- محمد السعيد
- تحرير: غادة الزويد
يبحثُ المقال في أشهر تصنيفات الشخصية، وهو تصنيفٌ ثنائيّ وضعه عالم النفس، كارل يونغ خلال القرن الماضي.
الانطوائي Introvert
الانبساطي Extrovert
- تصحيح الخاطئ:
لا يعرف العقل المجتمعي عن الانطوائيّة سوى أنها عيبٌ اجتماعي، أو مرضُ نفسي، أو ربما خللٌ سلوكي، وصاحبها ذو شخصية خجولة معقّدة، وغير ذلك. إلا أن الانطوائية – ونتكلم هنا عن الحالة الطبيعية للشخصية – وفق الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، الإصدار الخامس (DSM-5)، الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ليست مرضاً أو عيباً اجتماعياً أو خللاً في السلوك النموذجيّ، وبالمجمل لا تشكّل مشكلة على الإطلاق. وهناك فرق كبير بينها وبين الخجل، ولا يقبل علم النفس الشخصية والأطباء اليوم وسمها بالمرض أو الاضطراب.
- من السلوك إلى الشخصيّة، تحولٌ ثقافي:
تختزل ثقافة القرن الحادي والعشرين الأفراد إلى انبساطيين فقط، إنسان العصر الذي يسعى دائماً نحو الاحتفال وحضور المهرجانات والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة والأصوات العالية، ثقافة كما يُعبِّر عنها الفيلسوف الفرنسيّ ميشال لكروا في كتابه عبادة المشاعر تُفضِّل المشاعر المتفجِّرة على الأحاسيس المخفّفة والدائمة، وتعطي قيمة للتفجير العاطفي أكثر من التعبير الشاعري. وهذا ما يُشكِّل مشكلة جودة الإحساس، كما يسميها لكروا إحدى التحديات الكُبرى في العصر وأحد مشاكل الإنسان المعاصر.
كانت بدايات القرن العشرين نقطة حاسمة في هذا التحول كما رصده المؤرخ الثقافي وارين سوسمان في كتابه الثقافة كتاريخ: تحول المجتمع الأمريكي في القرن العشرين، ويذكر سوسمان أن التحول تم من ثقافة الطبع -أي السلوك- إلى ثقافة الشخصيّة. وعندما تبنى الأمريكيون على حد تعبيره ثقافة الشخصيّة، بدأوا بالتركيز على كيف كان الآخرون يتصورونهم؛ لقد كان صعود أمريكا الصناعية قوة كبرى وراء هذا التطور الثقافي. وأي تحوُّل في أمريكا يعني أنه تحولٌ سيطول العالم كله بفعل العولمة وسيادة منطق تقليد الغالب.
وكانت كين قد أشارت أيضًا بملاحظتها الدقيقة كيف طال التحوّل كلاً من المؤسسات التعليميّة، الجامعات والمدارس والمعاهد، حيث بات نمط التعلُّم الجماعي والنشاطات الجماعيّة مرغوبة وسائدة أكثر، ممّا يَضعف قدرات الطالب الفرديّة بحسب كثير من الدراسات التي تذكرها، الأمر ذاته في الشركات ومؤسسات العمل حيث المكاتب المفتوحة بلا جدران أو عازل، التي تترك تأثيرًا سلبيًا ينعكس على الإنتاجية والكفاءة الوظيفية.
- الانطوائي والانبساطي:
عندما تكون مدعواً إلى حفلة جماعية أو فعالية اجتماعية، هل يكون أكثر ما تتمناه أن ينتهي الأمر بسرعة لتعود إلى منزلك، أو تحدث معجزةً ما تأخذك من وسط الصخب والضجيج إلى الهدوء والسكون؟ هل تجد المتعة في الساعة التي تخلو بها مع نفسك، وحيداً، يصحبك كتاب أو فِلم أو مشروعٌ تعمل عليه؟ وقد أتساءل إن كُنتَ تُفضِّل القيام بأغلب نشاطاتك وأعمالك بمفردك، أو في بعض الحالات بمشاركة عدد محدود من الأصدقاء والزملاء؟ إذا كانت إجابتك نعم على كل أو بعض ما سبق، فأنت انطوائيّ، ككاتب المقال، أو تميل لأن تكون ذو شخصية انطوائية وفقًا لعلم نفس الشخصية.
لم يُقدّم علم النفس حتى اليوم تعريفاً يختصر كِلا الشخصيتين، إلا أن علماء النفس مُتفِقون على بعض السمات والصفات التي تميّز كل شخصية على حِدة. فمثلاً أصحاب الشخصية الانطوائية، كما تصفهم سوزان كين في كتابها، “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يعرف الكلام“ يريدون أن يكون لهم دائماً وقتهم الخاص لأنفسهم، ويحاولون جاهدين ألّا يتواجدوا في الأماكن المزدحمة والحفلات الصاخبة ويُفضِّلون الجلسات الهادئة عليها، ويكتفون بعدد محدد من الأصدقاء على مجموعة كبيرة منهم، ومتعتهم الأكبر تكمن في القراءة أو حل الألغاز، بينما يستمتع الانبساطيون بخلاف هذا، إذ يُفضِّلون الإثارة المتولِّدة عن أنشطة مثل التزلج ولقاء أشخاص جدد وحضور المهرجانات والاحتفالات، وهم يشحنون أنفسهم بالتواجد ضمن المجموعة، بخلاف الانطوائيين، الذين يجدّدون طاقتهم بمنعزل عن الجميع، مع أنفسهم.
ويميل الانطوائيّ -في الغالب- إلى الاستماع بدلاً من التحدّث، فينصت للآخرين ويصغي لهم أكثر ممّا يتكلم، فهو لا يحب التحدّث كثيراً، ولا يكشف عن نفسه للآخرين كما تفعل الشخصية الانبساطية، يحتفظ دائماً بمسافة تفصله عن الجميع، وقد يُتَّهم نتيجة ذلك بالانزواء ومعاداة المجتمع وصعوبة المراس، وهو تصورٌ خاطئ؛ فالشخصية الانطوائية ودودة جداً ومفعمة بالمحبة والإخلاص للآخرين، ويمتاز أصحابها بتقدير الصداقات والعلاقات الاجتماعية والمحافظة عليها وفقاً لما كشفت عنه ملاحظات كين، وتخبرنا أن لهم طريقتهم الخاصة في التواصل والاتصال وإنشاء العلاقات. وكثيراً ما يراجعون ردود أفعالهم وتصرفاتهم، ولهذا هم عرضة منذ طفولتهم المبكرة للشعور بالذنب بقوة.
وتشير كين إلى بعض الدراسات التي أظهرت أن الانطوائيين يُعبِّرون عن ذاتهم الحقيقية على الإنترنت، إذ توفر الشبكة لهم حاجزاً يعزلهم عن أعين المجتمع، وهو ما يجد فيه الشخص الانطوائيّ فسحة من الراحة والحرية. والشخص ذاته الذي ما كان أبداً ليرفع يده في قاعة المحاضرات تضم مائتيّ شخص، قد يكتب تدوينة لألفيّ شخص، بدون التفكير مرتين في الأمر. والشخص ذاته الذي يجد من الصعب أن يقدّم نفسه لغرباء، قد ينشئ حضوراً له على الإنترنت، ولاحقاً ربما قد يطور هذه العلاقات إلى العالم الحقيقي.
لكن هل هذا كل ما نحن عليه، تُختَزل شخصياتنا في ثنائية انطوائيّ – انبساطيّ ولا دونهما؟ في الحقيقة لا. الأمر أوسع من ذلك وأعمق، نتحدّث هنا عن الإنسان، الذي يظل مليئاً بالأسرار والمفاجآت. يساعدنا مؤسس علم النفس التحليلي، كارل يونغ في الإجابة على السؤال، يعتقد يونغ أنه لا يوجد شيء اسمه انطوائي خالص أو انبساطي خالص، بل يوجد أشخاص متوازنون توازنًا حسنًا بين الطرفين، يتأثرون من الخارج كما يتأثرون من الداخل. وهذا يعني أننا يُمكن أن نجمع بين النمطين في الوقت نفسه، أي أن تكون لنا بعض الصفات المكتسبة من كلا الشخصيتين.
وكشخصٍ عَرف نفسه منذ سنوات على أنه انطوائيّ، أجد أن رأي يونغ أكثر ما يٌفسِّر شخصيتي ويُعبِّر عنها، فأنا لستُ انطوائياً صرفاً كما لا أميل إلى الانبساطية بمجموع سماتها، لدي القليل منها يدخل في تشكيل ذاتي الانطوائية، وفي بعض الأحيان ألبسُ ثوبها بالكامل، وهذا ما يضعنا أمام نظرية السمات الحرة.
- السمات الحرة:
وهي كما يخبرنا عنها، الباحث في علم النفس الشخصية، براين ليتل، عبارة عن بعض الصفات الحرة التي تظهر عندما نلجأ -كانطوائيين- إلى موقفٍ اجتماعي بهدف العمل على مشروع جوهري يعني لنا الكثير، أو عندما نصبح شغوفين بالأهداف التي تهمنا بشدة، حينئذ نتصرّف بما يخالف شخصياتنا، ممّا يبعدنا عن النمط الذي نحن عليه، ونفعل ذلك لإن أهدافنا وعملنا ومشروعنا الخاص، كل ذلك يعني لنا الكثير، وهذا ما يُعرف بالكفاءة المهنية، أو ربما نفعلهُ لأجل من نُحب.
تتمازج الصفات الحرة والثابتة لتصنع منا أفراداً أكثر تعقيداً ممّا نعتبر أنفسنا عليه. هناك تلك الظروف والمواقف التي تحكمنا ولا نحكمها، تفرض علينا ما لا نُريد، كأن نتصرف بعكس ما جُبِلنا عليه، مع العائلة أو في بيئة العمل أو في علاقاتنا مع الأصدقاء. والأمر سيان، للانطوائيّ والانبساطيّ، بالقدر الذي تعاني منه الشخصية الانطوائية لإيجاد توازن لذاتها في وسطٍ يدفع إلى الخارج، حيث الضوضاء والصخب والتجمعات الهائلة والبهرجة الدائمة، يترتب على الانبساطيّ أيضًا في بعض المواقف التنازل عن بعض ما يُحب ويُفضِّل، ومع ذلك تبقى معاناة الانطوائيّ أكبر وسط ثقافة انبساطية عالية تُشكّل مجتمع اليوم وشكل الإنسان المعاصر.
- فاصلة منقوطة (؛)
هذه ليست دعوة لإقصاء الطرف الآخر أو تفضيل شخصيّة على أخرى، فالمجتمع يحتاجهما معاً وبما يشتملان عليه من إيجابيّات وسلبيّات. نحن بحاجة إلى المفكّر والفيلسوف كحاجتنا إلى القائد ورائد الأعمال. يكفي فقط ألّا تطغى شخصيّة على أخرى، ونمطٌ على آخر، وأن نكون مدركين للاختلاف ونثمنّه ونحترمه، لأن هذا ما يشكّل بنية المجتمع السليم.
ما يجعلنا مختلفين حقاً ما نقوم به من أفعال وأعمال ومشاريع مهنية، وما نُساهم به لمساعدة من حولنا، مقدار الخير الذي نفعله للناس والسعادة التي نرسمها على وجوه الآخرين والفرحة التي ندخلها إلى قلوبهم، ويد العون التي نمدُّها للجميع، هنا الاختلاف والتمايز الحقيقيّ، لا في السمات والصفات والأنماط.
اكتشفت كين بعد سبع سنوات، ولا ننسى أنها انطوائيّة هي الأخرى، أن الحب أمرٌ أساسي، والمخالطة الاجتماعية أمرٌ اختياري. قم برعاية الأقرب والأعز بالنسبة لك، تقول كين، اعمل مع زملاء تحبهم وتحترمهم، تفحّص المعارف الجدد باحثاً عن أولئك الذين قد يصبحون ضمن الفئتين السابقتين أو الذين تستمتع برفقتهم لذاتها، ولا تكترث بشأن المخالطة الاجتماعية مع كل شخص آخر، العلاقات تجعل الجميع سعداء، بما في ذلك الانطوائيين، ولكن فكر في النوعية وليس في الكمية.
وأنا أقول لك: ابقَ دائماً وفياً لطبيعتك الخاصة ولِما تُحب، كن مخلصاً لذاتك واصغِ لها، لا لغيرها.
اقرأ ايضًا: إِقصاء الشخصيَّة الانعزاليَّة من العالَم الانبِسَاطي