- د. ضيف الله بن محمد الشمراني
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، والصلاة والسلام على المصطفى المختار، وعلى آله وصحبه الأبرار، ومن تبعهم من السادة الأخيار، وبعد:
فإن من أدب طلب العلم: الحرص على تحصيل الفوائد، وتتبعها من مظانّها وغير مظانّها، وتقييد نفائسها، وحفظ فرائدها، وتدوين متفرّقها، ونظم شتاتها، والمذاكَرة بأحسنها.
ولما كان أعظم سبيل لتحصيل العلم -بعد فتح الله تعالى وتوفيقه- قراءة كتب العلماء، ومطالعة أسفارهم، وتأمُّل مُدَوَّناتهم، وتفهّم أبحاثهم= اعتنى الفضلاء بذلك، وسلكوا سبلًا تيسّر الاستفادة من المقروءات، وتُقرِّب جَناها، وتُدني قطافها، فنشأ عن ذلك الاهتمام بانتقاء مهمات الفوائد وعواليها، وتقييد نفائسها وغواليها، ولا ريب أن لذلك مهارات يحسن الإلمام بها، وذوق يتأكد التحلّي به، وهذه إشارات ينتفع بها اللبيب إن شاء الله تعالى.
الخطوة الأولى في سبيل الانتقاء الجيد هي اختيار الكتاب القيِّم، فلا بد أن يسبق انتخابَ الفوائد اصطفاءُ كتاب يستحق أن يُقرَأ، وتُدوَّن بعض جُمَله، ويُنظَر لها بعين الإعجاب.
فإذا وُفِّقت للكتاب الجيد -بمعرفتك وفهمك أو باستشارة ذوي الخبرة- فعليك بقراءته بتأنٍ وتؤدة كأنما تتلوه على مؤلفه وتترقّب تعليقه على كل جُملة منه، واصطحب معك ما تحتاجه من أقلام معلِّقة وموضِّحة، واستعن باللواصق الملوَّنة؛ لتكتب على غلاف الكتاب نصوص الفوائد أو عناوينها مع أرقام الصفحات، وتوضِّح بالألوان ما يحتاج إلى ذلك، وتجعل اللواصق على مواقع المهمات من صفحات الكتاب.
ولتعلم بأن الانتقاء مبني على تحصيل القارئ وثقافته عمومًا وفي فن الكتاب وموضوعه خصوصًا، فرُبَّ قارئ يختار ما يظنه نفائس الفوائد وهي من البدهيات عند المتخصصين بذاك العلم أو لدى طلبة العلم والقَرَأة بصفة عامة.
وينبغي للمنتقي ألا يُغفِل شيئًا ذا بال مما يذكره المؤلِّف، فيقيِّد كل ما يراه حريًّا بالتقييد، ثم لا عليه حين يريد نشر المنتقى أن يطوي منه ما شاء مما لا يرى مناسبة نشره لأي سبب كان.
ومن المؤثِّرات في الانتقاء: التخصص، فمن المهم أن يخص المنتقي الفوائد المتعلقة بتخصصه باهتمام زائد، لا سيما ما كان منها في غير مظنّته. وأما ما كان من غير تخصصه فيهتم به بقدر اشتغاله به وحاجته إليه.
وإن أحبَّ القارئ إخلاء كتابه من التعليقات، ورأى نقل الفوائد إلى كناشته الورقية أو الإلكترونية مباشرة؛ فذاك مسلك أخذ به قوم، ورأوا فيه صيانة للكتاب، وقد أولع نفر من المهتمين بحفظ الفوائد بتصويرها بالجوال، وحفظها في (ألبوم) خاص، وأيا ما كان مذهبك، فالغاية حفظ الفائدة وتقييد الشاردة، فبأي طريقة حصل لك المقصود فخُذ به.
وإياك والركون إلى ذاكرتك في حفظ الفوائد، فكم شكا المفرِّطون من ضياع ما مرّ بهم من فوائد ثمينة أهملوا كتابتها في حينها حتى نُسيت أو نُسي موضعها ولم يتيسر العثور عليها.
وإذا أردتَ أن تثبت الفوائد في قلبك إلى حدٍّ لا بأس به؛ فعلك أن تمرِّرها بعدة مراحل:
المرحلة الأولى: وضع علامة عليها بالقلم الموضِّح في موضعها من الكتاب.
المرحلة الثانية: نقلها بنصِّها أو عنوانها إلى غلاف الكتاب.
المرحلة الثالثة: تدوينها بخط يدك في كناشتك.
المرحلة الرابعة: كتابتها في كناشتك الإلكترونية (ملف وورد، ملاحظات الجوال…)
المرحلة الخامسة: نشرها في مدونتك ( تويتر، فيس بوك، قناة تلقرام، مدونة جوجل…)
المرحلة السادسة: مذاكرة جلسائك بها، ومناقشتهم في مضمونها.
المرحلة السابعة: مراجعتها من وقت لآخر، ولو في الشهر مرة.
المرحلة الثامنة: الاستشهاد بما يناسب منها في بحوثك ودروسك.
وقد تضيف على ذلك ما شئت؛ كتسجيلها صوتيًا، والاستماع إلى التسجيل ونشره لمن يستفيد منه…
ومن تمام الانتفاع بالمقيَّدات: فهرستها على الفنون، وفهرسة كل فن على ما يتفرّع عنه -إن تشعبت الفوائد- فيفهرس مثلًا فوائد الدراسات القرآنية باعتبار فروع التخصص: التفسير، علوم القرآن، أصول التفسير، قواعد التفسير، إعجاز القرآن، القراءات، التجويد، رسم المصحف وضبطه، عد الآي، الوقف والابتداء…
وقد اعتنى العلماء بانتقاء الفوائد من مقروءاتهم، وربما جعلوا بعض تصانيفهم بهذه الطريقة، ومن ذلك:
كتاب “طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول” للعلامة عبد الرحمن السعدي. جمع فيه أكثر من ألف فائدة من كتب الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية. وختم كتابه بقوله: “هذا المجموع قد انتقيتُه بعد التروّي الكثير، وكثرة التأمّل والتفكير في جميع الكتب الموجودة من كتب الشيخين، فتضمّن صفوتها، واحتوى على جواهرها وغُرَرها، والحمد لله، والفضل لله”.
ولاحظ وصف الشيخ السعدي لعمله في الانتقاء بأنه مبني على أمرين:
- التروّي الكثير.
- كثرة التأمّل والتفكير.
وهذا تنبيه على أن الانتقاء الجيد يتطلب عملًا ذهنيًّا تزداد مشقته كلما توسّعت المادة المنتقى منها، وتشعّثت مسائلها بين علوم كثيرة، كما هو الحال في كتب ابن تيمية وابن القيم.
وللعلامة محمد الصالح العثيمين انتقاءات من بعض الكتب التي قرأها وحده أو مع طلابه، سمّاها “مختارات”، وهي “مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم”، و”مختارات من إعلام المُوَقِّعين عن رب العالمين”، و”مختارات من زاد المعاد في هدي خير العباد”، و”مختارات من الطُرُق الحُكْمية في السياسة الشرعية”.
ومن منهج الشيخ العثيمين في مختاراته:
- ذكر تاريخ البدء بقراءة الكتاب في المقدمة وتاريخ الانتهاء منه في الخاتمة.
- تحديد الطبعة المعتمدة عنده في العزو، وذكر المعلومات العامة المتعلقة بها كالمحقق ورقم الطبعة والدار الناشرة.
- العزو إلى أرقام الصفحات.
- بيان اصطلاحه في طريقة كتابة النص المنتقى، فقد ينقله بنصه، وقد يتصرّف فيه بحذف ما لا حاجة إليه، أو تغيير لفظ المؤلف لاختصار الكلام، وقد يزيد على الانتقاءات تعليقات يصدّرها بلفظة “قلتُ”.
ولعلماء الحديث وَلَعٌ بالانتقاء وتفنّنٌ فيه، ومنه انتقاؤهم أحاديث في باب معيّن ككتب أحاديث الأحكام، وقد سُمِّي بعضها بـ”المنتقى” ككتاب العلامة مجد الدين ابن تيمية “المنتقى في الأحكام الشرعية من كلام خير البريّة”. قال في مقدِّمته: “هذا كتابٌ يشتمل على جُملة من الأحاديث النبوية التي تَرجع أصولُ الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، انتقيتُها من صحيحي البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، وجامع أبي عيسى الترمذي، وكتاب السنن لأبي عبد الرحمن النَّسائي، وكتاب السنن لأبي داود السجستاني، وكتاب السنن لابن ماجه القزويني…”.
فهو كما ترى انتقاء من جهتين:
الأولى: موضوع الأحاديث؛ فهي أحاديث في أبواب الأحكام الفقهية.
الثانية: المصادر؛ فهو مقتصر على الكتب الستة والمسند.
ومن العلماء المعاصرين الذين اشتهروا بالعناية بهذا الكتاب وتقديمه على غيره من كتب أحاديث الأحكام: العلامة الأصولي عبد الله الغديّان.
وربما كان طول الكتاب -مقارنة بغيره من كتب أحاديث الأحكام المشهورة- وعدم خدمته بالشرح الذي يخدم غرض مؤلفه سببًا في ضعف العناية به.
ومن أشهر الانتقاءات عند المحدِّثين: انتخاب أربعين حديثًا في باب من الأبواب، وأشهر الأربعينيات مطلقًا: “الأربعون النووية” للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، وتتميز بشمول موضوعاتها، وكونها في كليات الشريعة، وعدم اقتصارها على باب معيّن.
ولعل كتاب “رياض الصالحين” أشهر منتقى حديثي انتفع به جمهور المسلمين، وعمرت بقراءته مساجدهم في الدروس اليومية.
وقد يكون شرحُ كتاب انتقاءً من شرح آخر مطوَّل؛ كما صنع الإمام أبو الوليد الباجي في كتابه “المنتقى في شرح الموطأ”؛ فإنه عمد إلى انتخابه من شرحه المطوَّل الذي وسمه بـ”الاستيفاء” تلبية لرغبة من سأله ذلك.
وممن عُني بالانتقاء من الكتب: الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي، ومن كتبه في ذلك: “المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال” قال في مقدّمته: “أما بعد: فهذه فوائد ونفائس اخترتها من كتاب منهاج الاعتدال فِي نقض كلام أهل الرفض والاعتزال تأليف شَيخنا الإمام العالم أبي العَبّاس أحْمد بن تَيْمِية “.
ومن انتقاءاته في التراجم: “الإشارة إلى وفيات الأعيان المنتقى من تاريخ الإسلام”. وكما هو واضح من اسمه فهو مجتبى من كتابه الموسوعي “تاريخ الإسلام” الذي كان الأصل الذي بُني عليه أعظم كتبه في التراجم: “سِيَر أعلام النُّبَلاء”.
وللإمام الحافظ ابن عبد البَر الأندلسي “الانتقاء في فضل الثلاثة الأئمة الفقهاء” قال في مقدّمته: “أمّا بَعْدُ فَإنَّ طائِفَةً مِمَّنْ عُنِيَ بِطَلَبِ العِلْمِ وحَمْلِهِ، وعَلِمَ بِما عَلَّمَهُ اللَّهُ عَظِيمَ بَرَكَتِهِ وفَضْلِهِ= سَألُونِي مُجْتَمعين ومُتَفَرِّقِينَ أنْ أذْكُرَ لَهُمْ مِن أخْبارِ الأئِمَّةِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ طارَ ذِكْرُهُمْ فِي آفاقِ الإسْلامِ؛ لِما انْتَشَرَ عَنْهُمْ مِن عِلْمِ الحَلالِ والحَرامِ، وهُمْ: أبُو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المدنِي، وأبُو عبد الله مُحَمَّد بن إدْرِيس الشّافِعِي المَكِّيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ النُّعْمانُ بْنُ ثابِتٍ الكُوفِيُّ، عُيُونًا وفِقَرًا يَسْتَدِلُّونَ بِها عَلى مَوْضِعِهِمْ مِنَ الإمامَةِ فِي الدِّيانَةِ، ويَكُونُ ذَلِكَ كافِيًا مُخْتَصَرًا؛ لِيَسْهُلَ حِفْظُهُ ومَعْرِفَتُهُ والوُقُوفُ عَلَيْهِ والمُذاكَرَةُ بِهِ، مِن ثَناءِ العُلَماءِ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِمْ، وتَفْضِيلِهِمْ لَهُمْ، وإقْرارِهِمْ بِإمامَتِهِمْ. وقَدْ أكْثَرَ النّاسُ فِي ذَلِكَ بِما يُرْغَبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنهُ، فاقْتَصَرْتُ مِمّا ذَكَرُوهُ عَلى عُيُونِهِ دُونَ حَشْوِهِ، وعَلى سَمِينِهِ دُونَ غَثِّهِ، وسَأذْكُرُ فِي كِتابِي هَذا مِن ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ ما يَكْفِي ويَشْفِي، مَعَ الاخْتِصارِ وطَرْحِ التِّكْرارِ والاقْتِصارِ عَلى ما يُجْمَلُ بِهِ التِّذْكارُ”.
فهذا كتابٌ بُني على الانتقاء مما نُقِل من أخبار الأئمة الثلاثة، قصد به مؤلفه تسهيل حفظ سِيَرهم، وتقريب معرفتها والإحاطة بها، وتيسير المذاكَرة بها، وبيّن أن كثرة ما كُتِب في هذا الموضوع لم تمنعه من الكتابة فيه؛ لأن الغالب على الكتابات فيه التطويل والحشو وعدم التمييز بين الغثّ والسمين، وهذا أصلٌ للباحث في الكتابة في موضوع سبقت دراسته والتأليف فيه بشرط أن يبيِّن ميزة حقيقية لبحثه وفضلًا واضحًا له على ما كُتب قبله.
وللقرّاء انتقاءات مشهورة، من أبرزها انتقاء ابن مجاهد للقراء السبعة في كتابه “السبعة”، وسبّبَ ذلك إشكالًا عند الناس، حيث ظن كثير منهم -بسبب صنيع ابن مجاهد- أن القراءات السبع هي عين الأحرف السبعة، وليس العيب في انتقاء الإمام ابن مجاهد، بل في فهم العامّة!
و”مختار الصّحاح” نموذج للانتقاء اللغوي، قال مؤلفه زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي الحنفي في مقدّمته: “سَمَّيْتُهُ (مُخْتارَ الصّحاحِ) واقْتَصَرْتُ فِيهِ عَلى ما لا بُدَّ لِكُلِّ عالِمٍ فَقِيهٍ، أوْ حافِظٍ، أوْ مُحَدِّثٍ، أوْ أدِيبٍ، مِن مَعْرِفَتِهِ وحِفْظِهِ؛ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِهِ وجَرَيانِهِ عَلى الألْسُنِ مِمّا هُوَ الأهَمُّ فالأهَمُّ خُصُوصًا ألْفاظَ القُرْآنِ العَزِيزِ والأحادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؛ واجْتَنَبْتُ فِيهِ عَوِيصَ اللُّغَةِ وغَرِيبَها؛ طَلَبًا لِلِاخْتِصارِ وتَسْهِيلًا لِلْحِفْظِ. وضَمَمْتُ إلَيْهِ فَوائِدَ كَثِيرَةً مِن تَهْذِيبِ الأزْهَرِيِّ، وغَيْرِهِ مِن أُصُولِ اللُّغَةِ المَوْثُوقِ بِها ومِمّا فَتَحَ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيَّ”.
فهذا المختار اللغوي روعي فيه ما يحتاجه غير المتخصص، وما يلزمه أن يُلِمَّ به من مهمات مفردات اللغة.
وقد يكون انتقاء الفوائد بالاقتصار على نصّ المؤلِّف دون زيادة، وقد يطرأ على النقل شيء من التصرّف؛ كالحذف والاختصار والنقل بالمعنى، وقد يكون الانتقاء مصحوبًا بتعليقات للمنتقي في الأصل أو الحاشية، وقد يُعَنْوِن المنتقي الفوائد، وهكذا يتطوّر الانتقاء إلى أن يكون تأليفًا مستقلًّا، لا مجرَّد نسخ كلام من موضع إلى آخر كما هي فكرة بعض الناس عن انتقاء الفوائد وتصوّرهم القاصر لها.
وقد تكون الفوائد المنتقاة جامعة بين المقول والمنقول؛ كما تجده في “الفوائد”، و”بدائع الفوائد” للإمام ابن قيم الجوزية، وفي “مجموع الفوائد واقتناص الأوابد” للعلامة عبد الرحمن السعدي، وتلميذه العلامة العثيمين في “المنتقى من فرائد الفوائد” فقد كانت له كناشة يقيِّد فيها ما يمرّ به من الفوائد، وسمّاها “فرائد الفوائد”، ثم انتقى منها أهمها وطبعها باسم “المنتقى من فرائد الفوائد” قال في مقدمته: ” أما بعد: فقد كنت أقيد بعض المسائل الهامة التي تمر بي؛ حرصًا على حفظها وعدم نسيانها، في دفتر، وسميتُها: «فرائد الفوائد»، وقد انتقيت منها ما رأيته أكثر فائدة وأعظم أهمية، وسمّيتُ ذلك: «المنتقى من فرائد الفوائد».
وللأدباء حظٌّ وافر من صنعة الانتقاء، ومن عناوين المجاميع الأدبية التي تنبئ عن مراعاتهم هذا الملحظ في التصنيف: “عيون الأخبار” لابن قُتيبة، و”زهر الآداب وثمر الألباب” للحُصْري، و”لُباب الآداب” لأسامة بن منقذ، و”غُرر الخصائص الواضحة” للوطواط، و”جواهر الأدب” للهاشمي، و”المنتخَب من أدب العرب” لطه حسين وزملائه.
وللشِّعر خاصة منتخبات مشهورة، أبرزها حماسة أبي تَمّام، وإنما سُمِّيت مختارات أبي تمام بالحماسة؛ لأن أول أبوابها هو باب الحماسة، وقد انتقى منها أبو مالك العوضي ألفية، وكأنه أراد بذلك محاكاة ألفيات المتون العلمية -وهو بها خبير- بمتن أدبي على الطريقة نفسها؛ تقريبًا لطلاب العلوم الشرعية من الفنون الأدبية، وإغراءً لهم بتحصيل شيء منها.
ويحسن التنبّه إلى أن بعض المؤلفين قد يتميز بذائقة عالية في بعض الفنون، فيُعطى حقه فيما أبدع فيه، ويستفاد منه في تكوين مَلَكة الانتقاء وتنميتها في ذلك العلم. قال الدكتور زكي مبارك في مقدمة نشرة “زهر الآداب”: ” كان المتقدِّمون يعنون بدراسة الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والنوادر لأبى على القالي، وكانت هذه الكتب أصول الأدب عندهم كما ذكر ابن خلدون، وعندي أن زهر الآداب أغزر مادة، وأكبر قيمة من جميع تلك المصنّفات؛ لأن ذوق الحصري ذوقٌ أدبيٌّ صِرْف، أما أولئك فقد كانت أهواؤهم موزعة بين اللغة، والرواية، والنحو، والتصريف”.
وأقول -على غير قصد الترتيب والاستقصاء-: لابن جرير ذوقٌ في الترجيح في التفسير، ولابن حجر ذوقٌ في شرح الحديث، ولابن عاشور ذوقٌ في التنبّه للإشكالات والإجابة عنها، ولابن الجوزي ذوقٌ في الوعظ، وللذهبي ذوقٌ في التراجِم، ولابن قُدامة ذوقٌ في صياغة المسائل الفقهية بأسلوب سهل، وللبخاري ذوق في تراجم أبواب صحيحه، ولمسلم ذوقٌ في ترتيب أحاديث صحيحه، ولابن جُزَي ذوق في تهذيب كتبه وترتيبها، ولابن عثيمين ذوقٌ في تيسير العلم وتقريبه لجميع طبقات المتعلّمين، وللأمين الشنقيطي ذوقٌ في التطبيق العملي لعلم أصول الفقه، ولابن القيّم ذوقٌ في تصفية علم السلوك من الشوائب، ولابن الجَزَري ذوقٌ في بحوث علم القراءات…
تقول معجمات اللغة: “نَقِيَ الشَيءُ، يَنْقَى، نَقاوةً، ونَقاءً، فهو نَقِيٌّ؛ أَي: نظيف، والتَنْقِيَةُ: التنظيفُ. و(الِانْتِقاءُ): الِاخْتِيارُ، و(التَّنَقِّي): التَّخَيُّرُ، والنُّقَاوَةُ: أَفضلُ ما انتَقَيْتَ من الشيء، ونَقْوَةُ الشيء ونَقاوَتُه ونُقَاوَتُه ونُقايَتُه ونَقَاتُه: خِيارُه وأَفضلُه”.
وفي هذه الدلالات اللغوية إشارات لطيفة لمنتقي الفوائد:
أولاها: أن يتخيَّرَ من الفوائد أعلاها وأغلاها وأحلاها، ففي المَثَل: “دليلُ العقل: ما اختاره”.
ثانيها: أن ينظِّف مختاراته من سقطات المصنِّفين وزلّات المؤلِّفين مما لا يحسن نشره وإذاعته.
ثالثها: أن يهذِّب ما ينتقيه ويرتبه ويفهرسه، ويعيد النظر والتأمل فيه؛ لتحصل له الاستفادة التامة منه متى احتاج إليه.
اقرأ ايضًا: ضياع البوصلة والتبدد في عوالم المعرفة