د. عائض بن سعد الدوسري
“أحللتُ كل مسلم عن إيذائه لي“.
ابن تيميَّة
ربما قد يسهل على الإنسان أن يُنَظِّرَ لقواعد ومبادئ الرحمة والاعتدال والتسامح والعفو والصفح، لكنَّ هذا التنظير ربما ينهار كليًّا عندما ينتقل الأمر من زاوية النظريَّة إلى زاوية التطبيق والعمل، وعندما يتحول الأمر من مجردِ شعاراتٍ تُرفع وتُعلن إلى أمر حقيقيٍ يمس شأن الشخص ومصالحه، وكما يقول المثل الإنجليز: “الشيطان يكمن في التفاصيل“.
لم يكن ابن تيميَّة –رحمه الله- صاحب شِعَارات، ولم يُعْرَف عنه مجرد التقعيد والتنظير للأخلاقيَّات الشخصيَّة أو التعامل تجاه الآخرين، بل عُرِفَ بأنَّه ذلك الإنسان الملتزم بمبادئه الذي يُؤمن بما يعتقده من خلال الفعل والتطبيق قبل القول والتنظير، في أخلاقه الشخصيَّة وفي أخلاقه وتعامله مع الآخرين، ومن ضمنهم خصومه العقائديين. ولم يكن ابن تيميَّة كاملاً ولا مثاليًّا ولا معصومًا، بل كان أحيانًا يُدرِكُهُ ما يدرك البشر من العوارض أثناء الحزن والغضب، وكان في طبعه حدة؛ لكنَّه كان يحاول أن يقهر تلك الحدة ويُداريها، فكان الإيمان القلبي التي تَخّلَّقَ بمقتضاه يحاول أن يقهر ويُسيطر كثيرًا على ذلك الطبع الذي وُلِدَ به، وتلك أعظم مَزيِّة في الإنسان، فليس أخلاق الصفح التسامح والعفو الحقيقيَّة نتيجة برودةٍ في الطبع، وإنما قوة إيمانيَّة وأخلاقيَّة تقهر وتُضاد الطبع، وحظوظ النفس المخالفة لتلك القوة النورانيَّة التي تَخَلَّقَ بها واكتسبها.
والفرق كبيرٌ جدًا بين مفهوم الأخلاق عند ابن تيميَّة –رحمه الله- في العفو والصفح والاعتدال والرحمة، وبين مفهوم التسامح الغربي. فتسامح ابن تيميَّة هو خُلُقٌ حقيقيٌ أصيلٌ، ويرجع ذلك إلى أمورٍ ثلاثة: (1) أنَّه عفوٌ وصفحٌ ورحمةٌ وتنازلٌ عن أشياء تمثل قيمة حقيقيَّة لابن تيميَّة، ولها معزة ومكانة في قلبه وروحه، وقد تعرض فيها ابن تيميَّة للأذى والاعتداء، إما في نفسه وحياته، أو سمعته ومكانته، أو ممتلكاته وحريَّته، أو دروسه وتلاميذه وكتبه، وقد فعل ابن تيميَّة ذلك -وإن كانت تلك الأخلاق الرفيعة في العادة البشريَّة تخالف طبع ورغبات الإنسان التي تميل بطبيعتها إلى الانتقام والانتصار للنفس وكراهية من يؤذيها- لأنَّ تلك الأخلاق عنده نابعة من إيمانٍ ثابتٍ بالقيم والدين، وهذا ما منحها قاعدة معياريَّة، تضفي عليها القيمة والثبات، فهي ليست نسبيَّة، وليست خاضعة لقوانين بشريَّة تمنحها أو تسلب منها قيمتها، وتتلون بتلون أمزجتهم ومصالحهم وأهوائهم. (2) أنَّها أشياء يمتلكها ابن تيميَّة وتخصه وتعود إليها، وهو المخول شرعًا وقانونًا أن يتنازل عنها إن رغب في ذلك، وليست حقوقًا ليست له ولا يملكها، كأن تكون حقًا لله عزَّ وجل وحقًا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو حقًا لغيره من النَّاس. فابن تيميَّة –رحمه الله- كان يُدرك بعمقٍ ووعيٍ أنَّ التنازل طواعية وحبًا للخير عن ما يملك الإنسان الحق في التصرف فيه، هو فضيلة وشرف وخلق رفيع، أما التنازل عن ما لا يملك الإنسان الحق في التصرف فيه، كحق الله أو حق رسوله عليه وآله الصلاة والسلام، أو المبادئ الأخلاقيَّة، أو حق الآخرين، فذلك رذيلة وخلق رديء. (3) أنَّه خلقٌ صادرٌ عن نفسٍ طيِّبة وسمحة وراضيةٍ، تنازلت عن حقها بمحض إرادتها وطيب معدنها، ليس في لحظة ضعفٍ أو ذلة، بل في لحظة قوة وعزة، فكان تسامحها شرفًا وتجسيدًا للخلق الإسلامي، وللقوي القادر الذي تمكن ثم صفح وغفر وتنازل عن حقه.
هذا هو مفهوم “التسامح” عند ابن تيميَّة، أما مفهوم التسامح الغربي، فهو قائم على أركان ثلاثة:
الأول: أنَّه تنازل عن أشياء لم يعد لها قيمة في الغرب، فالدين والأخلاق فقدت قيمتها وصارت نسبيَّة، ولم تعد مُؤثرة في الغرب، أو على الأقل في معظمه، والتنازل عن أشياء مهملة لم تعد لها قيمة ليست فضيلة حقيقيَّة، إنما الفضيلة الحقيقيَّة هي التنازل والتسامح عن أشياء يتملكها للفرد وتُمثل له قيمة ثمينة. وحين أعلن فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche في الغرب عن “موت الإله“، لم يكن يقصد إعلان موت “الكائن الأبدي السرمدي“، فهو لا يؤمن بإله أصلاً؛ لأنَّه كان ملحدًا، بل كان يقصد فقدان الدين والأخلاق والقيم قيمتها في الغرب، واضمحلال تأثيرها، فهو يقول: “لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن جميعًا قتلناه، إلى أين نسير الآن؟ ألسنا تائهين الآن وسط عدمٍ لا نهائي؟ ألا يتنفس الفضاء الخاوي في وجوهنا؟ ألم يصبح أكثر برودة؟ ألا يجيء الليل باستمرار أكثر ظلة وحلكة؟”. ويقول تبعًا لذلك: “إنَّ أكثر القيم علوًا وارتفاعًا، فقدت قيمتها، ولم تعد تمارس فعاليتها، وقوتها البناءة المحببة، وإنَّ النَّاس قد أعوزتهم الغاية من الوجود، كما أعوزهم الجواب عن سؤالهم لأنفسهم: لماذا يحيون ويوجدون؟ فحياة الدين تخسر… والعلوم تصبح أشتاتًا، وتقضي على أشد ما آمن به الناس واعتقدوه قوة ورسوخًا، فكل شيء يمهد الطريق للبربرية القادمة”.
فالقيم والأخلاق الدينيَّة قد فقدت قيمتها في الغرب، وما دام أنَّ الحالة هي تلك، فيكون التسامح تجاهها والتنازل عنها تنازلاً عن معدومٍ أو مهملات لا قيمة لها، وليس في ذلك أدنى فضيلة أو ميزيَّة! ومن الملاحظات المهمة أنَّه في مجال الإيمان بالحقائق: إنَّ التسامح وعدم التعصب (=التمسك بالحق)، والدفاع عنه، لا يُعبر في حقيقته عن موقفٍ له قيمة ثبات مبدئي، بقدر ما هو يكشف عن موقف متشكك، وفاقد لقيمة الحقيقة والثبات عليها، ويعبر في الوقت نفسه عن تظاهر خادع بعدم التعصب في أمر لا يمثل قيمة عند المتسامح أصلاً. هذا فيما يتعلق بموقف المتسامح تجاه الحقائق الإيمانية: الدينية والأخلاقية، التي فقدت قيمتها عنده. لكن سنجده نفسه يفقد معاني التسامح أو معظمها عندما يتعلق الأمر بقضايا دنيوية أو تمثل له مصالح حيوية، وسيرمي التسامح خلف ظهره، لأنه ببساطة لا يمتلك رفاهية التسامح تجاه ما يمثل له أهمية!
فالتسامح في حقيقته عند كثير ممن ينادون به، يصدر تجاه الأشياء التي يرونها رخيصة أو نسبيَّة أو خلافيَّة لا تمثل لهم قضايا مفصليَّة أو حيويَّة في حياتهم الدنيويَّة، فالأمر في قبولها أو رفضها لا يمثل مشكلة كبرى، تستدعي المفاصلة أو المفارقة. وهكذا صار التسامح علامة على الزهد في المتسامح فيه، لفقدانه الأهميَّة. وهكذا يصبح التسامح “قيمة أخلاقيَّة” زائفة؛ إذا كان التسامح يصدر تجاه أشياء فقدت قيمتها عند المتسامح، أو يجهل قيمتها، أو لا يمتلكها أصلاً، أو يكون عدم تسامحه ليس خيارً متاحًا له! والتسامح في مجال الأفكار الرئيسة، يعني أنَّ الإنسان المتسامح عن أفكاره، (التي كان يفترض أنَّه يؤمن بها وتميزه عن غيره، أو يتسامح مع أفكار تضاد أفكاره ، والتي كان من المفترض أن يرفضها)، قد فقد اليقين فيها وفقد الاقتناع بصحتها، أو هو أصلاً يجهلها ويجهل قيمتها ويجهل ما يضادها، فلا يمتلك التمييز الواضح بين حدودها وحدود ما يُناقضها، لأنَّ حدود تسامحه مع أصوله الفكرية وتنازله عنها فرعٌ عن مدى قناعته بها أو معرفتها بها. ولذلك، وفي تحليلٍ دقيقٍ لعالم الاجتماع الغربي البروفيسور فرانك فريدي Frank Furedi بَيَّنَ أنَّ نزعة الشك في إمكانيَّة العثور على الحقيقة ومعرفة الحق، التي سادت في الغرب في عصر النهضة وعصر الأنوار التشكيك، أدت إلى نوعٍ من الضعف في التمسك بالمبادئ، وأنَّ التبرير التشكيكي قد مَثَّلَ للتسامح تطورًا كبيرًا داخل النظام السائد العقائدي، لكنَّ هذا الاتجاه نحو التسامح –كما يقول فرانك فريدي– “أدى إلى معرفة نسبيَّة تخلط بين التسامح واللامبالاة، ويمثل هذا النهج الرضوخ لغياب اليقين”. فغياب اليقين أو فقدانه، وتأثير النـزعة التشكيكيَّة، أفقد الحقيقة قيمتها الذاتية، ولذا فلن تستحق بعد ذلك الدفاع عنها أو الوقوف معها، أو الولاء لها والبراء مما يخلفها، فالتسامح الغربي ليس مبادرة أخلاقيَّة تنم عن طيب نفسٍ، بقدر ما هو نتيجة لفقدان اليقين قيمته تحت ضربات النـزعة التشكيكيَّة.
ثانيًا: أنَّه تنازل عن أشياء لا يملكها حقها الفرد، فتسامح الإنسان الحقيقي لا يكمن في تساهله وتنازله عن ما يخص الآخرين وما تعنيهم قيمته، أو ما يمتلكه غيره أو ينتمون إليه حقيقة، فهذا النوع من “التسامح” هو في حقيقته تنازل عن أشياء لا يملكها، وسوف تكتشف بجدارة وبسهولة هذا “التسامح الحقيقي” لهذا الشخص -الذي يعلن في كل مرة تسامحه- عندما تختبر تساهله فيما يعني له شيئًا، أو ما له قيمة حقيقية عنده، أو يمتلكه وينتمي إليه. فالتسامح حتى يكون له قيمة أخلاقيَّة سامية، يجب أن يكون قيمة تثمين الأشياء التي يمتلكها الفرد ثم التنازل عنها إذا كان يمتلك ذلك الحق، وليس التسامح هو الزهد في المهملات التي تفقدت قيمتها ولم تعد ذات ثمن عند الفرد. فهذا النوع من التسامح هو في حقيقته تسامحٌ مصطنعٌ.
ثالثًا: لم يأت ولم ينبع التسامح في الغرب من قيم أخلاقيَّة ولا مبادئ سامية، بل كان نتيجة القهر والاضطرار، ليس فقط على مستوى الأفكار تحت ضربات الحركات التشكيكيَّة في الحق والحقيقة واليقين، بل أيضًا على مستوى الحياة المعاشة والممارسات السياسيَّة والاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والحروب الدينيَّة المدمرة، التي كادت أن تُفني أوروبا. فالتسامح لم ينبع من قيم وأخلاق أصيلة دينيَّة أو اجتماعيَّة، بل كان حالة طوارئ اضطراريَّة لوقف فناء أوروبا على يد نفسها، وما دام أنَّه كان ثمرة لذلك، أي لا يستند إلى قيم وأخلاق ذات جذورٍ راسخة وثابة وصلبة يؤمن بها، فإنَّه سيكون عرضة للتزلزل والزوال عند أدنى عارضٍ يعرض للحياة الغربيَّة على مستوى السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع. ولهذا يؤكد الباحث الغربي الفرنسي وعالم السياسة أوليفييه روا Olivier Roy أنَّه في تاريخ التطور السياسي والديني في الغرب، ما كان التسامح الديني نتيجة الليبرالية والتنوير، بل الأحرى أنَّه كان نِتَاج الاتفاقيَّات المتوالية الناجمة عن الحروب الدينية المدمرة. وفي ملاحظة مهمة، يشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee إلى أنَّ التسامح في الإسلام دينيٌ في أصله، أما في الغرب المسيحي فالتسامح أصله لا ديني. بمعنى أنه كلما تمسك المسلم بدينه الحقيقي كلما كان أكثر تسامحًا، بينما الغربي المسيحي العكس، أي كلما جحد حميته الدينيَّة كلما كان أكثر تسامحًا!
وخلاصة تلك الأسس التي قام عليها التسامح الديني في الغرب، وكان ثمرة ونتيجة لها، هي مسيرة طويلة من عوامل متداخلة ومترابطة، تتمثل في: (1) انتشار تيار الشكوكيَّة، الذي قاده مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، فكرسوا بدورهم عدم اليقين في صحة وقطعية العقائد، ومن ثمة بروز ورسوخ النسبيَّة في الحقائق. (2) سيادة المنهج الذرائعي النفعي في الحياة. (3) الصراعات الدموية الدينية-السياسية. فالتسامح الديني في الغرب هو في الحقيقة نتيجة فقدان الدين قيمته القطعيَّة والثابتة، إما من داخله، أو بواسطة عوامل قوية ضاغطة من خارجه. ومفهوم التسامح الفلسفي ليس إلا مؤشرًا على تزلزل اليقين بضعف سلطان الدين، وضعف الإيمان به في قلوب الناس، بسبب تلك العوامل، التي ظلت تعمل فيه عبر الزمن.
من هذه المقدمة المختصرة، التي رأيتُ أنَّها ضروريَّة لفهم مفهوم “التسامح” عند ابن تيميَّة، ومقارنته بمفهوم التسامح في الغرب، نشرع في عَرْضِ السيرة السلوكيَّة لابن تيميَّة تجاه خصومه العقائديين، كأمثلة تطبيقيَّة وعمليَّة على المبادئ الخلقيَّة النابعة من الدين الإسلامي التي كان –ابن تيميَّة– رحمه الله يؤمن بها إيمانًا راسخًا وثابتًا، ويحاول قدر طاقته أن يُمارسها في حياته العلميَّة، وتتجلى في أعظم صورها حين تُمارس مع خصوم الإنسان الذين يملك سلطة عليهم.
فمن الشخصية العظيمة في تاريخنا الإسلامي التي ظلمت في عصرها وبعده، ابن تيميَّة -رحمه الله، فالعصر الذي عاش فيه وما تعرض له من عداءٍ وهجومٍ وسجنٍ وتعذيبٍ واعتداءٍ، خير شاهدٍ على هذا الظلم. بل إنَّ مرارة الظلم تزداد تجاه هذه الشخصية الكبيرة، حين تُقْلَب الصورة رأسًا على عقب، ويصور ابن تيميَّة بأنَّه هو الظالم المعتدي على خصومه العقائديين. ولو تأمل هؤلاء -بطريقة علمية رصينة- أقوال وأفعال وسيرة ابن تيميَّة، لما ظلموا أنفسهم بظلمهم إياه، حيث تكلموا فيه بغير علمٍ، بل بجهلٍ وهوى وتقليد أعمى، منعهم عن معرفته على حقيقته، فالرجل كان يحكمه في جُلِّ تصرفاته مع مخالفيه ميزان العدل والرحمة، وكان كلمة إجماع عند عقلاء العلماء، ومحل محبة النَّاس، والتضحية من أجل الحق. قال الإمام الذهبي عنه: “وسائر العامة تحبه، لأنَّه منتصبٌ لنفعهم ليلاً ونهارًا، بلسانه وقلمه”. وقال العلامة الإمام ابن طرخان الملكاوي: “لو دروا ما يقول لرجعوا إلى محبته وولائه”. وقال القاضي بهاء الدين السبکي: “والله ما يبغض ابن تيميَّة إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به”.
وهنا سوف أعرض جملة من مواقف ابن تيميَّة العمليَّة مع مخالفيه؛ وكيف تصرف كعالم وفقيه مع كراهيتهم له واعتدائهم عليه، اعتداءًا لفظيًّا وجسديًا وعقديًّا. لقد وضع ابن تيميَّة قاعدة عظيمة في حياته السلوكيَّة والعمليَّة، هذه القاعدة هي مقولته المشهورة: “أحللتُ كل مسلم عن إيذائه لي“، والتي ظل يرددها عند كل موقفٍ ظلم فيه، وتعدي عليه، من قبل خصومه، وحين يطلب منه الرد عليهم بالمثل؛ يجيب أنصاره بتلك المقولة! لقد كان لسان حال ابن تيميَّة مع أعدائه “أنني لا أنقم عليكم شيئا من حظوظ الدنيا، ولا أنافسكم على شيء من حطامها، ولا أكرهكم لذواتكم، ولا أريد الانتقام منكم؛ بل أريد أن يعلو الحق وتظهر الحقيقة، كما أحب الخير لكم ولكل مسلم، وأحب أن تكونوا دائمًا سعداء وتنعمون بالبهجة والرضا، وكل شر يصلني منكم سأرده بخير، وكل شتيمة من قبلكم ستجدون في مقابلها دعاء لكم بكل خير”. هكذا كانت أغلب سيرته في التعامل العادل مع خصومه، ومهما اشتد عليه الأذى والتضييق من خصومه، نجده يبادلهم بالعفو والتسامح والغفران، بنفس مؤمنة وبقلب طاهر. ولأنَّ ابن تيميَّة رجلٌ يقول الخير ويفعله، ويؤسس للعفو ويمارسه، فلذلك وجدنا حياته في معظمها صورة صادقة وتعبيرًا دقيقًا عن هذا الروح.
موقف ابن تيميَّة من خصمه الصوفي علي بن يعقوب البكري:
كانت أشد المحن التي مرت بابن تيميَّة هي محنته مع غلاة الصوفيَّة، ففي مصر حينما خرج من السجن، وظلَّ في مصر يدرس تلاميذه، ويعظ النَّاس، ويرسخ عقائد السلف في نفوس النَّاس، وينقد الخرافات التي كانت منتشرة هناك، لم يعجب ذلك شيوخ الصوفيَّة الغلاة، أمثال: نصر المنبجي، وابن عطاء الله السكندري، وعلى البكري. فجمعوا أتباعهم من المتصوفة والعوام، وساروا إلى السلطان ليستعينوا به على ابن تيميَّة، من أجل إيداعه السجن، وفعلا نجحوا في ذلك. إلا أن ابن تيميَّة لم تهن عزيمته، بل واصل في دروسه، وأخذ النَّاس يقصدونه ويزورونه للتفقه في أمور دينهم والاستفتاء، فساء ذلك غلاة الصوفيَّة ومن شايعهم، فأخرجه حاكم مصر آنذاك الجاشنكير، تلميذ الصوفي نصر المنبجي، من القاهرة إلى الإسكندرية كالمنفي، ومنع أن يجتمع عنده أحد.
وكان ابن تيميَّة في كل ما يصيبه من هؤلاء صابرًا محتسبًا أجره عند الله، يقابل الإساءة بالإحسان، والظلم بالعفو والمغفرة، وفي مقابل ذلك كان يُظْهِر الحق، ويجيب السائل بكل أمانة وموضوعية، ويعدل في القول وينصف الخصم. وقد ألف ابن تيميَّة كتابًا بعنوان (الاستغاثة)، وهو عملٌ علميٌ قائمٌ على الأدلة الشرعيَّة في حكم الاستغاثة، وهو ردٌ على رسالة كتبها الشيخ الصوفي علي البكري. وكان الأليق بالعلماء الذين يختلفون في أمر ما، أن يتصدوا لمثل هذه المسألة بالدليل والبرهان العلمي، بعيدًا الاعتداء. لكن الشيخ علي البكري -رحمه الله- كان رده على هذه الرسالة هو الحكم على ابن تيميَّة بالكفر والزندقة والخروج عن ملة الإسلام. ولم يكتف الشيخ الصوفي البكري بمجرد التكفير، بل بالغ في إيذاء ابن تيميَّة بالقول والعمل، حيث كتب إلى السلطان يستعديه على ابن تيميَّة، ويحثه على قتله، بل قد قام باستعداء العوام على الشيخ، وحرض الجند وأصحاب الدولة على ابن تيميَّة، وشهر به وأقذع في شتيمته، وأهدر دمه.
وكان الشيخ الصوفي البكري من أشد الصوفيَّة على ابن تيميَّة، ففي محنة ابن تيميَّة مع الصوفيَّة طالب بعضهم بتعزير ابن تيميَّة، إلا أن الشيخ البكري طالب بقتله وسفك دمه! وفي سنة ۷۱۱هـ، تجمهر بعض عوام الصوفيَّة وبمعيِّتهم الشيخ علي البكري، وتبعوا ابن تيميَّة حتى تفردوا به، فضربوه، وفي حادثة أخرى تفرد البكري بابن تيميَّة، فوثب عليه، ونتش أطواقه وطيلسانه، وبالغ في إيذاء ابن تيميَّة والاعتداء عليه، ولم يزد ابن تيميَّة إلا أن قال: “حسبنا الله ونعم الوكيل“! وفي المقابل تَجَمَّعَ النَّاس، وشاهدوا ما حل بابن تيميَّة من أذيَّة وتعدي، فطلبوا الانتقام من الشيخ البكري، فهرب، وطُلِبَ أيضَا من جهة الدولة، فهرب واختفى، وثارت فتنةٌ بسبب ما فعله، وحضر جماعة كثيرة من الجند والفرسان، وتتابع النَّاس تجمعًا وتجمهرًا على ابن تيميَّة لأجل الانتصار له، والانتقام من خصمه الذي كفره واعتدى عليه وضربه.
فقالوا لابن تيميَّة: يا سيدي، قد جاء خلق من الحسينيَّة، لو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا!
فقال لهم ابن تيميَّة: لأي شيء؟
فقالوا: لأجلك!
فقال لهم ابن تيميَّة: هذا ما يحق.
فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك؛ فنقتلهم ونخرب دورهم، فإنَّهم شوشوا على الخلق، وأثاروا هذه الفتنة على النَّاس.
فقال لهم ابن تيميَّة: هذا ما يحل.
فقالوا له: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل؟! هذا شيءٌ لا نصبر عليه، ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا.
وظل ابن تيميَّة ينهاهم ويزجرهم، ويقول لهم: “أنا ما أنتصر لنفسي“!
فحينها ماج النَّاس والجند والفرسان، وأكثروا عليه، وألحوا في طلب الانتقام والمطالبة بنصرته، وأن يشير عليهم بما يراه مناسبًا للرد على خصمه؛ فقال لهم مشددًا عليهم: “إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله. فإن كان الحق لي فهم في حلٍّ. وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني، وافعلوا ما شئتم. وإن كان الحق لله؛ فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى يشاء”.
فقالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
فرد عليهم ابن تيميَّة، وقال: هذا الذي فعلوه، قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه!
فقالوا: فتكون أنتَ على الباطل وهم على الحق، فإذا كنتَ تقول إنَّهم مأجورين؛ فاسمع منهم ووافقهم على قولهم!
فقال لهم ابن تيميَّة: ما الأمر كما تزعمون، فإنَّهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر.
فبلغ هذا الكلام كثيرًا من خصومه، فتعجبوا، وقالوا: والله لقد كنا متجنين في حق هذا الرجل لقيامنا عليه، والله إنَّ الذي يقوله هذا هو الحق.
ولما اشتد طلب الدولة للشيخ البكري، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، هرب واختفى عن أنظار النَّاس والدولة، ولكن العجيب أنَّه لم يجد له مكانًا آمنًا إلا بيت ابن تيميَّة نفسه، حيث هرب واختفى عنده لما كان مقيمًا في مصر، حتى شفع فيه ابن تيميَّة عند السلطان وعفا عنه!
قال ابن تيميَّة مبينًا أنَّ هذا الأمر منهجه العملي، وخطابه الفكري تجاه مخالفيه: “لم نقابل جهله -أي: الشيخ البكري الصوفي– وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذبًا عليه؛ لم يكن له أن يشهد عليه بالزور، ولا أن يقذفه بالفاحشة”. وقال أيضًا مبينًا موقفه تجاه مع أعدائه: “هذا وأنا في سعةِ صدرٍ لمن يخالفني، فإنَّه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفيرٍ، أو تفسيقٍ، أو افتراءٍ، أو عصبيةٍ جاهليةٍ؛ فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبطُ ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدىً للنَّاس حاكمًا فيما اختلفوا فيه”.
ويُبَيِّن ابن تيميَّة أنَّ هذا ليس موقفه الشخصي فحسب، بل هذا منهج السلف الصالح، الذي دأب ابن تيميَّة على ملازمته حسب طاقته، حيث يقول رحمه الله: “فلهذا كان أهل العلم والسٌّنَّة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم. لأنَّ الكفر حكمٌ شرعيٌ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، کمن كذب عليك وزني بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأنَّ الكذب والزنى حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حقٌ لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله صلى اله عليه وآله وسلم”.
موقف ابن تيميَّة من خصومه الذين تسببوا في سجنه وطالبوا بقتله:
لم يكن امتحان الصوفيَّة هو الامتحان الوحيد الذي ابتلي به ابن تيميَّة، بل ابتلي رحمه الله بقرناءٍ حسدوه على محبةِ النَّاس له، وعلى ما مَنَّ الله به عليه من علمٍ ودينٍ وخلقٍ، وما ناله من مكانةٍ عظيمةٍ في قلوب الجميع، ولقد كان ابن تيميَّة من أكثر العلماء الذين تعرضوا لأذى الأقران والحساد، ولكنَّه كان مع كل ذلك صابرًا محتسبًا، وكان معهم من ألطف الناس وأرحمهم. قال الحافظ البزَّار، حاکيًا حال خصومه: “ولما رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركًا لما هم عليه من تحصيل الحطام، من الشبه الحرام، رافضًا الفضل المباح فضلاً عن الحرام، تحققوا أنَّ أحواله تفضح أحوالهم، وتوضح خَفِيَّ أفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانيَّة، على صفاتهم الشيطانيَّة، المباينة لصفاته الروحانيَّة، فحرصوا على الفتك به أينما وجدوه”.
ولذا فقد اجتمع هؤلاء عليه، وهم أشتاتٌ كثيرةٌ، وأطيافٌ منوعةٌ، يجمعهم هدفٌ واحدٌ، وهو إسقاط ابن تيميَّة والنيل منه، وقد حاولوا محاورته فأسقط في أيديهم، وراموا مجاراته في العلم والفقه والمعرفة فرجعوا منكسرين، ناظروه وجادلوه فَبَيَّنَ لهم المحجة وألزمهم الحجة، فاستعانوا عليه بالسلطان، وكتبوا في حقه الشكاوي الكيديَّة، محاولين نكبته بعد أن يئسوا من الظهور عليه بالحجة والبرهان. يقول ابن فضل الله العمري: “لقد اجتمع عليه عصب الفقهاء والقضاة بمصر والشام، وحشدوا عليه خيلهم ورجلهم، فقطع الجميع، وألزمهم الحجج الواضحات أي إلزام، فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام”.
وقد وشى به بعض هؤلاء، وكذبوا عليه، وألبوا عليه، وتزلفوا لدى الكبراء في أمر ابن تيميَّة؛ فسجن وعذب، هو وأصحابه، وتولى كِبَرَ ذلك الجرم شيخ غلاة الصوفيَّة في زمنه، الشيخ نصر المنبجي، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، تلميذ المنبجي، وجماعة من الفقهاء والعلماء على رأسهم القاضي المالكي ابن مخلوف، وهؤلاء هم ممن كان ناصر الحاكم بيبرس الجاشنكير في انقلابه ضد السلطان الناصر محمد بن قلاوون. قال ابن عبد الهادي حاکيًا ما فعله خصوم ابن تيميَّة: “وأوذي جماعة من أصحابه، واختفى آخرون، وعُزِّرَ جماعة، ونودي عليهم”. وقال الذهبي عن أحدِ أصحابِ ابن تيميَّة: “أوذي من أجل ابن تيميَّة، وقطع رزقه، وبالغوا في التحرير عليه”.
كان هذا خو بعض ما جادت به أنفس خصوم ابن تيميَّة من الأخلاق عمليَّة، فبعد أن عذبوا وسجنوا تلاميذه وأصحابه، ساقوه لمحاكمة ظالمةٍ جائرةٍ، قضاتها هم الأعداء والوشاة، فالمدعي والمُتَّهِم القاضي نفسه، ولم يمكن ابن تيميَّة من الدفاع عن نفسه، فأمر القاضي ابن مخلوف بحبس ابن تيميَّة في القلعة، ومعه أخواه. ولما رأى شرف الدين -أخو ابن تيميَّة وكان معه في السجن- الظلم الكبير الذي وقع عليهم من قبل هؤلاء؛ ابتهل ودعا الله عليهم، فمنعه ابن تيميَّة ، وقال له: بل قل: “اللهم هب لهم نورًا يهتدون به“. وزاد من غيظ القاضي ابن مخلوف وحنقه وحسده متا رآه من ازدياد محبة النَّاس لابن تيميَّة، فكتب إلى السلطات ما يلي: “يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره“. وطلب المدعي ابن عدلان قتل ابن تيميَّة، وذلك بتعزيره التعزير البليغ على مذهب المالكية.
قال الحافظ ابن سيد الناس، حاكيًا فعل خصوم ابن تيميَّة: “وصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من غمار الزوايا وسكان المدارس، من مجاملٍ في المنازعة، مخاتلٍ بالمخادعة، ومن مجاهرٍ بالتكفير مبارزٍ بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون”. وقال الذهبي: “فجرت بينه وبينهم حملاتٌ حربيةٌ، ووقعاتٌ شاميةٌ ومصريةٌ، وكم من نوبةٍ قد رموه عن قوسٍ واحدةٍ؛ فينجيه الله تعالى، فإنَّه دائم الابتهال، کثير الاستغاثة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يذمنها”.
ولما رأى ابن تيميَّة أنَّ الأمور متجهة إلى الفتنة، وأنَّ خصومه يصنعون الأحداث صنعًا لجر المجتمع إلى التخاصم والنـزاع، قَرَّرَ أن يضحي بشخصه، وأن يدفع الأمور إلى التهدئة، وأن يقدم المصلحة العامة، وهي اجتماع المسلمين، على المصلحة الخاصة وهي دفع الظلم الواقع عليه. يقول ابن تيميَّة: “وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خيرٍ، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خيرٍ إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإنّي أعلم أنَّ الشيطان ينـزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين”. ولهذا، قام ابن تيميَّة -رحمه الله- بجهدٍ عظيمٍ لإخماد الفتنة التي قامت بين المسلمين، وقام بإرسال رسالة إلى أصحابه وتلاميذه يحثهم فيها على وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، وذَكَّرَ أصحابه وإخوانه بتنازله عن حقه الشخصي، وأنَّه قد سامح وعفا عن كل من ظلمه أو كذب عليه، وحذَّرهم من أن يتعرض أي مسلمٍ لأي أذى بسببه، لا لخصومه ولا لمن خذله من أصحابه، وقدم اعتذارات لأكثرهم محسنا فيهم ظنه. قال ابن تيميَّة: “ما يتعلق بي فتعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذي أحدٌ من عموم المسلمين فضلاً عن أصحابنا بشيءٍ أصلاً، لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف، أضعاف ما كان كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا أو مذنبًا، فالأول: مأجور مشكور، والثاني: مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين”. وقال ابن تيميَّة لهم أيضًا: “فلا أحب أن ينتصر من أحدٍ بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمنٍ من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله؛ فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذٌ فيهم. فلو كان الرجل مشكورًا على سوءِ عملهِ لكنتُ أشكرُ كلَّ من كان سببًا في هذه القضية، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكنَّ الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه؛ التي لا يقضى للمؤمن قضاءً إلا كان خيرة له.. وأنتم تعلمون هذا من خلقي”.
وكانت مشيئة الله نافذة للانتصار لعباده المخلصين، فقد شاء الله أن تزول إمارة بيبرس الجاشنكير ويقتل، ويحمل شيخه الصوفي نصر المنبجي ويموت في زاويته، ويقع عقاب السلطان الناصر محمد بن قلاوون على كثيرٍ من العلماء الذين ناصروا إمارة الجاشنكير، والذين كان أكثرهم من خصوم ابن تيميَّة، ويضم السلطان ابن قلاوون دمشق ومصر إلى حكمه، ولم يكن هَمّ السلطان ابن قلاوون إلا الإفراج عن ابن تيميَّة المسجون ظلمً وزورًا. فأخرجه السلطان ابن قلاوون معززًا مكرمًا مبجلاً، ووصل ابن تيميَّة إلى البلاط السلطاني، فقام له السلطان تکريمًا واحترامًا، ووضع يده بيد ابن تيميَّة، ودخلا على كبار علماء مصر والشام، وفيهم خصوم ومخالفي ابن تيميَّة، وأعداء السلطان أيضًا! وقد كان السلطان ابن قلاوون حانقًا على الفقهاء والقضاة الذين كانوا يوالون بيبرس الجاشنكير، فأراد أن يقضي عليهم انتقامًا منهم، ووجد أنَّهم هم الذين أفتوا بحبس ابن تيميَّة وكفروه وأباحوا قتله، فأراد السلطان أن يستغل هذه الفرصة المشتركة بينه وبين الفقيه المفتي ابن تيميَّة، فيستخرج منه فتوى بجواز قتل هؤلاء القضاة والفقهاء الذين كانوا أعداء للطرفين، للسلطان ولابن تيميَّة.
فاختلى السلطان الناصر ابن قلاوون بابن تيميَّة، وحدثه في رغبته بقتل بعض العلماء والقضاة؛ بسبب دورهم في الانقلاب ضده، وما أخرجه بعضهم من فتاوى بعزل السلطان ومبايعة القائد بيبرس، وأخذ السلطان يحث ويشجع ابن تيميَّة على إصدار فتوى بجواز قتل هؤلاء العلماء، ويذكره بأنَّ هؤلاء العلماء هم الذين سجنوه وظلموه واضطهدوه، بل وكفروه وأهدروا دمه، وأنَّها قد حانت ساعة الانتقام منهم، ومعاملتهم بالمثل، والبادئ أظلم. وأصر السلطان الناصر ابن قلاوون على طلبه، وأخذ يذكر ابن تيميَّة بما اقترفوه بحقه، مستميلاً طبائع النفوس البشريَّة والعواطف الإنسانية والميول الانتقاميَّة، كي يخرج فتوى في جواز قتلهم!
ولعلك المرء يتساءل عن طبيعة ردة فعل ابن تيميَّة، وهل وجدها فرصة مناسبة لا تفوت للتنفيس عن خصومته لهم، ومتنفسًا مناسبًا للانتقام من الأعداء؟ کلا، فنفس هذا العالم الكبيرة أرفع وأطهر من ذلك، فلقد قام ابن تيميَّة بتعظيم هؤلاء العلماء والقضاة، وأنكر أن ينال أحد منهم بسوء، وأخذ يمدحهم ويثني عليهم أمام السلطان، وشفع لهم بنفسه، وطلب من السلطان أن يعفو ويصفح عنهم، ومنعه من قتلهم. وقال للسلطان: “إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل“.
فرد عليه السلطان متعجبًا متحيرًا: “لكنهم آذوك وأرادوا قتلك مرارًا”!
فقال ابن تيميَّة: “من آذاني فهو في حل، وأنا لا أنتصر لنفسي“.
وما زال ابن تيميَّة بالسلطان يقنعه أن يعفو ويصفح عنهم، حتى استجاب له السلطان، فأصدر عفوه عنهم وخلى سبيلهم. عندها أقبل جمع الفقهاء يعتذرون ويتأسفون من ابن تيميَّة مما وقع منهم في حقه، و ابن تيميَّة يقبل اعتذارهم ويقول لهم: “قد جعلت الكل في حل“! ولقد شهد له أكبر خصومه، وهو قاضي المالكية القاضي ابن مخلوف، وهو الذي هاجمه وآذاه، بل كفره واستحل دمه، فشهد له بعمله الفريد الذي عمله معه ومع أمثاله أثناء غضب السلطان الناصر ابن قلاوون عليهم، فقال عن ابن تيميَّة لما سعى للإفراج عنهم: “ما رأيتُ کريمًا واسع الصدر مثل ابن تيميَّة، فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنَّه عفا عنَّا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا، وقام بحمايتنا، حرَّضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنا وحاجَجَ عنَّا“.
قال الحافظ ابن كثير: وسمعتُ الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشُبَّاك الذي جالسا فيه، وأنَّ السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة؛ بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم في عزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنَّهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنَّما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وأنكر أن ينال أحد منهم بسوء.
وقال ابن عبد الهادي: سمعت الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة -رحمه الله- يقول بعد طلب السلطانه من فتاوى في قتل أولئك الفقهاء والعلماء: “فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حلٍّ من حقي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم”. وقال ابن كثير: “وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه، فقال لهم ابن تيميَّة: قد جعلت الكل في حلٍّ”.
موقف ابن تيميَّة من بعض خصومه لما بلغه وفاتهم:
الإنسان -في الغالب- يفرح إذا سمع بموت أحد خصومه الشخصيين، وأحيانًا يتشفى بذلك، ويشرع بذكر مساوئ خصمه، ويطلق لسانه فيه شتمًا وسبًا؛ لأنَّ الميت لا حول له ولا قوة، فقد انتقل إلى ربه، وهو رهينة عمله، فلا لسان له لينطق، ولا يد له فيدفع عن نفسه، فالنيل منه سهل ميسور عند النفوس الضعيفة. لكن ابن تيميَّة في أغلب مواقفه يختلف عن هؤلاء، فلقد بلغه يومًا وفاة أشد خصومه عداوة له وهجومًا عليه، حيث كان يكفره ويستحل دمه، بلغه ذلك عن طريق أحد أصحابه كبشارة له! فماذا كان موقف ابن تيميَّة من تلك البشارة؟
تأمل کلام تلميذه ابن قيم الجوزيَّة حين عقد فصلاً بعنوان” (منزلة الفتوة)، وتحدَّثَ فيه عن تلك المنـزلة، وأنَّ حقيقتها الإحسان إلى النَّاس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، فهي منـزلة استعمال الأخلاق الكريمة مع جميع النَّاس، صديقهم وعدوهم، ثم تحدث عن درجاتها، إلى أن قال: “الدرجة الثانية: أن تقرِّبَ من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، سماحة لا كظمًا، ومودةً لا مصابرةً، هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب، فإنَّ الأولى تتضمن ترك المقابلة والتغافل، وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك، ومعاملته بضد ما عاملك به، فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين، فخطتك الإحسان، وخطته الإساءة، وفي مثلها قال القائل:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيکم ونعتذر
ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع النَّاس، يجد هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة الأحد سواه، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة.
وما رأيتُ أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيميَّة -قدس الله روحه-، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيتُه يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئتُ يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوةً وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه”.
روح الرحمة والتسامح عند ابن تيميَّة تجاه مخالفيه وخصومه:
أنعم الله على ابن تيميَّة بنفسية عجيبة جدًا، قلَّ أن تجدها عند غيره من العلماء، فما كان يحمل في قلبه غلاً ولا حسدًا ولا حقدًا على أحد، بل ولا على معظم خصومه، بل كان سائرًا على منهج السلف في الرحمة والعدل بالمخالفين. قال ابن تيميَّة: “فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقًا”. وقال ابن قيم الجوزيَّة عن ابن تيميَّة: “كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم”.
وقال ابن تيميَّة في رسالة كتبها، وهو في السجن، إلى تلاميذه ومحبيه، يتحدث عن خصومه الذين تسببوا في دخوله السجن وعن من خذله، وكانوا سببًا في مصادرة كتبه: “أنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات”. وقال ابن تيميَّة معبرًا عن روحه الطيبة المحبة لجميع المسلمين: “وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن الخير ما أحبه لنفسي”.
روح الرحمة عند ابن تيميَّة تجاه غير المسلمين:
إنَّ روحه الطيبة العادلة الرحيمة شملت حب الخير للإنسانيَّة جمعاء، فقد قال في رسالة وجهها للملك النصرانی سرجون، حاکم قبرص: “نحن قومٌ نحب الخير لكل أحدٍ، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة”. وكان سبب هذا الرسالة التي بعث بها إلى ملك قبرص وجود أسرى من عامة المسلمين بأيدي النصارى، فأرسل له ابن تيميَّة طالبًا منه أن يفك أسرى المسلمين جميعًا، وأن يحسن إليهم، مذكرًا ملك قبرص بما فعله ابن تيميَّة شخصيًا حينما جادل ملك التتار ليفك أسر المأسورين من النصارى وأهل الكتاب رحمة بهم، وإحسانًا إليهم كما هو أمر الإسلام بذلك، وهذا الموقف كان ابتداءً من ابن تيميَّة، ولم يكن خاصًا لأجل المساومة والمعاوضة، فلم يذكره إلا بعد أن احتاج إليه. قال ابن تيميَّة: “وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان، وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم، فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون. فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى، الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفتكهم، ولا ندع أسيرًا، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا، والجزاء على الله”.
ثم بَيَّنَ ابن تيميَّة للملك القبرصي منهج المسلمين في التعامل مع غير المسلمين فقال: “الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحدٍ إحساننا ورحمتنا بهم؛ كما أوصانا خاتم المرسلين صلی الله عليه وعلى آله وسلم”. ثم أبدى ابن تيميَّة تألمه وامتعاضه تجاه تعامل القبرصيين مع أسرى المسلمين، فقال: “فيا أيها الملك كيف تستحل سفك الدماء، وسبي الحريم، وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله، ثم أما يعلم الملك أن بديارنا من النصارى أهل الذمة والأمان ما لا يحصى عددهم إلا الله، ومعاملتنا فيهم معروفة، فكيف يعاملون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين”.
ويقول ابن تيميَّة موجهًا كلامه لأمراء وقضاة المسلمين، مذكرًا إيهم بالعدل مع المسلم وغير المسلم: “لو كان الخصم يهوديًا أو نصرانيًا أو عدوا آخر للإسلام ولدولتكم؛ لما جاز أن تحكموا عليه حتى تسمعوا كلامه، … فإنَّ هذا من أقلِّ العدل الذي أمر الله به في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾”.
حرص ابن تيميَّة على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم:
من الخصائص المهمة في ابن تيميَّة تغليبه المصلحة العامة المتمثلة في وحدة الصف الإسلامي، وجمع الكلمة، ورأب الصدع، ونبذ الاختلاف، وهذه الميزة مبثوثة في أقواله، ومشهود لها من أفعاله وسيرته، وكان رحمه الله حريصًا على تقارب المسلمين، ليس بالعبارات الخاوية، بل بمنهج عملي أصيل، كان له دور كبير في توحيد الصف الإسلامي في وجه المخاطر التي تحدق بهم.
فقد أرسل ابن تيميَّة رسالة إلى إخوانه وأصحابه في دمشق، يحثهم فيها على الوحدة الإسلامية، ويدعوهم إلى اجتماع الكلمة، وإصلاح ذات البين. ومما قاله فيها: “وتعلمون أنَّ من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين، تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإنَّ الله تعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾، ويقول: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة”.
وقال ابن تيميَّة مبينًا تجربته الشخصيَّة والعمليَّة: “والنَّاس يعلمون أنَّه كان بين الحنبليَّة والأشعريَّة وحشة ومنافرة، وأنا كنتُ من أعظم النَّاس تأليفًا القلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلتُ عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينتُ لهم أنَّ الأشعري كان من أجلِّ المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.. وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرتُ ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنَّه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنَّه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة”.
وفي اللحظات الأخيرة من حياة ابن تيميَّة -رحمه الله- مرض أيامًا في محبسه الأخير في القلعة، فعلم بمرضه أحد وجهاء الدولة، وهو شمس الدين الوزير، فجاءه يستأذنه في الدخول عليه لعيادته، فأذن ابن تيميَّة له في ذلك، فلما جلس عنده أخذ الوزير يعتذر له عن نفسه، ويلتمس منه أن يحله مما عساه أن يكون قد وقع منه في حق الشيخ من تقصير أو غيره. فأجابه ابن تيميَّة بقوله: “إني قد أحللتك وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق“. وقال له أيضًا: “إني قد أحللت السلطان الناصر ابن قلاوون من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلدة غيره معذورة، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما بلغه مما ظنه حقا من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه. ثم قال: قد أحللت كل واحدٍ مما كان بيني وبينه“.
ولم يبق ابن تيميَّة طويلاً، حيث وافته المنية وهو في السجن، مظلومًا من أعدائه، يحتسب أجره عند الله، وقد مات وليس في قلبه کراهيَّة تجاه مسلم، بعد أن أعلن أنَّه قد سامح الجميع.
قال ابن تيميَّة: “أئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم؛ ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا”.
وقال الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي: “كان شيخنا ابن تيميَّة في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدًا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم”.