- نعيمة جريبان*
يعني نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين فيما يعنيه، أنه يُفهم من خلال معهود العرب في الخطاب، ومنهجهم في البيان، وتحدد معانيه من خلال دلالات الألفاظ التي تعاهد عليها العرب في استعمالاتهم.
فهذا المقال يمثل، ابتداء، مدخلا مفهوميا يحاول تسليط الضوء على أحد أعقد المصطلحات في تاريخ المعرفة الإنسانية عامة، والإسلامية على وجه الخصوص، ويتعلق الأمر بمصطلح النص وعلاقته بالواقع باعتبارها مفاهيم معرفية مؤسِّسة لإشكالات يطرحها النص والمصطلح الشرعي خاصة لما تمتع به من خصائص هي أكثر اكتنازا من المجالات الأخرى، ولإشكالات يطرحها الواقع المتحرك. وقد ازدادت هذه العلاقة تعقيدا في الوقت الراهن لما أصبح يتمتع به هذا الواقع من تعقيد وتشابك كوني.
إن المصطلحات الشرعية قنوات لخطاب التكليف، وحاملة لبعض خصائصه، فإن كان أول مقاصد الشرع قصد الابتداء، فإن الذي يليه مباشرة هو قصد الإنهاء، إذ لا تكليف إلا بعد وروده، ولا يتم، الفهم التام لخطاب الشرع وخصائصه إلا بفهم مصطلحاته. من هنا تكمن أهمية المصطلح ودراسته دراسة منهجية كفيلة بضبط طبيعته، وبيان إيحاءاته الحضارية من حيث كونه قناة التواصل الحضاري مع التراث، لمعرفة الأصول في الماضي، وتصحيح أزمات الحاضر، وأداة الاستمرار في المستقبل. وكل ذلك من الأهمية بمكان في معترك التدافع الثقافي والحضاري الكوني المعاصر.
وقد وعى العقل المسلم عموما، والعقل الأصولي على وجه الخصوص أهمية المصطلحات والمفاهيم في بناء العلم والمعرفة من جهة، وفي فهم خطاب الشارع من جهة ثانية، فكانت القواعد التي أثلوها لفهم النص الشرعي- قرآنا وسنة – قواعد لبناء فهم سليم لمصطلحات الدين في شكلها المفرد أو النسقي، لفهم نسقية الدين.
من خلال هذا المقال، سأحاول دراسة المصطلحات الثلاثة المشكّلة لعنوانه [النص –الواقع –العلاقة] بشكل مفرد، مركزة في ذلك على الاصطلاحات الأصولية التي عنيت بها عناية أكثر من غيرها من التخصصات العلمية في المجال التداولي الإسلامي. ثم أعرج على دلالاتها المركبة للوقوف على إشكالاتها وقضاياها المعرفية والمنهجية والحضارية، وبما يؤهل لهذه المفاهيم عودة حضور، فشهود حضاري في الواقع العالمي الراهن، وبفاعلية النص الشرعي الذي لازال يتمتع بخصوبة نظرية وعملية لربانية وقدسية مصدره.
وقد اتبعت في دراستي المفهومية هذه منهجا يجمع بين الوصف والتحليل، بالوقوف على المفاهيم المفردة في مظانها اللغوية والاصطلاحية العامة، وكذا في الكتابات الأصولية المتخصصة وصولا إلى المفاهيم المركبة، ومستعينة بكتابات معاصرة تناولت الموضوع بشكل مباشر؛ أي علاقة النص الشرعي بالواقع الكوني؛ الإنساني خاصة، والجداليات التي تفرزها علاقة من هذا النوع.
إذ تتمحور المعاني والدلالات اللغوية لمصطلح النص حول: الرفع والارتفاع، والظهور والوضوح والبيان، والنهاية والانتهاء والمنتهى، والثبات والحركة، والاستقصاء في الشيء، والإسناد.
حيث ورد في كتاب “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ)، “نَصَصْتُ الحديث إلى فلان نَصًّا أي رَفَعْتُه، ونَصَصْتُ ناقتي رفعتها في السير، والنَّصْنَصَة: إثبات البعير ركبتيه في الأرض وتَحَرُّكُه إذا هَمَّ بالنهوض، ونَصَصْتُ الشيء: حَرَّكْتُه. وَنَصَصْتُ الرجل: اِسْتَقْصَيْتُ مَسْأَلَتَه عن الشيء، يقال نَصَّ ما عنده أي استقصاه. ونَصُّ كل شيء مُنْتَهَاه، وأَنْصَتُّهُ استمعت له”. وجاء في “جمهرة اللغة” لابن دريد (ت321هـ)، )نَصَصْتُ الحديث أَنُصُّهُ نَصًّا، إذا أظهرته. ونصصت العروس نصا، إذا أظهرتها)، ونَصَصَ) ونَصَصْتُ البعير في السير أَنُصُّهُ نَصًّا؛ إذا رَفَعْتُه. وقالوا: نَصَصْتَ الحديث إذا عَزَوْتَهُ إلى مُحَدِّثِكَ به. وكل شيء أظهرته فقد نصصته(.
نخلص من خلال النصوص السالفة، أن مفهوم” النص” من خلال الجذر اللغوي (نصص)، في معاجم اللغة العربية، يتأرجح بين دلالات مادية (نص الناقة، منصة العروس..) ودلالات معنوية فكرية ( نص الحديث)، كما يتأرجح بين الدلالة على الثبات والتغير، السكون والحركة. إلا أن التركيز يتم على أربع دلالات أساسية وهي الرفع، الظهور، الوضوح، والانتهاء.
وإذا انتقلنا إلى المعاجم الاصطلاحية العامة، نجد نفس الدلالات اللغوية لمصطلح “النص”، مع تركيزها على الدلالة الأصولية الدائرة حول معنيين أساسيين؛ عقدي كلامي يسلم بمرجعية النص الشرعي ومصدريته في بناء العلم والمعرفة والمنهج، ولغوي دلالي يعتبر النص أعلى مراتب الدلالة وأوضحها. يقول الجرجاني في كتاب “التعريفات: “النص ما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنىً في المتكلم، وهو سوق الكلام لأجل ذلك المعنى. كما يقال: أحسنوا إلى فلان الذي يفرح بفرحي، ويغم بغمي، كان نَصّاً في بيان محبته. والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحد، وقيل ما لا يحتمل التأويل”.
وجاء في “موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي: النَّصُّ هو في عرف الأصوليين يطلق على معان، الأول: كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة سواء كان ظاهرا أو نصا أو مُفسَّرا، حقيقة أو مجازا، عاما أو خاصا اعتبارا منهم للغالب، لأن عامة ما ورد من صاحب الشرع نصوص، وهذا المعنى هو المراد بالنصوص في قولهم عبارة النص وإشارة النص ودلالة النص واقتضاء النص، كذا في كشف البزدوي. فقوله من الكتاب والسنة بيان لقوله ملفوظ، وليس المقصود حصر ذلك الملفوظ فيهما بدليل أن عبارة النص وأخواتها لا يختص بالكتاب والسنة، ولهذا وقع في العضدي أن الكتاب والسنة والإجماع كلها يشترك في المتن أي ما يتضمنه الثلاثة من أمر ونهي وعام وخاص ومجمل ومبين ومنطوق ومفهوم ونحوها. والثاني ما ذكر الشافعي فإنه سَمَّى الظَّاهر نَصّاً فهو منطلق على اللغة، والنص في اللغة بمعنى الظهور. يقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعت وأظهر، فعلى هذا حدّه حدّ الظاهر وهو اللفظ الذي يغلب على الظّنّ. فَهِمَ معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونصّ، والثالث وهو الأشهر هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا عن قُرْب، ولا بُعْد كالخمسة مثلا فإنه نَصُّ في معناه لا يحتمل شيئا آخر، فكلما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نَصًا في طرفي الإثبات والنفي، أعني في إثبات المُسَمَّى ونفي ما لا يطلق عليه الاسم، فعلى هذا حدّه اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نَصّ، ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصًا وظاهرا ومُجْملاً لكن بالإضافة إلى معانٍ لا إلى معنى واحد. والرابع ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نَصًا، فكان شرط النص بالمعنى الثالث ألا يتطرق إليه احتمال أصلا، وبالمعنى الرابع ألا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل فلا حجر في إطلاق النَّصّ على هذه المعاني، لكن الإطلاق الثالث أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد. وهذه المعاني الثلاثة الأخيرة ذكرها الغزالي في المستصفى”.
نخلص من خلال كتابيْ التعريفات والكشاف، واللذين يلخصان النظرة الأصولية لمفهوم “النص”؛ باعتبارها النظرة المؤثرة والجامعة لدلالات المصطلح اللغوية والمنطقية والكلامية والفقهية، إلى أن مفهوم “النص” يدور حول ثلاث دلالات أساسية نجملها فيما يلي: النص بصيغة المفرد أو الجمع كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة، أو غيرهما من النصوص الاجتهادية البشرية كالإجماع والقياس. وكذلك النص هو المعنى الظاهر من اللفظ؛ أي المعنى المفهوم منه من غير قطع. وأيضا النص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحد؛ أي هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا عن قُرْب ولا عن بُعْد كالمقدرات الشرعية الواردة بالعدد كالخمسة والعشرة التي لا تحتمل إلا معنى واحد تدل عليه إثباتا أو نفيا.
كما يمكن أن نلخص دلالات مفهوم النص كالآتي: “أولا: النص بمعنى الخطاب الشرعي كتابا أو سنة بغض النظر عن دلالته. ثانيا: النص يعني الخطاب ذي الدلالة الواضحة سواء أكانت دلالته قطعية أو ظنية. وثالثا: النص بمعنى الخطاب ذي الدلالة القاطعة. وهي الاصطلاحات التي اختصر ذكرها ابن دقيق العيد”.
مما تقدم، يمكن أن نعتبر الدلالة الأولى عامة، تنطلق من مسلمة أو مقدمة كلامية نعتبر من خلالها النصوص الشرعية- قرآنا وسنة- مرجعا ومصدرا للمعرفة والتشريع والمنهج، وبهذا المعنى تحتل هذه النصوص مكان الصدارة في سلم النصوص البانية للمعرفة والفكر والمنهج.
أما الدلالات الأخريات فتتعلق بمشكلة لغوية/ علمية صرفة، وهي مشكلة المعنى أو الدلالة في دراسة الألفاظ والمفردات. حيث “قسّم الأصوليون النصوص التشريعية من حيث وضوح الدلالة إلى ثلاثة أقسام: الأول؛ النص: وهو ما دل على معنى واحد لا يحتمل غيره كقوله تعالى في سورة النساء: ﴿ولكم نصف ما ترك أزواجكم﴾ الآية 12، فكلمة “نصف” لا تحتمل غير معنى واحد. والثاني؛ الظاهر: وهو ما دل على معنى راجع مع احتمال غيره. والثالث؛ المُجْمل: وهو ما يدل على المراد منه بلفظه. كما ميزوا بين النصوص من حيث طبيعة الدلالة وأشاروا إلى ثلاثة أقسام: إشارة النص واقتضاء النص وإيماء النص”.
وقد أشار العديد من الدارسين إلى ريادة الإمام الشافعي في بلورة مفهوم “النص” بالمعنى المشار إليه، حيث ذكر عنه أن النص “ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره”.
وبهذا المعنى يمكن أن نعتبر أن الاشتغال الأصولي كان اشتغالا علميا بامتياز، من حيث تمييزه في بنائه المنهجي في التعامل مع النصوص الشرعية بين القضايا الدينية والقضايا العلمية، وهو نظر متقدم لمعالجة القضايا وبناء المعرفة على ثنائية الدين والعلم، وتكاملهما في بناء المعرفة الإنسانية. على عكس ما يلمز به بعض المحدثين المعرفة الإسلامية، والمعرفة الأصولية على وجه الخصوص من كونها معرفة تحكمية ومهدرة للواقع المتحرك وإكراهاته باعتمادها على النص.
ومن جهة ثانية، يتضح انفتاح مفهوم النص على مختلف القضايا الوجودية والمعرفية والقيمية، وخاصة ما تعلق منها بالوجود الإنساني، وهو ما يدل على أن المعرفة الأصولية كانت في تأسيسها النظري لفهم وقراءة النص الشرعي، منفتحة على الواقع الموضوعي بكافة مستوياته. فالنص الشرعي باعتباره خطابا موجها للإنسان/ المكلف، وهذا الإنسان يحيا ويتحرك في واقع، فلا بد أن يكون هذا الواقع مقصودا للشارع بالنظر وليس منفصلا عنه.
وإذا انتقلنا إلى الدراسات اللغوية والفكرية العربية والإسلامية المعاصرة، نلحظ اضطرابا وتشويشا كبيرين في تناول مفهوم “النص”، حتى غدا مصطلحا إشكاليا بامتياز، وتنوعت تعريفاته تبعا لتعدد المدارس والمناهج الفلسفية والنقدية المعتمدة في دراسته وتأويله. ويعزى ذلك في نظرنا إلى التأثير السالب الذي تعرض له مفكرونا ومثقفونا المعاصرون من جراء الطوفان الثقافي واللساني والنقدي الغربي الوافد، حيث أرادوا التعامل مع نصوصهم الدينية والفكرية باعتماد مناهج الآخر في تعامله مع نصوصه الدينية، وفي إهدار تام لخصوصيات مجالهم التداولي، وممارسين لقطيعة مع ذاتهم، وملحقين بالغير، مما سبب تشظيًا وانشطارًا في العقل العربي المسلم في تعامله مع نصوصه وتراثه.
فقد تمت إرادة التسوية بين كل النصوص، دون إقامة الاعتبار لخصوصية النص الشرعي وقدسيته. وفكرة التسوية تعد من أهم الأفكار التي أنتجها العقل الغربي في تعامله مع الكتاب المقدس، ومن ثم طبقوا عليه مختلف المناهج الحفرية والنقدية والنفسية والاجتماعية التي أهدرت قدسيته ومكانته المرجعية. فأراد الحداثيون من بني جلدتنا أن يطبقوا ذات المناهج على نصوصهم المقدسة، في إهمال تام لخصوصية نصوص الوحي، وللمجال التداولي في التعامل مع النصوص. فالنص الشرعي- بالنسبة لهم – لا يعدو أن يكون إلا نتاجا ثقافيا خاضعا في تأسيسه وتأويله لإكراهات ومتغيرات الواقع بكافة تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وفي هذا السياق، نفهم لماذا هذا الهجوم الضاري الذي تعرضت له المعرفة الأصولية، والمنهج الأصولي في قراءة النصوص عامة، والنص الشرعي بوجه خاص. وكذا ما تعرض له الإمام الشافعي من انتقاد شديد في تأسيسه للمنهج الأصولي، ولمفهوم النص على وجه الخصوص.
ومن الأدلة التي اعتمدوها في هذا التأسيس النقدي أن المنهج الأصولي في تأسيس مفهوم “النص” قد أهمل دور الإنسان كمتلقٍ وكقارئ، وأعطى المكانة المركزية للنص، الذي تحول إلى سلطة ضاغطة نفسيا وعقليا على القارئ، فأرادوا إعادة الاعتبار لهذا الأخير، ولو على حساب إهدار النص، وموت صاحب النص؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وفي هذا أيضا التأثر القوي بنظريات القراءة والتلقي الغربية المعاصرة التي أعطت القيمة القصوى للقارئ، باعتباره مُنتجا للنص، وباعثا للحياة فيه، ومشكلا للانهائية دلالته ومعناه.
إن من الأغراض الأساسية التي سعت هذه الثلة من الباحثين والمفكرين إلى تحقيقها ضرب مرجعية النص الشرعي وإهدار قدسيته، وفتح قراءته وتأويله على كافة الاحتمالات حتى غدت فوضى خلاقة في قراءة النصوص، والنصوص الشرعية على وجه الخصوص، في إهمال تام لأدنى الضوابط العلمية واللغوية في القراءة والتأويل. ومن خلال هذا المنهج الذي يُجَذِّرُ لكل أرضية صلبة أو مرجعية في القراءة والفهم والتأويل، يتضح أن ما ينتقدونه في المنهج الأصولي من الوثوقية والثبات والواحدية، يمارسونها بشكل مقلوب، وكأنها أصولية مقلوبة، وإن تزينت بمصطلحات الانفتاح والتعدد، فهي واحدية ووثوقية ترفض كل ما عداها. وما ينتقدونه من الثبوتية والوثوقية، لا تسنده النصوص الأصولية ذاتها، فالنص عند الأصوليين لا يعدو أن يكون إلا مرتبة في الدلالة، إلى جانب مراتب متعددة، تصل إلى مستويات من الانفتاح والتعدد ما يسمح به النص المؤسس ذاته، وبما يسمح به اللسان العربي ومعهود العرب في الخطاب، لكن في غير فوضى أو تكلف.
بينما تدور الدلالات اللغوية لمصطلح “الواقع” حول: السقوط، موضع الوقوع ومحله، نوازل الزمان والمكان وحوادثهما وصروفهما ودواهيهما.
جاء في “لسان العرب” لـ “ابن منظور” في مادة “وَقَع” قوله: “وقع على الشيء ومنه يقع وقعا ووقوعا: سقط ووقع الشيء من يدي كذلك، ووقع المطر بالأرض، ولا يقال سقط، هذا قول أهل اللغة. ومواقع الغيث: مساقطه. ويقال: وقع الشيء مَوْقِعَه. ووقع السيف ووقعته ووقوعه: هِبَّتُهُ ونزوله بالضريبة، ووقع به ما كره يقع وقوعا ووقيعة: نزل. وفي المثل: الحِذار أشد من الوقيعة، يضرب ذلك للرجل يَعْظُمُ في صدره الشيء. والواقعة النازلة من صروف الدهر، والواقعة: اسم من أسماء يوم القيامة. والوقعة والوقيعة: الحرب والقتال، وقيل: المعركة، والجمع الوقائع. والوقعة: النومة في آخر الليل. والوقعة: أن يقضي في كل يوم حاجة إلى مثل ذلك من الغد، وهو من ذلك، ووقع الطائر يقع وقوعا. والنسر الواقع: نجم سمي بذلك كأنه كاسر جناحيه من خلفه. والتَّوقُّع: تَنَظُّر الأمر، يقال: توقعت مجيئه وتنظرته. وتوقع الشيء واستوقعه: تنظره وتخوفه.
نخلص من خلال هذا النص إلى أن مفهوم “الواقع” يتمحور حول الأحداث والنوازل المتعلقة بالإنسان، بالطبيعة، بالحيوان، بالنبات، بالدنيا، بالآخرة، بالزمان، والمكان. وبعبارة كل ما تعلق بالوجود الكوني والإنساني وحركتهما من أحداث ونوازل وصروف ودواهي، تشكل مجالا للبحث والدراسة والاعتبار، حتى يحقق الإنسان دوره الاستخلافي العمراني المنوط به في أصل الوجود.
أما الاستعمال القرآني لمصطلح “الواقع” فنجد مادة “وقع” بصيغة المصدر والفعل (وقع – وقعت- الواقعة) وتدور معانيها ودلالاتها حول السقوط والثبوت؛ فالساقط واقع صار في متناول الحواس، وهو ثابت أيضا فيمكن إدراكه بالحواس دون أن يشوش على ذلك الإدراك أو تربكه الحركة وعدم الثبوت. وأكثر ما أعملت فيه مادة “وقع” في القرآن في الشدائد والمكاره والعذاب.
أما من حيث المفهوم؛ فالنص القرآني يمكن اعتباره واقعا مدونا ومكتوبا ومقروءا، وما حديث القرآن الكريم عن الخلق الطبيعي والإنساني، وعن قصص الأقوام والحضارات، وعن حركة الإنسان والمجتمعات، والطبيعة وظواهرها إلا حديث عن “وقع” وكيفية تغييره وإصلاحه.
ويعتبر مفهوم “الوقع” من المفهومات الشائكة والمعقدة والمركبة والحديثة، من حيث المعاني والدلالات التي نقصدها بالدرس والتحليل، إلا أن مضامينه قديمة قدم الوجود الإنساني. فالإنسان منذ أن وجد، وجد في واقع زماني ومكاني، ومنذ أن وجد وهو يواجه ويجابه صروفه ونوازله وأحداثه الإنسانية الفردية والجماعية والطبيعية حية أو جامدة.
وقد وعى الأصوليون في إطار بنائهم لمنهج التعامل مع النص الشرعي، أهمية اعتبار الواقع، باعتباراته المتعددة؛ باعتباره محل تنزيل النص الشرعي، وباعتباره محل الابتلاء والاختبار، وباعتباره محل الاستحلاف والعمران الإنساني. وتظهر عناية الأصوليين بـ”الواقع” فهما ودراسة وتنظيرا من خلال أصولهم التي أصلوها، وقواعدهم التي أثلوها، وخاصة الأصول الثانوية (عمل أهل المدينة- العرف- الاستحسان – الاستصحاب). فكل هذه الأصول توضح المكانة المركزية التي كان يحتلها الواقع في بناء المناهج الفهمية للنص الشرعي والواقع على السواء.
وإذا انتقلنا إلى الاصطلاح العربي الإسلامي المعاصر، نلحظ اهتماما بارزا بمفهوم “الواقع” دراسة وفهما وتحليلا وتنظيرا، سواء في الدراسات الأصولية أو المقاصدية أو الفكرية والحضارية بوجه عام. كما نلمس وعيا كبيرا بضرورة تفعيل القواعد والمناهج الأصولية والمقاصدية، التي حفل بها الدرس الأصولي والمقاصدي في دراسة الواقع المعاصر المتميز بالتعقيد والتشابك والتركيب.
ويعرف عبد المجيد النجار “الواقع” بقوله: “المقصود بالواقع الأفعال الإنسانية التي يراد تنزيل الأحكام عليها وتوجيهها بحسبها”، ويضيف في موضع آخر “الواقع ما تجري عليه حياة الناس، في مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وأعراف، وما يجري فيها من نوازل وأحداث”.
من خلال هذين التعريفين يتضح أن عبد المجيد النجار، قد وسع من مفهوم الواقع مما له علاقة بالإنسان، إلى ما له علاقة بالحياة على وجه التعميم، لكن بقي منحصرا في دائرة الإنساني فقط.
فـ “الوقع” إذا، هو “مجرى حياة الناس، وسنن الله الكونية القائمة فيها، وما تؤسس له حركية الحياة والعمران من أنماط معيشية، وعادات، وأعراف، وما يطرأ عليها من وقائع ونوازل. فالواقع إذا هو مكون حياة الناس بكل أصولها وتفاصيلها وأبعادها”.
أما “الوقائع” بصيغة الجمع فهي: “الأحداث والنوازل التي تطرأ في مجرى الحياة، وتعد مكونا من مكونات الواقع، بيد أنها تتأطر في أطر وأنساق مختلفة. هذه الأنساق كل منها يعد مجالا تتقاسم أفراده خصائص ومميزات نظرية وعلمية ذات تأثير وتأثر متبادل”. فهناك الوقائع المتعلقة بالإنسان فردا؛ نفسيا وجسديا وروحيا. والمتعلقة بالإنسان مجتمعا؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. والمتعلقة بالطبيعة الحية نباتا وحيوانا؛ من توالد وتكاثر وحياة وموت. والمتعلقة بالطبيعة الجامدة؛ من ظواهر وحوادث.
نستنتج إذن، أن “فهم الواقع” أو “فقه الواقع” كما هو، في موضوعيته وتحققه، شكل مبحثا مركزيا وهاما في المباحث الأصولية والفكرية، قديما وحديثا، على السواء. فماذا نعني بهذا المركب الإضافي؟ فكلمة فقه تعني “الفهم مطلقا سواء ما ظهر أو خفي أو فهم الشيء الدقيق”.
وقد ورد اللفظ في آيات قرآنية كثيرة، تدور كلها، حول معنى عموم الفهم والإدراك؛ يقول تعالى في سورة التوبة: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ الآية 122، ويقول أيضا في سورة النساء: ﴿ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا﴾ الآية 78، فسياق الآيات القرآنية تدل على أن المصطلح يراد به مطلق الفهم أو القدرة على الفهم أو فهم الأمور الدقيقة.
وبذلك فـ “فقه الواقع” يعني فهم الواقع بإدراكه كما هو دون زيادة أو نقصان، وبدقة وضبط، عن طريق الدراسة العلمية، القائمة على إعمال مناهج البحث العلمي في مختلف التخصصات الطبيعية والإنسانية والشرعية، بغية تفسير هذا الواقع، واكتشاف القوانين والسنن الشرعية والطبيعية والاجتماعية المتحكمة في سيرورته.
أو قل إن “فقه الواقع” هو “العلم الذي يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، والعوامل المؤثرة في المجتمعات. أو هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس، والعمل على الارتقاء بها وتنزيل الأحكام عليها والأخذ بيده شيئا فشيئا لتقويمها بشرع الله تعالى”.
إن دراسة وفهم فقه الواقع هو شطر المعادلة في كينونة الأمة ووجودها الحضاري تاريخيا وحاضرا ومستقبلا، كأمة مختارة وخيرة ومخرجة للناس. ودون هذا الفقه والوعي والفهم، ستبقى الأمة خارج التاريخ والواقع، وخارج التأثير فيه بما يخدم مصالحها الدنيوية والأخروية ومصالح الإنسانية جمعاء.
وبعد هذا البيان لمفهومي “النص” و”الواقع” انفرادا، فما العلاقة الجامعة بين المفهومين؟ وكيف جمع الأصوليون بين مناهج فهم النص الشرعي ومناهج فهم الواقع ومناهج تنزيل النص الشرعي على الواقع الإنساني أو ارتفاع الواقع للنص الشرعي؟ وقبل مناولة هذه الأسئلة، ماذا نعني أولا بمفهوم العلاقة؟
ورد في “لسان العرب” في مادة عَلِقَ: “عَلِقَ بالشيء عَلَقاً وعَلِقَهُ: نَشِبَ فيه، وفي الحديث: فعلقت الأعراب به، أي نَشِبُوا وتعلَّقوا، وقيل طَفِقُوا، وعلق الشيء علقا، وعلق به عَلاَقَةً وعُلُوقا: لَزِمَهُ وعَلِقَ بقلبه علاقة، وكل شيء وقع موقعه فقد علق معالقه، والعلاقة: الهوى والحب اللازم للقلب، وعلقت هي بقلبي: تشبثت به، وعَلَّق الشيء بالشيء، ومنه، وعليه تَعْلِقاً: نَاطَهُ.
نخلص من خلال هذا النص إلى أن مادة “علق” تدور حول معاني النشوب واللزوم والارتباط الحاصل بين أمرين، بحيث لا يحصل الأول إلا بحصول الثاني، وكأنهما وجهان لشيء واحد.
ونفس الدلالات نجدها في “معجم التعريفات” مع تمييز بسيط فيما يخص اللزوم والارتباط بين أمرين ماديين أو معنويين، يقول الجرجاني: “العِلاَقَةُ: بكسر العين يستعمل في المحسوسات، وبالفتح في المعاني. وفي الصحاح: العلاقة بالكسر علاقة القَوس والسَّوط ونحوهما، وبالفتح علاقة الخصومة والمحبة ونحوهما”.
بعد هذا التوضيح لمفهوم “العلاقة” في اللغة والاصطلاح العام، فما العلاقة الجامعة بين النص والواقع؟ وكيف جمع الأصوليون بين مناهج فهم النص الشرعي ومناهج فهم الواقع ومناهج تنزيل النص الشرعي على الواقع الإنساني أو ارتفاع الواقع للنص الشرعي؟
يمكن الإقرار بداية بأن الأمة الإسلامية وُلِدت، وترعرعت من رحم النص الشرعي؛ قرآنا وسنة، مُشَكِّلة بذلك نموذجا تاريخيا فريدا اندمجت فيها تعاليم السماء بحركية الواقع بكافة تجلياته الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والطبيعية والعمرانية، وبذلك يمكن القول أن مرحلة الميلاد نشأت في أحضان هذه العلاقة التلازمية التكاملية بين النص الشرعي تأسيسا وإصلاحا وتغييرا لِوَاقِعٍ مأزوم، وبين الواقع المتحرك الذي يعج بالمشكلات والقضايا والنوازل والأسئلة التي ترتفع إلى النص/الشرع ليجيب عنها، ويقدم حلولا مناسبة لها.
ومن هذا المنطلق فالنص يوجه ويهدي ويعطي المثال والأفق، والواقع يعطي إمكان التنزيل والتحقق في الواقع، أو قل هي تكاملية بين النظرية والتطبيق، أو بين المثال والتنزيل.
وقد وعى الرعيل الأول هذا المنهج التكاملي التفاعلي بين النص الشرعي والواقع المعيش، فأنشؤوا بذلك تراثا زاخرا لفهم وقراءة النص الشرعي، ومناهج لقراءة وفهم الواقع، ومناهج لبيان العلاقة الجامعة بين النص والواقع أو ما سمي بفقه التنزيل. وذلك دون غلبة نزعة واقعية أو نصية على حساب الأخرى. فماذا نعني بفقه التنزيل؟ وهل استمر هذا المنهج التكاملي الجامع في الأمة أم لا؟
نعني بالتنزيل “صيرورة الحقيقة الدينية التي وقع تمثلها في مرحلة الفهم، إلى حفظ علمي تجري عليه حياة الإنسان في الواقع. أما فقه التنزيل فهو الإجراء العلمي لما حصل على مستوى الفهم التجريدي للأحكام الشرعية على واقع الأفعال والأوضاع وتكليف السلوك بها، إذ هو مناط ثمرات التشريع”. إننا بصدد عمليتين مركبتين، تجري أولاهما على مستوى المختبر العقلي التجريدي التفهمي النظري الصرف [من النص إلى الواقع]، وثانيهما على مستوى مختبر الواقع العملي المتلقي لما وقع عليه النظر التجريدي العقلي [من الواقع إلى النص]. وإن أي خلل في العمليتين الفهمية والتنزيلية تكون عواقبه وخيمة على الإنسان والواقع معا، لتعالي النص الشرعي وصاحبه عن الانتفاع والضرر، تعالى الله جل شأنه.
وقد عَنِي الأصوليون بهذا الفقه عناية خاصة لما له من أهمية بالغة في خلق التواشج وجسور التواصل بين النص الشرعي والواقع الإنساني، وفي مقدمتهم إمام المقاصديين أبو إسحاق الشاطبي الذي اهتم اهتماما بالغا بهذا الفقه، في الموافقات والاعتصام، واعتبره أساس فقه الأحكام، حيث “جعل الاجتهاد في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع أساس الاجتهاد في فهم النص، وعبر على هذا الضرب من الاجتهاد [ بالاجتهاد في تنزيل الأحكام الشرعية أو إيقاعها على الواقع]، بالنظر في الأدلة الشرعية، فقال: المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها، وعرفه[ أي فقه التنزيل] فقال: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله”.
ونستحضر في السياق ذاته الأصولي المالكي الآخر الإمام القرافي الذي يقرر مبدأ إعمال الواقع في النصوص الاجتهادية ذات التعدد التأويلي، يقول: “ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تكرهه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وافته به دون عرف بلدك، ودون المقرر في كتب فقه بلدك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين”.
ونلمس ذات العناية والاهتمام بهذه العلاقة الجامعة بين النص الشرعي والواقع عند الفقهاء؛ وذلك راجع إلى أن وظيفة الفقيه المتمثلة في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية (فهم النص الشرعي)، لا تكتمل إلا بالنظر في محل تنزيله (فهم الواقع والمكلف). ومن هذا المنطلق، فإن اجتهادات الفقهاء ومحاولاتهم مواكبة احتياجات المكلف بالفتاوى والإرشادات دليل على تنوع النظر في فهم النص بما يخدم الواقع ويعالجه. ومن القواعد التي تم تأثيلها في هذا الباب، والتي تظهر تأثير الواقع في فهم وفقه النص أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد والأعراف، وما هذه الأخيرة إلا مكونات الواقع وعناصره.
إن هذه القاعدة الفقهية والاجتهادية توضح تأثير الواقع في فهم النص وتأويله، وأنه من الحقائق الجلية التي لا ينكرها إلا جاحد. ومن جهة أخرى فالفقيه ابن مجتمعه، ويتفاعل مع قضاياه ومشكلاته، ويحاول مواكبة احتياجات أفراده بالفتاوى والإرشادات اللازمة، ليبقى الواقع مستجيبا للمشروع الموافق للنص.
إن الناظر في تاريخ المعرفة الإسلامية عموما، والمعرفة الأصولية والفقهية والمقاصدية خصوصا، على طول مراحلها التاريخية، إلى يومنا هذا يمكن أن يلحظ أن هذا المنظور التكاملي بين النص والواقع لم يستمر في جميع مراحله التاريخية، وأن عدم الاستمرار في هذا المنظور ارتبط بلحظات الأزمة والتراجع إما لصالح نزعة نصية تلغي الواقع وإكراهاته وأسئلته، أو نزعة واقعية تهدر النص الشرعي بدعوى الاستجابة لضرورات الواقع وإكراهاته. فتتحول هذه النزعة أو تلك إلى سلطة مهيمنة، لا تسمح إلا بما تراه وتنظر من خلاله. ومن الأمثلة الواضحة على سيادة النزعة النصية التيار الظاهري قديما، والسلفي المتشدد حديثا، والذي يبني رؤيته للعالَم والواقع بناء على قراءة ظاهرية حرفية للنص الشرعي، وغض الطرف عن الواقع وتقلباته.
أما النزعة الواقعية، والتي تجعل الواقع أساسا للنظر والاجتهاد، وتدعو إلى فهم النص الشرعي على ضوئه، حتى ولو كانت في أعلى درجات القطعية، فبالنسبة لهذا التيار الأولوية للواقع ومتطلباته، والنص تابع وتال له في الاعتبار والمكانة. ومن رواد هذا التيار في الفكر الإسلامي المعاصر نصر حامد أبو زيد الذي يعتبر “الواقع هو الأصل ولا سبيل لإهداره. من الواقع تَكَوَّن النص، ومن لغته وثقافته مبعث مفاهيمه، ومن خلال حركاته بفاعلية البشر تتجدد دلالته. فالواقع أولا، والواقع أخيرا”. وفي نفس السياق نستحضر نموذج حسن حنفي الذي يرى أنه “إذا كان القدماء تنازليا من النص إلى الواقع، فإن ترتيب المحدثين تصاعديا من الواقع إلى النص، فالعقل بقدرته على الاستدلال هو الأصل في التشريع للواقع المعاش”. إن النص الشرعي من هذا المنظور خادم للواقع ومتطلباته، مما يجعله خاضعا له، ودائرا في فلكه حيث دار، فتنقلب الموازين، حيث يقدم ما شأنه التأخير، ويؤخر ما شأنه التقديم.
ومن خلال ما تقدم، فالأمة والإنسانية في حاجة إلى عملية اجتهاد وتجديد مستمرين لفقه النص الشرعي، ولفقه الواقع المتجدد والمتغير، ولفقه تنزيل النص على الواقع وتقويم هذا الواقع بقيم النص. وهذا الفقه بأضلاعه الثلاثة المتواشجة والمتراكبة هو السبيل لتحقيق هذا المنظور التكاملي بين النص والواقع.
وختاما؛ إن دراسة “الواقع” وفقهه أصل في غاية الأهمية، فليس هناك معالجة لأية أزمة في الحاضر، وتخطيط وبناء أو تنمية في المستقبل يمكن أن يكتمل ويؤدي دوره، ويحقق ثماره دون دراسة الواقع وفقهه. وهذه الدراسة وذلك الفقه لا يمكن أن يتحقق شيء منهما دون تكاملية مع النص الشرعي، باعتباره مصدرا ومرجعا وحاكما، وباعتبار خصائصه المعرفية والمنهجية المستوعبة والمتجاوزة لأطر الواقع المتحركة في اتجاه اللامتناهي من إمكانات التطبيق والتنزيل. حيث نأخذ بعين الاعتبار في بناء هذا النموذج التكاملي التفاعلي بين النص والواقع خصائص الأمة الذاتية، وأسس ومنطلقات الميلاد والتكوين، المنبثقة من النص الشرعي، وخصوصيات الواقع العالمي الراهن الذي لا يمكن بحال الانفصال عنه أو الانفكاك عن مؤثراته، والمتميز بالتعقيد والتركيب الكوني. ودون هذا المنظور التكاملي الدامج بين أفق النص الشرعي وممكنات الواقع لا يمكن للأمة أن تحقق انبعاثها ونهضتها وشهودها الحضاري والكوني، ومن ثم إبلاغ رسالة الرحمة والسلام للعالمين، في دورة حضارية جديدة بإذن الله تعالى يصطلح فيها واقع الصراع والكراهية العالمي برحمة وعدل وسلام الوحي، يصطلح فيها الإنسان مع ربه ومع أخيه الإنسان ومع واقعه.
- نعيمة جريبان: أستاذة من المغرب باحثة في سلك دكتوراه الحوار الديني والحضاري