- كريستوف شورينجا
- ترجمة: زينب عبد المطلب
- تحرير: تقي عبد العظيم
أعلن أُفُول الفلسفة التحليلية مرارًا، بدأ الكلام عن “فلسفة ما بعد التحليلية” ثم تلاشى المرة تلو المرة لأكثر من ثلاثة عقود، إلا أن الفلسفة التحليلية حافظت على وجودها باعتبارها القوة المهيمنة في الفلسفة الأكاديمية.
ربما مَرّ الفلاسفة التحليليون بأزمة هوية، أدركوا أنهم يتشاركون الكثير مع المناهج الأخرى فأصبحوا أقل إلحاحا على فرادة هويتهم. من ناحية أخرى، لا يزال هناك أسلوب مميز في الفلسفة تصح تسميته “تحليلي” (يتميز بوضوح الجدل في عرضه لذاته والانفتاح على الجدل البليغ غير الهرمي).
يوجد تصورات مختلفة لـ “الفلسفة التحليلية” وخلاف كبير حول ماهيتها، إذًا، ربما تكون الفلسفة التحليلية باقية باعتبار إحدى هذه المعاني دون غيرها، اعتبرت الفلسفة التحليلية نفسها سابقًا برنامجًا موضوعيًا لكن جدوى هذا البرنامج كانت محل تساؤل، وبالتالي فإن ما استقر لنا هو نوع أكثر تواضعًا من الفلسفة التحليلية؛ تواضع يتمثل في معارضة أقل حدة للمقاربات البديلة للفلسفة بين الفلاسفة التحليليين اليوم.
قد تبدو الفلسفة التحليلية اليوم أكثر اختلافًا وحساسية تجاه الآخر، فقد ساعد كل من النمو الأخير للوعي الذاتي التاريخي ضمن الفلسفة التحليلية ونشأة تاريخ الفلسفة التحليلية كنظام فرعي في جعل الفلسفة التحليلية أكثر تساؤلٍ ذاتيٍ، ويعكس هذا التطور تخطيًا ملحوظًا للتصور الذاتي السابق للفلسفة التحليلية اللاتاريخي بصرامة والذي عكف على دفن ماضيها وإخفاءه عن الأنظار، إن الفلسفة التحليلية غير متداعية أو في طريقها إلى الأفول، بل هي جزء مهيمن لا يمكن إنكاره من الواقع الاجتماعي للفلسفة الأكاديمية، رغم كونها في سكرات الموت إلى ما لا نهاية، هي حية كما كانت دائمًا.
يُعتقد أن نشأة الفلسفة التحليلية تمثلت في ثورة قام بها برتراند راسل Bertrand Russell”” و جي. إي. مور “G. E. Moore” على المثالية البريطانية التي درساها في كامبريدج، وحدثت هذه الثورة يقينًا، إلا أن الانفصال عن المثالية لم يكن نظيفًا تمامًا كما تعتقد الأسطورة التقليدية، الحقيقة أن ما نعرفه باسم “الفلسفة التحليلية” لم يستهلها راسل ومور أو من قبلهم جوتلوب فريجه Gottlob Frege”” أو أي شخص آخر، إنما هو بناء ظهر بعد عام 1945 حيث صُهرت مجموعة متنوعة من المناهج السابقة المتباينة معًا في عمل خلقي متعمد.
إذا افترضنا وجود لحظة ولادة فاصلة، فهي نشر كتاب قراءات في التحليل الفلسفي “Readings in Philosophical Analysis” 1949، حيث شرع محرروه هربرت فيجلHerbert Feigl” وويلفريد سيلارز “Wilfrid Sellars” بشكل واعي بتكييف تدريس الفلسفة في الولايات المتحدة في قالب “تحليلي”، ساعد نشر هذا الكتاب وغيره مثل عناصر الفلسفة التحليلية Elements of Analytic Philosophy لآرثر باب Arthur Pap (نُشر أيضًا عام 1949) في بلورة فكرة “الفلسفة التحليلية” التي جمع فيها بين عدد من المناهج المختلفة للفلسفة: “الطريقة المنطقية التحليلية” لراسل، و “التحليل” المنطقي/ الواقعي لمور، والوضعية المنطقية لحلقة فيينا، ومنطق مدرسة وارسو، والنهج الأمريكية المنبثقة عن التقاليد البراغماتية والواقعية.
بحلول عام 1958، دعت مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين الفضوليين فلاسفة بارزين من الناطقين بالإنجليزية إلى مؤتمر في ريومونت Royaumont تحت عنوان الفلسفة التحليلية La philosophie analytique لمعرفة سبب هذه الجلبة، في نفس الفترة كان ناقوس موت الفلسفة التحليلية يدق بالفعل في مختلف الأوساط. في عام 1956، نشر فيلسوف أكسفورد جيه. أو. أورمسون J. O. Urmson كتاب عن تاريخ الفلسفة التحليلية بعنوان التحليل الفلسفي Philosophical Analysis والذي انتهى بنعي ما يسميه “التحليل القديم”.
استمرت إشعارات النعي بالورود، حيث كتب ريتشارد رورتي Richard Rorty في كتابه الفلسفة ومرآة الطبيعة Philosophy and the Mirror of Nature (1979) الذي يمثل ذروة نقد ذاتي مستدام للفلسفة التحليلية الذي بدأ مع نشر ويلارد كواين W. V. Quine كتابه عقيدتي التجريبية Two Dogmas of Empiricism عام 1951 حيث قال: “أعتقد أنه لم يعد هناك ما يمكن تعريفها على أنها “فلسفة تحليلية”، إلا من منظور […] أسلوبي أو اجتماعي ما”.د، في أعقاب تصريح رورتي كان هناك الكثير من الكلام عن “فلسفة ما بعد التحليل” (انظر على وجه الخصوص جون راجشمان وكورنيل ويست John Rajchman and Cornel West (محرران)، فلسفة ما بعد التحليل Postanalytic Philosophy 1985)، منذ ذلك الحين مازال مصطلح “فلسفة ما بعد التحليل” يتردد على أسماعنا على الرغم من عدم وجود شيء من هذا القبيل قد حل محل الفلسفة التحليلية بشكل حاسم.
يبدو الادعاء بأن الفلسفة التحليلية ظهرت بعد عام 1945 مستغربًا للكثيرين، ألم يكن هناك كلام عريض عن “الفلسفة التحليلية analytic ” (أو “الفلسفة التحليلية analytical “) قبل ذلك؟ الجواب هو لا، إذا استندنا إلى ما قيل في المواد المنشورة، هذا في حد ذاته لا يحدد ما إذا كانت الفلسفة التحليلية موجودة، ربما لم يكن من الضروري استخدام هذه العبارة، ولكن من اللافت للنظر أن الفلاسفة شعروا بالحاجة إلى تطبيق التسمية ذاتيًا بعد عام 1945 فقط، يوضح نغرام غوغل (الذي يظهر ورود عبارات “الفلسفة التحليلية analytic ” و”الفلسفة التحليلية analytical ” في الكتب المنشورة خلال الفترة من 1900 إلى 2010) هذه النقطة جيدًا:
استخدم راسل ومور مصطلح ”التحليل” بكثرة (حتى لو بدلالات مختلفة)، وشكّل تأسيس مجلة التحليل journal Analysis عام 1933 حدثًا مهمًا (خصوصًا عندما نوقش سؤال كيفية القيام بالتحليل الفلسفي على صفحاتها بكثرة)، لكن عبارة “الفلسفة التحليلية” لم تكن شائعة إلا بعد 1945 في أوائل ظهور عبارة “الفلسفة التحليلية” مطبوعة، استخدمها المؤلفون للتعبير عن موقف نقدي تجاه المناهج التي يرون أنها تندرج تحتها (أر. جي. كولينجوود R. G. Collingwood في مقال عن المنهج الفلسفيAn Essay on Philosophical و دبليو. بي. مونتاج W. P. Montague في “الفلسفة كرؤية” Philosophy as Vision، وكلاهما نُشر عام 1933) – على الرغم من أن جون ويزدوم John Wisdom قد كتب بموافقة “فلاسفة تحليليين” (في كتاب عن جيريمي بينثام Jeremy Bentham) عام 1931.
لا يوجد شيء قبل ذلك، بخلاف الاستخدام الفردي لـعبارة ”الفلسفة التحليلية” في تقرير لم يذكر اسم كاتبه لاجتماع الجمعية الأرسطية عام 1915، تظهر العبارة في وصف نقطة أثارها راسل في جلسة النقاش، (توثق الورقة التي أعدها أندرياس فرياميس Andreas Vrahimis مؤخرًا والتي عرفت ذلك من خلالها، حلقة رائعة في شيطنة الفيلسوف الفرنسي هنري بيرجسون الذي حوكم بلا كلل من قبل راسل، من خلال قصة تفاعل راسل مع الفيلسوف غير المعروف والمحلل النفسي المدافع عن بيرجسون، كارين كوستيلو ستيفن Karin Costelloe-Stephen).
تصور وجود فعلٍ مُوحدٍ مارسه الفلاسفة قبل عام 1945 يمكن تسميته “الفلسفة التحليلية” هو إذن تفسير رجعي، ودُمجت في هذا التفسير عدة أساليب مختلفة وفقًا لتصور فيجل و سيلارز، جمع إرنست ناجل Ernest Nagel سابقًا الخيوط المنفصلة بدقة في ورقة من جزأين نُشرت في مجلة الفلسفة The Journal of Philosophy عام 1936 بعنوان “انطباعات وتقييمات الفلسفة التحليلية في أوروبا”.
يبدو أن هذا هو أول منشور تظهر “الفلسفة التحليلية” في عنوانه، فقد تدرب ناجل في الولايات المتحدة وتعتبر المقالات مذكرات سفر لمدة عام حاول فيه مقابلة ممثلين لمختلف الطرائق التي عرّفها بأنها “فلسفة تحليلية” في أوروبا بما فيها بريطانيا، فئات ناجل الأربع الكبرى محدّدةً ما يشبه جدًا ما حَدّده فيجل و سيلارز باستثناء فئتهم الأمريكية وهي: التحليل الموري كما مورس في كامبريدج، الوضعية المنطقية، عمل فتغنشتاين، والمنطق البولندي.
على الرغم من أن ناجل يرى أن هذه المقاربات تتشارك روحًا تعرف بـ “الفلسفة التحليلية” إلا أنه يلفت الانتباه أيضًا إلى الصراعات والخلافات بينهم، أما بالنسبة للوضعيين المنطقيين كان الهدف هو الانحناء أمام العلوم الطبيعية والاقتصار على تحليل البيانات التجريبية، واعتقد آخرون أن عمل التحليل أكثر جوهرية، يوجد فهم فلسفي مستقل يمكن اكتسابه من خلال التحليل، ولا يقتصر دوره على إزالة الفوضى التي تخلفها العلوم التجريبية، يلفت ناجل انتباهنا أيضًا إلى أن المقاربات التي يجمعها معًا لم تكن دائمًا ودية تجاه بعضها البعض. الوضعية المنطقية مثلاً لم تحظ بقبول جيد بين غالبية الفلاسفة البريطانيين، كما كتب مايكل دوميت Michael Dummett لاحقًا عندما كان طالبًا في أكسفورد “العدو هو كارناب Carnap” وهو شخصية رئيسية في دائرة فيينا وليس هايدجر.
لا تساعد إعادة بناء هذه القصة فقط في تبديد فكرة وجود نوع موحد من الفلسفة يسمى الفلسفة التحليلية وإظهار أنها مزيج أُحدث بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تحل أيضًا محل السردية المعيارية حول الفلسفة التحليلية حيث الفعل التأسيسي لها هو ما يسمى بـ “المنعطف اللغوي” الذي أصبحت مشكلة المعنى مركزية للفلسفة من خلاله، سُردت هذه القصة في أكثر سردياتها طموحًا من قبل مايكل دوميت وإرنست توجندهات Ernst Tugendhat اللذان أخذا فكرة البرنامج الموضوعي “للفلسفة التحليلية” على محمل الجد، وجد دوميت أن “أول مثال واضح” للانعطاف اللغوي هو كتاب فريج أسس الحساب Foundations of Arithmetic 1884.
منذ الخمسينيات فصاعدًا كان فريج ركنًا أساسيًا، لكن هذا كان تطورًا جديدًا؛ الآن فقط أصبحت دراسة فريج هي السائدة مع نشر كتاب أسس الحساب بالترجمة الإنجليزية لأول مرة عام 1950، في تقرير اليونسكو بعنوان تدريس الفلسفة 1953، ضُمِّن كتاب أسس الحساب في قائمة القراءات النموذجية لطالب البكالوريوس في الفلسفة البريطانية مع تخصيص “المعاصرة في تأثيرها في المملكة المتحدة”.
كما جادل جريج فروست-أرنولد Greg Frost-Arnold بشكل مقنع، لم تكن مسألة المعنى محورية في الفلسفة التحليلية قبل الحرب العالمية الثانية، ويشير فروست-أرنولد إلى أن الفيلسوفة سوزان ك.لانجر Susanne K. Langer ذات العلاقات بمدارس الفكر “القارية” من خلال اهتمامها بإرنست كاسيرير Ernst Cassirer تمثل استثناءًا بارزًا، لكن سرعان ما سيحتل المعنى مكانة مركزية في الفلسفة التحليلية، لا سيما فيما يسمى بـ “طفرة ديفيدسونيك” المستوحاة من محاولات دونالد ديفيدسون تقديم “نظرية المعنى” للّغات الطبيعية على غرار نظرية الحقيقة للغات الرسمية لعالم المنطق ألفريد تارسكي Alfred Tarski. تُظهر هذه الفترة بشكل مفيد التوترات في ما آلت إليه الفلسفة التحليلية، على سبيل المثال خفف فيتجنشتاين من غلواء فكرة شرح المعنى، إلا أن هذا ما بدا أن النظريات المستوحاة من ديفيدسون منشغلة به -توتر مثمر يحرك بعضًا من أكثر الأعمال الإبداعية في الفلسفة التحليلية في هذه الفترة-.
ثم اتخذت الأمور منحى مختلف، دخلت الفلسفة التحليلية مرحلة تميزت بعدم مبالاة منهجية جديدة، كانت الميتافيزيقا مقبولة مرة أخرى كما الفلسفة السياسية (مجال مدفوع بالكامل بكتاب واحد لجون راولز John Rawls بعنوان نظرية العدالة A Theory of Justice 1971)، لم يعد يعني للكثيرين وجود برنامج للفلسفة التحليلية من عدمه: كان من الواضح أن هناك عمل يجب المضي فيه، لقد تلاشى الوعي الذاتي المنهجي الذي بدا مجددًا في خمسينيات القرن الماضي، مما أفسح المجال للشعور بالدراية السهلة بالبروتوكولات والإجراءات المعمول بها. على النقيض من العمل البحثي الذي قام به جي. إي. إم. أنسكومب G. E. M. Anscombe في خمسينيات القرن الماضي لفهم طبيعة الفعل البشري “لمصلحة” الفلسفة العملية، على سبيل المثال طُورت الآن “نظرية الفعل” التي لم تعد مهتمة بشكل خاص بمبرر وجودها، وبدا أن الكثير من الميتافيزيقيا تعتبر نفسها كالفيزياء لكن أعمق.
من هنا فصاعدًا، يبدو أن تشخيص رورتي مؤكدًا: الفلسفة التحليلية حاضرة الآن فقط “بمنظور أسلوبي أو اجتماعي” كانت عبارة عن مجموعة من الإجراءات المسلّم بها دون الحاجة إلى أن تشرح لنفسها سبب اتباعها لها. القول بأن الفلسفة التحليلية أصبحت الآن ظاهرة أسلوبية أو اجتماعية يجعلها تبدو وكأنها كُسرت شوكتها بشكل فعال وجُعلت غير مؤذية، نظرًا لافتقارها إلى عقائد أو أهداف مميزة، لم تعد حقًا متعارضة مع المناهج الأخرى، بل كانت مجرد تفكير دقيق وذكي، لكن هذا انحراف عن الموضوع إن كون الفلسفة التحليلية التي انتهينا إليها موجودة كظاهرة “اجتماعية” هي حقيقة مهمة حول المكانة التي شغلتها الفلسفة الأكاديمية منذ ذلك الحين وما زالت تشغلها حتى اليوم.
كانت الفلسفة التحليلية في الخمسينيات حركة متطرفة متشددة، إذ أسست من قبل فيجل و سيلارز وآخرين، سرعان ما سيطرت على أقسام الفلسفة الأمريكية كانت الفلسفة التحليلية رائجة خاصة في هذا الشأن في فترة المكارثية بفضل خلفيتها غير السياسية، بينما كان بعض الفلاسفة التحليليين على اليسار، سافر كل من فيتجنشتاين وجيه. إل. أوستن J. L. Austin إلى الاتحاد السوفيتي وظل عملهم الفلسفي غير ملوث بالسياسة (باستثناء الوضعي المنطقي الماركسي الوحيد أوتو نيورات Otto Neurath).
إن الدرس الموضوعي في ميل الفلسفة التحليلية إلى رسم حدود تميزها عن بقية الفلسفة هو الانقسام الذي خلقته بينها وبين ما أسمته “الفلسفة القارية” يُنتقد التمييز -وهو أمر مألوف يعرفه كل من شارك في الفلسفة الأكاديمية- أحيانًا باعتباره خاطئ أو ساذج إلى حد ما، في نهاية المطاف من الواضح أن كل من فريج، شليك، كارناب، فيتجنشتاين، وايزمان، فيجل وآخرون كانوا يتبعون لأوروبا القارية.
وكما أشار برنارد ويليامز في محاضرة ألقيت في افتتاح مركز فلسفة ما بعد التحليل (عُطّل منذ زمن) في جامعة ساوثهامبتون عام 1997، يبدو الأمر في غير محله بشكل غريب، فهو يشبه على حد تعبيره “تصنيف السيارات على أنها يابانية وذات دفع أمامي”، من المؤكد أن “تحليلي” مصطلح منهجي، في حين أن “قاري” هو مصطلح جغرافي، ولذا فإن ويليامز يدين بحق التمييز على أنه ما أسماه جيلبرت رايل Gilbert Ryle “خطأ تصنيفي”، والأهم أن الفلاسفة التحليليين هم من ابتكر تسمية “الفلسفة القارية” لتمييز مجموعة خارجية بالنسبة إلى مجموعتهم الداخلية.
بذلك، تعاملوا مع مجموعة واسعة من المناهج المتباينة كما لو كانت تنتمي لبعضها البعض – الفينومينولوجيا، والوجودية، والتأويلية، والتفكيكية، وكذلك أشكال “النظرية” التي تعتبر نفسها مناهضة للفلسفة أو ما بعد فلسفية، كان هذا منطقيًا من وجهة نظر الفلسفة التحليلية، حيث أن الفلسفة القارية هي ما يمكن حسب مبادئها، تجاهلها بسلام، لم يُعرّف أحد نفسه كـ “فيلسوف قاري” إلى حين ظهور هذا التصنيف في أماكن هيمنة الفلسفة التحليلية أكاديميًا مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن كنتيجة لعمل الفلسفة التحليلية في إيجاد الفلسفة القارية فقد ظهر منذ ذلك الحين ما يمكن تسميته الفلسفة القارية -ينعكس في برامج الماجستير في الفلسفة القارية ومجتمعات الفلسفة القارية وما إلى ذلك- الواقع الاجتماعي لا ينفصل عن الواقع.
يتحدث الفلاسفة التحليليون بنبرة تصالحية عن رأب الصدع مع الفلسفة القارية -صدع من صنعهم- لكن لكي يحدث ذلك بشكل فعال، يجب أن تستعيد الفلسفة التحليلية الوعي الذاتي المنهجي. في عالم اليوم، تواجه الفلسفة التحليلية مجموعة من التحديات الجديدة. لقد سمعت دعوة النسوية، ونظرية العرق النقدية، وحركة تحرير المناهج الدراسية، وتعمل بنشاط في محاولة للاستجابة لهذه الدعوات، تواجه الفلسفة الأكاديمية مشكلة شمولية حادة بشكل خاص، حتى بمعايير الأكاديمية، مثل تمثيل النساء وغير البيض في المهنة ضعيف بشكل صادم.
مهما بلغ حماسها للقيام بذلك، هناك ما يجعل الفلسفة التحليلية غير مجهزة لمواجهة هذه التحديات، على الرغم من أنها تركز على النقاش المفتوح وغير الهرمي، إلا أنها تتصور مثل هذا النقاش في إطار إشكالي تماشياً مع الصورة غير السياسية التي قدمت بها نفسها في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تميل الفلسفة التحليلية إلى تصور النقاش على غرار النموذج الليبرالي لـ “سوق الأفكار”. هذا ليس مفاجئًا، لأن “اللاسياسيين”، بحكم عزلهم أنفسهم عن المشاركة السياسية، عرضة للتماشي عن غير قصد مع الأيديولوجية السائدة وهياكلها.
مشكلة سوق الأفكار كما هو الحال مع السوق التجاري للاقتصاد الكلاسيكي والكلاسيكي الجديد الذي صمم وفقًا له هو أنه يعامل كل مشارك في السوق على أنه منخرط فعليًا في التبادل بشروط متساوية. كما أن في السوق التجارية الكلاسيكية الجديدة مؤهلات الملكية غير ذات صلة -يدخل المالكين وغير المالكين “بشروط متساوية” بمعنى أن ملكية ممتلكاتهم غير ذات صلة- في السوق الليبرالية للأفكار يفترض أن الجميع يدخلون على قدم المساواة، إذا كانت نقاط النسويات ومنظري العرق النقدي التي يسعى الفلاسفة التحليليون للاستجابة لها صحيحة، فإن كامل مفهوم المشاركة المتساوية يحتاج إلى نقد، والأفكار الخاصة بالنسوية والنظرية النقدية للعرق ستجرد من موضوعها وتصبح عاجزة إذا جرت مناقشة بهذه الشروط.
هناك أمل كبير في تطور ونمو الفلسفة التحليلية من خلال مواجهة هذه التحديات، لكن يجب أن تتغلب على وهم استعدادها للقيام بذلك، الفلسفة التحليلية ليست بريئة، هناك حالة طفولية خطيرة في إصرارها على إمكانية أي أحد على التصدر والجدال واعتبار كل شيء من الصفر ومعاملة الجميع على قدم المساواة، لن تشب عن هذا الطوق إلا من خلال المشاركة النشطة مع المناهج التي لم تعد تحتقرها، بما في ذلك عمل التخصصات الإنسانية الأخرى. لن يكفي تنظيم بعض أفكار نظرية العرق النقدي مثلاً المستخرجة من أدبيات أخرى باستخدام إجراءاتها وشروطها الخاصة بصيغتها الخاصة، يجب أن تنفتح على الانغماس في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي عندها ربما تكون حية حقًا لأول مرة.