- كودي ديلستراتي
- ترجمة: زينب عبد المطلب
- تحرير: عائشة السلمي
في عام 1920، نشر عالم النفس الأمريكي جون بي واتسون نتائج واحدة من أكثر الأبحاث العلمية المشكوك فيها أخلاقياً في القرن الماضي. جنباً إلى جنب مع روزالي راينر وهي طالبة دراسات عليا تبلغ من العمر 21 عامًا في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور حيث كان واتسون يُدرّس، قام واتسون بغرس خوف نَوعِيّ لدى طفل طبيعي أصلاً.
حتى ذلك الوقت ، كان التكييف السلوكي يمارس فقط ضمن عالم الحيوان ، إلا أنّ واتسون وراينر اختاروا رضيعاً ذو تسعة أشهر أطلقوا عليه اسم “ألبرت” ضمن دراستهم ودفعوا لوالدته دولارًا وقاموا بوضع مجموعة متنوعة من الحيوانات الصغيرة الحية أمامه ومن بينها فأر – فأبدى الرضيع رغبة في اللعب معها في البداية. بينما لعب ألبرت مع الفأر، طَرَق القائمون بالتجربة عصا فولاذية بمطرقة بالقرب من الرضيع مُصدرين ضجة كبيرة أخافت الصبي ودفعته إلى البكاء. بعد تكرار الأمر لعدة مرات، كان كل ما على القائمين بالتجربة فعله لجعل ألبرت ينفجر باكياً هو أن يُرُوهُ الفأر. حتى بدون إصدار الضجيج، نجحوا في تكييفه ليخاف من الفئران مما حمله في نهاية المطاف إلى الخوف من العديد من الكائنات ذات الفرو بما في ذلك الأرانب والكلاب.
قد يظن المرء أن تجربة غير أخلاقية كهذه ربما تثير نوعا من الغضب الشعبي – في نهاية المطاف، لم يُزِل القائمون بالتجربة الخوف الشرطي الذي غرسوه في ألبرت – أو حتى الاعتراض العلمي، نظرًا لعدم وجود سيطرة متواصلة؛ لكن يبدو أن البشر وليس الحيوانات فقط يمكن أن يكونوا مُكَيَّفين سلوكياً بطرق لا تعد ولا تحصى. في الواقع، رفعت جونز هوبكنز راتب واتسون بعد نشر المقال بنسبة 50 في المائة من أجل إبقائه في الجامعة. (كان يتمتع بالشعبية سابقاً حيث قام الطلاب بالتصويت له قبل عام ” كالأستاذ الأكثر وسامة”). ولكن بعد أن كشفت زوجته حاله ونشرت الرسائل الغرامية التي كتبها إلى راينر التي كان على علاقة غرامية معها وكان ينوي الزواج منها، قامت الجامعة بطرده.
استقرَّ واتسون سريعاً في مجال الإعلان، حيث وظّفه جيمس والتر تومسون ليواصل عمله في تكييف البشر وخاصة المستهلكين. علّقَ واتسون لاحقاً: ” بدأت أدرك أنه قد يكون من الممتع مراقبة نمو منحنى مبيعات منتج جديد مثل مراقبة منحنى التعلّم لدى الحيوانات والبشر “. ومع جلب الروح العلمية إلى عالم الإعلانات، تم تكليف واتسون بغرس الولاء للعلامة التجارية وخلق شخصية للمنتجات وغرس المخاوف لدى المستهلكين لحملهم على شراء منتجات معيّنة على غرار ما فعله هو وراينر مع ألبرت الرضيع. حيث قام على سبيل المثال بالمساعدة بإنشاء لوحة إعلانية لصالح علامة سكوت لورق المرحاض ويظهر فيها جرّاحون وهم ينظرون إلى مريض، في حين يقول النص أسفل الإعلان: “وبدأت المشكلة باستخدام ورق مرحاض خشن” كوسيلة للتخويف والبيع.
أصبحت الألاعيب السلوكية هذه أمراً معتاداً في يومنا الحالي، ولكنها تتخذ أشكالاً أكثر ذكاءاً وخفاءاً وذلك بفضل البيانات الضخمة والبيئة الرقمية التي توجد فيها المراقبة الخوارزمية في كل مكان. ولكن بدلاً من تكييف المخاوف النوعية، أصبح من الشائع اليوم جعل سعادة البشر هدفاً للتلاعب النفسي. مثّلت السعادة من خلال طرق كثيرة طفرة التسويق في العقد الماضي حيث قاربت منتجات الرعاية الذاتية ومكافحة التوتر الوصول إلى قائمة الأفضل مبيعاً في أمازون (فكّر بـ “البطانيات الثقيلة” وكتب التلوين للكبار “المضادة للتوتر”، والمغزل أو ما يُعرف بالـ Spinner)، حيث تحتل هذا المركز إلى جانب مُجلّدات “مدونو السعادة” المنتشرة. إن الأمر الذي جعل هذا الأمر ممكناً هو مفهوم محدّد ومُقلق وجديد جداً من ” السعادة ” يؤكّد على أنه يجب تجنب المشاعر السيئة بأي ثمن.
تحتيم تَجنُّب الحزن – حتى الظهور بمظهر يدلّ على الحزن – أدى إلى ثقافة تُكافئ السعادة المصطنعة، حيث يدير الناس بحذر حياتهم التي يطّلع عليها الآخرون عبر إنستغرام وأشباهه والمكونة من سلسلة من ” تجارب الذروة ” – ولا شيء غيرها. يتم رفض الحزن وخيبة الأمل، حتى تجارب الحياة المحايدة أو العادية تستبعد من داخل الإطار. يبدو الأمر كما لو أن ظهورك التعيس يعني ارتكابك نوعاً من الخطأ الأخلاقي البروتستانتي: كما لو كنت لم تعمل بجد بما فيه الكفاية أو تؤمن بنفسك بشكل وافي.
لم يتم تصوّر السعادة دائماً بهذا المعنى بالطبع. النظرة الإبيقورية للسعادة ̶ التي كان توماس جيفرسون يتأملها عندما دعا الأميركيين إلى تثمين ” الحياة والحرية والسعي إلى تحقيق السعادة ” في إعلان الاستقلال ̶ بسيطة ومختلفة للغاية. كما وعاها إبيقور، فإن السعادة ليست إلا غياب الألم البدني والاضطراب العقلي. لم يكن الأمر يتعلق بالسعي وراء تحقيق مكاسب مادية أو تسليط الضوء على تجارب جذابة، ولكن بدلاً من ذلك، كانت السعادة مرتبطة بالامتنان الدائم. طالما أننا لا نعاني من ضرر جسدي أو عقلي، يمكننا الشعور بالرضا في إطار هذا الفهم للسعادة.
يمكن للمرء أن يلحظ مفهوم السعادة هذا في أسس العالم الغربي، كما هو الحال في الصلاة اليهودية لآشر يتزار والتي يؤديها المرء كل صباح بعد الذهاب إلى المرحاض شاكراً كونه قادراً على تأدية هذه المهمة البدائية بنفسه. السعادة بالمعنى الأبيقوري بسيطة مثل القدرة على الذهاب لقضاء الحاجة.
يميل المفكرون المعاصرون إلى فهم السعادة على أنها غياب الألم بشكل أقل من فهمها على أنها وفرة الرفاهية. على سبيل المثال، حدد الخبير الاقتصادي الإنجليزي ريتشارد لايارد ما يمكن اعتباره ” اقتصاديات السعادة ̶ التي تشكل الآن الأساس لمسح سنوي يدعى ” تقرير السعادة العالمية ” والذي يقيس مدى تأثير دخل الفرد وثراء المجتمع على السعادة. ومع ذلك، لا يزال لايارد مثل إبيقور يعتبر الصحة العقلية أهم عوامل السعادة كما أوضح في كتابه السعادة : دروس من علم جديد (2005).
يتمحور الأمر حول العمل على استخدام كل لحظة على الوجه الأمثل من أجل تحقيق ذروة السعادة.
ليست كل تيارات السعادة على علاقة وثيقة مع الأفكار الإبيقورية. علم النفس الإيجابي على سبيل المثال أصبح رائجاً عند اختيار مارتن سيليجمان السعادة كموضوع أساسي له في عام 1998 بعد أن أصبح رئيساً للجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA). يرى سيليجمان أن السعادة جاءت من البحث عن المشاعر الإيجابية والشعور بها مثل الحس الجماعي والمعنى الوجودي. يعتقد سيليجمان أن البشر يميلون إلى ” تَعلُّم ” الحزن عند اختيارهم مواجهة المواقف غير السارة حتى عندما يستطيعون تفاديها. تبعاً لوجهة النظر هذه، السعادة شيء يجب أن نتعلّمه باستمرار ونعمل للوصول إليه.
وبذلك تتشكّل خطوة صغيرة فقط باتجاه مفهوم السعادة السائد اليوم على نطاق واسع بكونها السعي وراء تجربة الذروة وحيازتها. تستهلك مضادات الاكتئاب بوصفة طبية بمستويات قياسية، وتكتظ كتب المساعدة الذاتية على الرفوف، كما تتنافس العديد من العلاجات لإبعادنا عن الأفكار السلبية حتى نتمكن من الازدهار. يتمحور الأمر حول العمل، ولكنه بصفة خاصة العمل على استخدام كل لحظة على الوجه الأمثل من أجل تحقيق ذروة السعادة بغض النظر عن مدى كونها عابرة، وفي نفس الوقت يتم إقصاء الحزن بقوة.
من أين جاءت فكرة سعادة ” تجربة الذروة ” من الناحية التاريخية؟ عندما دخلت كلمة ” سعيد ” لأول مرة إلى معجم اللغة الإنجليزية في منتصف القرن الرابع عشر تقريباً كان معناها قريباً من معنى كلمة ” محظوظ ” نظراً إلى أنّ حال المرء وصحته وسعادته كانت مُقيّدة بالقرارات التعسّفية التي اتخذها الإله الكاثوليكي. (على الأرجح أن كلمة ” حظ ” جاءت أولاً ثم جاءت منها كلمات مثل ” سعيد ” وهي مرتبطة بـكلمة ” مصادفة “). لم تدل كلمة سعيد على الفرح حتى القرن السادس عشر، ولم تصبح كذلك حتى منتصف القرن السابع عشر عندما صوّر توماس هوبز السعادة في كتابه الليفياثان باعتبارها عملية تراكم لا تنتهي للأشياء المرغوبة، وبذلك أعاد تعريفها كمشاعر ذاتية متغيرة تستند إلى رغباتنا. وكتب هوبز في عام (1651): ” السعادة في هذه الحياة ليست في راحة البال ، لعدم وجود مثل هذا الهدف الأسمى أو الخير الأعظم كما ورد في كتب فلاسفة الأخلاق القدامى.”
حسب فَهم هوبز، يمكن تحقيق السعادة بشكل مُجدٍ من خلال السعي وراء تجارب ممتعة. حيث كان يعتقد بعدم وجود رضا دائم (“the repose of a mind satisfied”)، وأخذ يشير بشكل غير مباشر إلى إبيقور (في قوله ” في كتب فلاسفة الأخلاق القدامى “)؛ حيث اعتقد هوبز بأنه يجب السعي وراء السعادة باستمرار ، وفَسَّر طبيعتها الزَلِقة والعابرة على أنها ميزة وليست عيباً . إذا كان على المرء أن يبحث عن بداية المفهوم الحديث للسعادة المرتبط ” بتجربة الذروة “، فربما تكون فكرة هوبز الشاذة حينها هي المكان المناسب للبدء.
ولكنه مفهوم مثقل بالعيوب. يسأل دون درابر، وهو شخصية خيالية تلعب دور المدير التنفيذي للإعلانات في المسلسل الدرامي Mad Men، ” ما معنى السعادة ؟” بلهجة هوبزية جديدة، قبل أن يجيب: ” إنها اللحظة التي تسبق احتياجك إلى المزيد من السعادة. ” في أيامنا هذه، نسعى إلى تحقيق السعادة بدلاً من السماح لها بالقدوم إلينا . نحاول جمع لحظات السعادة مثلما نجمع الصدف على الشاطئ، حتى عندما تجرفه الأمواج بعيداً. إن هذا السعي السيزيفي (العبثي) يؤدي حتماً إلى مسار مخيب للآمال.
لا يوجد صورة تمثّل الفراغ الوجودي الحديث بدقة أكبر من شخص يسافر حول العالم بينما يواصل نشر صور المطاعم والمعالم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويقوم بإظهار السعادة على نحو تنافسي على حساب إقامة روابط أصيلة مع أقرانه. من خلال سعيه ليكون أسعد – أفضل – من الآخرين، يجازف هذا الشخص بعزل نفسه عنهم. إنها لعبة محصلتها صفر.
ربما يكمن أحد الحلول لمعضلة السعادة – نريد أن نكون سعداء ولكن لا نريد أن نعزل أونؤذي أنفسنا في طريقنا نحو السعادة – في إعادة مواءمة أنفسنا مع الرومانسيين الذين اعتنقوا كلا من أفراحهم وأحزانهم. كتب جون كيتس في كتابه “نشيد الحزن” (1819) ” نعم، في منتصف صرح السعادة يوجد صرح الكآبة المستقل متلثماً “. أثناء عيد الفصح، يتخلص اليهود من قطرات من النبيذ قبل أن يشربوا بكثرة حتى يتذكروا المآسي قبل احتضان الملذات ( وأيضاً عندما يتزوج اليهود الملتزمون يخطون على الزجاج ليتذكروا الحزن وهم يشرعون في حياة من السعادة ). قد يكون احتضان الكآبة هذا طريقة للخروج من سجن السعادة المفقود، حيث يؤدي السعي وراءه إلى خيبة الأمل والوحدة، ومن البديهي أن عدم السعي إليه يضمن عدم الوصول إليه مطلقًا. قد لا نشعر بالرضا الحقيقي أبداً ما لم نتقبل مشاعرنا السلبية. في الواقع، قد لا تكون المشاعر السلبية سلبية للغاية.
يمكن الإستفادة من شعور الحزن على سبيل المثال بكل أنواع الاستخدامات الإيجابية. أظهرت الدراسات الحديثة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي جوزيف بي فورجاس في جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني أن الناس يتذكرون تفاصيل متجر ما بدقة أكبر عندما زاروه بينما كان الطقس سيئاً وكانوا في حالة مزاجية سيئة مقارنةً بالوقت الذي كان فيه الطقس أفضل وكانوا أكثر سعادة، مما دفعه إلى التكهن بأن الحزن يمكن أن يكون مفيداً للذاكرة. كما أظهر فورغاس أن الناس يميلون إلى إصدار أحكام أكثر دقة عندما يكونون حزينين لأننا عند الحزن نكون أكثر وعياً وأقل سذاجة ونعتمد على ما شهدناه فعليّاً أكثر بدلاً من اعتمادنا على الأفكار المسبقة والقوالب النمطية. كما أن الحزن يجعلنا محاورين ومقنعين أفضل ، وفقاً لدراسة أجراها عام (2007)، وكذلك نحن أفضل عند الحزن أكثر من السعادة في التحدث – أكثر مهارة في تفسير الزلات والغموض – وفقاً لدراسته لعام (2013).
لا يحتاج المرء إلى استدعاء الحزن بشكل حثيث، ولكن لا ينبغي أيضاً أن يكون الحزن شيئاً نمر به ببساطة – بالإبتسامة والصبر – على الطريق نحو السعادة. يميل الأشخاص الذين يعانون من مزاج حزين وفقاً لما ذكره فورغاس إلى المثابرة والعمل الجاد في المهام العقلية المعقدة أكثر من الأشخاص الأكثر سعادة، ليس فقط في محاولة حل أسئلة أكثر ولكن في الحصول على إجابات صحيحة أكثر من نظرائهم الأكثر سعادة. يمثّل الحزن عاطفة شحذ، فهو يبقينا يقظين، ويجعلنا نكتشف أنفسنا على نحو عميق وبتأنّ أكثر. أن تكون حزيناً يعني أن تكون متناغمًا بشدة مع العالم.
من الجيد تناول الحلوى، لكن شعورنا بالسعادة العارمة بعد تناولها لا يجدي نفعاً بالنسبة لتطورنا في نهاية الأمر.
مجرد الاستعداد لمكابدة المشاعر السيئة يؤدي إلى زيادة الرضا عن الحياة. قبل بضع سنوات، تم تزويد 365 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 14 و88 عاماً ممن اعتُبروا مستقرون عاطفياً بالهواتف الذكية وكان يتعين عليهم الإجابة عن أسئلة يومية حول صحتهم العاطفية طوال فترة امتدت إلى ثلاثة أسابيع . وجدت الدراسة التي نُشرت في مجلة ’إيموشن‘ أنه عندما عبّر المشاركون عن حالتهم المزاجية السيئة ، فقط أولئك الذين اعتقدوا أن المشاعر السلبية ضارة أو نقيضة للسعادة شعروا أيضاً برضا ضعيف عن حياتهم. بينما عبّر المشاركون الذين اعتقدوا أن المشاعر السلبية يمكن أن تكون مفيدة لهم عن رضاهم عن الحياة بشكل ثابت بغض النظر عن مزاجهم ، مما يدل على أن تفهّمنا لعواطفنا السلبية قد يجعلنا أكثر سعادة من مجرد السعي وراء السعادة نفسها.
أسباب هذه الحاجة لاحتضان ما هو سلبي مع الإيجابي متجذّرة داخلنا بعمق. في كتابه ” التعبير عن مشاعر الإنسان والحيوان ” (1872)، بدا تشارلز داروين وكأنه يتنبأ بأن البحث عن السعادة قد يكون مضللاً، وكتب أنه يجب علينا أن نختار ما يجب أن نشعر به بعناية لأن مشاعرنا تُغيّر من نحن وماذا نفعل. الخوف أو الغضب يمكن أن يجعلونا منسحبين، مثلما تجعلنا الإثارة الجنسية أكثر تهوراً. ولكن من الناحية التطورية، فإن المشاعر في كلا طرفي الطيف – السعادة الشديدة، الحزن الشديد – هي مجرد نتائج تقريبية. فهي مهمة لشعورنا ولكن بمعنى تطوري أهم، فهي مهمة فقط بقدر ما تدفعنا نحو البقاء والتكاثر. حيث لا يكون لها معنى وحدها: قد يكون من الجيد تناول حلوى لذيذة، على سبيل المثال، ولكن دفعة السعادة التي نحصل عليها من تناولها لا تجدي نفعاً بالنسبة لخط تطورنا الأساسي. وهذا يعني أن نوع السعادة التي نعمل على الحصول عليها متوارثة من أسلافنا، وهي التي تحفزهم على الاستمرار في البحث عن أكثر أنواع الأطعمة إثارة للشهية وتناولها. لكن هذا النوع من السعادة ليس هدفًا نهائيًا؛ إنه مجرد وسيلة نحو الهدف النهائي.
حصر الرصيد الوجودي في المتعة و” الشعور بالرضا ” يشكّل سوء فهم لمكمن الرضا الحقيقي. بدلاً من ذلك، السعادة الأبيقورية تكمن في صفاء الذهن الذي يجعلنا نسيطر على ما نشعر به للتعامل مع موجات المشاعر السلبية التي تواجهنا دائماً كبشر – غالباً هذه هي القدرات التي ستؤدي إلى الرضا الحقيقي.
يبدو أن هوس السعي وراء السعادة ظاهرة اختصت بها الثقافة أنجلو أمريكية على نحو غريب، ربما بسبب وجود ضغط ثقافي قوي في كلا البلدين للتقليل من المشاعر السلبية. مقارنة على سبيل المثال بالفرنسيين الذين يكتفون عموماً بالعيش بعيداً عن السعادة – كون السعادة مشاعر ساذجة وليست علامة على عيش الحياة على الوجه الصحيح – يحط البريطانيون، وعلى الأخص الأميركيون، من قدر المشاعر السلبية لصالح إبداء أسعد وجه ممكن. يشتهر الأمريكيون بالابتسامة المزيفة وعبارة ” أنا بخير، شكرًا !” في حين يشتهر البريطانيون بتجنب المحادثة غير السّارة وبالحفاظ على ” رباطة الجأش ” في وجه الألم وخيبة الأمل. إن إنكار المشاعر السلبية وإخفائها لأنها غير مقبولة اجتماعياً وثقافياً هي القاعدة في هذين البلدين. في منهج التفكير الأنجلو أمريكي، تنعكس العواطف السلبية علينا سلباً – كما لو أننا ارتكبنا خطأً جوهريًا وعشنا دون العناية والإيجابية المطلوبة من أجل تحقيق السعادة.
ولكن كل هذا التظاهر بالسعادة يستهلكنا. الشخص الذي يعيش في ثقافة غربية يكون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب أو القلق السريري بحوالي أربعة إلى عشرة أضعاف شخص يعيش في الثقافة الشرقية وفقاً لكتاب عالم النفس بروك باستيان الجانب الآخر من السعادة: اعتناق نهج أكثر جرأة في الحياة (2018). في الصين واليابان، يكتب باستيان، يميل الناس إلى اعتبار المشاعر الإيجابية والسلبية ضرورية ومتساوية؛ لا ينبغي السعي وراء السعادة بشكل حثيث في الشرق، تماماً كما لا ينبغي تجنب الحزن بشكل حثيث. يُرجع باستيان هذا الموقف إلى الدين، وخاصة تلك الفلسفات البوذية التي تسعى إلى احتضان كامل الحالة الإنسانية وفهم الألم من حيث أسبابه الكامنة.
إن الرغبة في تغيير مشاعرنا السلبية إلى شيء مبهج هي طريقة تفكير تجعلنا مُعرّضون لذلك النوع من التلاعب الذي تخصص فيه واتسون. لكن هذه الرغبة لم تدخل ثقافتنا من فراغ. هناك حافز اقتصادي كبير للشركات وراء اعتقاد الناس أن السعادة شيء يجب علينا أن نسعى خلفه لنشتريه. يميل العمال السعداء إلى أن يكونوا أكثر إنتاجية بنسبة 12 في المائة، وجوجل توظّف لديها ” رئيس السعادة ” ولا تزال أخلاقيات
” اعتنِ بنفسك ” مُحرّكًا رئيسًا للمبيعات، كما تعتمد إعلانات كل العلامات التجارية لمنتجات الجمال تقريباً على ” الرعاية الذاتية ” في الوقت نفسه نقّحت الجمعية الأمريكية لعلم النفس طبعتها الخامسة من ” الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية ” (2013) بحيث يمكن اعتبار أي شخص مصاب بالحزن لفترة أطول من شهرين مصاباً بمرض عقلي يتطلب علاجاً طبياً – على سبيل المثال مضادات الاكتئاب مثل Wellbutrin.
إنها ليست بالحياة التي تستحق أن تُعاش إذا كانت تطفو بين تجارب الذروة فقط.
إذا كان Wellbutrin يشبه إلى حدٍ ما دواء ” سوما ” الذي يحفّز السعادة في رواية عالم جديد شجاع (1932) لألدوس هكسلي، فربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه – وكل تكييف السعادة هذا – يتماشى مع عقلية هكسلي قليلاً. مع صعود علم النفس الإيجابي في منتصف القرن العشرين، والذي ظهر بناءاً على أفكار هوبز في القرن السابع عشر، تنبأ هكسلي بكيفية تغيُّر السعادة الأبيقورية المثالية. حيث كتب في عام 1956 ” إن الحق في السعي وراء السعادة ما هو إلا الحق في خيبة الأمل ولكن تمت صياغته بطريقة أخرى “.
اليوم، تستمر أبحاث التسويق المبنية على أعمال واتسون في النمو، والرائد هنا هو الإعلانات المزوّدة بماسح ضوئي للوجه داخل المتجر – لتحديد مشاعر المستهلكين أمام منتجات معينة – حيث تبدو هذه الإعلانات وكأنها تتبعنا عبر كل منصة رقمية، وفي نهاية المطاف، غاية التلاعب في التسويق هي القدرة على ابتكار منتجات تخترق سعادتنا وتتلاعب بنا عصبياً لنشعر بالحاجة إلى استخدامها وشرائها. (يوجد هذا بالفعل إلى حد ما: فكرعلى سبيل المثال في كيفية تعامل فيسبوك مع مزاج المستخدمين من خلال خوارزميات تغذية الأخبار الخاصة به ).
لكن إن نحن واصلنا السماح للتلاعب بنا، لنتلهف إلى تجارب الذروة، فإننا نترك أنفسنا معرّضين ليس فقط للتلاعب التسويقي ولكن أيضاً للشعور بالوحدة وسوء التقدير، وللمفارقة، للحزن الدائم. قد لا تجعلنا السعادة الأبيقورية دائمًا ” سعيدين ” بمعنى السعادة المتداول اليوم على نحو مرادف لكوننا نشعر بالبهجة. ولكنها ليست بالحياة التي تستحق أن تُعاش إن كانت تطفو بين تجارب الذروة فقط. والحقيقة أن الأجيال الشابة – أولئك الذين يؤيدون فكرة ” سعادة الذروة ” على الأرجح – ليسوا سعيدين حقاً بأي حال من الأحوال، حيث يقول 22 في المائة من جيل الألفية أنهم لا يملكون أصدقاء. بالتأكيد، ليست هذه ” السعادة ” التي نريد السعي وراءها.
ماذا لو كانت السعادة بدلاً من ذلك شيئًا ندرك مدّه وجزره، وأن السلبية هي أمر أساسي للحياة، وللمفارقة، لسعادتنا؟ ماذا لو وطّنّا أنفسنا على ألا نسعى إلا لأن نكون راضين عن كل المشاعر؟
اقرأ ايضاً: أيّهما أفضل: حياةٌ سَعيدةٌ، أم حياةٌ ذَاتَ مَعْنَى؟
المصدر: aeon