الدين

استبداد العقل… العنف باسم العقلانية

موقف المعتزلة من الآخر!

د. عايض الدوسري

كثيرٌ من الدراسات المعاصرة -لأسباب مختلفة- جَعَلَت من بعض المدارس الفقهيَّة أو العقديَّة بشكلٍ عام، أو من بعض والفقهاء والعلماء بشكلٍ خاصٍ في قفص الاتهام ومحل الشبهة بشكلٍ دائم، وجعَلَت من هؤلاء مصدرًا وينبوعًا للتكفير، وذهبَت إلى رسم صورة سوداء قاتمة عنهم. وفي المقابل رسمَت صورة مشرقة وجميلة عن مدارس الأخرى وشخصيات أخرى، وصوَّرَتها على أنَّها مثال العقلانيَّة والاعتدال والتسامح، وجعلتها بعيدة عن روح التكفير والإقصاء والأحادية.

فقد ظهرت كثير من الدراسات والكتب المعاصرة التي تشيد بالمعتزلة، كفرقة عقائدية وفكرية، وكتيار سياسي برز في عصر من عصور الأمة الإسلاميَّة، والهدف من ذلك إحياء تراث المعتزلة القديم، وتجديده وفق صيغ عصريَّة، تكون أساسًا للمدرسة العقلية الحديثة التي تنحاز إلى التأويل، والتي يفترض أنَّها ستواجه المدرسة المحافظة أو “التراثيَّة”! أو كما يسمونها مدرسة “النص”، ومن أجل هذا أخذوا يتبنون مذهب المعتزلة، ويقدمونه كبديل عقلاني مقبول يُستلهم منه النموذج في هذا العصر. يقول الدكتور عادل العوا: “صيحات شتى من الأسى والأمل: الأسى على اضمحلال الاعتزال تاريخيًا، والأمل بانبعاث روحه العقليَّة المتحررة مجددًا في غد الأمة العربية، صيحات أطلقها غير واحد من كبار الباحثين في عصرنا عند نظرتهم إلى الغد”. ويقول الدكتور عامر النفاخ، -أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة فاس: “الحركة المستنيرة في الإسلام بدأت مع المعتزلة عندما اتخذوا جانب التأويل للنص، أي أن هناك المشكلة هي النص الظاهر، العقل القابل لهذا النص”.

ومن الجوانب التي تطرقت لها كتابات عديدة -عربيًا وغربيًا، من أجل تلميع مذهب المعتزلة- الجانب الأخلاقي عند المعتزلة، وتقديمهم كدعاة للحرية، وفرسان التسامح، وأقلام التنوير، ودعاة المحبة وقبول “الآخر”، الذين أسَّسوا الانفتاح على المخالف، وتبنوا المعارف على أسس عقلانيَّة بحتة.

ومن يدرس تاريخ المعتزلة، وما كُتِبَ عنهم، وقرأ كتبهم الأصلية المتبقية، وتصفح أقوالهم الخاصة بمسألة “التسامح” أو مسألة “قبول الآخر”، وَجَدَ ليس فقط أنَّ حقيقة واقع المعتزلة يخالف ذلك، بل يكشف عن جهلٍ عميقٍ في كثيرٍ من كتابات المعاصرين الذين يعتقدون تلك الصورة الرومانسيَّة الحالمة عن علاقة المعتزلة بالمختلف عنهم، فواقع وتقريرات مذهب المعتزلة تخالف ذلك تمامًا، حيث يجد المطلع أنَّ المعتزلة بشكل عام من غلاة التكفيريين، ومن أشد المذاهب نبذًا للمخالف، ومن أبعدها إيمانًا بالتسامح!

وحتى لا يكون الكلام إنشائيًا أقدم إلى القارئ الكريم، مقتطفات قليلة ويسيرة من أقوال وآراء المعتزلة في هذا الجانب، كما يأتي:

فقد ذهب كثيرٌ من المعتزلة وكبار رجالاتها إلى أنَّ دار الإسلام التي لا تؤمن بمذهب المعتزلة، وتؤمن بمذهب إسلامي آخر ليست دارًا للإسلام، بل دار كفر وشرك! فهذا أبو عمران موسى الرقاشي –وهو من كبار رجالات المعتزلة ومن الطبقة السابع- يعتقد أن دار المسلمين دار كفر! ويقول أحمد بن يحيى بن المرتضى حاكيًا مذهب عالم آخر من علماء المعتزلة: “وكان مذهبه في الدار كمذهب الهدوية أنَّ الدار إذا غلب عليها الجبر والتشبيه فهي دار كفر”.

وكان الجبائي -العالم المعتزلي المشهور- يرى أنَّ دار الإسلام التي لا تظهر فيها أقوال المعتزلة، بل تُظْهِر خلافها، ولا يستطيع المعتزلي أن يظهر عقائده فيها، فهي دار كفر وليست دار إسلام. وذهب الجاحظ -أحد أعمدة الاعتزال- إلى أنَّ المسلم إذا عرف عقيدة المعتزلة، ثم جحدها وأنكرها، وقال بالتشبيه والجبر، فهو مشرك كافر حقًّا. كما ذهب أبو الهذيل العلاف -وهو من كبار المعتزلة- إلى تكفير جميع الأمة. ويرى ثمامة بن أشرس -أحد رجال المعتزلة- أنَّ دار الإسلام دار شرك وكفر، لغلبة من يخالف المعتزلة في دار الإسلام.

كذلك ذهب كبار رجالات المعتزلة إلى أنَّ من اعتقد عقيدة مخالفة لعقيدة المعتزلة، فهو كافر مشرك؛ بل تعدى هذا الأمر إلى أن من شك في كفره فهو كافر. فقد ذهب المردار المعتزلي إلى كفر من أجاز رؤية الله بالأبصار بلا كيف، وذهب أيضًا إلى كفر من شك في كفره.

يقول عنه العالم المعتزلي أبو الحسين ابن الخياط المعتزلي: “اعلم علمك الله الخير أنَّ أبا موسى –المردار– كان يزعم أنَّ من قال: إنَّ الله يُرى بالأبصار، على أي وجه قاله فمشبه لله بخلقه، والمشبه عنده كافر بالله، فكذلك من وصف الله بأنَّه يقضي المعاصي على عباده ويقدرها؛ فمُسفِّهٌ لله في فعله، والمُسفِّه لله كافر به، والشاك في قول المشبه والمجبر فلا يدري أحق قوله أم باطل؟ كافر بالله أيضًا؛ لأنه شاك في الله لا يدري أمشبه هو لخلقه أم ليس بمشبه لهم، أسفيه هو في فِعله أم ليس بسفيه”.

ويقول الجاحظ مبرِّرًا تَوسُّع المعتزلة في تكفير المخالفين لهم في العقيدة، وامتحانهم لهم، وتجسسهم عليهم، وتعذيبهم لهم: “فنحن لا نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنيين من هتاك الستار، ولو كان كل كشفٍ هتكًا، وكل امتحان تجسسًا؛ لكان القاضي أهتك الناس لسترٍ وأشد الناس كشفًا لعورةٍ”.

وذهب فريقُ من المعتزلة إلى التسوية بين المسلمين المخالفين لهم في مذهب الاعتزال وبين اليهود. فقد كان أبو مسلم النقاش المعتزلي -من الطبقة التاسعة في الاعتزال- يقول عن المخالفين: “ما يسرني منهم أن يصلوا خلفي، كما لا يسرني أن يصلي خلفي اليهود”.

وذهب آخرون من المعتزلة إلى جواز قتل وذبح المخالفين لهم في المذهب غيلة وغدرا، فقد كان هشام الفوطي -أحد أئمة المعتزلة- يجيز قتل المخالفين غيلة، ويرى أن يُفْتَك بالمخالفين، ويأخذ أموالهم بغير حق، ويفلسف ذلك للمعتزلة بفتوى شرعية في كيفية التعامل مع الكافر المرتد. يقول عنه أبو الحسين ابن الخياط المعتزلي: “كان يقول: إنَّ من صحت ردته عن الإسلام [=المعتزلة] ولم يكن يحضره إمام يقتله، ثم قدر على قتله من حيث لا يهم نفسه، ولا يبيح دمه، ويعلم أنَّه لا يعلم به، أقام عليه حكم الله وقتله”.

ويقول أبو هاشم الجبائي –أحد كبار أئمة المعتزلة- متحدثًا عن الواجب فعله بركاب سفينة من المسلمين مخالفين لعقيدة المعتزلة في كتابه (جواب مسائل أبي سعيد الأُشْرُوسَنِيِّ): “وسألتَ رحمك الله [يقصد القاضي والفقيه الحنفي المعتزلي أحمد بن الحسين الأُشْرُوسَنِيِّ (317هـ)] عن رجلٍ ركب في سفينة فيها خلق من الناس، وقال قائل منهم: (لعن الله من يقول: إنَّ القرآن مخلوق)، وسكت على قوله هذا الباقون فلم ينكروه، هل ترى أنَّ هذه السفينة دار كفر أو دار إيمان؟ قال: والجواب رحمك الله أنَّ هذه السفينة دار كفر يعترض أهلها بالسيف، إذا عُلِمَ رضاهم بلعن أهل العدل والتوحيد”.

وهذا الغلو والتطرف في التكفير تجاه المخالف لهم من المسلمين، انتقل إلى داخل الدوائر المعتزليَّة نفسها، فأصبح التكفير والطرد والابعاد واللعن هو من أمضى الأسلحة التي استخدمتها المعتزلة ضد أتباعها، وكان من المتوقع حصول الصراع الداخلي بين رجالات المعتزلة أنفسهم، فلم يكونوا أقلَّ حدة وتكفيرًا من حدتهم وتكفيرهم للمخالفين من غير مذهبهم!

فقد كان محمد بن عمر الصيمري -من الطبقة التاسعة في المعتزلة- يكفر أبا هاشم الجبائي، وله قصة عجيبة، حيث إنَّه بسبب خلاف فرعي مذهبي دقيق بينه وبين الجبائي كفره، ثم ذهب إلى زوجة الجبائي يخبرها أنَّها لا تحل لزوجها؛ لأنَّه كافر بسبب بعض معتقداته. يقول أحمد بن يحيى بن المرتضى: “كان منه من الغلو في معاداة أبي هاشم حتى أكفره بسبب قوله في الأحوال، حتى جاء إلى أهله وأوهمها أنَّ الفُرْقَة وقعت بينها وبين أبي هاشم، فقالت: فماذا تقول إذا كنا على مثل رأيه؟ فانصرف”. وذَكَرَ الحاكم الجشمي أنَّ جملة ممن نشأوا بين المعتزلة، وتعلموا بينهم مذهب الاعتزال: كالقاضي ضرار بن عمرو الغطفاني، قامت المعتزلة بتكفيره وطرده لما خالفهم في مسائل من مذهب الاعتزال، حيث خالفهم في أفعال العباد. وكان ضرار هذا يقول –كما ينقل عنه الذهبي– “يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارًا، لجواز ذلك على كل فرد منهم”.

ونص أحمد بن يحيى بن المرتضى على أنَّ بعض أصحاب أبي علي الجبائي الأب يكفرون ابنه أبا هاشم الجبائي بسبب مسائل خلافيَّة بينهم، مثل: مسألة الأحوال، واستحقاق الذم. وذهب أخشيد بن أبي بكر المعتزلي وأتباعه إلى تكفير أبي هاشم الجبائي وأتباعه. وذهب الإسكافي المعتزلي إلى كفر جملة من شيوخ المعتزلة، وذهبوا أيضًا إلى كفره. وذهب المردار المعتزلي إلى كفر أعظم شيوخ المعتزلة ومنهم: العلاف، وأستاذه بشر بن المعتمر، والنظام. وذهب كثير من المعتزلة إلى كفر المردار المعتزلي؛ بسبب قوله: بتولد فعلٍ واحدٍ من فاعلين، وهو ذهب هو إلى تكفير شيوخه، وقال شيوخه بكفره.

وبسبب هذه الفوضى التكفيرية، قال الخياط المعتزلي، معترفًا ومبررًا ظاهرة التكفير داخل دائرة المعتزلة: “إنَّ كان الذي يعيب المعتزلة ويحط من قدرها؛ هو أنَّ بعضها قد أكفر بعضًا، فما علمنا فرقة من فرق أهل الملة سلمت من ذلك، هذه الخوارج بعضها يكفر بعضًا، ويبرأ منه ويستحل سفك دمه وغنيمة ماله، وهذه الروافض بعضها يكفر بعضًا ويبرأ منه، وهذه المرجئة بعضها يكفر بعضًا ويبرأ منه .. فهو لازم لفرق الأمة أجمعين“.

فهذه النصوص اليسيرة -والتي اقتصرنا عليها هنا خشية الإطالة- تفوح منها رائحة البغضاء والشحناء والكراهية، وتصرخ بالتكفير وتجويز اغتيال المخالفين، وتنضح بالإقصاء الداخلي، ولهذا ستدرك مدى الجهل بمذهب وتاريخ المعتزلة الذي يتمتع به من يقول: إنَّ المعتزلة كانوا رواد التسامح والمحبة وقبول الآخر، وأنَّ البديل التنويري والعقلاني لمذاهب التكفير والإقصاء والكراهية!

ومما سبق وغيره تُعلم أمور مهمة في هذا الباب، ومنها: التكفير موجود في كل دين، وفي كل مذهب، وفي كل فكرة. ودين ليس فيه أصول يَكفر من ينكرها ليس بدين، وهذا أمر تتفق عليه جميع “الديانات السماوية”، كالإسلام واليهودية والنصرانية، بل إن الأديان الوضعيَّة: كالهندوسيَّة والبوذيَّة، والأيديولوجيات الوضعية، كالشيوعية والعلمانية والليبراليَّة، وغيرها يكون تكفيرها بإخراج من لم يؤمن بأصولها عن دائرتها، ومعاقبته ونبذه. فلا وجود لمذهب أو دين أو فكرة لا تكفير فيها مطلقًا؛ لأمرين: أنَّ هذا مناف للواقع وتكذيب للوقائع، ثم هذا يناقض وجود فكرة محددة لها أصول ثابتة. فلا توجد طائفة أو فرقة أو دين إلا ويمارَس فيه الإقصاء للمخالف مع تفاوُت الدرجات. وأعدَلُ وأضبَطُ وأرحَمُ الخَلق في تعامُلهم مع المخالفين هم أهل السنة والجماعة. فكل طائفة إسلاميَّة قد تَقرَّر عندها مبدأ التكفير، لكن أهل السنة والجماعة هم الوسط في هذا الباب، وهم أضبَطُ وأعدَلُ وأقسَطُ الناس فيه، ومنهجهم في ذلك معلوم منضبط. والإنصاف يقتضي أن لا يُحكم على الفكرة ذاتها من خلال حال بعض أفرادها، وهم ليسوا بحجة عليها، فالحجة في المنهج والأصول. فالأخطاء والانحرافات التي تتماشى وتتفق مع أصول المذهب ويقرها، هي ما يدان به المذهب أو تدان به الطائفة، وليست أخطاء الأفراد أو الجماعات التي أصول مذهبها ومنهجه يرفضها ويدينها ويرد عليها.

قال ابن تيميَّة: “والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك الرافضة، ومن لم يُكفَّر فُسِّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيًا ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى