نشط العقل الأداتي متوصلاً كعادته إلى حل عملي ذي كفاءة وفعالية عاليتين، وهذا الحل يتمثل في أن حرق الجثث وهي عادة موجودة ومتنامية في عدد من الدول الأوربية يفترض أن يُستغل من أجل التدفئة، وليس مجرد تنفيذ توصية الميت الذي يلجأ إلى الحرق لاعتبارات عديدة، من بينها اعتبارات اقتصادية، حيث الكلفة العالية للدفن ومراسم الدفن ورسوم استئجار “عقار القبر” (الحرق يكلف قرابة ثلث تكفة الدفن)، وربما يكون ذلك لاعتبارات روحية وبخاصة مع تأثر الإنسان الغربي (الملحد أو اللاديني أو اللاأدري أو المفرغ من الدين) ببعض الديانات كالبوذية وغيرها، فقد تكون شكلاً من الخوف أو الرعب الجواني من الإله، أو من ظل الإله كما يسميه المسيري، حيث يرى وهو محق أنه لا أحد يمكنه الفكاك من مبدأ وجود قوة خارقة متحكمة في هذا العالَم بطريقة أو بأخرى.

وفي سياق التفاعل العقلاني لفكرة الموتوكوست في إطار الإجراء الترشيدي للتدفئة (يتوقع وجود تطبيقات ترشيدية عديدة لحرق الأموات)، نقلت لنا الأخبار مسارعة البعض بالتبرع بجثث أقاربهم من الآباء والأمهات وغيرهم، من أجل هذا الهدف الترشيدي العقلاني المبتكر: الحرق من أجل تدفئة المنازل. ولكم أن تطلعوا على هذا التقرير المرئي:

ومما نلاحظه في هذا التقرير ارتفاع نسب حرق الجثث في الدول ذات الدخل العالي (85% في سويسرا وهي الأعلى دخلاً، السويد 80% وهي الرابعة دخلاً، الدنمارك 77% وهي الثانية، ألمانيا 75% وهي الثالثة، بريطانيا 73% وهي العاشرة)، وهذا يعني أن حرق الجثث كأنه يتناسب طردياً مع معدلات الترشيد والدخل العالي (توصيف كمي تقرييي ولذلك قلت: كأنه، فالعبرة بجوهر الفكرة لا بخصوص الكم)، فكلما كانت الدولة أكثر ترشيداً كان الناس فيها أميل إلى تبني خيارات أقل تكلفة وأعلى ربحية، لا سيما أن رماد الجثة يمكن أن يُستفاد منه في صناعة شعاب مرجانية أو في صناعة الألماس بعد كبسه بطريقة فنية معينة.

وهنا يكون الإنسان الغربي ترشيدياً في حياته وبعد موته، وقد يعكس ذلك لوناً من البطولة الوطنية، إن تبرع المحروق برماده الميت (=ذهبه الحي) لصالح الميزانية العامة للدولة، وياله من إسهام مقدر، عوض أن يدفن بطريقة “تقليدية رجعية”!

وفي ختام هذا النص المكثف، أشير إلى أنني أجزم بأن هذه الحضارة المادية “العظيمة” لن تقف عند الموتوكوست مثلما تجاوزت الهولوكوست، حيث ستبدع طرقاً أكثر ترشيدًا، بما يجعلها أقرب إلى الطبيعة: التي لا تعرف الخير ولا الشر، ولا تعرف الضحك ولا البكاء، وإنما تعرف فقط القوانين الصارمة الصلبة. يا لبؤس من يظل هائماً في نموذج حضاري لا إنساني بائس كهذا. ولنا أن نفكر في هذا السؤال: ماذا يمكن أن تفعل مثل هذه الحضارة بالإنسان الذي لا ينتمي لها؟! جهزوا ذخائركم اللغوية لنحت واشتقاق جديد، يعكس مزيداً من “الإبداعات” الترشيدية الخلاقة، وربما يكون من بينها: “العربوكوست”، “الإسلاموكوست”، “الأفريقوكوست”، “الملونوكوست”، وهكذا من عائلة “الكوست”. والله أعلم وأحكم وأرحم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى