تقارير ودراسات

المفكرون في الحرب: جون رولز

  • مجلة التاريخ العسكري
  • ترجمة: سارة بنت عبد القادر الطحان
  • تحرير: أمجاد عبد الرحمن

“كلُّ من يَعتبرُ التهديد أفضلية لا يُعتبرُ ممثلًا للعدالة”

جون رولز، نظرية العدالة، 1971م.

  • الميلاد: 21 من فبراير، عام 1921م.
  • الجنسية: أمريكي.
  • المهنة: أستاذ وفيلسوف جامعي.
  • الجامعة: هارفرد وأكسفورد.
  • الوفاة: 24 من نوفمبر، عام 2002م.

كان جون رولز ناشطًا سياسيًا وشخصًا وطنيًّا. جُنِّدَ في الجيش الأمريكي في منتصف الحرب العالمية الثانية بمجرد حصوله على درجة البكالوريوس. وفي فبراير عام 1943م، وبعد بعض التدريب الأساسي، انتدُب للمشاركة في حرب المحيط الهادئ.

وقعت أولى تجاربه القتالية في غينيا الجديدة -تلك البلدة التي شهدت قتالًا استمر طوال مدة الحملة تقريبًا- ومنها قًلِّدَ بميدالية النجمة البرونزية.

وأُرسِل بعدها إلى الفلبين حيث خاض القتال في الخنادق تحت إطلاق نار كثيف استمر لعدة أيام. واعترف الفيلسوف في السنوات اللاحقة أن هذه التجربة كانت حقًا مريعةً له ولزملائه الجنود؛ فقد كانوا على علم بأن اليابانيين لن يستسلموا ولن يأخذوا أسرى، مما يعني أنه مالم يَقتُل هو وزملاؤه الأعداء كلهم فإن مِن الأمريكيين مَن سيلقى حتفه حتمًا.

ولكن أحد الجنود من مخبأ قريب لرولز قام واقفًا نازعًا خوذته عن رأسه متعمدًا لتستقر فيه رصاصة تُردِيه؛ مختارًا بذلك أن يموت على أن يتحمل وابل الطلقات المنهمرة غير المنقطع.

أما رولز فقد خرج سالمًا بلا إصابات، وأُرسِل لاحقًا إلى اليابان؛ حيث انضم إلى القوة العسكرية الأمريكية المؤلفة من 350 ألف جندي، والتي سيطرت على اليابان بعد استسلامها في أغسطس عام 1945م.

ثم حلت مرحلة يشوبها الغموض والحيرة؛ فظهرت مسألة استسلام اليابانيين التي تركت السلطة القانونية تحت تصرف القيادة العليا لقوات الحلفاء بزعامة الجنرال دوجلاس ماكارثر من جهة، وظهرت -أيضًا- مسألة الأمريكيين الذين يعملون على إعادة تصميم مؤسسات دولتهم من جهة أخرى. غير أن رولز نفسه كان لايزال يافعًا على أن يمتلك سلطة تُمَكِّنُه من المشاركة في اتخاذ أية قرارات بشأن أي من المسألتين. فبصفته رقيبًا في الجيش، كان جلُّ عمله منحصرًا في الإشراف على غيره من الجنود الأمريكيين.

هيروشيما:

أثار رولز -عندما كان جنديًّا في المشاة- إعجاب رؤسائه فترقى من رتبة الجندي. وكان ليحصل على رتبة ضابط لولا تعرضه لحادثين وقعا في أواخر عام 1945م، حادثين قلبا منظِّر المستقبل ضد العسكرة للأبد.

أول الحادثين وقع في خريف عام 1945م، حين مر رولز على مدينة هيروشيما بعد أن سوتها القنبلة النووية بالأرض. ترك المنظر الشنيع للمدينة التي مُحِقت بنيتها التحتية بالكامل والمنظر الأشد شناعة لضحاياها أثرًا عميقًا في نفس رولز. كان حجم الدمار وحقيقة أن الذين تعمدوا وقوعه هم قومه أنفسهم كفِيلَيْن لزعزعة ثقته بشدة لدرجة أنه كتب يقول: (إن المشهد ما زال يطارده حتى بعد مرور 50 عام).

أما الحدث الثاني فقد كان شخصيًّا أكثر، إذ وُجِّه إلى الرقيب رولز أمرٌ من ملازمٍ أولٍ بإنزال عقوبة تأديبية على أحد الجنود، ولكنه رفض لعدم وجود ما يُسوِّغ العقوبة. وبعصيانه هذا أُنزِلَت رتبتُه إلى جندي من جديد.

وبحلول ينايرِ عام 1946م كان رولز قد ضاق ذرعًا بالجيش تمامًا كما ضاقوا هم به، وافترق عنهم ليعود لاحقا إلى إحدى جامعات رابطة اللبلاب، حيث سيقضي فيها بقية من حياته العملية.

معارضته للعسكرة:

يَعرِض كلا الحادِثَيْن شرحًا موجزًا لأفكار رولز، فالدمار الذي أعقب القنبلة الذرية لم يولِّد خرابًا مريعًا فحسب، بل محى معه حضارات اجتماعية عريقة كانت نتاج عمل أجيال تلتها أجيال؛ مما يجعل مهمةَ بناء مجتمع أفضل فوق تلك الأنقاض تحديًّا بحق.

باتت الآن مهمة بناء هذا المجتمع خاضعةً لرغبات القيادة العليا لقوات الحلفاء. ومن هنا تأجج في نفس رولز سؤال يطرحه على أمريكا (ما طبيعة اللوائح التي على أساسها يُبنى أي مجتمع؟) غير أن إجابة رولز الشاملة لهذا السؤال لم ترَ النور إلا عام 1971م حين باشرت نظريتُه التقليبَ في صفحات الماضي، تمامًا كذاك الماضي الذي مُحيَ في هيروشيما.

وتعرض الحادثة بين رولز والملازم الذي أصدر العقوبة التأديبية إيضاحًا أكثر لأفكاره؛ فالرقباء في الجيش ملزَمُون قطعًا بالمثول للقواعد العسكرية -فهذا من مهامهم الأساسية- وإخلالهم بذلك يزعزع النظام الذي لا يقوم الجيش إلا به. ومع ذلك نرى رولز يضع كل هذا جانبًا؛ حرصًا منه على إنصاف جندي واحد. فكان في تصرف رولز في تلك الحادثة استهلالًا لمعركتهِ الحقيقية القادمة، معركتهُ الفكرية ضد الفلسفة النفعية.[1]

فأصحاب مذهب النفعية اتخذوا من مقولة “تحقيق أقصى المنافع للأغلبية” مبدأً لتسيير سياسة البلاد. غير أن رولز استنكر عليهم مبدأهم الذي يسهل معه تضييع حقوق الأقليات حيث قال: “لابد وأن تُصَان أعراض كل إنسان”، وجعل كلمته هذهِ المبدأَ الذي قامت عليه فلسفته برُمَّتها.

معارضته للأسقفية:

كان رولز قبل الحرب أسقفيًا ملتزمًا[2]. حتى أن أطروحته الجامعية دارت حول مسألة (الخطيئة والإيمان)، وكان في شبابه يعتزم الالتحاق بالكهنوت. غير أن تجاربه في حرب المحيط الهادئ وما رآه من مخلفات الحرب على اليابان سحقا طمأنينة الإيمان في قلبه.

جعل رولز من كلمات القس العسكري حين قال للجنود الأمريكيين بأن الإله سيكون “بصفهم هم” لا بصف اليابانيين، دليلًا قاطعًا يستند إليه -إن أراد إثباتاً- بأن وجود الإله بحد ذاته لا يكفي لحصول النصر على الأعداء[3]. (غير أن رولز كتب لاحقًا أنه نقم على ذلك القس تحريفه للإنجيل).

ثم راح يذكر المشهد الذي رآه بهيروشيما، والأخبار التي سمعها عن معسكر أوشفيتز[4] أثناء سفره بالقطار عام 1945م، والتعسف الذي راح ضحيته العديد من زملائه الجنود، واحدٌ منهم لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيه ليخْلُص في قرارة نفسه إلى أن ذاك الإله المنشود بدا غائبا عنهم[5].

بعد تسريحه من حرب المحيط الهادئ عام 1946م عاد رولز لجامعة برنستون؛ ليشرع في تحضير الدكتوراة في الفلسفة الأخلاقية. ولكنه عاد شخصًا مختلفًا جدًا عن ذلك التقِيِّ المتفائل الذي كان عليه حين تطوع للخدمة في الحرب. لقد خذله دينه[6] والجيش، وتركا في نفسه ظمأً للعدالة -أو بالأحرى- ظمأً لاكتشاف ماهية العدالة.

تشَكَّلت نظرة رولز للعالَم من جراء تجارب شخصية صادمة وعميقة تَعرَّضَ لها في فترة خدمته في زمن الحرب. ومنها تحدد مساره في الفترة الباقية من حياته.

رولز: الفيلسوف السياسي:

عادةً ما يوصَف جون رولز بأنه أهم فيلسوف سياسي عاش في القرن العشرين، وتشهد له بذلك كلمات الرئيس السابق بيل كلينتون المقتضبة حين قال عن رولز بأنه “بمفرده تقريبًا … أعاد إحياء مبادئ الفلسفة السياسية والأخلاقية بدعواه القائمة على أن المجتمع الذي يساعد أفرادُه الأكثر حظًا أقرانَهم الأقل حظًا ليس مجتمعًا أخلاقيًا فحسب، بل مجتمعًا منطقيًا كذلك”.

أصبح كتاب هذا الأكاديمي المنعزل من جامعة هارفارد الدعامة الأساسية للمقررات الجامعية، كما أثرت أفكاره على المؤسسات الغربية والدولية، وعلى رأسها: مؤسستا الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

تمحورت فكرة رولز الأساسية حول مد يد العون لأولئك الأقل ثراءً في المجتمع. وقد افترض رولز طريقةً يمكن بها القضاء على التحيزات الأنانية في أفراد المجتمع، حيث سيترك لهم اختيار النظام الذي سيُحكَمُ به مجتمعهم، لكنه سيتركهم دون أدنى فكرة عن موقعهم المستقبلي ضمن فئات ذلك المجتمع. وعقَّب قائلا: “سيعمد الناس في هذا السيناريو الافتراضي إلى اختيار النظام الذي يكفل الحماية لأضعف فئات المجتمع، تحسبًا في حال كانوا منها”. وهكذا خَلَصَ إلى أن مساعدة الفئات الأقل حظَّا في المجتمع لطالما كانت التصرف الصحيح.

كان رولز مثالًا يحتذى به من أمثلة المؤسسين الأوائل الذين بنوا عالمًا جديدًا، محسِّنًا بذلك أعمال المؤسسين الأوائل لأمريكا نفسها. لذا فإن الشهرة التي لحقته خلال حرب الفيتنام (وهي معركة هزت المجتمع الأمريكي باللقطات الإخبارية التي نَقَلت الرعب من خطوط القتال الأمامية إلى غرف جلوسهم حيث يشاهدون التلفاز، وبعدد أكياس الجثث العائدة والتي فاقت الـ 50000 جندي أمريكي، أكثرهم من المجندين[7]، لم تكن وليدة الصدفة).

قدمت حجج رولز وصفًا أمريكيًا فريدًا عن سبب كون التدخل العسكري الأمريكي في جنوب شرق آسيا غير أمريكي[8]. وعندما نُشِرَت أعظم أعماله المسماة بـ(نظرية العدالة) عام 1971م ، أصبح بطلاً لليسار الليبرالي[9].

ساهم كل من شهرة رولز وتأثيره -جنبًا إلى جنب مع قوة حجته- في إعادة إحياء مسألة الأخلاق برمتها، لاسيما بعد أن تركت حجة فيتجنشتاين الخبيثة والمطروحة في عشرينات القرن الـ 19 ميدان الأخلاقية قاحلًا، دافعةً بذلك الكثيرين للتساؤل عما إن كان معيار “الصواب” و”الخطأ” ذا أي أهمية تذكر.

ولكن رولز أنزل فيتجنشتاين موضعه حين قال: “إن المنطق لم يكن سوى جزءٍ من الإجابة، فغرائزنا -أيضًا- يُحسب لها حساب. والقيمة الإنسانية التي يتحلى بها كل فرد هي ما جعلت من معيار الصواب والخطأ معيارًا مهمًا”.

لقد كانت حجة صادقة من رجل حصيفٍ صممَ على إنقاذ البشرية من جحيم معركةٍ أخرى.

رولز وحرب المحيط الهادئ:

بدأ التدخل الأمريكي في حرب المحيط الهادئ بعد قصف اليابانيين ميناء بيرل في هاواي يومَ السابعِ من ديسمبر عام 1941م – التاريخ الذي وصفه الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت بكونه “تاريخًا يخلد وصمة العار”.

كانت اليابان قد نجحت تمامًا في غزو منشوريا قبل عقد من الزمن، ونجحت تقريبًا في دخول روسيا السوفيتية عام 1939م. لكن التدخل الأمريكي هو ما قلب طاولة الحرب عليهم.  كانت لحظة تأكيد كل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية دعمهما للعدوان الياباني هي اللحظة التي ألقت بالمحيط الهادئ في هوة الحرب العالمية الثانية؛ فشمل القتال أراضي أكبر وأوسع مما كان في حرب أوروبا.

اَتْبَعَتِ اليابان هجومها على هاواي بإغراقها سفينتين حربيتين بريطانيتين، وإجبارها لتايلاند على الاستسلام، واستيلائها على هونغ كونغ وجزيرتي غوام وويك[10] – كل ذلك في شهر واحد فقط. ومع بداية عام 1942م، احتلت بورما، ثم راحت تتقدم سريعًا صوب الجنوب مستوليةً على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي، وآسرة الآلاف من سجناء الحلفاء وصولا إلى الفلبين بحلول مايو. حتى أنهم قصفوا البر الأسترالي الرئيسي.

لكن خطأً قاتلًا في حسابات اليابانيين في معركة ميدواي في يونيو 1942م ترك أسطولهم الناقل عاجزًا. ومنذ ذلك الحين وحتى استسلامهم بعد ثلاث سنوات، تكررت القصة نفسها: استنزاف عنيف يعقبه انتصارات يحققها الحلفاء بشق الأنفس، فينجم عنها تضاؤل كبير للامبراطورية اليابانية وانحطاط أكبر لقوات دفاعها.

كان أول هجوم مضاد ناجح للحلفاء في غينيا الجديدة، تلاه نصر دموي للغاية في جوادالكنال في جزر سليمان في أوائل عام 1943م. ومن هناك، تبَنَّى الأمريكيون استراتيجية “التنقل بين الجزر”[11]، حيث استخدموا كل مكسب إقليمي جديد لشن هجومهم على التالي. وأوصلهم اتباع هذا النهج إلى سايبان وتاراوا والفلبين وإيو جيما إلى أن انتهوا إلى أوكيناوا.

وفي تلك الأثناء، كانت القوات اليابانية قد طُرِدَت من الهند وبورما، بينما قامت القوات البحرية الأمريكية – غواصاتها تحديدًا- مدعومة بقاذفات القنابل الجوية المدرعة التابعة للقوات الجوية الأمريكية بحرمان اليابان من الموارد الضرورية لمواصلة هذه الحرب الصناعية.

وبأمر من الرئيس ترومان باستخدام القنبلة النووية وقعت أكثر الحروب دموية على الأراضي اليابانية؛ ففي حين أفلح القرار بإنقاذ أرواح بضع آلاف الجنود الأمريكيين، دفع ما يقرب من ربع مليون مدني ياباني الثمن.

أعاد الاتحاد السوفييتي الانضمام للحرب في نفس اليوم الذي أُسقِطَت فيه القنبلة الثانية على ناجازاكي. وفي أقل من 24 ساعة -وتحديدًا- في العاشر من أغسطس عام 1945م،  قرر مجلس الوزراء الياباني إعلان الاستسلام.


[1] الفلسفة النفعية هي: فلسفة تقيس صواب العمل بما يحققه من منفعة للإنسان. تقريبا كمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. وإن كانت تبدو جيدة لأول وهلة فهي في الحقيقة قاصرة وضعيفة. فالسلوك عندهم يعد حسنا كلما حقق منفعة أكبر، لا لأنه حسن في نفسه أو مذموم في أصله. (المترجمة)

[2] أي أنه كان مسيحيا تابعا للكنيسة الأسقفية البروتستانتية، إحدى أكبر الطوائف المسيحية في أمريكا. (المترجمة)

[3] يعني أنه حتى بوجود إله عند الناس عامة واليابانيين خاصة فذلك لا يكفي لحصول النصر لهم؛ لأن الإله الذي يتحدثون عنه يفضل المسيحيين الأمريكان ويحميهم ويؤثرهم على غيرهم. (المترجمة)

[4] كان معسكر اعتقال وإبادة تابعا للقوات العسكرية الألمانية النازية التي احتلت الدول الأوروبية. (المترجمة)

[5] رولز يتحدث عن إله في ديانته هو. فحاش لله تعالى أن يغيب عن خلقه، بل كل أقداره بحكمة هو يعلمها، فيملي للظالم ويجازي الصابرين. (المترجمة)

[6] المقال بتحدث عن رولز ونظرته الشخصية لدينه هو. (المترجمة)

[7] المجندين (conscripts) هم أولئك الذين أرغموا على الانضمام إلى الجيش، ولم يدخلوه تطوعا. (المترجمة)

[8] يقصد القول بأن هذه الحرب ليست حربنا لنبذل فيها أرواحنا. أي بأنها حرب (تدخل) لا داعي له. (المترجمة)

[9] منهج سياسي يؤمن بالعمل ضمن الأنظمة القائمة لتحسين العدالة الاجتماعية ولتحقيق تساوي الفرص (ويكيبديا). (المترجمة)

[10] غوام وويك هما جزيرتين تقعان في غرب المحيط الهادئ. (المترجمة)

[11] “Island hopping”

المصدر
military-history

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى