- ماهر أمير
- تحرير: مصطفى بن علي هيج
الإعلام الترفيهي سلاح فكري ذو أثر شديد في نفوس المتلقين، وفاعلية هذا الأثر تنجم من كونه يأتي من غير مظنته، فليس هذا النوع من الإعلام مقصودًا لمتطلب الأفكار الموافقة أو المخالفة، ولم يكن حتى عهد قريب سوى آلة قتل للوقت وإلهاء عن الواقع وملءٍ للفراغ، ومن ثم تعوَّد المتلقي أن يفتح حصونه أمامه مطمئنًا لكونه يروّح عن نفسه بما لا يستحق منه كثير تأملٍ ونظر وبما لا يتحدَ أفكاره ومسلماته؛ فيفتح طواعيةً نوافذَ (لاوعيه) لسيل دفَّاق من المؤثرات السمعية والبصرية أنتجها مرتبطون بسياسات ومؤسسات وأيديولوجيات مختلفة يسعون بقصد لا يسترونه إلى بث مرادهم.
داعية الإلحاد:
عقَدَ مؤلف الكتاب التثقيفي المعروف Atheism For Dummies فصلًا مستقلًا لبيان أنَّ الإعلام الترفيهي وسيلة من أقوى وسائل الدعوة للإلحاد، لا سيما السخرية Satire والإعلام الساخر، ولنبدأ بذلك، إذ المضامين الفكرية عمومًا والإلحادية خصوصًا فاقعةٌ في مثل American dad و South-park و Rick and Morty وFamily Guy وكلها يقوم عليها ملاحدة وكلها تحوز أعلى نسب مشاهدة بين الشباب، ويضمنون إلحادهم بصور تقوى وتخفت، بدءًا من تجسيد الرب وتصويره في سيناريوهات تنسب العبثية والبشرية لأفعاله مرورًا بإظهار المتدينين -من أي الملل الثلاثة- سذجًا، مخدوعين، مزعجين، متخلفين عن الحضارة والمجتمع، وانتهاءً بعرض ما يقود إلى الإلحاد من أفكار فلسفية ونظريات علمية ومذاهب أخلاقية في سياق قصصي يؤكد صحتها أو يؤكد التصالح معها.
المتصدرون مواد خام:
والتنُّبه لهذا الجانب بالغ الأهمية، لاسيما من المشتغلين بالملف الفكري عمومًا والإلحادي خصوصًا، وبعدَهم عموم المتصدرين، ومع هذا نجد بعض الإسلاميين -بدون وعيٍ ومراعاةٍ لواقع التوثيق وسرعة الانتشار- يزودونهم بمواد خام للسخرية! لا سيما من يلقون الكلام على عواهنه في الدروس أو المواعظ المسجلة ظانين أنهم في عصرٍ ماضٍ لا يجاوز فيه كلامهم الجالسين أمامهم، فإذا بكلامهم يُتلقف ويُذاع، ليُستغل ويصيرهم وما يمثلونه مضغة في أفواه الساخرين من عامة الناس أو وسائل الإعلام، وتحضرني هنا حادثة فتوى قتل شخصية كرتونية شهيرة لداعية معروف والتي ظُلِمَ بنزعها من سياقها عمدًا في وقت مبكر من ظاهرة الانفجار المعلوماتي هذه.
فصار لزامًا على المؤثرين أن يراعوا عدم إتاحة الفرصة للمخالفين كي يسخروا منهم أو يَفهموا كلامهم على غير وجهه، فلم يعد الأمر ترفًا، ولم يعد مسموحًا أن تقول ما تشاء بالطريقة التي تشاء، ولو كان ما تقوله حقًا، ولو كان ما تقوله وحيًا! -حدثوا الناس بما يعقلون-.
الإسقاط السهل:
وإضافةً للسخرية؛ تجد أثر الحبكات الدرامية التي تسرِّب قضايا فلسفية تدور حول فكرة “التمرد على الصانع” وترسيخ “الحقوق الإنسانية الطبيعية” كالموجود في Mother و West world وBlade Runner حيث يُركّزُ فيها على أفكارٍ عامة سهلة الإسقاط، فتقدح في ذهن المتلقي فورًا ما يتعلق بربه وخالقه، وتٌذكر جمل خبيثة وألفاظ ذات دلالة معروفة أثناء الطرح لتشمل الصانع -أيَّ صانع فتشمل الخالق- إبان تصوير ثيمات دينية واضحة، بل الأخير Blade Runner يكاد يكون إعادة صياغة لقصة موسى وبني إسرائيل (الروبوتات المُستعبدة) وفرعون (الصانع) الذي يسمي أتباعه (ملائكة)، وستجد هذه المضامين دائما متى رأيت في عملٍ فنيٍ (صانعًا) و(مصنوعًا) يؤثران في الحبكة، فكل ما يجري بينهما من مدافعة وصراع متعلق بالحقوق والحريات واختلاف في مفهوم الكمال والحكمة والأخلاق يسهل إسقاطه على علاقة البشر بربهم.
ومما تجده أيضًا -مما يروج للرؤية الإلحادية- تلك السيناريوهات المتعلقة بالحياة ونشأتها -مهما كانت خيالية- كقصة الخلق والحياة التي بنى عليها ريدلي سكوت سلسلته Aliens والتي ذكرها دوكنز في فلم Expelled وهي أسطورة كوننا “بذرةً فضائية”، فكأن مشكلتهم مع الخالق أنه إله عالٍ، ولو كان فضائيًا ناقصًا معهم في الدنيا لما جحدوه!
ولك أن تعجب بأن تسريب سيناريوهات الخلق هذه لم يسلم منه حتى فيلم أطفال كـ Moana!
ولن أحدثك عن مسلسلات الـ Anime ومضامينها فذا عالمٌ آخر لا أحب اختزاله هنا.
الإلحاد ورفاقه!
ولا بد من التنبه بأن الأمر لا يتعلق بالإلحاد والشكوكية فقط، وأنه ليس بهذه الفجاجة المصادمة لأصل العقل والفطرة كما سبق، بل يشمل كل ما يتعلق بالحريات، والهويات الجنسية، والعرقية، والدينية، أو فلسفة الخير والشر، والظلم والعدالة، وبطرق أكثر انسيابية وأخفى على الجمهور الذي لم يتفكر -قط- في هذه الأمور.
وبعد الأفلام والمسلسلات، لا بد من التنبه للألعاب الإلكترونية ومضامينها الفكرية التي لو جئت أعدها لن أحصيها، فهذه مساحة أخرى مؤثرة، وتغيب عنها الرقابة -غالبًا- لأن محتواها يظهر تدريجيًا أثناء اللعب مع تكشف الحبكة وجريان الأحداث وربما عارضًا؛ فليست معروضة عرضًا واضحًا للمشتري أو اللاعب منذ البداية، لذا يصعب على أولياء الأمور أو النقَّاد فحصها بتمامها -قبلًا- لاستخراج تلك المضامين، بالإضافة إلى قلة عدد العارفين بكيفية استخراج الأحكام الرقابية من الشبكة أو فهم نظام التقييم ورموزه، فهي أشبه ما تكون بمخيم أنشطة وألعاب ترفيهي يلقي الرجل ابنه فيه ولا يعلم عنه شيئًا، لكنه هنا مخيم افتراضي آثاره غير ملموسة وتركيزه فردي على ذهن اللاعب الذي يعايش الحبكة ثانية بثانية ويتحكم في أحداثها. فمثلًا، من القضايا الأيديولوجية التي يتم طرقها في الألعاب قضية: نقد الديانات المنظمة Organized Religions، أو ما يسمى خصوصًا بالـ Cultism أي الانتساب لطائفة دينية تتميز بالتشدد والانقياد الوجداني لرمز ذي سلطة ومعارف غيبية، وتجد هذا بلا مواربة في سلسلة Halo و Far Cry 5 و BioShock Infinite،
كلها تدور في تصويرها لهذه الأديان على نفس الأفكار:
- الانقياد الأعمى للأتباع، حتى وإن عُرِضت لهم أقوى أدلة نقض معتقدهم، مع قدرتهم العجيبة على تأويل أي شيء يعارض طائفتهم لصالحها، في ظل سياسة غسل دماغ واضحة وكأنهم لا ينتسبون لمنظوماتهم إلا بذلك.
- الفساد الدائم للقيادات الدينية واستغلالها لأتباعها، وتنكبها لما تعتقده عند المحك، وربما استثنوا من هذا قيادات مخلصة مخدوعة يُبرر سلوكها الديني بأنه نتيجة خلل نفسي كما في Far Cry 5.
- البطل عقلاني غالبًا، آسر الشخصية، مترفع عن هذا الاندراج والانئسار لمنظومة دينية، ساخرٌ بمقدساتها، محتقرٌ لأتباعها أو مشفقٌ عليهم، يكتشف بسهولة الكذب المقنع وراء قياداتها.
- إظهار العنف غير المبرر والعنصرية العرقية وانعدام المعيارية النقدية كلوازم ذاتية لهذه المنظومات الدينية والمنتسبين إليها.
نعم ليس طرحهم فجًا دائمًا أو بهذه السذاجة، فيظهرون شخصيات دينية عاقلة أو ناقدة أو حتى متمردة على انحراف طوائفهم، ولكن ما سبق هو الخامة الرئيسة لتلك المقاربات.
فخاخ خفية:
إن كان المشاهد الفارغ يتأثر بالأخبار المجردة وبالمسموعات والمرئيات العارضة المتعلقة بكل هذا، ما ظنك به إذا شارك بنفسه في لعبة تجرعه كل ما سبق ساعات وساعات وانخرط نفسيًا وعمليًا في محاربته والقضاء عليه والانتشاء الدوباميني المزيف بإنجازاته الافتراضية؟
ومن الجديد هنا أنه قد بدأ في الألعاب تضمين ما سبق تضمينه في الأفلام والمسلسلات، وهو ما يتعلق بالدعوة الفجة إلى التصالح مع الشذوذ!
ومن أهم ما يذكر هنا لعبة Gone Home التي لا يفعل فيها اللاعب سوى اكتشاف سبب هروب بطلة اللعبة من منزلها فترة المراهقة، وذلك باستكشاف منزلها والبحث في ثناياه عما يكشف سبب الهرب! فتقربك اللعبة شيئًا فشيئًا من معرفة السبب وبالتالي التعاطف مع الشخصية الشاذة التي فرت مع عشيقتها!
وقد تسأل: لماذا عينت هذه اللعبة؟ فأقول: لأنها تدور في لبِّها حول هذه الفكرة، فكرة بناء التعاطف مع الشخصية تدريجيًا ثم معرفة توجهها الجنسي الشاذ في سياق درامي مؤثر، فهنا تدرج نفسي مدروس لبناء المصالحة والتعاطف، وهذا أثره أضخم وأعتى من أثر ظهور الشذوذ في الألعاب كشيء عارض وعادي وجزء من المجتمع الغربي، بدايةً من جعله متاحًا كخيار عاطفي في The Sims إلى إبراز شخصية رئيسة شاذة كما في Overwatch و The Last of Us و Life is Strange، وقد تركت المضامين الإلحادية أو العدمية الموجودة في مثل Assassin’s Creed و Nier Automata وغيرها، أو تلك المتعلقة بحرية الإرادة والوعي كـ Soma و Detroit: Become Human وغير ذلك، إذ حسب القلادة ما أحاط بالعنق.
ليست ألعابًا فحسب:
فأول ما ينبغي أن يتغير اليوم هو تسمية ما سبق “ألعابًا” والاستهانة بها أو بأثرها، إذ اللعب ينطوي على نوع عبثية فارغة لتزجية الوقت والاستمتاع، وهذه ليست كذلك، بل هي محاكاة لسيناريوهات غير واقعية ولكنها تُضَمِّنُ كل ما يحرك الواقع المُعاش، ليشارك الممارس في صنع أحداثها كشخصية فاعلة ومنفعلة، لم تعد رجلًا سباكًا يقفز على السلاحف ويتضخم بتعاطي الفطر لينقذ الأميرة! لم تعد دائرةً صفراء تلتهم الكرات وتحايل الأشباح!
كيف إذا عرفت بأن جيلًا من الألعاب صار لا يكتفِ بأخذ يد اللاعب في خط حبكة مرسوم، بل صار يلزمه باتخاذ قرارات أخلاقية تصبغ الأحداث بعد ذلك وتغير الخواتيم، بدءًا بتخيير اللاعب: “أتجيب سائلك أم تصمت؟” وانتهاءً بسؤال: “أتقتله أم تدعه؟”
اعتراف مُّر:
علينا أن نعترف بأننا ما نزال في القرون الغابرة بالنظر إلى هذه الأمور، متفرجون مع كوننا في وسط الحلبة! لا أتكلم عن مواجهة هذه الآلة بمثلها، ولكن عن رصد نتاجها على الأقل وتحجيم أثرها بشيء مضاد، أي شيء! وهذا نفسه شديدُ الصعوبة دون تفرغ، ويتطلب شخصيات ذات هم دعوي، ولا يكون هذا غالبًا إلا من متدين ينأى عن هذا المجال أو يُظَنُ به ذلك، ولا يبرره له تبريرًا يزيل تلك الشوكة إلا أن يكون ضمن مؤسسة معنية بالرصد أو أن يكون مقدمةً لمشروعٍ يتعلق به.
والظن بأن لا حاجة إلى هذا غيبوبة كبرى! فجماهير هذه المواد من الشباب، ولا يصل إليهم الدعاة التقليديون ولا يعرفونهم، فكأنهما عالمان منفصلان، بينهما برزخ لغة وعمر وثقافة، وإن وصلوا إليهم تكلموا بموجة لا يلتقطونها، وإن التقطوها فهي وعظيات عامة لا ترقى لأن ترتفع بوعيهم وحسهم النقدي اتجاه هذه المضامين، فتخيل شابًا يبتلع كل هذا بشكل يومي ويعده “أسلوب حياة” ومصدر ترفيه وتثقيف أوحد، هذا الغارق إن لم يدع أصول دينه -قلبًا- فإنه سيعيش وسط بلبلة تحيِّدُه وتجعله يعتزل الصراع الرسالي، وهذا أخف آثار ما سبق أمام كل تلك الاحتمالات والسيناريوهات والمضامين، فسيحتفظ بإيمانه في صندوق داخل قلبه ليعيش (طبيعيًا) مع البشر الذين يشاركونه (أسلوب الحياة) هذا و يقبلون كل ما فيه، الذين يحيطون به واقعيًا أو رقميًا ولا يجد سواهم مصدرًا للترفيه والمعنى، متطامنًا وسط هذه الأمواج حتى يلقى ربه، وذا في أحسن الأحوال… إن كان تقيًا!
اقرأ ايضاً: الإزاحة الثقافية: تداولٌ فكري؟ أم نفيٌ وجودي؟