- لوجن تشيبكن
- ترجمة: محمد النصار
- تحرير: بلال الخصاونة
الدكتور جريهام فارميلو كاتب للسير ولعلوم الطبيعة حائز على العديد من الجوائز. يعيش في لندن، وهو عضو في كلية تشرشل-كامبريدج، وزائر منتظم لدى معهد الدراسات المتقدمة، برينستون. كتابه الأخير، المجرة تتحدث بالأرقام، هو سرد تاريخي للعلاقة بين الرياضيات والفيزياء. فيما يلي مقابلتي مع فارميلو حول كتابه الجديد.
– لوجن تشيبكن: في كتابك، تقترح بأننا لن نعلم أبدا “ما إذا كانت قوانين الطبيعة تُخْتَرع أم تُكْتَشف”. فعلى مر التاريخ، قام العلماء بتقديم تفسيرات وإجابات مُرضية للأسئلة التي افترض الناس أنها ستظل غامضة إلى الأبد. ما الذي يجعل هذه القضية مختلفة؟
– جريهام فارميلو: لقد ناقش علماء الرياضيات لقرون عديدة ما إذا كانوا ينظرون إلى نظام مخترَع أم نظام مكتشف، وما إذا كان الموجود مسبقا “هناك في الطبيعة” ينتظر منا اكتشافه أم أنه مجرد بناء خيالي. يمكن العثور على علماء رياضيات بارعين على كلا جانبي ذلك السؤال، تماما مثل الفيزياء. معظم الفيزيائيين سيقولون إن القوانين الأساسية للطبيعة موجودة ونحن نكتشفها، وهي متواجدة هناك ربما بمعنى أنها تعمل في صمت حتى نكتشفها؛ ويقول آخرون -خصوصا النقاد في بعض جوانب الفيزياء- أنها من صنع البشر.
أنا لا ارى كيف يمكن شرح ذلك بطريقة أو بأخرى في أيٍّ من الرياضيات أو الفيزياء. ولكن كِلا الطرفين لديهم حجج قوية.
– تشيبكن: يبدو أن الفلسفة دائما ما تكون متشابكة مع حدوث أي تقدم في الفيزياء. ولا أعلم ما إن كان ذلك سيتوقف أم لا، فقط لأن العمل -كما يبدو- على الرياضيات أصبح شائعا بدلا من الفلسفة.
– فارميلو: إنها نقطة جيدة، وأنا لست ضد الفلسفة. الفلسفة تركز على أسئلة حول طبيعة الفيزياء والتي يمكن ان تصبح مهمة بشكل متزايد.
– تشيبكن: أنت تكتب عن المناهج الفلسفية المختلفة، والتي يعتقد كل من آينشتاين و ديراك أنها تساعدنا على فهم أعمق للعالم الخارجي. بعد مضي الكثير من الوقت، أيٌّ من فلسفاتهم تعتقد أنها أكثر ازدهارا؟
– فارميلو: اعتقدَ آينشتاين أن الطريق إلى أساسيات قوانين الطبيعة يمر من بوابة الرياضيات. وقد اكتسب تلك النظرة من خلال تطويره لنظرية الجاذبية، والتي كانت تعتبر إنجازا هائلا. وفي المراحل النهائية لإكمال تلك النظرية، في أواخر خريف عام 1915 ، آمن بأن الرياضيات هي التي قادته إلى تلك المعادلات النهائية والتي يمكن القول بأنها أعظم إنجاز في حياته.
الآن، كان ديراك سابقا لعصره، حيث اعتقد أنه يجب على علماء الفيزياء الانتباه للرياضيات، وعلى علماء الرياضيات الانتباه للفيزياء. في رأيه، أن الرياضيات هي مجرد لعبة يخترع فيها علماء الرياضيات القواعد، بينما الفيزياء هي لعبة تقوم فيها الطبيعة بتزويدك بالقواعد، وأن مهمتنا هي محاولة تخمينها. إذن فهو يجادل بأن هناك عاملاً مشتركاً بين علماء الفيزياء وعلماء الرياضيات يدفعهم للعمل معاً. وأعتقد أن ذلك أثبت أن الملاحظة مهمةٌ جدا.
– تشيبكن: إذن، كانا متقدمين على زمنهما.
– فارميلو: بالتأكيد، يعتقد آخرون أن الرياضيات خرجت عن السيطرة و أن علماء الفيزياء أصبحوا مهتمين جداً بالرياضيات. أنا -بكل احترام- أختلف مع ذلك. أعتقد أنّنا في وقت استثنائي، لأنه في العقود الماضية كان هناك عدد قليل من الأدلة في الطبيعة على الطريقة التي يجب أن يطور بها المنظرون نظرياتهم. بدلا من ذلك ما قام به المنظرون هو أنهم طوروا أفضل النظريات التي هي بحوزتنا ووجدوا أنفسهم في مجال الرياضيات. هناك نقطة في غاية الأهمية يجب طرحها حول هذه التوقعات. هذا العمل العظيم الذي يتم القيام به الآن في الفيزياء النظرية هو مبني إلى حد كبير على النظريتين الأساسيتين في فيزياء القرن العشرين وهما نظرية النسبية وميكانيكا الكم.
– تشيبكن: يمكننا قراءة العلاقة بين علماء الفيزياء وعلماء الرياضيات على مر الزمان كأنها ضرب من الدراما الرومانسية، حتى أنك تسمي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية “الطلاق الطويل” بين الثقافتين. لماذا تفرقا في الأربعينيّات، وما الذي جمعهما مجدداً؟
– فارميلو: أحد العوامل انه كانت هناك حركة تدعى Bourbaki في فرنسا والتي كانت مؤثرة جداً والتي سعت إلى هدم الرياضيات كلها وإعادة بنائها من الأسفل الى الأعلى اعتمادا على التجريد الصارم ولم تُعِرْ أيَّ اهتمام الى التطبيقات على الإطلاق. لقد كانت مبادرة مفيدة ولكنها أبعدت علماء الرياضيات عن التعاون الوثيق مع علماء الفيزياء.
في غضون ذلك كان الفيزيائيون يقضون وقتا ممتعا ويقومون باكتشافات جيدة للغاية حول العالم ما دون الذري. كانت هناك اكتشافات في فيزياء درجات الحرارة المنخفضة والفيزياء النووية بشكل متناثر وغير منظم ولكن دون الحاجة الى رياضيات متقدمة.
ما ساهم في إرجاع علاقتهم هو نظرية المجال الكمّي، إذ وجد الفيزيائيون أنّها هي الطريقة الصحيحة لوصف القوى التي تُشكّل الذرات. عالم الرياضات العبقري مايكل عطيّة رأى أنها كانت غنية بالإمكانات الرياضية. حيث احتوت النظرية على الكثير من الأسئلة الرياضية التي تمكنه وزملاءه من الاستفادة منها. عندما التقى مايكل عطيّة بإدورد ويتين في مكتبٍ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف 1976 كان ذلك اجتماعاً لعالم رياضيات عظيم وعالم فيزياء نظرية لامع.
ذكر مايكل عطيّة أن منظري المجال الكمّي كانوا يبنون قنواتٍ في الفيزياء و حققوا بعض النجاحات، وفي الوقت نفسه كان الرياضيون المتخصصون في مجال الهندسة يحفرون نفقا منفصلا تماما. ما حدث في أكسفورد عندما عاد عطيّة وعمل مع ويتين وغيره من الرياضيين والفيزيائيين الكِبار، هو ان تلك الأنفاق تقاطعت. ومع ذلك، ما حدث كان لمفاجأة الجميع، بدا وكأن الانفاق قد تم تصميمها بشكل جيد للعبور.
– تشيبكن: كان يُنظر إلى النسبية العامة لآينشتاين على أنها “أقل المجالات الواعدة”، لكن بعد فترة ليست طويلة في أوائل القرن الحادي والعشرين؛ يبدو أن هذا الرأي قد اختفى في العقود القليلة الماضية، وأصبحت تحظى بكثير من الحماس والإثارة، ما الذي تغير؟
– فارميلو: عندما جاء آينشتاين بنظريّته: النسبية العامة، رأى عدد غير قليلٍ من الناس أنّ هذا العمل رائع، شيءٌ يعجبك من بعيد، إذا جاز التعبير. فسَّر آينشتاين بعض الشذوذات (في الأرصاد) وأقام نظريةً جميلة جداً ولكنها لم تبدُ وثيقة الصّلة بالواقع.
الذي حدث بعد ذلك كان بسبب التطورات في التكنولوجيا والعمل الرائع الذي تم من قبل جون ويلر و روجر بينروز و ستيفن هوكينج. كانت هناك نهضة في تقديرنا للنسبية العامة وأنها لم تكن تهتم بالتأثيرات الصغيرة فحسب بل وحتى الأشياء الحقيقية كالثقوب السوداء على سبيل المثال. في وقت من هذا العام رأينا مشهدا مذهلا إذ كان أول دليل بصري على وجودها بالفعل.
الآن نحن في وقت مذهل لعلم الكونيات وعلم الفلك، وذلك بسبب هذه التطورات الرائعة في التلسكوبات وعمليات المحاكاة العددية. حتى أمكن لعلماء الكون والفلك النظر إلى الوراء في المراحل المبكرة من الزمن. لذا، تحظى النسبية العامة الآن باهتمام كبير.
– تشيبكن: قد سمع الكثيرون عن “التأثير غير المنطقي للرياضيات في الفيزياء،” ولكنك تقول العكس “التأثير غير المنطقي للفيزياء في الرياضيات”، ماذا تقصد بذلك؟
– فارميلو: الرياضيات أداة مدهشة، حتى في المرحلة الثانوية، أترى كيف تستخدم أساسيات الرياضيات للقيام بالـتجارب. وهذا يصعد الى الفيزيائيين البارزين الذين يستخدمون الرياضيات. ما كان ملفتا للنظر منذ أوائل السبعينيّات هو الحدس الذي تحصل عليه من الهندسة والذي نشأ عن الفيزياء وهي رؤىً مذهلةٌ جداً في الرياضيات. عالم الرياضيات العبقري بيير ديلاين Pierre Deligne يجد باستمرار دافعاً من نظرية الأوتار وهو ليس بمفرده بأي حال من الأحوال. لم أعرف فترة في حياتي كانت الرياضيات البحتة والفيزياء متقاربتين مثل الآن.
– تشيبكن: كانت تلك فكرةً محفزةً للتأمّل…
– فارميلو: إنها كذلك! كتب ديراك في عام 1939 -ربما كانت نظرة بعيده وخيالية بعض الشيء- أن يوما ما من الممكن لمادتي (الرياضيات والفيزياء) ان تتحدا. سيكون ذلك شيئاً مبهراً وسنريد تفسيراً لاتحادهما. أتوقع أنه شيء بعيد، ولكنه مذهلٌ حقاً.
– تشيبكن: ذكرت في كتابك أكبر تناقض بين االمشاهدة التجريبية والحسابات النظرية التي تعاني منها الفيزياء حالياً: التنبؤ بالطاقة في الفضاء الفارغ مقابل قيمته المقاسة، حيث تختلف بمئة وعشرين رتبةً (10120) من حيث الحجم. هل تعتقد ان أياً من التطورات النظرية الحالية بإمكانها حل هذا الإشكال؟
– فارميلو: ربما أكبر اكتشاف في الفيزياء في العشرين سنة الماضية هو اكتشاف الفلكيين أن معدل توسع الكون لا يتباطأ، إنه في الواقع يتسارع! حاليا، هذا دليل لأمر يدعى طاقة الفراغ.[1] عندما تقوم بحساب بسيط لطاقة الفراغ باستخدام الأفكار الأساسية للفيزياء الذرية، تحصل على إجابة يبلغ قدرها عشرة مرفوعة للقوة 120 ضعف القيمة المقيسة حقاً؛ مشكلة فهم الطاقة المظلمة -طاقة الفراغ- هي مرشحي للمشكلة الأكثر إلحاحاً في الوقت الحالي.
– تشيبكن: هل ترى أن أياً من التطورات النظرية التي قدمتها في الكتاب بإمكانها تمهيد الطريق لإيجاد حل لهذه المشكلة؟
– فارميلو: أتمنى ذلك. إن التنبؤات حول هذه المواضيع دائما ما تضع الشخص الذي يقدمها في موقف حرج. ما ننتظره جميعاً هو التوجه التطبيقي. لن نعود الى الفلسفة الطبيعية، ونؤمن -جنبا الى جنب مع ديكارت- أنه يمكنك حقاً الحصول على نوع من الفلسفة السّردية للطبيعة. نريد نظريات تخرج من المقارنات بين النظريات الرياضية وأفضل النتائج الرقمية من التجارب التي نستطيع إجراءها.
– تشيبكن: كتبت أن “معدل التقدم البطيء لإطار نظرية الأوتار قد ينذر بوتيرة أكثر هدوءا في الفيزياء التي قد تستمر لقرون عديدة”، هل من الممكن أن يكون هناك خطأ أساسي في الاستراتيجيات الحالية للفيزيائيين؟
– فارميلو: حدسي هو أنّنا بالتأكيد نفتقد شيئاً ما، ربما شيء أساسيٌّ، عليك أن تكون أحمقَ لاستبعاد هذا. اعتقادي هو أن ذلك الشيء الذي يصعب على كثير من الناس التصالح معه لعقود؛ لقد أحرز الفيزيائيون تقدماً مذهلاً في فيزياء الذرة والجاذبيّة. أتذكر عندما كنت طالباً كانت الاكتشافات تأتي على ما يبدو كل بضعة أشهر. نحن الآن في عالم مختلف. ترى منظّرين لا يصنعون أبداً تنبؤاً تجريبياً، بل يمكنك رؤية التجريبين يحصلون على درجات الدكتوراه في المحاكاة من دون إجراء أي تجارب حقيقية. نحن ننظر الآن بشكل مختلف، حيث يستغرق الأمر وقتاً أطول بكثير لإنشاء هذه المشاريع الضخمة. أعتقد ربّما يجب علينا الاعتياد على تقدمٍ أبطأ بكثير من الموسم الذي رأيناه في الأربعين والخمسين سنة الماضية.
– تشيبكن: ما هو الإلهام الذي يقدمه “المجرة تتحدث بالأرقام” ؟
– فارميلو: كتب آينشتاين في عام 1952 إنه لأمرٌ معجزٌ أنّ المجرة -التي تبدو معقدة جداً و حتى فوضوية- لديها نظام، ونحن البشر نستطيع أن نكتشف هذا النظام. حاليا تلك الأنماط هي التي يحاول الفزيائيون شرحها. وفي الوقت نفسه يدرس الرياضيون الأنماط أيضا، أنماط الأفكار. ما نجده هو أن الأنماط التي تدرس من قبل الرياضيين هي جدُّ مفيدة لفهم تلك الأنماط التي نجدها في الطبيعة. هذا أساسا ما يجعل الفيزيائيين والرياضيين يعملون معا. كلٌّ منهم لديه اهتمام قوي بالأنماط. إنهم بحاجة الى مدخلات بعضهم البعض. كنت أرغب في فهم كيف توصلنا إلى تلك الحالة من منظور تاريخي بداية من إسحاق نيوتن، ومن خلال الكهرومغناطيسية في القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا، ومحاولة سرد تلك العلاقة التكافليّة المدهشة بين علماء الفيزياء والرياضيات.
[1] في الواقع هم يعزون سبب ذلك للطاقة المظلمة، والجهل بها أكسبها اسمها، أحد التفسيرات المقترحة لمصدرها: طاقة الفراغ، فالطاقة المظلمة تفسير لتسارع التوسع الكوني، وطاقة الفراغ ظاهرة مرصودة ومستنتجة من المعادلات (التذبذب الكمومي) فليستا سواءً، غير أن أحد التأويلات -وهو لم يحظ بقبول واسع للآن- أن طاقة الفراغ مصدر الطاقة المظلمة وهي تشكل 72% من كثافة الكون. (المحرر)