- ريبيكا سولنيت
- ترجمة: الجراح القويز
- تحرير: سهام سايح
تبدأ الكوارث فجأة ولا تنتهي أبدًا. من الأشياء المهمة التي ينبغي أن نتفطن لها هي أنّ المستقبل لن يكون مثل الماضي، أو حتى الماضي القريب الذي مضى عليه شهر أو شهران. فاقتصادنا، وأولوياتنا، وتصوراتنا لن تكون كما كانت قبل هذه السنة. التفاصيل مروعة: شركات مثل (GE) و (Ford) تقوم بتصنيع أجهزة التنفس، وهناك تدافع على معدات الوقاية، وخلو شوارع المدينة وهدوئها بعد أن كانت تعج بالزحام والضجيج، والاقتصاد في حالة سقوط حر. لقد توقفت الأشياء التي من المفترض أن لا تتوقف، وحدثت الأشياء التي كان يستحيل حدوثها، مثل تمديد حقوق العمال ومزاياهم، وإطلاق سراح السجناء، ونقل بضعة ملايين الدولارات حول الولايات المتحدة.
كلمة أزمة بالمصطلح الطبي تعني: مفترق الطرق الذي يصل إليه المريض، فبعدها إما سيُشفى أو سيموت. وكلمة “الطوارئ emergency” من “ظهور emergence” أو “نشوء emerge”، تعني ظهور شيء خارج عن المألوف واحتياجه إلى توجيه عاجل. وكلمة “كارثة” أتت من جذر لها يعني انقلاب مفاجئ لسير الأمور.
ونحن قد وصلنا إلى مفترق طرق، وخرجنا عن المألوف في حياتنا الطبيعية، وانقلب سير الأمور فجأة. وأحد مهامنا الأساسية الآن – خصوصا ممّن ليسوا في الصفوف الأمامية، أو من لم يمرضوا، أو من لم يواجهوا المصاعب الاقتصادية أو السكنية- هي أن عليهم أن يفهموا هذه اللحظة، ما الذي تتطلبه منا، وما الذي يجعل من الممكن عبورها بسلام.
الكارثة (التي كانت تعني في الأصل “المصيبة” أو “كناية عن النحس”) تُغيِّر العالم ونظرتنا له. فتركيزنا يتحول، وأولوياتنا تتغير. ينهار كل ما هو ضعيف تحت الضغط الجديد، والقوي يزداد تماسكًا، والخفيُّ يظهر إلى الوجود. فلم يعد التغيير ممكنًا فقط، بل أصبحنا نرزح تحت وطأته. فأولوياتنا تتغير عندما نغير أنفسنا، واطلاعنا المتزايد على أعداد الوفيات يجعلنا نعي ما نعيشه وندرك قيمة الحياة. حتى تعريفنا لكلمة “نحن” قد يتغير بما أننا انفصلنا عن زملائنا في الدراسة أو في العمل، وأصبحنا نتشارك واقعنا الجديد مع الغرباء. فشعورنا بذواتنا نحسه في العالم من حولنا، والآن نجد نسخة أخرى فيما نحن عليه.
وبينما الجائحة قلبت حياتنا، هناك أناس حولي قلقون لمواجهتهم مشاكل في التركيز والإنتاجية. كنت أظن سبب ذلك أنّه كان عندنا أعمال أخرى أكثر أهمية؛ فعندما نتعافى من مرض أو يكون الشخص ينمو بسرعة مثل الحامل والطفل، فإنّ أجسامنا تعمل على مدار الساعة، لهذا – خصوصا عندما لا يظهر ذلك عليها- فهي تنمو وتتشافى وتبني وتتغير وتكدح دون وعي منا بذلك. فبينما نحن نكافح لتعلم العلوم والإحصاءات المتعلقة بهذه الآفة الرهيبة، فإنّ نفسيتنا تكافح مثلنا، وعليه فإنّنا نتكيّف مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، ونتعلم دروسا حول الكوارث، ونجهز أنفسنا لعالم غير متوقع.
أول درس تعلمته من الكوارث: أنّ كلّ شيء متشابك. في الحقيقة، لقد وجدت الكوارث أثناء معاصرتي لزلزال متوسط الحجم (زلزال 1989 في منطقة خليج سان فرانسيسكو) ثم كتابتي لاحقًا عن الكوارث الكبرى (بما في ذلك 11 سبتمبر، إعصار كاترينا وزلزال توهوكو 2011 وكارثة فوكوشيما النووية في اليابان) وقد وجدت أن الأشياء مترابطة بشكلٍ مكثف. وفي لحظات التغيير الكبرى، تتضح لنا الأنظمة -السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية- في ظل هذا الانشغال من حولنا. فنرى ما هو قوي وما هو ضعيف، وما هو فاسد، وما هو مهم وما هو دونه.
أُشبه هذه الأوقات بذوبان الثلج في الربيع: فالأمر يبدو كما لو أن قوالب الثلج بدأت بالتكسر، وصار الماء يتدفق من جديد وأصبح بإمكان القوارب التنقل للأماكن التي لم تستطع الوصول إليها خلال الشتاء. كان الجليد هو المنظم لعلاقات القوة التي نسميها الوضع الراهن. فهو يبدو مستقرًا، ومن يستفيد منه يصر على أنه غير قابل للتغيير، ثم يتغير بسرعة وبشكل ملحوظ، وهذا يمكن أن يكون مبهجًا، أو مروعًا، أو كليهما.
المستفيدون من الوضع الرّاهن بشكله الممزق، يركزون على المحافظة على استمراره أو إعادته مرة أخرى أكثر من تركيزهم على حماية الحياة البشرية. ومثال ذلك: إصرار مجموعة من المحافظين الأمريكيين وكبار المؤسسات، على عودة الجميع إلى العمل لمصلحة سوق الأسهم، وأنّ الوفيات التي ستنتج عن ذلك ستكون ثمنًا مقبولا في سبيل هذه المصلحة. في مثل هذه الأزمات يحاول ذوو النفوذ الحصول على سلطة أكبر، كما نرى من حولنا، فإنّ وزارة العدل وترامب يأملون في تعليق الحقوق الدستورية، ويبحث الأغنياء عن مزيد من الثروة، كما تعرض عضوان من مجلس الشيوخ لانتقادات بسبب استخدامهم معلومات مخفية متعلقة بالوباء لتحقيق الربح في سوق الأسهم (ونفى كلاهما ذلك).
علماء الكوارث يستخدمون مصطلح “ذعر النخبة” لوصف الطريقة التي تتفاعل بها طبقة النخبة عندما يفترضون أنّ الأناس العاديين سيتصرفون بشكل سيء. فعندما يصفون “الذعر” و “النهب” الموجود في الشوارع، فهم غالبا يخطئون في وصف الطريقة التي يحقق بها الناس العاديون نجاتهم أو اهتمامهم بغيرهم. أحيانًا من الحكمة أن تبتعد عن الخطر بشكل سريع، ولكن أحيانا عليك أن تؤثر الآخرين وتجمع الإمدادات لتشاركها معهم.
وغالبًا ما تكون أولوية هذه النخب هي الربح والممتلكات، وتفضل أن تكتسب نفوذا أو مالا على أن تنقذ حياة الأفراد والمجتمع. بعد الزلزال القوي الذي ضرب سان فرانسيسكو في أبريل 1906، دخل الجيش الأمريكي المدينة على قناعة بأنّ الناس العاديين يمثلون تهديدًا وأنهم مصدر للفوضى. أصدر المحافظ قرار “إطلاق النّار بقصد القتل” ضد الناهبين، واعتقد الجنود بأن ذلك سيخمد الفوضى، بينما كان ذلك بمثابة إشعال لنار الفوضى في المدينة وانتشارها، وتمّ إطلاق النار أو قمع المواطنين المخالفين للأوامر (أحيانا تكون هذه الأوامر تقضي بالسماح للحرائق أن تحرق منازلهم وأحيائهم). وبعد ذلك بـ 99 عامًا، في أعقاب إعصار كاترينا، فعلت شرطة نيو أورلينز والحراس البيض نفس الشيء، فأطلقوا النّار على السود باسم الدفاع عن الممتلكات وصلاحياتهم. بينما أصرت الحكومة الفيدرالية والولاية والحكومة المحلية على مساعدة المحاصرين -وكان غالبهم فقراء من مجتمع السود المصنفين كأعداء- لاحتوائهم وضبطهم، بدلاً من الاهتمام بضحايا الكارثة.
تواطأت وسائل الإعلام الرئيسية في هاجس النّهب الذي أعقب إعصار كاترينا. فعلى ما يبدو كان الحرص على سلامة المخازن الكبيرة للسلع التي تنتمي للشركات الكبيرة التي تملك سلسلة متاجر أهمَ من تلبية احتياجات الناس للطعام والماء النظيف أو ترك الجدات متعلقات بأسطح المنازل. توفي ما يقرب من 1500 شخص من كارثة لها علاقة بالفساد الحكومي أكثر من سوء الأحوال الجوية. فقد تحطمت سدود سلاح المهندسين بالجيش الأمريكي، ولم يكن لدى المدينة خطط إخلاء للفقراء، وفشلت إدارة الرئيس جورج بوش (George W Bush) في تقديم الإغاثة الفورية والفعالة. ذلك الوضع يعيد نفسه الآن. يقول أحد المعارضين البرازيليين عن رئيس البرازيل اليميني جاير بولسونارو (Jair Bolsonaro): “إنّه يمثل الحفاظ على المصالح الاقتصادية ولا يكترث لحياة الناس، وهم قلقون على مردودهم الربحي فقط”. (يدعِي بولسونارو أنّه يحاول حماية العاملين والاقتصاد معًا).
الملياردير المبشر المسيحي الذي يملك سلسلة متاجر هوبي لوبي (Hobby Lobby) -للفنون والحرف اليدوية- ادعى أنّ هناك توجيه إلهي ليبقى عماله في وظائفهم عندما طُلب منه أن يوقف أعماله. (أغلقت الشركة الآن جميع متاجرها). شركة (Uline Corporation)، التي يملكها الملياردير ترامب بيكرز ريتشارد (Trump backers Richard) وليز أويهلين (Liz Uihlein)، أُرسلت مذكرة إلى العاملين في ويسكونسن، مكتوب فيها: ” من فضلك لا تخبر زملائك عن أعراضك وتخميناتك؛ فأنت بذلك تسبب رعب غير ضروري في المكتب”. وقد قال الملياردير توم جوليسانو (Tom Golisano) مؤسس ورئيس شركة تجهيز كشوف المرتبات (Paychex): “إنّ الأضرار الناجمة عن إغلاق الاقتصاد، قد تكون أسوأ من خسارتنا لبعض الناس” (بعد ذلك صرح جوليسانو بأنّ تصريحاته تم تحريفها، واعتذر).
تاريخيًا، لطالما اعتبر عمالقة الصناعة الآلات الجامدة أكثر أهمية من الأحياء، وهؤلاء هم من دفعوا الرشاوي ليعملوا دون عوائق، واستغلوا الأطفال حتى الموت، و وضعوا العمال في أخطار مميتة في مناجم الفحم. أيضًا هناك من استخرجوا الوقود الأحفوري وتجاهلوا مايعرفونه أو تجاهلوا معرفته عن تأثيره على المناخ. أحد أهداف الغنى الأولية هي أن تتمكن بما معك من مال من شراء مصير مختلف عن المصير العام دائما، أو على الأقل أن تعتقد بأنه يمكنك الانفصال عن المجتمع بشكل كبير. وفي حين أنّ الأثرياء غالبًا ما يكونون محافظين، فإن المحافظين مهما كان وضعهم الاقتصادي في الغالب يتفقون مع الأثرياء.
فكرة أنّ كل شيء مترابط ولا مجال للانفصال= هي إهانة للمحافظين الذين يعتبرون لكل شخص خيال يحد به نفسه. فقد كانت تغيرات المناخ إهانة لهم، فالعلم يقول أنّ ماتخرجه سيارتنا ومداخننا يشكل مصير العالم على المدى الطويل ويؤثر على المحاصيل الزراعية، ومنسوب مياه البحر، وحرائق الغابات وما هو أكثر من ذلك. إذا كان كل شيء مرتبطًاً، فإنه علينا أن نتوخى عواقب كل قرار وفعل وكلمة، مانراه نحن فعلًا ناتجًا عن المحبة، يرونه هم طعنًا في الحرية المطلقة؛ فالحرية كلمة مختلفة عن السعي وراء ما تهواه النفس بلا حدود. في النّهاية، هناك جزء كبير من المحافظين وقادة الشركات يعتبرون العلم مصدر إزعاج، وأنّه يمكنهم رفض الاعتراف به. وبعضهم يصر على أنه يمكنهم اختيار الحقائق والقواعد التي يريدونها، كما لو أنها سلع في السوق الحرة، يختارون ما يناسبهم أو يعيدون تشكيله وفقًا لأهوائهم. وقد كتبت عنهم الصحفية كاثرين ستيوارت (Katherine Stewart) في نيويورك تايمز: “إنكار العلم والتفكير النقدي عند المتدينين المحافظين جدًا الآن يطارد الاستجابة الأمريكية لأزمة كورونا”.
أظهر حكامنا القليل من الرغبة بالاعتراف بالاحتمالات المشؤومة للجائحة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبرازيل والعديد من البلاد. لقد فشلوا في أهم واجب لهم، وإنكارهم للفشل سيجعلهم محط التركيز.
وبينما قد يكون من الحتمي أن تؤدي الجائحة إلى انهيار اقتصادي، فإنّها أيضًا تتحول لفرصة لاستيلاء السلطة الاستبدادية في الفلبين وهنجاريا وإسرائيل والولايات المتحدة، وهذا ينبهنا أنّ أكبر مشاكلهم ما زالت سياسية وكذلك هي حلولهم.
عندما تهدأ العاصفة، ويصفى الجو من أي جسيمات تعيق الرؤية، يمكننا أن نرى بوضوح وأكثر حدة. وعندما تختفي هذه العاصفة، قد نكون مثل الأشخاص الذين نجوا من مرض خطير أو حادث، وسنرى أين كنا وأين يجب أن نذهب في ضوء معطيات جديدة. قد نشعر بارتياح لمتابعة التغيير بطرق كانت مستحيلة عندما كان الوضع الراهن لم يأت بعد. قد يكون لدينا إحساس عميق متغير حول أنفسنا، ومجتمعنا، وأنظمتنا الإنتاجية في المستقبل.
بالنسبة للعديد ممن يسكنون في الدول المتقدمة، فإنّ ما تغير بسرعة هو المكان. أصبحنا نجلس في المنزل -لمن عنده منزل- بعيدًا عن التواصل مع الآخرين. وقد ابتعدنا عن المدارس، أماكن العمل، المؤتمرات، العطلات، الصالات الرياضية، الحفلات، الحانات، النوادي، الكنائس، المساجد، المعابد اليهودية وعن ضجيج الحياة اليومية الممتلئة بالمشاغل. وقد كتبت الفيلسوفة المتصوِّفة سيمون فايل (Simone Weil) ذات مرة لصديق بعيد عنها جدًا: “دعنا نحب هذه المسافة التي نشأت مع صداقتنا، مادام الذين لا يحبون بعضهم غير منفصلين”، فقد ابتعدنا عن الناس لنحمي بعضنا البعض. ووجد الناس طرقا لمساعدة الضعفاء، على الرغم من الحاجة إلى التباعد الجسدي.
صديقي ريناتو ريدينتور كونستانتينو (Renato Redentor Constantino) وهو أحد المدافعين عن المناخ، قد كتب لي من الفلبين “في هذا الوقت نشهد هنا يومياً تجليات للحب، تذكرنا بالأسباب العديدة التي عرفنا منها لماذا تمكن البشر من النجاة لهذه المدة، فنحن نواجه أفعال ملحمية تعبر عن الشجاعة والمواطنة كل يوم في أحيائنا وبقية المدن والدول، هذه الوقائع تخبرنا أن عمليات النهب من القلة سنتغلب عليها بالنهاية عن طريق حشود الناس الذين يرفضون المحاولات اليائسة والعنيفة التي تنم عن تغطرس ولامبالاة ممن يزعمون أنهم القادة ؛ بينما هم متلهفون لما يحفز ذلك”.
عندما لا نحاول الابتعاد عن مرض منتشر، أتساءل إن كنا سنعيد التفكير في كيف أننا كنا مرتبطين، وكيف أصبحنا، وكيف تغيرت السلع التي نعتمد عليها. ربما سنُقدِّر قيمة اللقاء وجها لوجه أكثر. ربما أن الأوربيين الذين غنوا مع بعض من شرفاتهم أو صفقوا للعاملين في المجال الطبي، والأمريكيين الذي خرجوا للغناء أو الرقص في مباني ضواحيهم، سيشعرون بانتماء مختلف. ربما سنحترم العاملين الذين يعدون الطعام لنا ونحترم أيضًا من يجلبه إلى طاولاتنا.
على الرغم من صعوبة البقاء في المنزل، قد نتردد في العودة بتسرع، وسيكون بعض الهدوء باقيًا فينا. ربما سنعيد التفكير في امتلاكنا للكثير من الأشياء الحيوية -الأدوية، والمعدات الطبية- من قارات أخرى. قد نعيد النظر في سلاسل الإمدادات في الوقت المناسب. كنت أؤمن بأن موجة الخصخصة التي يتميز بها العصر النيوليبرالي قد بدأت بخصخصة قلب الإنسان، وجعلته ينسحب من الإحساس بالمصير المشترك والروابط الاجتماعية. ومن المأمول أن هذه التجربة المشتركة للكارثة تعكس هذه العملية. فقد أدركنا من جديد كيف أنّ انتماءنا للجميع واعتمادنا عليهم قد يقوي حالة العمل المناخي المجدي، كما تعلمنا أن التغيرات القوية والسريعة ممكنة على أي حال.
قبل أكثر من 200 عام بقليل كتب وردزورث (Wordsworth): “إننا نهدر نفوذنا عندما نحصل على شيء ثم ننفقه”. قد تكون هذه اللحظة التي ندرك فيها وجود طعام، ملابس، ملاجئ، رعاية صحية، تعليم كافي للجميع، وإمكان الوصول لهذه الأشياء لا يعتمد على نوع وظيفتك أو كونك تكسب مالاً كافيًا. ربما أن هذه الجائحة ستكون أيضًا ذات أهمية لأولئك الذين لم يقتنعوا لحد الآن بالرعاية الصحية العالمية، والدخل الأساسي في أعقاب الكارثة. سيكون تغيير الوعي والأولويات حاضرًا بقوة.
قبل 12 عاما تقريبًا قابلت الشاعرة النيكاراغوية والثائرة الساندينية جيوكوندا بيلي (Gioconda Belli) للحديث عن كتابي عن الكوارث (A Paradise Built in Hell). وقد أخبرتني أن في أعقاب زلزال ماناوا وعلى الرغم من القمع الديكتاتوري في ذاك الحين، فإن الزلزال ساعد في إحداث الثورة وقد كان شيئا لا يُنسى. تقول “أنت تملك الحس لمعرفة المهم، والناس يدركون أن المهم هو الحرية، وأن تكون قادرًا على اتخاذ قرارات لحياتك والمؤسسة التي تمثلك. بعد يومين من فرض الطاغية لحظر التجول، وفرض القانون العسكري. فإنّ الشعور بالقمع علاوة على الكارثة كان حقًا لا يطاق. وعندما تعي أن حياتك يمكن أن تتقرر خلال ليلة واحدة عندما جاء الزلزال فتفكر وتقول (وإن يكن؟ فأنا أريد عيش حياة جيدة وأن أخاطر في ذلك، لأني يمكن أن أخسر حياتي بليلة واحدة) فتدرك أن الحياة خلقت لتعيشها بشكل جيد، وماعدا ذلك فهي لاتستحق، فالتغيرات الجذرية دائمًا تحدث خلال المصائب”.
وقد لاحظت كثيرا أن اقتراب الموت في الكوارث يجعل الناس يعيشون على نحو أكثر إلحاحًا، فيقل تعلقهم بالأشياء الصغيرة في الحياة ويتمسكون بالأشياء الكبيرة، حتى ولو تضمن ذلك المجتمع المدني أو المصلحة العامة.
لقد كتبت عن أغلبية كوارث القرن العشرين، ولكن هناك تشبيه مازال باقيًا في ذهني وهو: الموت الأسود، الذي قضى على ثلث سكان أوروبا، وأيضًا في إنجلترا عندما ثار الفلاحون ضد ضريبة الحرب وعندما ألغي الحد الأعلى للأجور، لكن مع ذلك قادهم الأمر إلى أخذ حقوق وحرية أكثر للفلاحين والعاملين. عندما سنّت تشريعات الطوارئ في الولايات المتحدة في شهر مارس، العديد من العاملين حصلوا على حقوق أكثر في الإجازة المرضية. العديد من الأمور كان من المؤكد استحالتها -كإيواء المشردين على سبيل المثال- تم السماح بها في بعض الأماكن.
عندما قامت أيرلندا بتأميم مستشفياتها، علق صحفي أيرلندي على ذلك بقوله: ” قد قيل لنا إن هذا الأمر لن ولا يمكن أن يحدث أبدًا”. وقد وفرت كندا الدخل الأساسي لمدة أربعة أشهر لمن فقدوا وظائفهم. وألمانيا فعلت أكثر من ذلك. والبرتغال قررت معاملة المهاجرين وطالبي اللجوء كمواطنين خلال فترة الوباء. في الولايات المتحدة، رأينا اضطرابًا شديدًا في وضع العمل وفي النتائج. فقد احتج العمال في شركة هول فودز (Whole Foods) وإنستا كارت (Instacart) وأمازون (Amazon) على إجبارهم على العمل في ظروف غير آمنة خلال فترة الوباء. (بعد ذلك عرضت شركة هول فودز على العمال الذين صارت نتائجهم إيجابية إجازة مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين، أما إنستا كارت فصرحت بأنها أجرت بعض التغييرات لحماية المتسوقين والعمال، بينما قالت أمازون بأنها “تتبع الإرشادات” بخصوص الوقاية). حصل العمال على حقوق وعلاوات جديدة، وتضمن ذلك نصف مليون عامل في متاجر كروجر (Kroger)، بينما طلب 15 مدعي عام من أمازون أن تمدد الإجازة المرضية المدفوعة. هذه التفاصيل وضحت لنا كيف من الممكن أن نغير الترتيبات المالية في مجتمعاتنا.
ولكن الغالب أن العواقب تكون عقب الكارثة، وليست مصاحبة لها أو بعدها مباشرة. فالانهيار الاقتصادي في عام 2008 أدى إلى ظهور حركة احتلال وال ستريت (Occupy Wall Street) في عام 2011، مما دفع إلى وضع المساواة الاقتصادية في الحسبان ومراقبة الأثر الإنساني للقروض الاستغلالية، وقروض الطلاب للكليات الربحية، وأنظمة التأمين الصحي وما هو أكثر من ذلك، وقد أدى هذا لبزوغ نجمي إليزابيث وارن (Elizabeth Warren) وبيرني ساندرز (Bernie Sanders)، الذين ساعدت أفكارهم في تحويل الحزب الديموقراطي إلى اليسار، نحو سياسات تجعل الولايات المتحدة أكثر عدلاً ومساواة. أثارت النقاشات التي أجرتها حركة احتلال وال ستريت وشقيقاتها عبر العالم انتقادات للسلطة الحاكمة، وتزايد المطالب بالعدالة الاقتصادية. التغييرات في المجال العام تنشأ بداية داخل الفرد، لكن التغييرات في العالم أيضًا تؤثر على إحساسنا بذواتنا، وأولوياتنا وشعورنا بالممكن.
نحن فقط في المراحل الأولى من الكارثة، نحن في سكون غريب. إنه نفس السكون الذي في هدنة عيد الميلاد عام 1914، عندما توقف الجنود الإنجليز والألمان عن إطلاق النار ليوم واحد، فقد خمدت البنادق، واختلط الجنود ببعضهم؛ فالحرب توقفت من نفسها. بطريقة ما فإن حصولنا على الشيء وإنفاقنا إياه يعتبر حربًا ضد الأرض. منذ ظهور كورونا فإن انبعاثات الكربون قد انخفضت. وتقول التقارير بأن الهواء الذي يعلو لوس أنجلوس وبكين ونيو ديلهي أصبح صافيًا بصورة لم تكن في الخيال. منعت الزيارة في جميع حدائق أنحاء الولايات المتحدة، وهذا قد يكون له تأثير مفيد على الحياة البرية. ففي آخر إغلاق حكومي عامي 2018-2019، استولت فقمة الفيل على شاطئ جديد في ساحل بوينت ريز الوطني (Point Reyes National Seashore) في شمال فرانسيسكو، والآن تمتلكه طوال موسم التزاوج والولادة.
هناك تشبيه آخر يتبادر إلى الذهن، فعندما يدخل اليسروع إلى الشرنقة، فإنه يذيب نفسه فعليًا إلى سائل. في هذه الحالة إن السائل الذي كان يسروعًا سيتحول إلى فراشة وهو ليس شيئا مهما، هو جزء من (الحساء الحي living soup). في داخل هذا الحساء الحي خلايا تخيلية ستحفز التحول لأجنحة مكتملة النمو. ربما أن أفضل من بيننا وأكثرنا بصيرة وشمولية هم الخلايا التخيلية، مادمنا في الحساء الآن. إن نتائج الكارثة لاتسبقها، بل هي متعارضة، فإحداها يحدث عندما تكون الأوضاع جامدة وصلبة ومغلقة فتصبح منفتحة ومرنة، فكلاهما ممتلئين بالاحتمالات الجيدة والسيئة. وكلنا في سكون يتضمن حالة تغير جذري.
ولكن هذا يعتبر وقتا عميقًا لمن يقضي أكثر وقته في المنزل وحيدا، ويتطلع إلى خارج هذا العالم غير المتوقع. غالبًا نقسم العواطف إلى: جيد وسيء، ومفرح ومحزن، لكنني أظن أنه يمكن تقسيمها مناصفة إلى سطحية وعميقة، فما نسعى وراءه بافتراضه السعادة يعتبر هروباً من العمق، من حياة المرء الداخلية والمعاناة الموجودة حولنا، وإذا كان المرء غير سعيدٍ فإن ذلك يعتبر فشلاً. ولكن الحزن، والرثاء، والأسى والعواطف المتولدة من التعاطف والتضامن لها معنى كما في الألم. فإذا كنت حزيناً ومرعوباً، فهذه علامة على أنك تهتم، أنك تمتلك روحاً. وإذا كنت مرتبكاً، إذا فالأمر سيكون مربكاً وسيستغرق ذلك عقوداً من الدراسة والتحليل والمناقشة والنظر لكي نفهم لماذا أخذتنا سنة 2020 كلنا -فجأة- إلى منطقة جديدة.
قبل سبع سنوات كتبت باتريس كولورز (Patrisse Cullors) بيان مهام لحركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter): “وفر الأمل والإلهام إلى العمل الجماعي لنبني قوة مشتركة نحقق بها تحولاً جماعيا؛ جذورها الحزن والغضب وأوراقها الحلم والأمل” لا يكمن جمال هذا البيان بسبب أنه تفاؤلي، ولا لأن الحركة تقوم بعمل تحوّلي، بل لأنه يعترف بأن الأمل يمكن أن يتعايش مع الصعوبة والمعاناة. الحزن الموجود في الأعماق والغضب الذي يحرق ما يمسه لا يتعارضان مع الأمل ؛ لأننا مخلوقات معقدة، فالأمل ليس تفاؤلاً بأن كل شيء سيكون بخير مهما يكن.
يقدم لنا الأمل رؤية واضحة -وسط عدم اليقين الموجود- بأنّه ستكون هناك صراعات تستحق أن تخوضها، ومن المحتمل أن تفوز ببعضها. ومما يضر هذا الأمل، هو الاعتقاد بأن كل الأشياء قبل وقوع الكارثة كانت على ما يرام، وأن ما نحتاجه هو أن يعود الوضع كما كان. فالحياة العادية قبل هذه الجائحة كانت بالفعل مأساة من اليأس والحرمان لكثير من البشر، فهناك كوارث المناخ والبيئة، واللامساواة الواضحة. إنه من المبكر جدا إدراكنا ما سيظهر نتيجة لهذا الوضع الطارئ، لكن ما ليس من المبكر هو تطلعنا للفرص التي ستساعدنا في أن نقرر النتيجة؛ فهو حسب ما أظن ما يستعد كثيرٌ منا لفعله.